شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

أقوال العلماء في قابلية الجسم البسيط

للانقسام

(المبحث الثاني)

[الجسم البسيط قابل للانقسام ، فإما أن تكون الانقسامات بالفعل متناهية وهو مذهب المتكلمين ، أو غير متناهية وإليه ميل (١) النظام (٢) ، وإما أن تكون بالقوة فقط متناهية ، ونسب إلى الشهرستاني (٣) ، أو غير متناهية ، وهو رأى جمهور الفلاسفة ، وإما أن يكون بعضها بالفعل ، وبعضها بالقوة ، وهو ما ذهب إليه ديمقراطيس من أن أجزاء البسيط أجسام صغار صلبة قابلة للقسمة الوهمية دون الفلكية ، ثم اختلفت الفلاسفة فذهب المشّاءون منهم إلى أن الجسم يفتقر في قبول القسمة إلى مادة يتألف الجسم منها ومن الصورة الحالة ، وغيرهم إلى أنه يقبل الانقسام بنفسه ، فهو في نفسه بسيط كما هو عند الحس ، وأما ما نسب إلى البعض من تألف

__________________

(١) في (أ) قيل بدلا من (ميل) وهو تحريف

(٢) هو ابراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو اسحاق النظام من أئمة المعتزلة. قال الجاحظ «الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن صح ذلك فأبو اسحاق من أولئك.» تبحر في علوم الفلسفة واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين ، وانفرد بآراء خاصة تابعته فيها فرقة من المعتزلة سميت النظامية نسبة إليه. في لسان الميزان أنه متهم بالزندقة وكان شاعرا أديبا بليغا توفي عام ٢٣١ ه‍. راجع تاريخ بغداد ٦ : ٩٧ ، وأمالي المرتضى ١ : ١٣٢

(٣) هو محمد بن عبد الكريم أحمد ، أبو الفتح الشهرستاني. من فلاسفة الاسلام كان إماما في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة ، يلقب بالأفضل ولد في شهرستان عام ٤٧٩ ه‍ وانتقل إلى بغداد سنة ٥١٠ ه‍ فأقام ثلاث سنين وعاد إلى بلده وتوفي بها عام ٥٤٨ ه‍ قال ياقوت في وصفه «الفيلسوف المتكلم ، صاحب التصانيف ، كان وافر العلم ، كامل العقل ولو لا تخبطه في الاعتقاد ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم لكان هو الإمام.» راجع آداب اللغة ٣ : ٩٩ ولسان الميزان ٥ : ٢٦٣

٢١

الجسم من محض الأعراض فضروري البطلان. والمعول عليه من المذاهب ثلاثة.

الأول : أن (١) الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ متناهية.

الثاني : نه مركب من الهيولي والصورة.

والثالث : أنه بسيط محض ، وكأنه وقع الاتفاق على أن هناك «هيولى» يتوارد عليها الصور والأعراض.

وإنما النزاع في أنه الجسم نفسه ، أو المادة التي تحل فيها الصورة ، أو الجواهر الفردة التي يقوم بها التأليف ، وإذا تحققت فالقول بكون الجسم من الجواهر الفردة والتأليف قريب من القول بكونه من الهيولي والصورة].

ذكروا في ضبط مذاهب القوم في تحقيق حقيقة الجسم. أن الجسم البسيط ـ أعني الذي لا يتألف من أجسام مختلفة الطبائع ـ إما أن تكون انقساماته الممكنة حاصلة بالفعل أولا ، وعلى التقديرين فإما أن تكون متناهية ألا.

فالأول : مذهب المتكلمين.

والثاني : مذهب النظام.

والثالث : مذهب جمهور الفلاسفة.

والرابع : مذهب محمد الشهرستاني. لكن لا خفاء في أن ما لا يكون جميع انقساماته بالفعل يحتمل أن يكون بعضها كذلك على ما ذهب إليه ديمقراطيس من أن الجسم متألف من أجزاء ، صغار صلبة ، قابلة للقسمة الوهمية ، دون الفعلية. فلذا جعلنا الأقسام خمسة.

وأما القول بتألف الجسم من السطوح المتألفة من الخطوط المتألفة من النقاط التي هي جواهر فردة ، فهو قول المتكلمين ، مع اشتراط الانقسام في الأقطار الثلاثة ، بحيث لا يتألف من أقل من ثمانية أجزاء.

__________________

(١) سقط من (أ) حرف (أن).

٢٢

ثم افترقت الفلاسفة القائلون بلا تناهي الانقسامات فرقتين ، منهم من جعل قبول الانقسام مفتقرا إلى الهيولي ، ومنهم من منع ذلك ، وأما ما نسب إلى النجار ، وضرار (١) ، من المعتزلة ، من أن الجسم مؤلف من محض الأعراض ، من الألوان ، والطعوم ، والروائح ، وغير ذلك ، فضروري البطلان. والذي يعتبر به من المذاهب في حقيقة الجسم ثلاثة :

الأول : للمتكلمين أنه من الجواهر الفردة ، المتناهية العدد.

الثاني : للمشاءين من الفلاسفة ، أنه مركب من الهيولي والصورة.

الثالث : للاشراقيين منهم أنه في نفسه بسيط كما هو عند الحس ليس فيه تعدد أجزاء أصلا ، وإنما يقبل الانقسام بذاته ، ولا ينتهي إلى حد لا يبقى له قبول الانقسام ، كما هو شأن مقدورات الله تعالى. وكأنه وقع اتفاق الفرق على ثبوت مادة يتوارد عليها الصور والأعراض ، إلا أنها عند الاشراقيين (٢) نفس الجسم ، يسمى من حيث قبول المقادير مادة وهيولى ، والمقادير من حيث الحلول فيه صورا ، وعند

__________________

(١) هو ضرار بن عمرو القاضي معتزلي جلد له مقالات خبيثة. قال يمكن أن يكون جميع من يظهر الاسلام كفارا في الباطن لجواز ذاك على كل فرد منهم في نفسه. قال المروزي ، قال أحمد بن حنبل. شهدت على ضرار عند سعيد بن عبد الرحمن الجمحي القاضي فأمر بضرب عنقه فهرب وقيل : إن يحيى بن خالد البرمكي أخفاه. قال ابن حزم كان ضرار ينكر عذاب القبر. ذكره العقيلي في الضعفاء ، وذكره ابن النديم في الفهرست وذكر له ثلاثين كتابا فيها الرد على المعتزلة والخوارج والروافض ، ولكنه كان معتزليا له مقالات ينفرد بها وقال ابن حزم خالف المعتزلة في خلق الافعال وفي القدرة وكان يقول إن الاجسام انما هي اعراض مجتمعة. راجع لسان الميزان ج ٣ ص ٢٠٣

