شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

وليس للنفوس السماوية اختلاف أفعال وآلات ، على أنه أيضا موضع نظر لما ذكر في الشفاء. من أن النفس اسم لمبدإ صدور أفاعيل ، ليست على وتيرة واحدة ، عادمة للإرادة. ولا خفاء في أنه معنى شامل لهما (١) صالح لتعريفهما به (٢) على المذهبين ، لأن فعل النفس السماوية أيضا (٣) ، ليس على نهج واحد ، عادم للإرادة ، بل على أنهاج مختلفة على رأي ، وعلى نهج واحد مع الإرادة على الصحيح.

فإن قيل : النفس كما أنها كمال للجسم من حيث أنه بها يتم ويتحصل نوعا كذلك هي صورة له ، من حيث أنها تقارن المادة ، فيحصل جوهر نباتي أو حيواني ، وقوة له من حيث أنها مبدأ صدور أفعاله ، فلم أوثر في تعريفهما الكمال على الصورة والقوة. وما ذكروا من أنا نجد بعض الأجسام يختص بصدور آثار مختلفة عنها ، فيقطع بأن ذلك ليس بجسميته المشتركة ، بل لمبادئ خاصة نسميها نفسا ، ربما يشعر بأن الأولى ذكر القوة.

قلنا : أما إيثاره على الصورة فلأنها بالحقيقة اسم لما يحل المادة ، فلا يتناول النفس الإنسانية المجردة (٤) ، إلا بتجوز أو تجديد (٥) اصطلاح ، ولأنها تقاس إلى المادة ، والكمال إلى النوع. ففي تعريف المعنى الذي به يتحصل الجسم فيصير أحد الأنواع ومصدر الأفعال ، يكون المقيس إلى (٦) أمر هو نفس ذلك المتحصل أولى من المقيس إلى أمر بعيد لا يكون هو معه إلا بالقوة ، ولا ينتسب إليه شيء من الأفاعيل.

هذا ملخص كلام الشفاء. وتقدير الإمام أن المقيس إلى النوع أولى ، لأن ما (٧)

__________________

(١) في (أ) له بدلا من (لهما)

(٢) سقط من (أ) لفظ (به)

(٣) سقط من (أ) لفظ (أيضا)

(٤) سقط من (ب) لفظ (المجردة)

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (أو تجديد)

(٦) سقط من (ب) جملة (إلى أمر)

(٧) سقط من (أ) حرف (ما)

٣٠١

في الدلالة على النوع دلالة على المادة ، لكونها جزءا منه (١) من غير عكس ، ولأن النوع أقرب إلى الطبيعة الجنسية من المادة. وكان معناه أن النفس تقاس إلى الطبيعة الجنسية المبهمة الناقصة ، التي إنما تتحصل وتتم نوعا ، لما يتضاف إليها من الفصل ، بل النفس ، فتعريفها بالكمال المقيس إلى النوع الذي هو أقرب إلى الجنس من حيث أنهما متحدان في الجود ، لا يتمايزان إلا في العقل ، بأن أخذ هذا مبهما ، وذاك متحصلا ، يكون أولى ، هذا (٢) وقد يتوهم مما ذكره الإمام ، أن النفس كمال بالقياس إلى أن الطبيعة الجنسية كانت ناقصة ، وبانضياف الفصل إليها ، كمل النوع ، إن الكمال يكون بالقياس إلى الطبيعة الجنسية على ما صرح به في المواقف (٣). وحينئذ يكون توسيط النوع وكونه أقرب إلى طبيعة الجنس مستدركا ، وهو فاسد على ما لا يخفى. وأما إيثاره على القوة ، فلأنها لفظ مشترك بين مبدأ الفعل كالتحريك ، ومبدأ القبول والانفعال كالإحساس ، وكلاهما معتبر في العقل (٤) ، وفي الاقتصار على أحدهما ، مع أنه إخلال بما هو مدلول النفس ، استعمال للمشترك في التعريف ، وكذا في اعتبارهما جميعا ، ولأن الشيء إنما يكون نفسا بكونه مبدأ الآثار ، ومكمل النوع ، ولفظ القوة لا يدل إلا على الأول ، بخلاف لفظ الكمال ، ولا شك أن تعريف الشيء بما ينبئ عن جميع الجهات المعتبرة فيه ، يكون أولى. ففي الجملة لما أمكن تفسير النفس بما يعم السماويات والارضيات ، ثم تمييز كل بما يخصها ، وكان ذلك أقرب إلى الضبط آثره في المتن.

فإن قيل : قد ذكروا أن للسماويات حسّا وحركة ، وتعقلا كليا ، فعلى هذا لا يصلح ذلك مميزا للحيوانية والإنسانية.

قلنا : ذكر في الشفاء أن المراد بالحس هاهنا ما يكون على طريق الانفعال ، وارتسام المثال ، وبالتعقل ما هو شأن (٥) العقل الهيولاني ، والعقل بالملكة ، وأمر

__________________

(١) في (أ) بزيادة حرف (منه)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (هذا)

(٣) في (ب) صاحب المواقف بدلا من (في المواقف)

(٤) في (ب) النفس بدلا من (العقل)

(٥) في (ب) ببيان بدلا من (شأن)

٣٠٢

السمويات ليس كذلك.

[قال (ثم مقتضى قواعدهم)

أن يكون في الإنسان مثلا نفس إنسانية ، وأخرى حيوانية ، وأخرى نباتية ، لكن ذكروا. أن ليس الأمر كذلك ، بل يصدر عن النباتية ما يصدر عن القوة (١) المعدنية ، وعن الحيوانية ما يصدر عنها ، وعن الإنسانية ما يصدر عن الكل].

يعني أن مقتضى ما ذكروا من أن كل نفس مبدأ لآثار مخصوصة ، وأن لكل نوع من الأجسام صورة نوعية ، هي جوهر حال في المادة ، وأن البدن الإنساني يتم جسما خاصا (٢) ، ثم تتعلق به النفس الناطقة ، يقتضي أن يكون في الإنسان نفس هي مبدأ (٣) تعقل الكليات ، وكذا في كل حيوان بخواصه ، وأخرى مبدأ الحركات والإحساسات ، وأخرى مبدأ التغذية والتنمية وتوليد المثل.

