شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

وثلاثون قسما ، لأن الخروج ، إما بالحرارة مع البرودة والرطوبة ، أو مع البرودة واليبوسة ، أي مع الرطوبة واليبوسة ، وإما بالبرودة مع الرطوبة واليبوسة يصير أربعة نضربها في ثمان حالات. هي زيادة الكيفيات الثلاث ، ونقصانها ، وزيادة كل من الثلاث مع نقصان الأخريين ، ونقصان كل مع زيادة الأخريين. والرابع ستة عشر قسما على عدد الحالات الممكنة. أعني زيادة الكيفيات الأربع ونقصانها ، وزيادة كل منها مع نقصان الثلاث الباقية وبالعكس. فهذه عشرة ، وزيادة كل اثنتين مع نقصان الآخريين. وهذه ستة. لأن الاثنتين. إما الفاعلتان وإما المنفعلتان ، وإما كل من الفاعلتين مع كل من المنفعلتين. والمعترض قد أخلّ ببعض هذه الأقسام ، فجعل الأقسام الممكنة ثلاثة وستين ، فاستوفاها العلامة الشيرازي (١) ثمانين.

ثم أجاب : بأن معنى هذا الاعتدال ، هو أن يتوفر على الممتزج من كميات العناصر وكيفياتها القسط الذي هو أليق بحاله ، وأنسب بأفعاله. أعني أن تكون الحرارة والبرودة فيه على نسبة تلائم أفعاله على الوجه الأفضل الأليق ، وكذا الرطوبة واليبوسة ، فما دامت هذه النسبة محفوظة ، كان الاعتدال باقيا ، وإن فرض زيادة أو نقصان في مقادير الكيفيات مثلا ، إذا كان اللائق بالممتزج أن يكون الحار ضعف البارد ، كأن يكون الحار من عشرة إلى عشرين ، والبارد من خمسة إلى عشرة ، فإذا زادت الفاعلتان ، فصارت الحرارة اثنتي عشرة والبرودة ستة ، أو انتقصتا فصارت الحرارة ثمانية ، والبرودة أربعة ، فإن الاعتدال باق لبقاء النسبة. وإن صارت البرودة ستة مع كون الحرارة أحد عشر فليس هذا خروجا عن الاعتدال بالكيفيتين ، بل بالبرودة فقط ، إذ المزاج صار أبرد مما ينبغي لا أحر ، ومع كون

__________________

(١) هو محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي : قاض علم بالعقليات ، مفسر ، ولد بشيراز عام ٦٣٤ وكان أبوه طبيبا فيها فقرأ عليه ، ثم قصد نصير الدين الطوسي وقرأ عليه ، ودخل الروم فولى قضاء سيواس وملطيه ، وزار الشام ثم سكن تبريز وتوفي بها عام ٧١٠ ه‍. من كتبه فتح المنان في تفسير القرآن نحو ٤٠ مجلدا منه الجزء الاول مخطوط ، وحكمة الاشراق ط ، وشرح كليات القانون في الطب لابن سينا ، ومفتاح المفتاح في البلاغة ، وغرة التاج في الحكمة ، ونهاية الإدراك في دراية الافلاك ، في علم الهيئة ، وشرح الاسرار للسهروردي ، ورسالة في بيان الحاجة إلى الطب والاطباء ووصاياهم ، وغير ذلك.

راجع بغية الوعاة ٣٨٩ والدرر الكامنة ٤ : ٣٣٩ ومفتاح السعادة ١ : ١٦٤.

٢٢١

الحرارة ثلاثة عشر فليس إلا خروجا عن الاعتدال بالحرارة ، حيث صار أحر (١) مما ينبغي ، وكذا في الرطوبة واليبوسة ، والحاصل أنه إذا كانت النسبة الفاصلة بأن تكون الحرارة ضعف البرودة مثلا ، فتغير (٢) النسبة ، إما أن يكون بزيادة الحرارة على الضعف [أو نقصانها أو زيادة البرودة على النصف أو نقصانها ولا يتصور مع زيادة الحرارة على الضعف] (٣) نقصان البرودة عن الضعف (٤) ولا مع نقصانها عن الضعف زيادة البرودة على النصف ، وكذا الكلام في كميات العناصر ، فلا يرد هاهنا ما يرد عن الاعتدال الحقيقي من أنه لما اعتبر فيه تساوي العناصر في الكم أيضا ، جاز الخروج عنه بالعنصر الحار والبارد جميعا ، بأن يزيد آخر ما على الآخرين ، وذلك لأن المعتبر هاهنا نسبة بين كميات العناصر ، كالضعف والنصف مثلا ، فتغير النسبة (٥) لا يتصور إلا مثل ما ذكر في الكيفيتين فليتأمل.