(٢) الاشراق في اللغة : الإضاءة والإنارة ، يقال : أشرقت الشمس طلعت وأضاءت ، وأشرق وجهه أي أضاء. والاشراق في اصطلاح الحكماء هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها على الأنفس الكاملة عند التجرد عن المواد الجسمية (راجع حكمة الاشراق ، طبعة كورين طهران ١٩٥٢ ص ٢٩٨) وتختلف حكمة الاشراق عند الفلسفة الأرسطية بأنها مبنية على الذوق والكشف والحدس ، في حين أن الفلسفة الارسطية مبنية على الاستدلال والعقل واكتساب النفس للمعرفة في فلسفة ابن سينا لا يتم بالاحساس ولا بالخيال ولا بالوهم ، بل يتم بالعقل ، وأعلى درجات العقل الإنساني العقل المستفاد الذي يتلقى الاشراق من العقل الفعال. راجع كتاب الشفاء لابن سينا ص ٣٥٦

٢٣

المشائين جوهر يتقوم بجوهر آخر ، حال فيه سمي صورة ، يتحصل بتركبهما فيه (١) جوهر قابل للمقادير وسائر الأعراض هو الجسم ، وعند المتكلمين هو الجواهر الفردة ، التي يقوم بها التأليف ، فيتحصل الجسم ، فالتأليف عندهم بمنزلة الصورة عند المشائين ، إلا أنه عرض لا يقوم بذاته ، بل بمحله ، والصورة جوهر يقوم بذاته ، ويتقوم به محله ، الذي هو الهيولي.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (فيه)

٢٤

«طريقة المتكلمين في كون الجسم يتركب من أجزاء»

«لا تتجزأ»

قال : (المبحث الثالث)

[في احتجاج الفريقين (١) ، أما المتكلمون فلهم طريقان : أحدهما إثبات أن قبول الانقسام مستلزم لحصوله وفيه وجوه.

الأول : أنه لو كان القابل للقسمة واحدا لزم قبول الوحدة (٢) الانقسام ، ضرورة انقسام الحال بانقسام المحل.

الثاني : أنه لو كان واحدا لكان التفريق إعداما ، ضرورة زوال الهوية الواحدة بحدوث الهويتين ، فيكون شق البحر بالإبرة إعداما له ، وإحداثا لبحرين.

الثالث : إن مقاطع الأجزاء من النصف ، والثلث ، والربع ، وغير ذلك متمايزة ضرورة ، ولو لا تمايز الأجزاء لما اختلفت خواصها.

وقد يجاب عن الأول : بأن الوحدة اعتبار عقلي ، لا ينقسم بانقسام المحل.

وعن الثاني : بأنه إن أريد بالبحر ذلك الماء مع ماله من الاتصال ، فلا خفاء في انعدامه بعارض الانفصال ، وإن أريد الماء بعينه (٣) فليس هناك حدوث أو زوال.

وعن الثالث : فإن اختلاف الخواص إنما لزم بعد فرض الانقسام].

للمتكلمين في كون الجسم من أجزاء لا تتجزأ طريقان أحدهما : إثبات أن قبول الانقسام يستلزم لحصول الأقسام ، وتقرير الكلام أن كل جسم فهو قابل للانقسام وفاقا ، وكل ما هو كذلك فأقسامه حاصلة بالفعل لوجوه :

__________________

(١) يقصد الفلاسفة والمتكلمين

(٢) سنتكلم عن معنى الوحدة في كلمة وافية بمشيئة الله.

(٣) في (ب) بنفسه بدلا من (بعينه)

٢٥

الأول : إن القابل للانقسام لو لم يكن منقسما بالفعل ، بل واحدا في نفسه كما هو عند الحس لزم قبول الوحدة الانقسام ، واللازم باطل. إذ لا معنى لها سوى عدم الانقسام. وجه اللزوم أن الوحدة حينئذ تكون عارضة لذلك القابل حالة فيه ، سواء جعلت لازمة له أو غير لازمة ، ضرورة أنها ليست نفسه ، ولا جزءا منه ، وانقسام المحل يستلزم انقسام الحال ، ضرورة أن الحال في كل جزء غير الحال في الجزء (١) الآخر.

وأجيب بأن الوحدة من الاعتبارات العقلية ..

ولو سلّم فليست من الأعراض السارية التي تنقسم بانقسام المحل.

الثاني : أنه لو كان واحدا لكان تقسيم الجسم وتفريق أجزائه إعداما له ، ضرورة أنه إزالة لهويته الواحدة ، وإحداث لهويتين أخريين ، واللازم باطل ، للقطع بأن شق البعوض البحر بإبرته ليس إعداما له ، وإحداثا لبحرين أخريين.

وأجيب : بأنه إن أريد بالبحر ذلك الماء مع ما له من الاتصال ، فلا خفاء في انعدامه عند عروض الانفصال ، وإن أريد نفس ذلك الماء من غير اعتبار بالاتصال ، فليس في الشق زوال بحر ، ولا حدوث بحرين ، وهذا أنسب بقواعدهم ، حيث يقولون : إن القابل للشيء يجب أن يكون باقيا عنده ، مجتمعا معه ، فإن نقل الكلام إلى المادة بأنها إن كانت متعددة فهو إلزام (٢) ، وإن كانت واحدة فإن بقيت بعد الانقسام كذلك ، فظاهر البطلان للقطع بأن ما هو محل لهذه الصورة غير ما هو محل للصورة الأخرى ، وإن صارت متعددة ، فقد انعدمت الأولى ضرورة ، ولزم انعدام الجسم بمادته وصورته جميعا ، وبطل قاعدة اجتماع القابل (٣) مع المقبول فلا محيص إلا بأن يقال المادة استعداد محض ليست في

__________________

(١) سقط من (أ) كلمة (الجزء)

(٢) في (أ) المرام وهو تحريف

(٣) القابل : هو المهيّئ للقبول ، والقابلية حالة القابل ، وهي التهيؤ لقبول التأثير من الخارج ويرادفها الانفعال. قال ابن سينا : «فبين أن المادة لا تبقى مفارقة بل وجودها وجود قابل. لا غير كما أن وجود العرض وجود مقبول لا غير» (النجاة ٣٣٢) وقال أيضا : ان كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقا غريزيا وان الخير المطلق يتجلى لعاشقه إلا أن قبولها ـ

٢٦

نفسها بواحدة ، ولا كثيرة ، ولا متصلة ، ولا منفصلة.