لكن ذكر في شرح الإشارات وغيره. أن ليس الأمر كذلك ، بل المركبات منها ما له صورة معدنية ، يقتصر فعلها على حفظ المواد المجتمعة من الأسطقسات المتضادة بكيفياتها المتداعية إلى الانفكاك ، لاختلاف ميولها إلى أمكنتها المختلفة ، ومنها ما له صورة تسمى نفسا نباتية يصدر عنها مع الحفظ المذكور جمع أجزاء أخر من الأسطقسان ، وإضافتها إلى مواد المركب وصرفها في وجوه التغذية ، والإنماء والتوليد ، ومنها ما له صورة تسمى نفسا حيوانية ، يصدر عنها مع الأفعال النباتية والحفظ المذكور الحس والحركة الإرادية ، ومنها ما له نفس مجردة ، يصدر عنها مع الأفعال السابقة كلها النطق وما يتبعه.

[قال (وأما عندنا)

فاستناد الآثار إلى القادر ، واختلاف الأجسام بالعوارض ، بكونها من جواهر

__________________

(١) في (ب) الصورة بدلا من (القوة)

(٢) في (ب) خالصا بدلا من (خاصا)

(٣) سقط من (ب) لفظ (مبدأ)

٣٠٣

متجانسة ، إلا أن النصوص شهدت بأن للإنسان روحا (١) وراء هذا الهيكل المحسوس ، الدائم التبدل والتحلل ، وكادت الضرورة تقتضي بذلك ، ولو بأدنى بنية ، وهو المراد بالنفس الإنسانية ، والمعتمد من آراء المتكلمين.

إنها جسم لطف سار في البدن لا يتبدل ولا يتحلل ، أو الأجزاء الأصلية الباقية ، التي لا تقوم الحياة بأقل منها ، وكأنه المراد بالهيكل المحسوس ، والبنية المحسوسة : أي من شأنها أن تحس ، ومن آراء الفلاسفة وكثير من المسلمين ، أنها جوهر مجرد متصرف في البدن ، متعلق أولا بروح قلبي ، يسري في البدن ، فيفيض على الأعضاء قواها لنا وجوه :

الأول : إنا نحكم بالكلي على الجزئي ، فيلزم أن ندركهما ، ومدرك الجزئي منه هو الجسم ، ليس إلا كما في سائر الحيوانات.

الثاني : أن كل أحد يقطع بأن المشار إليه بأنا حاضر هناك وقائم وقاعد ، وما ذلك إلا الجسم.

الثالث : لو كانت مجردة لكانت نسبتها إلى الأبدان على السواء ، فجاز أن ينتقل فلا يكون زيد الآن ، هو الذي كان ، والكل ضعيف.

الرابع : ظواهر النصوص ، ولا تفيد القطع ، وأما الاستدلال ، بأنه لا دليل على تجردها ، فيجب نفيه ، فمع ضعفه معارض ، بأنه لا دليل على تحيزها فيجب نفيه.

يعني لما لم يثبت عند المتكلمين اختلاف أنواع الأجسام ، واستناد الآثار

__________________

(١) قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ رضي الله عنه. قال حدثنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الصادق المصدوق «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات. رزقه وأجله وعمله ، وهل هو شقي أو سعيد فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها». أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش.

٣٠٤

إليها ، ليحتاج إلى فصول منوعة ، ومبادي مختلفة ، بنوا إثبات النفس على الأدلة السمعية ، والتنبيهات العقلية ، مثل. إن البدن وأعضاءه الظاهرة والباطنة دائما في التبدل والتحلل (١) ، والنفس بحالها ، وأن الإنسان الصحيح العقل ، قد يغفل عن البدن وأجزائه ، ولا يغفل بحال عن وجود وجدانه (٢) ذاته ، وأنه قد يريد ما يمانعه البدن مثل الحركة إلى العلو. وبالجملة. قد اختلفت كلمة الفريقين في حقيقة النفس ، فقيل هي النار السارية في الهيكل المحسوس ، وقيل هي (٣) الهواء ، وقيل الماء ، وقيل العناصر الأربعة ، والمحبة والغلبة ، أي الشهوة والغضب ، وقيل الأخلاط الأربعة ، وقيل نفس كل شخص مزاجه الخاص ، وقيل جزء لا يتجزأ في القلب.

وكثير من المتكلمين على أنها الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره ، وكان هذا مراد من قال : هي هذا الهيكل المحسوس ، والبنية المحسوسة. أي التي من شأنها أن يحس بها.

وجمهورهم على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي يتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته ، نافذ من جواهر الأعضاء ، سار فيها سريان ماء الورد في الورد ، والنار في الفحم ، لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال ، بقاؤه في الأعضاء حياة ، وانتقاله عنها إلى عالم الأرواح موت ، وقيل إنها أجسام لطيفة متكونة في القلب ، سارية في الأعضاء من طريق الشرايين أي العروق الضاربة ، أو متكونة في الدماغ ، نافذة في الأعصاب النابتة منه إلى جملة البدن ، واختيار المحققين من الفلاسفة ، وأهل الإسلام ، أنها جوهر مجرد في ذاته ، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ، ومتعلقه أولا هو ما ذكره المتكلمون من الروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه ، ويفيده قوة بها تسري في جميع

__________________

(١) وهذا ما أشار إليه العلم الحديث أن الجسم عبارة عن مجموعات من الخلايا وأن هذه الخلايا تموت ويتجدد غيرها في داخل الجسم وهكذا.

(٢) سقط من (أ) لفظ (وجدانه).

(٣) سقط من (أ) لفظ (هي).