نعم لا يبعد الخروج بالكيفيتين المتضادتين عن الاعتدال الشخصي بالنسبة إلى الداخل ، بأن يصير مزاج قلب زيد أحر وأيبس من أعدل أحواله ، ومزاج دماغه أبرد وأرطب أو بالعكس. وذلك لأنه ليس هناك كيفية متوسطة يحكم ببقائها ما دامت النسبة محفوظة (٦) وإن كانت المقادير مختلفة.

[قال (واختلفوا في أعدل البقاع) (٧)

بحسب أوضاع العلويات : فقال ابن سينا. خط الاستواء لتشابه أحوالهم في البرد والحر ، ولا يضر كونهم دائما في المسامتة أو القرب منها ، لأنها لسرعة زوالها

__________________

(١) في (أ) آخر بدلا من (أحرّ) وهو تحريف

(٢) في (ب) فتعين النسبة بدلا من (فتغير)

(٣) ما بين القوسين سقط من (أ)

(٤) في (أ) النصف بدلا من (الضعف)

(٥) في (ب) فتعين بدلا من (فتغير)

(٦) في (ب) محظوظة بدلا من (محفوظة)

(٧) البقعة من الأرض واحدة (البقاع) والباقعة الداهية ، والبقيع موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى ، وبه سمي بقيع الغرقد ، وهي مقبرة بالمدينة ، والغراب الأبقع الذي فيه سواد وبياض وبقعان الشام الذي في الحديث : خدمهم وعبيدهم.

٢٢٢

قليلة النكاية ، ولا كون شتائهم مثل صيف البلدة التي عرضها ضعف الميل الكلي في مسامتة الشمس مع أنه في غاية الحر ، لجواز أن يكون ذلك لتزايد نهاره على الليل إلى قريب من الضعف ، بخلاف خط الاستواء فإنهما يتساويان فيه أبدا ، فيتعادل البرد والحر ، أو يكون أهل خط الاستواء لما ألفوا بالحر لم تتأثر أمزجتهم عن حر المسامتة ، واستبردوا الهواء حين الشمس في المنقلب فلم ينحرفوا عن الاعتدال.

والجواب : أن التشابه بمعنى عدم طريان تغير معتد به لا يفيد القرب من الاعتدال الحقيقي على ما هو المتنازع. وقال الأكثرون هو الإقليم الرابع (١) لما يشاهد فيه من زيادة الكمالات التابعة للمزاج ، الذي كلما كان إلى الاعتدال

__________________

(١) الإقليم : قسم من الأرض يختص باسم ، والأقاليم سبعة أقسام في الربع المسكون من الأرض كل أقليم منها كأنه بساط مفروش قد مد طوله من المشرق إلى المغرب ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال وهي مختلفة الطول والعرض ، فأطولها وأعرضها الإقليم الأول ، وذلك أن طوله من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة آلاف فرسخ ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو مائة وخمسين فرسخا وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع ، وذلك أن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ألف وخمسمائة فرسخ ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من سبعين فرسخا وأما سائر الأقاليم ففيما بينهما من الطول والعرض ، وهذا مثال ذلك

٢٢٣

الحقيقي أقرب ، وإلى الواحد الذي هو المبدأ أنسب ، كان بإفاضة الكمال عليه أجدر ، وخط الاستواء بالضد من ذلك ، وهذا وإن أمكن استناده إلى أسباب أرضية ، إلا أنه حدسي يكاد يقع به الجزم. كيف لا؟ ومبنى عمارة الأقاليم ، وكثرة التواليد فيها على الاعتدال ، فما كان منها أوسط ، والتوالد والعمارة فيه أوفر ، كان إلى الاعتدال الحقيقي أقرب ، وعن الفجاجة والاحتراق أبعد ، ثم تلا نزاع في إمكان بقعة أعدل منهما ، باتفاق من الأسباب الأرضية].

قد اتفقوا على أنه إذا اعتبرت الأنواع كان أعدل الأمزجة أي أقربها إلى الاعتدال الحقيقي ، مزاج نوع الإنسان لأنه متعلق للنفس الناطقة الأشرف ، فلا بدّ أن يكون أشرف ، أي أقرب إلى الوحدة الحقيقية ، وأبعد عن التضاد والكثرة ، ولأنه أحوج الأنواع إلى الأفعال المتقنة التي تعين على بعضها الحرارة كالهضم ، وعلى بعضها البرودة كالإمساك ، وعلى بعضها اليبوسة كالحفظ ، وعلى بعضها الرطوبة كالإدراك.