الثالث : أن الأقسام لو لم تكن حاصلة بالفعل متميزة بعضها عن البعض لما اختلفت خواصها ضرورة ، واللازم باطل ، لأن مقطع النصف غير مقطع الثلث ، وكذا الربع والخمس وغيرهما ، فيكون الجزء الذي هو مقطع (النصف متميزا عن الذي هو مقطع) (١) الربع وهكذا غيره. وأجيب بمنع الملازمة ، فإن اختلاف الخواص إنما حصل (٢) بعد فرض الانقسام، وذلك أن النصفية ، والثلثية ، والربعية ، وغير ذلك إضافات واعتبارات يحكم بها العقل عند اعتبار الانقسام. وكذا مقاطعهما.

فإن ادعي أن ما هو قابل لأن يكون مقطع النصف عند فرض الانقسام متميزا بالفعل عما هو قابل لأن يكون مقطع الربع مثلا ، فهو نفس المتنازع ، وحاصله (٣) أنه لا امتناع في اتصاف الأجزاء الفرضية بالصفات الحقيقية ، كالضوء والظلام في القمر ، فضلا من الاعتبارية ، لا يقال الانقسامات عندهم غير متناهية ، وهو يستلزم لا تناهي الانقسام ، وما لا نهاية له لا يتصور له نصف ، أو ثلث ، أو ربع ، أو غيرها.

لأنا نقول : إنما يمتنع ذلك فيما هو غير متناه بحسب كميته المتصلة ، أو المنفصلة ، وأما فيما متناهي المقدار لكنه قابل لانقسامات غير متناهية فلا ، وإنما يمتنع لو كانت هناك أقسام بالفعل غير متناهية بالعدد ، وليس كذلك ، إذ ليس معنى قبول الجسم لانقسامات غير متناهية ، أنه يمكن خروجها من القوة إلى الفعل ، بل إنه من شأنه وقوته أن ينقسم دائما ، ولا ينتهي انقسامه إلى حد لا يمكن انقسامه ، كما أن مقدورات الله تعالى غير متناهية ، بمعنى أن قدرته لا تنتهي إلى حد لا يكون قادرا على أزيد منه ، فليعتبر حال قابلية الجسم للانقسام إلى الأجزاء ، بحال فاعلية

__________________

ـ لتجليه واتصالها به على التفاوت (رسالة العشق) والقابل عند الصوفية : هو الأعيان الثابتة من حيث قبولها فيض الوجود من الفاعل الحق ، وتجليه الدائم الذي هو فعله.

(١) ما بين القوسين سقط من (ب)

(٢) في (ب) هو بدلا من (حصل)

(٣) في (ب) وفيه بدلا من (وحاصله)

٢٧

الباري تعالى للأشياء ، على أن ما ذكروا لو تم فإنما يدل على تناهي الانقسامات لا على حصول الأجزاء بالفعل.

«إثبات جوهر في الجسم لا يقبل الانقسام»

قال (وثانيهما)

[إثبات جوهر في الجسم لا يقبل الانقسام أصلا وفيه وجوه :

منها ما يبتنى على استلزام قبول الانقسام حصول الانقسام ، كقولهم إن الله قادر على أن يخلق في أجزاء الجسم الافتراق بدل الاجتماع. فثبت الجزء إذ لو بقي قبول التجزي بقي الاجتماع ، وكقولهم لو لا الجزء لما كان الجبل أعظم من الخردلة ، لاستواء أجزائهما ، لكونهما غير متناهيين واعترض بأن الاستواء في عدد الأجزاء لا في مقاديرها.

وأجيب بأن تفاوت المقادير بتفاوت الأجزاء قطعا. وقد يدعى أن الاستواء في الأجزاء الممكنة أيضا محال ، وكقولهم لو لم ينته انقسام الجسم إلى ما لا امتداد له أصلا لزم عدم تناهي امتداده ، لتألفه من امتدادات غير متناهية ، ومنها ما يبتني على أن للحركة حصولات متعاقبة ، والزمان آنات متتالية ، كقولهم : الموجود من الحركة والزمان هو الحاضر ، لأن الماضي إنما وجد حين حضر ، والمستقبل إنما يوجد حين يحضر ، والحاضر من غير قار الذات لا ينقسم ، فكذا ما ينطبق هو عليه من المسافة (١) ، ومنها ما يبتنى على أن محل النقطة جوهر لا يقبل الانقسام لقولهم النقطة موجودة ، لأنها طرف الخط الموجود ، وبها تماس الخطوط. فإن كان جوهرا فذاك ، وإن كان عرضا كان بالذات ، أو بالواسطة ، حالا في جوهر لا ينقسم ، لئلا يلزم انقسام النقطة. وكقولهم : إذا وضعنا كرة حقيقية على سطح مستو إن قام خط على خط كانت المماسة بما لا ينقسم ، ثم إذا أديرت الكرة بتمامها على السطح ، ومر

__________________

(١) سقط من (ب) كلمة (المسافة)

٢٨

الخط إلى آخر الخط ظهر عدم انقسام الأجزاء بأسرها ، وثبت المطلوب ، وكقولهم : قد ثبت أن الزاوية الحاصلة من مماسة الخط المستقيم لمحيط الدائرة أصغر الزوايا ، فلا يقبل الانقسام فثبت الجزء].

أي الطريق الثاني للمتكلمين إثبات جوهر في الجسم لا يقبل الانقسام أصلا ، أي لا قطعا ، ولا كسرا ، ولا وهما ، ولا فرضا ، والفرق بينهما أن القطع يفتقر إلى آلة نفاذة ، بخلاف الكسر ، ثم إنهما يؤديان إلى الافتراق بخلاف الوهمي ، والفرضي ، والوهمي إذا أريد به ما يكون بمعونة القوة الوهمية ، التي هي سلطان القوى الحسية ، قد يقف أي لا (١) يقدر على تقسيمات غير متناهية لما تقرر عندهم من تناهي أفعال القوى الجسمانية بخلاف فرض العقل. فإن العقل يتعلق بالكليات المشتملة على الصغيرة ، والكبيرة ، والمتناهية ، وغير المتناهية.