٣٠٥

البدن ، فيفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى المذكورة. فيما سبق احتج القائلون بكونها من قبيل الأجسام بوجوه :

الأول : أن المدرك للكليات أعني النفس هو بعينه المدرك للجزئيات. لأنا نحكم بالكلي على الجزئي. كقولنا هذه الحرارة حرارة ، والحكم بين الشيئين ، لا بد أن يتصورهما ، والمدرك للجزئيات جسم ، لأنا نعلم بالضرورة ، أنا إذا لمسنا النار ، كان المدرك لحرارتها ، هو العضو اللامس ، ولأن غير الانسان من الحيوانات يدرك الجزئيات ، مع الاتفاق على أنا لا نثبت لها نفوسا مجردة.

وردّ بأنا لا نسلم أن المدرك لهذه الحرارة هو العضو اللامس ، بل النفس بواسطته ، ونحن لا ننازع في أن المدرك للكليات والجزئيات هو النفس ، لكن للكليات بالذات وللجزئيات بالآلات ، وإذا لم يجعل العضو مدركا أصلا ، لا يلزم أن يكون الإدراك مرتين ، والإنسان مدركين على ما قيل.

ويمكن دفعه بأنه يستلزم إما إثبات النفوس المجردة للحيوانات الأخر ، وإما جعل إحساساتها للقوى والأعضاء ، وإحساسات الإنسان للنفس بواسطتها مع القطع بعدم التفاوت.

الثاني : أن كل واحد منا يعلم قطعا أن المشار إليه بأنا وهو النفس. متصف بأنه حاضر هناك ، وقائم وقاعد (١) وماش وواقف ، ونحو ذلك من خواص الأجسام والمتصف بخاصة الجسم جسم. وقريب من ذلك ما يقال : إن للبدن إدراكات هي بعينها إدراكات المشار إليه ، بأنا أعني النفس ، مثل إدراك حرارة النار ، وبرودة الجمد (٢) ، وحلاوة العسل ، وغير ذلك من المحسوسات ، فلو كانت النفس مجردة ، أو مغايرة للبدن ، امتنع أن تكون صفتها غير صفته (٣).

والجواب : أن المشار إليه. بأنا وإن كان هو النفس على الحقيقة ، لكن كثيرا ما

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (وقاعد).

(٢) في (ب) الثلج بدلا من (الجمد).

(٣) في (ب) عين بدلا من (غير).

٣٠٦

يشار به إلى البدن (١) أيضا ، لشدة ما بينهما من التعلق ، فحيث توصف بخواص الأجسام كالقيام والقعود ، وكإدراك المحسوسات عند من يجعل المدرك نفس الأعضاء والقوى لا النفس بواسطتها ، فالمراد به البدن.

وليس معنى هذا الكلام ، أنه لشدة تعلقها بالبدن ، واستغراقها في أحواله غفل فيحكم عليها بما هو من خواص الأجسام على ما فهمه صاحب الصحائف ، ليلزم كونها في غاية الغفلة.

الثالث : أنها لو كانت مجردة لكانت نسبتها إلى جميع البدن على السواء ، فلم تتعلق ببدن دون آخر ، وعلى تقدير التعلق ، جاز أن تنتقل من بدن إلى بدن آخر ، وحينئذ لم يصلح القطع بأن زيدا الآن هو الذي كان بالأمس.

وردّ بأن لا نسلم أن نسبتها إلى الكل على السواء ، بل لكل نفس بدن لا يليق بمزاجه واعتداله إلا تلك النفس الفائضة بحسب استعداده الحاصل باعتداله الخاص.

الرابع : النصوص الظاهرة من الكتاب والسنة تدل على أنها تبقى بعد خراب البدن وتتصف بما هو من خواص الأجسام كالدخول في النار ، وعرضها عليها ، وكالترفرف حول الجنازة ، وككونها في قناديل من نور ، أو في جوف طيور خضر (٢) ،

__________________

(١) بدن الإنسان جسده وقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) قالوا : بجسد لا روح فيه. قال الأخفش ، وأما قول من قال : بدرعك فليس بشيء. ورجل بدن : أي مسن. قال الأسود بن يعفر.

هل لشباب فات من مطلب

أم ما بكاء البدن الأشيب

والبدن : الدرع القصيرة. والبدنة : ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها ، والجمع بدن ، وبدّن أي أسن قال حميد الأرقط :

وكنت خفت الشيب والتبدينا

والهم مما يذهل القرينا

وفي الحديث «إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود».

(٢) روى الإمام مسلم في كتاب الإمارة باب في بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون. حدثنا أسباط وأبو معاوية قالا حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ـ

٣٠٧

وأمثال ذلك ، ولا خفاء في احتمال التأويل ، وكونها على طريق التمثيل ، ولهذا تمسك بها القائلون بتجرد النفوس زعما منهم ، أن مجرد مغايرتها للبدن يفيد ذلك ، وقد يستدل بأنها لا دليل على تجردها ، فيجب أن لا تكون مجردة ، لأن الشيء إنما يثبت بدليل ، وهو مع ابتنائه على القاعدة الواهية يعارض بأنه لا دليل على كونها جسما أو جسمانيا ، فيجب أن لا تكون كذلك.

[قال (احتجوا)

بوجوه :

الأول : أنها بتعلقها تكون محلا لما ليس بمادي كالمجردات ، ولما يمتنع اختصاصه لوضع ومقدار كالكليات ، ولما لا يقبل الانقسام كالوجود ، والوحدة ، والنقطة ، وسائر البسائط التي إليها تنتهي المركبات ، ولا يمتنع اجتماعه في جسم كالضدين ، بل الصور والأشكال المختلفة دون مجرد ، إذ لا تزاحم فيه بين الصور ، ولو من الضدين أو النقيضين ، ومبناه على أن كون التعقل بحصول الصورة ، وعلى نفي ذي وضع غير منقسم ، وعلى تساوي الصورة وذي الصورة ، في التجرد وفي الوضع والمقدار ، وفي قبول الانقسام ، وفي التضاد وإعدامها ، وعلى استلزام انقسام المحل انقسام الحال ، فيما يكون الحلول لذات المحل ، لا لطبيعة تلحقه كالنقطة في الخط المتناهي].

أي احتج القائلون بتجرد النفس بوجوه :

الأول : أنها تكون محلا لأمور يمتنع حلولها في الماديات ، وكل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة. أما بيان كونها محلا لأمور هذا شأنها ، فلأنها تتعقلها وقد سبق أن التعقل ، إنما يكون بحلول الصورة ، وانطباع المثال ، والمادي لا يكون صورة لغير المادي ، ومثالا له.

__________________

ـ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». ورواه أبو داود في الجهاد ٢٥ ، والترمذي في التفسير سورة ٣ ، ١٩ وابن ماجه في الجنائز ٤ والجهاد ١٦ وأحمد بن حنبل في المسند ٦ : ٣٨٦.

٣٠٨

وأما بين تلك الأمور وامتناع حلولها في المادة ، فهو أن من جملة معقولاتها الواجب وأن لم تعقله بالكنه ، والجواهر المجردة ، وإن لم نقل بوجودها في الخارج ، إذ ربما يعقل المعنى فيحكم بأنه موجود ، أو ليس بموجود ، ولا خفاء في امتناع حلول (١) صورة المجرد في المادي ، ومنها المعاني الكلية التي لا يمنع نفس تصورها الشركة كالإنسانية المتناولة بزيد وعمرو ، فإنها يمتنع اختصاصها بشيء من المقادير والأوضاع والكيفيات وغير ذلك ، مما لا ينفك عنه الشيء المادي في الخارج ، بل يجب تجردها عن جميع ذلك ، وإلا لم تكن متناولة لما ليس له ذلك. والحاصل أن الحلول في المادي ، يستلزم الاختصاص بشيء من المقادير ، والأوضاع والكيفيات ، وغير ذلك (٢). والكلية تنافي ذلك. فلو لم تكن النفس مجردة لم تكن محلا للصورة الكلية ، عاقلة لها ، واللازم باطل. ومنها المعاني التي لا تقبل الانقسام ، كالوجود والوحدة ، والنقطة وغير ذلك. وإلا لكان كل معقول مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل وهو محال.

ومع ذلك ، فالمطلوب وهو وجود ما لا ينقسم أصلا ، حاصل ، لأن الكثرة عبارة عن الوحدات ، وإذا كان من المعقولات ما هو واحد غير منقسم (لزم أن يكون محله العاقل له غير جسم ، بل مجردا ، لأن الجسم والجسماني منقسم) (٣). وانقسام المحل مستلزم لانقسام الحال ، فيما يكون الحلول لذات المحل ، كحلول السواد والحركة والمقدار في الجسم ، لا لطبيعة تلحقه ، كحلول النقطة في الخط لتناهيه ، وكحلول الشكل في السطح ، لكونه ذا نهاية واحدة أو أكثر ، وكحلول المحاذاة في الجسم ، من حيث وجود جسم آخر على وضع ما فيه ، وكحلول الوحدة في الأجزاء من حيث هي مجموع ، ومنها المعاني التي لا يمكن اجتماعها إلا في المجردات دون الجسم ، كالضدين وكعدة من الصور والاشكال ، فإنه لا تزاحم بينها في العقل ، بل نتصورها ، ونحكم فيما بينها ، بامتناع الاجتماع في محل واحد من المواد الخارجية حكما ضروريا.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (حلول).

(٢) سقط من (ب) لفظ (وغير ذلك)

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

٣٠٩

وهذا الوجه من الاحتجاج يمكن أن يجعل وجوها أربعة : بأن يقال : لو كانت النفس جسما ، لما كانت عاقلة للمجردات أو للكليات ، أو للبسائط ، أو للممانعات.

والجواب : أن مبنى هذا الاحتجاج على مقدمات غير مسلمة عند الخصم ، منها أن تعقل الشيء ، يكون بحلول صورته في العاقل ، لا بمجرد إضافة بين العاقل والمعقول.

ومنها : أن النفس لو لم تكن مجردة لكانت (١) منقسمة ، ولم لم يجز أن تكون جوهرا وضعيا غير منقسم ، كالجزء الذي لا يتجزأ؟.

ومنها : أن الشيء إذا كان مجردا كانت صورته الإدراكية (٢) مجردة يمتنع حلولها في المادي ، ولم لم يجز أن تكون حالة في جسم عاقل؟ لكنها إذا وجدت في الخارج ، كانت ذلك الشيء المجرد.

ومنها : أن صورة الشيء إذا اختصت بوضع ومقدار (٣) وكيفية لحلولها في جسم كذلك ، كان الشيء أيضا مختص بذلك ، ولم لم يجز أن يكون في ذاته غير مختص بشيء (٤) من الأوضاع ، والكيفيات والمقادير ،. ومنها أن الشيء إذا لم يقبل الانقسام ، كانت صورته الحاصلة في العاقل كذلك ، ولم لم يجز أن تكون منقسمة بانقسام المحل العاقل ، مع كون الشيء غير منقسم لذاته ، ولو لحلوله في منقسم.

ومنها : أن الشيئين إذا كانا بحيث يمتنع اجتماعهما في محل كالسواد والبياض كانت الصورتان الحاصلتان منهما في الجوهر العاقل كذلك.

وقد سبق أن صورة الشيء قد تخالفه في كثير من الأحكام.

ومنها : أن اجتماعهما في العاقل لا يجوز أن يكون لقيام كل منهما بجزء منه.

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ غير وهو تحريف.

(٢) سقط من (أ) لفظ الإدراكية).

(٣) سقط من (ب) لفظ (ومقدار).

(٤) في (ب) بوضع بدلا من (بشيء).

٣١٠

ومنها : أن انقسام المحل ، يستلزم انقسام الحال فيه لذاته ، ليمتنع حلول البسيط في العاقل الجسماني ، المنقسم البتة ، بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ ، ولا يخفي أن بعض هذه المقدمات مما قامت عليه الحجة.

[قال (الثاني)

إنها تدرك ذاتها ، وآلاتها ، وإدراكاتها (١) ، ولا يلحقها بكثرة الأفعال ، وضعف الأعضاء والآلات ضعف وكلال (٢). بل قوة وكمال ، ولا شيء من القوى الجسمانية كذلك ، ومرجعه إلى استقراء وتمثيل].

أي من الوجوه الاحتجاج على تجرد النفس ، أنها متصفة بصفات لا توجد للماديات ، وكل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة.