فإن قيل : إثبات الجوهر الفرد (٢) لا يفيد المطلوب. أعني تركب الجسم منها.

قلنا : نعم إلا أنه يكفي لدفع ما يدعيه الفلاسفة من امتناعه ، على أن بعض الوجوه المذكورة مما يفيد أصل المطلوب.

وبالجملة فلهم في هذا الطريق مسالك ، منها ما يبتنى على أن قبول الانقسام يستدعي حصول الأقسام بالفعل وفيه وجوه.

الأول أن الله تعالى قادر على أن يخلق في أجزاء الجسم بدل اجتماعها

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (لا)

(٢) يطلق الجوهر عند الفلاسفة على معان منها الموجود القائم بنفسه حادثا كان او قديما ويقابله العرض ، ومنها الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليها ومنه الماهية التي اذا وجدت في الأعيان كانت لا فى موضوع ومنها الموجود الغنى عن محل يحل فيه.

قال ابن سينا : الجوهر هو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه (راجع النجاة ص ١٢٦) والجوهرية : مذهب من يقول بوجود الجوهر ، اعنى الشيء القائم بنفسه وهي ضد الظواهرية ، والجوهري هو المنسوب الى الجوهر أو المقوم له ، كما في قولنا الصورة الجوهرية.

والجوهر عند المتكلمين : هو الجوهر الفرد المتميز الذي لا ينقسم ، اما المنقسم فيسمونه جسما لا جوهرا ولهذا السبب يمتنعون عن إطلاق اسم الجوهر على المبدأ الأول.

٢٩

الافتراق ، بحيث لا يبقى اجتماع أصلا ، وذلك لأن نسبة القدرة إلى الضدين على السواء ، وإذا حصل الافتراق ثبت الجزء الذي لا يتجزأ ، إذ لو كان قابلا للتجزي لكان الاجتماع باقيا هذا خلف.

الثاني : أنه لو لم يثبت الجزء الذي لا يتجزأ لما كان الجبل أعظم من الخردلة ، لأن كلا منهما حينئذ يكون قابلا لانقسامات غير متناهية ، فتكون أجزاء كل منهما غير متناهية من غير تفاضل ، وهو معنى التساوي.

فإن قيل : غايته لزوم الاستواء في عدد الأجزاء ، بأن يكون أجزاء كل منهما غير متناهية العدد ، وهو غير محال ، والمحال استواء مقداريهما ، وهو غير لازم.

أجيب : بأن الاستواء في الأجزاء يستلزم الاستواء في المقدار ، ضرورة أن تفاوت المقادير إنما هو بتفاوت الأجزاء ، بمعنى أن ما يكون مقداره أعظم تكون أجزاؤه أكثر ، فما لا تكون أجزاؤه أكثر لا يكون مقداره أعظم. وقد تقرر هذا الوجه بحيث لا يبتنى على استلزام قبول الانقسام حصول الأقسام ، وهو أنه لو كان كل من السماء والخردلة قابلا للانقسام من غير انتهاء إلى ما لا يقبل الانقسام أصلا ، كانت الأجزاء الممكنة حينئذ (١) في كل منهما متساوية للتي في الأجزاء (٢) الأخر ، وأمكن أن يفصل من الخردلة صفائح تغمر وجهى السماء ، بل أجزاء تغمر الوجهين ، وتملأ ما بين السطحين ، وبطلانه ضروري. وجوابه بعد تسليم البطلان ما سبق أن ليس معنى قبول الانقسامات الغير المتناهية إمكان خروجها من القوة إلى الفعل. فمن أين يلزم إمكان حصول أقسام لا نهاية لها ، وإمكان انفصالها؟

الثالث : أنه لو لم ينته انقسام الجسم إلى ما لا يكون له امتداد ، وقبول انقسام لزم أن يكون امتداد كل جسم حتى الخردلة غير متناه القدر ، لتألفه من امتدادات غير متناهية العدد ، ومنها ما يبتنى على كون الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة من غير استقرار ، والزمان (٣) عبارة عن آنات متتالية ، وهو وجه واحد ، تقريره أن وجود

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (حينئذ)

(٢) في (ب) بزيادة كلمة (الأجزاء)

(٣) الزمان : الوقت كثيرة وقليله وهو المدة الواقعة بين حادثتين أولاهما سابقة وثانيتهما لا حقة ، ـ

٣٠

الحركة في المسافة معلوم بالضرورة ، مع القطع بأن الماضي منها ليس بموجود الآن ، بل حين كان حاضرا ، والمستقبل إنما يصير موجودا حين يصير حاضرا. فالموجود منها هو الحاضر لا غير ، وهو لا يقبل الانقسام ، وإلا لكان شيء منه قبل أو بعد ، لكونه غير قار الذات ، فلا يكون بتمامه حاضرا هذا خلف. أو نقول لو انقسم الحاضر لكان في الحركة اجتماع أجزاء (١) فيكون قار الذات هذا خلف وإذا ثبت في الحركة جزء غير منقسم (٢) وهي منطبقة على المسافة ، بمعنى أن كل جزء منها على جزء منها ثبت في المسافة جزء غير منقسم (٣) ، لامتناع انطباق غير المنقسم على المنقسم ، وهو المطلوب.

ثم إذا حاولنا إثبات ما هو المقصود. قلنا الحاضر يحصل عقيب انقضاء جزء آخر حاضر غير منقسم يكون هو الموجود من الحركة ، وهكذا إلى أن ينتهي. فإذن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ. أو قلنا : كل جزء من الحركة حاضر حينا ما ، وكل ما هو حاضر حينا ما هو غير منقسم بالضرورة ، فكل جزء منها غير منقسم ، وهو معنى تركبها من أجزاء لا تتجزأ ، فكذا المسافة لانطباقها عليها ، وقد يستعان في ذلك بالزمان ، لأن عدم الاستقرار فيه أظهر ، حتى كأنه نفس ماهيته ، ولا يتوهم فيه ما يتوهم في الحركة من تخلل وسكون ، أو لزوم وقوع ، أي جزء منها في زمان قابل للانقسام. فيقال : الموجود منه هو الحاضر الذي لا يقبل الانقسام ولو بالفرض.