بيان الأول : أنها تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها ، ولا يلحقها بكثرة الإدراكات وضعف القوى البدنية ضعف وكلال ، بل ربما تصير أقوى وأقدر على الإدراك ، ولا شيء من القوى الجسمانية كذلك ، وهذا يمكن أن يجعل وجوها :

أحدها : أنها تدرك ذاتها ، وآلاتها ، وإدراكاتها ، والمدرك الجسماني ليس كذلك كالباصرة ، والسامعة ، والوهم ، والخيال ، لأنها إنما تعقل بتوسط آلة ، ولا يمكن توسط الآلة بين الشيء وذاته وآلته وإدراكاته.

وثانيها : أن النفس لا تضعف في التعقل عند ضعف البدن وأعضائه وقواه ، بل تثبت علمه أو تزيد ، فإن الإنسان في سن الانحطاط ، يكون أجود تعقلا منه في سن

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (وادراكاتها).

(٢) الكل : العيال والثقل : قال الله تعالى : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) والجمع الكلول.

والكلّ : اليتيم ، والكل : الذي لا ولد له ولا والد يقال منه كلّ الرجل يكل كلالة. والعرب تقول لم يرثه كلالة قال الفرزدق :

ورثتم قناة الملك غير كلالة

عن ابن مناف عبد شمس وهاشم

والاكليل : شبه عصابة تزين بالجوهر ، ويسمى التاج إكليلا وأكل الرجل بعيره أي أعياه وأصبحت مكلا : أي ذا قرابات وهم عليّ عيال.

وسحاب مكلل : أي ملمع بالبرق ، واكتل الغمام بالبرق أي لمع وكلله : أي ألبسه الإكليل. وروضة مكللة : أي حفت بالنور.

٣١١

النمو ، لما حصل له من التمرن على الإدراكات ، واستحضار صور المدركات ، وكذا عند توالي الأفكار المؤدية إلى العلوم ، مع ضعف الدماغ بكثرة الحركات ، وعند كسر سورة القوى البدنية بالرياضيات.

فلو كان تعقلها بآلات بدنية لكانت تابعة لها في الضعف والكلال.

وثالثها : أنها لو كانت من الماديات ، لوهنت (١) بكثرة الأفعال والحركات ، لأن ذلك شأن (٢) القوى الجسمانية ، بحكم التجربة والقياس أيضا فإن صدور الأفعال عن القوى الجسمانية لا يكون إلا مع انفعال لموضوعاتها ، كتأثر الحواس عن المحسوسات في المدركة ، وكتحرك الأعضاء عند تحريك غيرها في المحركة (٣) ، والانفعال لا يكون إلا عن قاسر (٤) يقهر طبيعة المنفعل ، ويمنعه عن المقاومة فيوهنه ، وهم معترفون بأن الوجوه الثلاثة إقناعية لا برهانية ، لجواز أن تدرك بعض الجسمانيات ذاتها وإدراكاتها من غير توسط آلة ، وكذا لما هو آلة لها في سائر الإدراكات ، وأن يكون كمال القوة الجسمانية العاقلة يتعلق بقدر من الصحة والمزاج يبقى مع ضعف البدن ، أو بعضو لا يلحقه الاختلال ، أو يتأخر اختلاله (٥) ، وأن يكون حالها بخلاف حال سائر القوى في الكلال ، والانفعال.

[قال (الثالث) :

إن القوة العاقلة لو كانت في جسم ، فإما أن يكفي في تعقله حضوره فلا ينقطع ، كتعقل النفس ذاتها (٦) وصفاتها اللازمة ، التي ليست بالمقايسة إلى شيء ، أو لا فلا يحصل أصلا ، لامتناع تعدد الصور لشيء واحد في مادة واحدة ، ومبناه على كون الإدراك بحصول الصورة].

__________________

(١) في (ب) ضعفت بدلا من (وهنت)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (كل)

(٣) سقط من (ب) جملة (في المحركة)

(٤) في (ب) قوى بدلا من (قاسر)

(٥) سقط من (أ) لفظ (اختلاله)

(٦) سقط من (أ) لفظ (ذاتها)

٣١٢

لو كانت النفس الناطقة جوهرا (١) ساريا في جسم ، أو عرضا (٢) حالا فيه لزم أن يكون تعقلها لذلك الجسم ، سواء كان تمام البدن ، أو بعض أعضائه كالقلب والدماغ دائما ، أو غير واقع أصلا. واللازم باطل. لأن البدن وأعضاءه مما يعقل تارة ، ويغفل عنه أخرى بحكم الوجدان ، وجه اللزوم أنه إما أن يكفي في تعقل ذلك الجسم حضوره بنفسه (عند القوة العاقلة) (٣) ، أو لا بل يتوقف على حضور الصورة منه ، كإدراك الأمور الخارجة، فإن كان الأول لزم الأول (٤) ، لوجوب وجود الحكم عند تمام العلة ، كإدراك النفس لذاتها ، ولصفاتها الحاصلة لها ، لا بالمقايسة إلى الغير ، ككونها مدركة لذاتها ، بخلاف ما يكون حصولها للنفس بعد المقايسة إلى الأشياء المغايرة لها ، ككونها مجردة عن المادة ، غير حاصلة في الموضوع ، فإنها لا تدركها دائما ، بل حال المقايسة فقط ، وإن كان الثالث لزم الثاني ، لأنه لو حصل لها تعقل ذلك الجسم في وقت دون وقت ، كان ذلك لحصول صورته لها بعد ما لم تكن ، وإذا قد فرضنا النفس مادية حاصلة في ذلك الجسم ، لزم كون تلك الصورة حاصلة فيه ، فلزم في مادة معينة اجتماع صورتين لشيء واحد. أعني الصورة المستمرة الوجود لذلك الجسم حالتي التعقل وعدمه ، والصورة المتجددة التي تحصل له حال تعقل النفس إياه(٥) ، وذلك محال ، لأن الصورتين متغايرتان ضرورة ، والأشخاص المتجددة الماهية (٦) يمتنع أن تتغاير من غير تغاير المواد ، وما يجري مجراها (٧) ، ومبنى هذا الاحتجاج ، على أن ليس الإدراك مجرد إضافة مخصوصة بين المدرك والمدرك ، بل لا بد من حضور صورة من المدرك عند المدرك ، وإلا لجاز أن لا يكون حصول الصورة (٨) العينية لذلك

__________________

(١) سبق الحديث عن الجوهر في كلمة وافيه في الجزء الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه.

(٢) تكلمنا عن العرض وأقوال العلماء فيه في الجزء الأول من هذا الكتاب وقدمنا صورا لذلك.

(٣) سقط من (أ) ما بين القوسين

(٤) في (ب) لزم هو بدلا من (الأول)

(٥) سقط من (أ) لفظ (إياه)

(٦) في (ب) المتحدة بدلا من (المتجددة)

(٧) سقط من (أ) لفظ (مجراها)

(٨) في (ب) حضور الصورة بدلا من (حصول)

٣١٣

الجسم كافيا في تعقله ، ومع هذا لا يحتاج إلى انتزاع الصورة ، بل إلى حصول شرائط تلك الإضافة المخصوصة.

وأيضا لا تماثل بين الصورتين ، لأن المنتزعة (١) حالة في النفس ، والأصلية في الجسم ، بل في مادته ، ولو جعلنا مثلين من جهة كونهما صورة لشيء واحد من غير اختلاف ، إلا في كون إحداهما منتزعة قائمة بالنفس ، والأخرى أصلية قائمة بالمادة ، فاجتماع المثلين ، إنما يمتنع من جهة ارتفاع التمايز على ما سبق.

وهاهنا الامتياز باق ، وإن جعلا قائمين لشيء واحد ، لأن قيام المنتزعة بواسطة النفس بخلاف الأصلية ، على أن الحق إن قيامها بمادة الجسم ، وقيام المنتزعة بالجسم نفسه ، وإن ذلك إنما يلزم لو كان حلول النفس في ذلك الجسم حلول العرض في محله لا بطريق مداخلة الأجزاء.

[قال (ثم بنوا)

على استلزام إدراك الكلى تجرد العقل (٢) ، والجزئي توسط الآلات. تارة (٣) إن للأفلاك نفوسا مجردة ، وقوى جسمانية ، لما أن حركاتها ليست طبيعية. لأن المطلوب بالطبع لا يكون مهروبا عنه بالطبع ، ولا قسرية ، لأنها إنما تكون على خلاف الطبع ، فتنتفي بانتفائه ، وعلى وفق القاسرة فتشابه ، بل إرادية ، ولا يكفي التخيل المحض (٤) ، لأنه لا ينتظم أبدا ، ولا التعقل الكلي ، لأنه لا يصلح مبدأ لجزئيات الحركة ، لاستواء نسبته إلى الكل ، وأكثر المقدمات في حيز المنع.

يشير إلى أن للأفلاك نفوسا مجردة لتعقل الكليات ، وقوى جسمانية ، لتخيل الجزئيات ، وذلك لأن حركاتها المستديرة ليست طبيعية. لأن الحركة الطبيعية تكون عن حالة منافرة إلى حالة ملائمة ، فلو كانت طبيعية ، لزم في الوصول إلى كل نقطة أن يكون مطلوبا بالطبع ، من حيث الحركة إليها ، ومهروبا عنه بالطبع من حيث

__________________

(١) في (أ) المنزعة بدلا من (المنتزعة)

(٢) في (ب) العاقل بدلا من (العقل)

(٣) سقط من (أ) لفظ (تارة)

(٤) سقط من (ب) لفظ (المحض)

٣١٤

الحركة عنها ، وهو محال. ولا يلزم ذلك في الحركة المستقيمة ، لأن الحركة إلى النقطة التي فيما بين المبدأ والمنتهي ، ليست لأن الوصول إليها مطلوب بالطبع ، لان الوصول إلى المطلوب بالطبع. أعني الحصول في الحيز ، لا يمكن بدون ذلك ، ولا كذلك حال المستديرة. أما فيما لا ينقطع عند تمام دوره فظاهر ، وأما فيما ينقطع فلأن المطلوب بالطبع. لو كان هو الوصول إلى نقطة الانقطاع ، لكان مقتضى طبع كل جزء من أجزاء الجسم الواحد البسيط شيئا آخر ، وهو الحيز الذي يقع فيه ذلك الجزء عند الانقطاع ، ولكان مقتضى الطبع إيثار الطريق الأطول على الأقصر ، ولا قسرية لأنها إنما تكون على خلاف الطبع ، فحيث لا طبع فلا قسر ، وعلى وفق القاسر فلا تختلف في الجهة والسرعة (١) والبطء ، فتعين أن تكون إرادية مقرونة (٢) بالإدراك ، ولا يكفي لجزئياتها وخصوصياتها تعقل كلي (٣) لأن نسبته إلى الكل على السواء ، ولا إدراكات جزئية ، وتخيلات محضة ، لاستحالة دوامها على نظام واحد (٤) من غير انقطاع ، واختلاف. كيف وقد ثبت لزوم تناهي القوى الجسمانية ، فإذن لا بد لتلك الحركات من إرادات وإدراكات جزئية. وقد تقرر أن ذلك لا يمكن إلا بقوى جسمانية ، ومن إرادات وتعقلات كلية ، وقد تقرر أن ذلك لا يكون إلا للذات المجردة. فثبت أن المباشر لتحريك الأفلاك قوى جسمانية ، هي بمنزلة النفوس الحيوانية لأبدانها ، ونفوس مجردة ذوات إرادات عقلية ، وتعقلات كلية ، هي بمنزلة نفوسنا الناطقة.

واعترض بعد تسليم انحصار الحركة في الطبيعية والقسرية والإرادية ، وأن التعقل الكلي لا يكون إلا للمجردات ، ولا الجزئي إلا بالجسمانيات.

بأنا لا نسلم لزوم كون المطلوب بالطبع متروكا بالطبع ، لم لا يجوز أن يكون المطلوب بالطبع نفس الحركة لا شيئا من (٥) الأيون ، والأوضاع التي تترك؟.