لأن معناه صحة فرض شيء غير شيء وهذا ينافي عدم الاستقرار الذاتي ، ثم

__________________

ـ ومنه زمان الحصاد ، وزمان الشباب ، وزمان الجاهلية وجمع الزمان أزمنة ، أي أقسام وفصول ونقول : الأزمنة القديمة والأزمنة الحديثة.

والزمان في أساطير اليونانيين هو الاله الذي ينضج الأشياء ويوصلها الى نهايتها ..

والفرق بين الزمان والدهر والسرمد : أن نسبة المتغير إلى الثابت هي الزمان ونسبة الثابت إلى المتغير هي الدهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت هي السرمد لقد زعم أرسطو أن الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم وذلك لأن الزمان متفاوت زيادة ونقصانا فهو إذن كم ، وليس كما منفصلا لامتناع الجوهر الفرد فلا يكون مركبا من آنات متتالية فهو إذن كم متصل ، إلا أنه غير قار ، فهو إذن مقدار لهيئة غير قارة وهي الحركة.

(١) في (ب) آخر بدلا من (أجزاء).

(٢) في (ب) مستقيم بدلا من (منقسم)

(٣) في (ب) مستقيم بدلا من (منقسم)

٣١

إنه منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة ، فيكونان كذلك. والحكماء لا يثبتون الحاضر من الزمان ، ويجعلون الموجود من الحركة هو التوسط بين المبدأ والمنتهي ، ويجعلون حالهما في قبول الانقسام كحال الأجسام ، ومنها ما يبتنى على أن محل النقطة جوهر لا يقبل الانقسام ، وهو وجوه :

الأول : أن النقطة موجودة لأنها طرف الخط الموجود ، وطرف الموجود موجود بالضرورة ولأنه (١) شيء به يتماس الخطوط ، وتماسها بالعدم الصرف محال ، ولأنها ذات وضع ، أي يشار إليها إشارة حسية بأنها هنالك ، وهذا في المعدوم محال ، ثم إنها إما أن تكون جوهرا كما هو رأي المتكلمين ، أو عرضا ، وحينئذ يفتقر إلى جوهر يحل فيه بالذات إن لم تجوز (٢) قيام العرض أو بالواسطة إن جوزاه (٣) ، وذلك الجوهر يمتنع أن يكون منقسما وإلا لزم انقسام النقطة ، ضرورة انقسام الحال بانقسام المحل ، هذا خلف. فأيا ما كان يثبت جوهر لا يقبل الانقسام ، وهو المطلوب.

الثاني : أنا إذا وضعنا كرة حقيقية على سطح حقيقي مماسة بجزء لا يقبل الانقسام وإلا لكان في سطح الكرة خط مستقيم أو سطح مستو فلا تكون الكرة كرة حقيقية. هذا خلف فذلك الجزء إما جوهر وهو المطلوب ، أو عرض وفيه المطلوب ، ثم إذا أدرنا تلك الكرة على ذلك السطح ظهر كون سطحها من أجزاء لا تتجزأ ، وبه يتم المقصود ، والقول بامتناع الكرة أو السطح أو تماسها مكابرة ، ومخالفة لقواعدهم.

الثالث : أنه إذا قام خط على خط في أحد جانبيه لقبه بجزء لا ينقسم ، ثم إذا مر عليه إلى الجانب الآخر ظهر تألفه من أجزاء لا تتجزأ ، ضرورة أن ما يقع عليه غير المنقسم غير منقسم (٤).

__________________

(١) في (ب) ولانهما بدلا من (ولأنه)

(٢) في (ب) يجرى بدلا من (تجوز) وهو تحريف

(٣) في (ب) اذا جوزناه بدلا من (جوزاه)

(٤) سقط من (ب) لفظ (غير منقسم)

٣٢

الرابع : أنه برهن أقليدس (١) على أن الزاوية الحاصلة من مماسة الخط المستقيم لمحيط الدائرة أصغر ما يمكن من الزوايا ، فبالضرورة لا يقبل الانقسام ، وإلا لكان نصفها أصغر منه، فذلك الأمر الغير المنقسم ، إما جوهر أو حال فيه ، وفيه المطلوب. والحكماء يزعمون أن انقسام الحال بانقسام المحل مختص بما يكون حلوله بطريق السريان ، كالبياض في الجسم. والنقطة إنما تحل في الخط من حيث أنها نهاية له (٢) لا سارية فيه ، وكذا الخط في السطح ، والسطح في الجسم التعليمي الحال في الجسم الطبيعي بطريق السريان. والحق أن حديث الكرة والسطح قوي وتماسهما بجوهر بهما ضروري. والقول بأن موضع التماس منقسم بالفرض يخالف قواعدهم ، لأن معناه صحة فرض شيء غير شيء ، وهذا في النقطة محال ، إذ به يصير خطا أو سطحا مستويا ضرورة الانطباق على السطح المستوى ، وعند زوال التماس من ذلك الموضع إلى موضع آخر يصير الكرة من ذوات الأضلاع ، على أن النقطة عندهم إنما هي النهاية للخط فلا توجد في الكرة بالفعل.

«الاحتجاج على أن أجزاء الجسم متناهية»

قال (واحتجوا)

[على تناهي الأجزاء بأنها محصورة بين الطرفين وأن لا تناهيها يستلزم امتناع أن يصل المتحرك إلى غاية ما ، وأن يلحق السريع البطيء في زمان متناه. والنقض بالمؤلف من ثمانية أجزاء مثلا ، ثم إذا نسب إلى الأجسام المتناهية المقادير يثبت

__________________

(١) أقليدس : من أشهر رياضي اليونان وجد قبل المسيح بعدة قرون ، ترجم عنه العرب كتبا رياضية غاية في النفع. نقل كتابه في الرياضة حنين بن اسحاق فجاء العلامة ثابت بن قرة في حوالي سنة ٢١١ ه‍ فنقحه وهذبه وسهل مصاعبه. قال العلامة الشهرستاني : إنه أول من تكلم في الرياضيات وأفردها علما نافعا في العلوم منقحا للخاطر ملقحا للفكرة وكتابه معروف باسمه.

ومن قوله : الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية.

راجع دائرة معارف القرن العشرين ج ١ ص ٤٣٣.

(٢) سقط من (ب) لفظ (له)

٣٣

تناهي أجزائها ، لأن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء ، لأنه بحسبها ، والتداخل محال كما أن الطفرة خيال].

احتج القائلون بالجزء على أن أجزاء الجسم متناهية نفيا لقول النظام لوجوه :

الأول : أنها محصورة بين حاصرين ، فكل ما هو كذلك عددا كان أو مقدارا فهو متناه بالضرورة.

الثاني : أن لا تناهي الأجزاء يستلزم امتناع وصول المتحرك إلى غاية ما في المسافة لتوقفه على قطع نصفها ، ونصف نصفها ، وهلم جرا إلى ما لا يتناهى ، وذلك لا يتصور فيما يتناهى من الزمان ، وقد يعبر عن هذا الوجه بأنه يلزم امتناع قطع المسافة المعينة في زمان متناه ، وتقرر بأن عدم تناهي أجزاء المسافة يستلزم عدم تناهي أجزاء الحركة المنطبقة عليها وهو يستلزم عدم تناهي أجزاء الزمان المنطبق على الحركة.

الثالث : أنه يستلزم امتناع لحوق السريع بالبطيء إذ ابتداء الحركة بعده لأنه إذا قطع جزءا فالبطيء أيضا قطع جزءا إذ لا أقل منه ضرورة ، ولا تخلل للسكنات بشهادة الحس والبرهان (١) ، وإنما اعتبر البطيء دون الواقف مع أنه كذلك لأنه

__________________

(١) البرهان هو الحجة الفاصلة البينة يقال : برهن يبرهن برهنة إذا جاء بحجة قاطعة لرد الخصم ، وبرهن بمعنى بين ، وبرهن عليه أقام الحجة وفي الحديث «الصدق برهان».

والبرهان عند الفلاسفة : هو القياس المؤلف من اليقينيات سواء كانت ابتداء وهي الضروريات أو بواسطة وهي النظريات (تعريفات الجرجاني) وقال ابن سينا : البرهان قياس مؤلف من يقينيات لانتاج يقيني (النجاه ص ١٠٣) والحد الأوسط في هذا القياس لا بد من أن يكون علة نسبة الأكبر إلى الأصغر فإذا أعطاك علة اجتماع طرفي النتيجة في الذهن فقد سمى برهان الآن ، وإذا أعطاك علة اجتماع طرفي النتيجة في الذهن والوجود معا سمى برهان اللم.

قال ابن سينا : البرهان المطلق هو برهان اللم وبرهان الإنّ اما برهان اللم فهو الذي ليس إنما يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق بها فقط حتى تكون فائدته أن القول لم يجب التصديق به بل يعطيك أيضا مع ذلك علة اجتماع طرفي النتيجة في الوجود.

راجع النجاة ص ١٠٣ واما برهان الإنّ فهو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق بها لا غير (النجاة ص ١٠٤)

٣٤

حينئذ يكون ذكر السرعة لغوا ، ويصير هذا بعينه طريق امتناع قطع المتحرك مسافة ما ، ووصوله إلى غاية ما ، ولا يخفى أن هذا الوجه جار فيما إذا كانت الأجزاء متناهية ، وأن الوجوه الثلاثة إنما تنتهض على من يقول بلا تناهي الأجزاء في كل امتداد يفرض في الجسم ، وفيما بين كل طرفين من أطرافه ، وجهتين من جهاته ، وأما على القول بلا تناهيها في مجموع الامتدادات وفيما بين جميع الأطراف والجهات فلا إلا بين تناهي عدد الامتدادات.

الرابع : إنا نفرض اجتماع ثمانية من الأجزاء بحيث يصير المركب منها طويلا ، عريضا ، عميقا ، منقسما ، في الأقطار الثلاثة ، متقاطعا امتداداته على الزوايا القائمة ، فبالضرورة يكون جسما مع تناهي أجزائه ، ثم إذا حاولنا بيان تناهي أجزاء كل جسم متناهي المقدار اعتبرنا نسبة حجمه إلى حجمه ، فكانت نسبة متناه إلى متناه ، لأن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء ، إذ بحسبها يكون الحجم والمقدار ازديادا ، وانتقاصا ، فلو كانت الأجزاء غير متناهية ، كانت نسبة المتناهي إلى المتناهي نسبة المتناهي إلى غير المتناهي ، وهو محال.

فإن قيل : مذهب النظام أن الجوهر الفرد يمتنع وجوده على الانفراد ، وإنما يكون في ضمن الجسم ، وكل جسم ، فمن جواهر غير متناهية.

قلنا : نفرض الكلام في ثمانية أجزاء من الجسم.

الخامس : أنه لو كان الحجم والمقدار بحسب الأجزاء ، فلو كانت الأجزاء غير متناهية ، لزم في كل جسم أن يكون غير متناهي الحجم ، واللازم ظاهر البطلان ، والمشهور عن القائلين بلا تناهي الأجزاء في التفصي عن حديث زيادة الحجم ، ولحوق السريع البطيء أمران : أحدهما القول بالتداخل ، وهو أن ينفذ أحد الجزءين في الآخر ويلاقيه بأسره ، بحيث يصير حيزاهما واحدا ، وحاصله منع زيادة الحجم بزيادة الأجزاء ، فلا يلزم من عدم تناهي الأجزاء أن يكون الحجم غير متناه ، ولا أن يكون بإزاء كل جزء من المسافة جزء من الحركة والزمان ، ليلزم عدم تناهيهما.