__________________

(١) في (ب) الشرعة بدلا من (السرعة) وهو تحريف

(٢) سقط من (أ) لفظ (مقرونة)

(٣) سقط من (أ) لفظ (كلي)

(٤) سقط من (ب) لفظ (واحد)

(٥) في (أ) الأشياء بدلا من (لا شيئا)

٣١٥

ولا نسلّم أن القسر لا يكون إلا على خلاف الطبع ، وأن القاسر لا يكون إلا متشابها ، ليلزم تشابه الحركات ، وأن الكلى من الإرادة. والإدراك لا يصلح مبدأ لخصوصيات الحركات. لم لا يجوز أن تستند الحركات المتعاقبة إلى إرادات وإدراكات كلية متعاقبة ، لا إرادة وإدراك للحركة على الإطلاق.

وتحقيق ذلك ما أشار إليه ابن سينا في الإشارات ، من أن المطلوب بالحركة الوضعية ، لا يكون إلا الوضع المعين ، ويمتنع أن يكون موجودا ، لأن الحاصل لا بطلب ، وأن يكون في الحركة السرمدية (١) جزئيا ، لأن الحركة المتوجهة إليه تنقطع عنده ، فمطلوب إرادة الفلك ، يجب أن يكون وضعا معينا مفروضا كليا تفرضه الإرادة. وتتجه إليه بالحركة ، والمتعين ، لا ينافي الكلية ، لأن كل واحد من كل كلى ، فله مع كليته تعين يمتاز به عن سائر آحاد ذلك الكلى.

واعلم أن المشهور من مذهب المشائين (٢) ، والمذكور في النجاة والشفا ، أن النفوس الفلكية ، قوى جسمانية منطبعة في المواد ، بمنزلة نفوسنا الحيوانية.

وصرح في الإشارات. بأن لها نفوسا مجردة ، بمنزلة نفوسنا الناطقة.

فقال الإمام : فيجب أن يكون لكل فلك نفس مجردة ، هي مبدأ الإرادة الكلية ، ونفس منطبعة هي مبدأ الإرادة الجزئية.

وردّ عليه الحكيم المحقق (٣). بأن هذا مما لم يذهب إليه أحد ، وأن الجسم الواحد يمتنع أن يكون ذا نفسين. أعني ذا ذاتين متباينتين ، هو آلة لهما ، بل الإرادات الجزئية تنبعث عن إرادة كلية ، ومبدؤهما نفس واحدة مجردة ، تدرك المعقولات بذاتها ، والجزئيات بجسم الفلك ، وتحرك الفلك بواسطة صورته النوعية ، التي هي باعتبار تحريكها قوة ، كما في نفوسنا وأبداننا بعينها. ولا يخفى أن هذا مناقشة في اللفظ حيث سمي تلك الصورة والقوة نفسا.

__________________

(١) السرمد : الدائم قال الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

سورة القصص آية ٧١ ـ ـ ٧٢

(٢) سبق الحديث عن المشائين في كلمة وافية.

(٣) هو نصير الدين الطوسي وسبق الحديث عنه في هذا الجزء وتكلمنا عن موقف ابن قيم الجوزية منه.

٣١٦

المبحث الثاني

[قال (المبحث الثاني)

النفوس متماثلة لوحدة حدها وقيل متخالفة لاختلاف لوازمها وآثارها وكلاهما ضعيف].

ذهب جمع من قدماء الفلاسفة إلى أن النفوس الحيوانية والإنسانية متماثلة متحدة الماهية ، واختلاف الأفعال والإدراكات عائد إلى اختلاف الآلات ، وهذا لازم على القائلين بأنها أجسام ، والأجسام متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض ، وأما القائلون بأن النفوس الإنسانية مجردة. فذهب الجمهور منهم إلى أنها متحدة الماهية ، وإنما تختلف في الصفات والملكات ، لاختلاف الأمزجة والادوات (١). وذهب بعضهم إلى أنها مختلفة بالماهية.

بمعنى أنها جنس تحته أنواع مختلفة ، تحت كل نوع أفراد متحدة الماهية ، متناسبة الأحوال ، بحسب ما يقتضيه الروح العلوي المسمى بالطباع التام لذلك النوع ، ويشبه أن يكون قوله عليه‌السلام : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة (٢). وقوله عليه‌السلام : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (٣) إشارة إلى هذا. وذكر الإمام في المطالب العالية ، أن هذا

__________________

(١) في (ب) الارادات بدلا من (الأدوات).

(٢) الحديث رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ١٤ باب أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إلى قوله : ونحن له مسلمون». ٣٣٧٤ بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : قيل للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أكرم الناس ...؟ قال : أكرمهم اتقاهم. قالوا : يا نبي الله ليس عن هذا نسألك. قال : فاكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : أفعن معادن العرب تسألونني؟ قالوا : نعم. قال : فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ورواه الإمام مسلم في الفضائل ١٦٨ والإمام أحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٤٣١ ، ٥٣٩ (بلفظ : الناس معادن كمعادن الفضة والذهب).

(٣) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الأنبياء ٢ باب الأرواح جنود مجندة ، ٣٣٣٦ ـ قال الليث عن ـ

٣١٧

هو (١) المذهب هو المختار عندنا. وإما بمعنى أن يكون كل فرد منها مخالفا بالماهية لسائر الأفراد حتى لا يشترك منهم اثنان في الحقيقة. فلم يقل به قائل تصريحا. كذا ذكره أبو البركات(٢) في المعتبر. احتج الجمهور بأن ما يعقل من النفس ، ويجعل حدا لها معنى واحد ، مثل الجوهر المجرد المتعلق بالبدن ، والحد تمام الماهية وهذا ضعيف ، لأن مجرد التحديد بحد واحد ، لا يوجب الوحدة النوعية. إذ المعاني الجنسية أيضا كذلك. كقولنا : الحيوان جسم حساس (٣) متحرك بالإرادة ، وإن ادعى أن هذا مقول في جواب السؤال بما هو عن أي فرد ، وأي طائفة تفرض فهو ممنوع ، بل ربما يحتاج إلى ضم مميز جوهري ، وقد يحتج بأنها متشاركة في كونها نفوسا بشرية ، فلو تخالفت بفصول مميزة لكانت من المركبات دون المجردات.