٣٥

وثانيهما : القول بالطفرة (١) ، وهو أن يترك المتحرك حدا من المسافة ، ويحصل في حد آخر من غير محاذاة وملاقاة لما بينهما ، وحاصله قطع بعض حدود المسافة من غير ملاقاة لأجزائه وحينئذ لا يلزم امتناع أن يصل المتحرك إلى غاية ما أو يلحق السريع البطيء ، وكلا الأمرين باطل بالضرورة. أما التداخل فلأن حاصله تساوى الكل ، والجزء في العظم ، وأما الطفرة فلأن معناها يؤول إلى قطع مسافة ما ، من غير حركة فيها ، وقطع لأجزائها ، ومن الشواهد الحسية لبطلانها أنا نمد القلم فيحصل خط أسود ، من غير أن يبقى في خلاله أجزاء بيض ، وليس ذلك لفرط اختلاط الأجزاء البيض بالسود ، بحيث لا يمتاز عند الحس لأن الأجزاء المحسوسة (٢) أقل من المطفور عنها بكثير ، بل لا نسبة لها إليها ؛ لكونها غير متناهية ، فينبغي أن يقع الإحساس بالبيض ، وقد يستدل على نفي التداخل بأنه إن كان بالأسر بمعنى أن يلاقي الجزء بكليته الجزء الآخر بحيث يصير حيزاهما (٣) واحدا لم يكن الوسطاني حاجبا للطرفين عن التماس ، وبقي (٤) الإشكال بالنظر إلى الأجزاء المتماسة ، بل لو وقع ذلك في جميع الأجزاء لم يحصل هناك حجم ، وتأليف ، وامتداد في الجهات ، فلم يحصل الجسم ، وإن كان لا بالأسر ، وذلك بأن يلاقي الجزء الجزء ، ويداخله بشيء دون شيء لزم التجزي ، ولو بالفرض مع بقاء الإشكال بحاله. واعلم أن النّظّام لم يقل بتأليف الجسم من أجزاء غير متناهية ، لكنه لما قال بالجزء ، ونظر في أدلة نفيه ، سيما ما يتعلق بلزوم بطلان حكم الحس ، كتفكك الرحى ونحوه ، اضطر إلى الحكم بأن كل جزء فهو قابل للانقسام لا إلى نهاية ، ولما كان من مذهبه أن حصول الأقسام من لوازم قبول الانقسام ، لزمه القول

__________________

(١) الطفرة : قال ابن حزم في كتابه الفصل : نسب قوم من المتكلمين الى ابراهيم النظام أنه قال : إن المار على سطح الجسم يسير من مكان الى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها. وهذا عين المحال والتخليط إلا إن كان هذا على حد قوله في أن ليس في العالم الا جسم حاشا الحركة فقط. فانه وان كان قد أخطأ في القصة فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجا صحيحا لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجودا البتة إلا في حاسة البصر فقط. راجع ما كتبه ابن حزم في هذا الموضوع ودائرة المعارف للقرن العشرين ص ٧٥١ ج ٥

(٢) في (ب) الممشوقة بدلا من (المحسوسة)

(٣) في (ب) جزءاهما بدلا من (حيزاهما).

(٤) في (ب) وبقى بدلا من (ونفى)

٣٦

بلا تناهي الأجزاء ، فاضطر في قطع المسافة ولحوق السريع البطيء إلى الطفرة ، فاستمر التشنيع بطفرة النظام ، وتفكك رحى أهل الكلام.

فإن قيل : المذكور في كتب المعتزلة أن الجسم عند النظام مركب من اللون ، والطعم ، والرائحة ، ونحو ذلك من الأعراض.

قلنا : نعم إلا أن هذه عنده جواهر لا أعراض ، وتحقيق ذلك على ما لخصناه من كتبهم أن مثل الأكوان ، والاعتقادات ، والآلام ، واللذات ، وما أشبه ذلك أعراض لا دخل لها في حقيقة الجسم وفاقا ، وأما الألوان ، والأضواء ، والطعوم ، والروائح ، والأصوات والكيفيات الملموسة ، من الحرارة ، والبرودة ، وغيرها ، فعند النظام جواهر بل أجسام ، حتى صرح بأن كلّا من ذلك جسم لطيف من جواهر متجمعة ، ثم إن تلك الأجسام اللطيفة إذا اجتمعت وتداخلت صارت الجسم الكثيف الذي هو الجماد. وأما الروح فجسم لطيف هي (١) شيء واحد. والحيوان كله من جنس واحد ، وعند الجمهور كلها (٢) أعراض. إلا أن الجسم عند ضرار بن (٣) عمرو ، والحسين النجار (٤) مجموع من تلك الأعراض ، وعند الآخرين جواهر مجتمعة ، تحلها تلك الأعراض فما وقع في المواقف من أن الجسم ليس مجموع أعراض مجتمعة خلافا للنظام ، والنجار ليس على ما ينبغي ، والصواب مكان النظام ضرار على ما في سائر الكتب ويمكن أن يقال : الكلام فيما هو جسم اتفاقا. أعني المتحيز الذي له الأبعاد الثلاثة ، والنظام يجعله مجموع لون وطعم ورائحة ونحو

__________________

(١) في (ب) هو بدلا من (هي)

(٢) في (ب) كل ذلك بدلا من (كلها)

(٣) سبق الترجمة له في كلمة (وافية)

(٤) هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار الرازي أبو عبد الله : رأس الفرقة النجارية من المعتزلة ، وإليه نسبتها كان حائكا وقيل : كان يعمل الموازين من أهل قم وهو من متكلمي «المجبرة» وله مع النظام عدة مناظرات والنجارية يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر واكتساب العباد وفي الوعد والوعيد وإمامة أبي بكر ، ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات وخلق القرآن وفي الرؤية وهم ثلاث فرق «البرغوثية» و «الزعفرانية» و «المستدركة» له كتب منها البدل في الكلام ، والمخلوق ، واثبات الرسل ، والقضاء والقدر ، والثواب والعقاب وغير ذلك.

راجع فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة. والباب ٣ : ٢١٥ والامتاع والمؤانسة ١ : ٥٨ والمقريزي ٢٠ : ٣٥٠

٣٧

ذلك مما هو من قبيل الأعراض في الواقع ، وإن كان هو يسميها جواهر بل أجساما ، فيوافق النجار في المعنى ، ويخالف القوم ، إلا أن الاحتجاج عليهما بأن العرض لا يقوم بذاته ، بل لا بد من الانتهاء إلى جوهر يقومه ، ولهما بأن الجواهر متماثلة ، والأجسام مختلفة ، فلا تكون جواهر ، ربما لا ينتظم على رأي النظام ، حيث يزعم أن كلّا من تلك الأمور كالسواد مثلا جسم مؤلف من جواهر متماثلة في نفسها ، قائمة بذواتها ، وإن لم تكن مماثلة للجواهر الأخر ، كالحلاوة ، أو الحرارة مثلا ، وبهذا يظهر أن الاحتجاج بأن الأجسام باقية والأعراض غير باقية. لا ينتهض عليه مع أن بفاء الأجسام غير مسلم لديه.