والجواب : بعد تسليم كون النفسية من الذاتيات دون العرضيات : أن التركيب العقلي من الجنس ، والفصل لا ينافي التجرد ، ولا يستلزم الجسمية. واحتج

__________________

ـ يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ـ رضي الله عنها. قالت : سمعت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : وذكره.

ورواه الإمام مسلم في البر ١٥٩ ، ١٦٠ وأبو داود في الأدب ١٦ والإمام أحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٢٩٥ ، ٥٢٧ ، ٥٣٧.

(١) سقط من (أ) لفظ (هو).

(٢) سبق الترجمة عنه في كلمة وافية.

(٣) الحس والحسيس : الصوت الخفي وقال الله تعالى (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) والحس أيضا : وجع يأخذ النفساء بعد الولادة.

والحس أيضا : مصدر قولك حسّ له : أي رق له قال القطامي :

أخوك الذي لا تملك الحس نفسه

وترفض عند المحفظات الكتائف

والحس أيضا : يرد يحرق الكلا؟؟؟

والحسيس : القتيل قال الأفوه :

في لهم عند انكسار القنا

وقد تردى كل قرن حسيس

ورواه الإمام مسلم في الفضائل ١٦٨ والإمام أحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٤٣١ ، ٥٣٩ (بلفظ : الناس معادن كمعادن الفضة والذهب).

٣١٨

الآخرون بأن اختلاف النفوس في صفاتها ، لو لم يكن لاختلاف ماهياتها ، بل لاختلاف الامزجة والاحوال البدنية ، والأسباب الخارجية لكانت الأشخاص المتقاربة جدا في أحوال البدن ، والأسباب الخارجة متقاربة البتة في الملكات ، والأخلاق من الرحمة والقسوة ، والكرم والبخل ، والعفة والفجور وبالعكس واللازم باطل ، إذ كثيرا ما يوجد الأمر بخلاف ذلك ، بل ربما يوجد الإنسان الواحد قد تبدل مزاجه جدا ، وهو على غريزته الاولى. ولا خفاء في أن هذا من الإقناعيات الضعيفة لجواز أن يكون ذلك لأسباب أخر لا نطلع على تفاصيلها.

[قال (واستنادها) :

إلى القادر المختار عندنا يقتضي حدوثها مجردة كانت أو لا ، واختلفت ظواهر النصوص ، في أن الحدوث قبل البدن أو بعده ، وأما عند الفلاسفة. فقيل قديمة. لأن الحادث لا يكون أبديا ، ولا عن المحل غنيا ، وكلاهما ممنوع ، وقيل حادثة لوجوه.

الأول : أنها قبل التعلق تكون معطلة ، ولا تعطل في الوجود بخلاف ما بعد المفارقة ، فإنها في روح وريحان (١) ، أو عذاب ونيران.

الثاني : أنه إذا حدث للبدن مزاجه الخاص ، فاضت عليه نفس تناسب استعداده لعموم الفيض ، والمشروط بالحادث حادث.

فإن قيل : فيلزم انتفاؤه بانتفائه.

قلنا : هو شرط الحدوث لا الوجود.

واعترض : بأن المترصد (٢) لاكتساب الكمال لا يكون معطلا ، وبأن المزاج شرط التعلق لا الحدوث.

__________________

(١) قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ).

سورة الواقعة الآيات ٨٨ ـ ٩٤.

(٢) الراصد للشيء : المراقب له ، والترصد : الترقب ، والرصيد السبع الذي يرصد ليثب ، والرصود من ـ

٣١٩

الثالث : وهو العمدة ، أنها بعد التعلق متعددة قطعا ، فقبله إن كانت واحدة ، فالتعدد بعد الوحدة ، مع منافاته التجرد مستلزم للمطلوب ، وإن كانت متعددة فتمايزها بالماهية ، ولوازمها ينافي التماثل ، وبما يحل فيها ، كالشعور بهويتها مثلا يستلزم الدور ، وبالعوارض المادية ، بأن يتعاقب الأبدان لا عن بداية يستلزم التناسخ ، وقدم الجسم ، وأما بعد المفارقة ، فالامتياز باق ، لما حصل لكل من الخواص ، وأقلها الشعور بهويتها.

واعترض بمنع التماثل ، ولو بين نفسين ، ومنع استحالة قدم الجسم ، والتناسخ (١) كيف وقد بنوا بيان بطلانه على حدوث النفس.

فإن قيل : تعين النفس إنما يكون ببدن معين ، فقبله لا تعين فلا وجود بطل التناسخ أو لم يبطل.

قلنا : لا بد من إبطال أن يتعين قبله ببدن آخر معين ، وهكذا.

وقد يجاب بأن الخصم معترف بالمقدمتين].

يعني : أن النفوس الإنسانية سواء جعلناها مجردة أو مادية حادثة عندنا لكونها أثر القادر المختار. وإنما الكلام في أن حدوثها قبل البدن لقوله عليه‌السلام «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» (٢) أو بعده لقوله تعالى بعد ذكر أطوار البدن (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٣) إشارة إلى إفاضة النفس ، ولا دلالة في الحديث مع كونه خبر واحد ، على أن المراد بالأرواح النفوس البشرية ، أو الجواهر العلوية. ولا في

__________________

ـ الإبل : التي ترصد شرب الإبل تشرب هي. والمرصد : موضع الرصد.

وفي الحديث : إلا أن أرصده لدين علي .. والمرصاد : الطريق ، والرصدة بالفتح : الدفعة من المطر.

(١) التناسخ مذهب من مذاهب الملحدين وخلاصته أن يحل النفس التي مات صاحبها في جسد آخر جديد لطفل وليد وهكذا وفي اللغة : نسخت الشمس الظل وانتسخته ازالته ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم.

(٢) الحديث رواه الترمذي في ثواب القرآن ٤.

(٣) سورة المؤمنون آية رقم ١٤.

٣٢٠