وأما الجواب بمنع تماثل الجواهر فجدلي فلا يتأتى على مذهب المانعين ، حتى لو قصد الإلزام تم المرام ، والأقرب منع اختلاف الأجسام بحسب الذات ، بل بحسب العوارض المستندة إلى إرادة القادر المختار ، والاختلاف إنما هو مذهب النظام ، وحينئذ يندفع ما ذكر في المواقف من أنه لا محيص لمن يقول بتجانس (١) الجواهر عن أن يجعل جملة من الأعراض داخلة في حقيقة الجسم ، ليكون الاختلاف عائدا إليها ، ولا أدري كيف ذهل عما في هذا المخلص من الوقوع في ورطة أخرى ..؟ هي عدم بقاء الأجسام ضرورة انتفاء الكل بانتفاء الجزء ، الذي هو جملة الأعراض الغير (٢) الباقية باعتراف هذا القائل ، وقد أشار إليه في تنوير اختلاف الجواهر بذواتها بقوله : ولذلك اختلف (٣) أن الأعراض لا تبقى (٤) ، والجواهر باقية يعني لو لم تكن الجواهر مختلفة بذواتها كما كانت الأجسام المختلفة محض الجواهر المجتمعة ، بل مع جملة من الأعراض ، وحينئذ يلزم عدم بقائها لعدم بقاء الأعراض ، ولا يخفى أنه كان الأنسب أن يقول : والأجسام باقية ، إلا إن أراد بالجواهر ما يعم الجوهر الفرد ، والجسم (٥) الذي هو مجموع جواهر مجتمعة.

__________________

(١) في (ب) بتماس بدلا من (بتجانس)

(٢) سقط من (ب) لفظ (الغير)

(٣) سقط من (ب) (اختلف)

(٤) سقط من (ب) (لا تبقى)

(٥) في (ب) الجواهر بدلا من (الجسم)

٣٨

قال (وقطع ما لا يتناهى فيما يتناهى ضلال)

قد يجاب عن إشكال قطع المسافة المعينة بأنه إنما يتوقف على زمان غير متناهي الأجزاء ينطبق كل جزء منها على جزء من الحركة ، وهو على جزء من المسافة ، وهذا لا يستلزم عدم تناهي الزمان ، لأن المحدود من الحركة والزمان يشتمل على أجزاء غير متناهية ، كالجسم المتناهي ، وهذا كما أن المسافة المعينة تحتمل عند الفلاسفة الانقسام إلى غير النهاية ، ولا يمتنع قطعها في زمان متناه ، مع أن قطعها يتوقف على قطع نصفها ونصف نصفها ، وهلمّ جرا إلى ما لا يتناهى ، وذلك لأن كلّا من الحركة والزمان المحدودين أيضا قابل للانقسام إلى غير النهاية ، ويدفع بأن ما يوجد شيئا فشيئا من بداية إلى نهاية ، فامتناع كونه غير متناهي العدد معلوم بالضرورة ، والقول به ضلال عن طريق الحق ، بخلاف قبوله الانقسام إلى غير النهاية بالمعنى الذي ذكروه على ما مرّ.

فإن قيل : هذا ليس تمشية (١) لبرهان قطع المسافة ، بل رجوعا إلى برهان المحصور بين حاصرين.

قلنا : نعم إلا أن هذا لما كان فيما له امتداد طولي فقط كالحركة والزمان في غاية الظهور بيّن به حال الجسم.

«طرق نفي الجوهر الفرد عند الفلاسفة»

قال (وأما الفلاسفة)

[فلهم في نفي الجوهر الفرد (٢) طرق منها :

الأول : أن ما منه إلى جهة غير ما منه إلى جهة أخرى فينقسم.

__________________

(١) في (ب) بمشبه بدلا من (تمشية)

(٢) سقط من (ب) لفظ (الفرد)

٣٩

الثاني : إذا انضم جزء إلى جزء (١) فإما أن يلاقيه بالأسر فلا حجم ، فلا مقدار أو لا بالأسر فيلزم الانقسام.

الثالث : إذا تراصت ثلاثة أجزاء فالوسط إن منع الطرفين من التلاقي (٢) انقسم ، وإلا فلا حجم.

الرابع : أنه إذا أشرقت الشمس على صفحة من الأجزاء ، فالوجه المضيء المقابل غير الآخر.

الخامس : إذا وقع جزء على ملتقى جزءين انقسمت الثلاث وذلك بأن يفرض عليه أو يتحرك من جزء إلى آخر ، فكونه متحركا إنما يكون عند الملتقى ، أو يفرض خط من أربعة أجزاء فوق الأول جزء ، وتحت الرابع جزء ، ثم تحركا معا على السواء ، فالتحاذي يكون على الملتقى ، أو يفرض خط من خمسة ، فوق كل طرف جزء ، فتحرّكا حتى التقيا ، فالثالث يكون على ملتقاهما].

يريد أن أدلة نفي الجزء الذي لا يتجزأ على كثرتها ترجع إلى عدة أصول ، يتفرع على كل منها وجوه من الاستدلال ، فجعلت بمنزلة الطرق ، وأشير في عنوان كل منها إلى وجه الضعف ، ومورد المنع ، فمنها ما يبتنى على أن تعدد جهات الشيء ونهاياته تستلزم الانقسام في ذاته ، وهي وجوه :

الأول : أنه لو وجد الجزء أي الجوهر المتميز الذي لا انقسام فيه أصلا لتعددت جهاته ضرورة فتتعدد جوانبه وأطرافه ، لأن ما منه إلى اليمين غير ما منه إلى اليسار ، وكذا الفوق والتحت والقدام والخلف فيلزم انقسامه على تقدير عدم انقسامه وهو محال.

الثاني : أنه إذا انضم جزء إلى جزء ، فإما أن يلاقيه بالكلية بحيث لا يزيد حيز الجزءين على حيز الواحد فيلزم أن لا يحصل من انضمام الأجزاء حجم ومقدار ،

__________________

(١) في (ب) آخر بدلا من (جزء)

(٢) سقط من (أ) لفظ (التلاقي)

٤٠