واختلفوا في أعدل الأصناف بالنظر إلى أوضاع العلويات. فقال ابن سينا : سكان خط الاستواء ، أي الموضع الموازي لمعدل النهار ، وذلك لتشابه أحوالهم في الحر والبرد ، لتساوي ليلهم ونهارهم دائما ، ولأنه ليس صيفهم شديد الحر ، لأن الشمس تزول عن سمت رأسهم بسرعة ، لما تقرر في موضعه من أن حركتها في الميل. أعني البعد عن معدل النهار أسرع عند الاعتدالين ، وأبطأ عند الانقلابين ، ولا شتاؤهم شديد البرد ، لأن الشمس لا تبعد عن سمتهم كثيرا ، فلا يعظم التفاوت بين صيفه وشتائه. ومع ذلك فمدة كل منهما قصيرة ، وهي شهر ونصف كما مرّ من كون الفصول هناك ثمانية. فالشمس لا تسامتهم عن بعد كثير ، بل عن قرب من المسامتة ، فهم دائما منتقلون من حالة متوسطة إلى ما يشابهها ، فكأنهم في الربيع دائما. واستدل بعضهم على فساد هذا الرأي بوجهين :

أحدهما : أن الشمس تسامت رءوسهم في السنة مرتين ، ثم لا تبعد عن المسامتة بأكثر من ثلاثة وعشرين جزءا ونصفا ، على ما هو غاية الميل الكلي ، فهم

٢٢٤

دائما في المسامتة أو في القرب منها ، فتكون حرارتهم مفرطة ، لأن قرب المسامتة في زمان يسير كما في الصيف عندنا ، مع تقدم برد الشتاء المخرج للهواء عن استعداد التسخن مسخن جدا فهذا أولى.

وجوابه : أن مسامتتهم لسرعة زوالها أقل نكاية وتسخينا للهواء من المسامتة ، أو القرب منها في البلاد ذوات العروض ، لأن قرب المسامتة يبقى هناك أياما كثيرة ، ويكون النهار أطول من الليل طولا ظاهرا. والسبب الدائم وإن ضعف ، قد يكون أكثر تأثيرا من غير الدائم ، وإن قوى كالحديد في نار لينة مدة ، وفي نار قوية لحظة.

وثانيهما : أن زمان وصول الشمس إلى أول السرطان (١) شتاء لخط الاستواء لكون الشمس على غاية البعد عن سمت رأسهم ، وصيف لبقعة عرضها سبعة وأربعون ضعف الميل الكلي كبلدة سراي (٢) لكونها على غاية القرب عنها مع أن بعدها عن سمت رأس البقعتين على السواء ، فيكون حر شتاء خط الاستواء كحرّ صيف هذه البلدة ، بل أكثر إذا تأملت ، لأن ما قبل هذه الحالة لهم من أسباب السخونة ، ولأهل البلدة من أسباب البرودة ، وإذا كان حر شتائهم هذا ، فما ظنك بحرّ صيفهم.

وجوابه : منع تشابه حرّ الفصلين في البقعتين ، وإنما يلزم لو انحصر سبب الحرّ

__________________

(١) السرطان : بيت القمر ، وشرف المشتري ، وهبوط المريخ ووبال زحل ، وهو برج مائي أنثي ليلي شمالي منقلب صيفي بلغمي ، وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة والنهار في النقصان تسعون يوما ، وله ثلاثة وجوه ، وخمسة حدود.

(٢) لا توجد بلدة بهذا الاسم فلعلها سرماري ـ وهي قلعة عظيمة ، وولاية واسعة بين تفليس وخلاط مشهورة مذكورة وسرماري قرية بينها وبين بخاري ثلاثة فراسخ.

أو لعله يقصد سرّ من رأي : قال الزجاجي : قالوا كان اسمها قديما ساميرا سميت بسامير بن نوح كان ينزلها لأن أباه أقطعه إياها فلما استحدثها المعتصم سماها سرّ من رأى ، وقد بسط القول فيها بسامراء قال أبو عثمان المازني. قال لي الواثق كيف ينسب رجل إلى سرّ من رأى ..؟ فقلت : سرّى يا أمير المؤمنين أنسب إلى أول الحرفين كما قالوا في النسب إلى تأبط شرا تأبطي.

راجع معجم البلدان ٣ : ٢١٥

٢٢٥

في قرب الشمس من سمت الرأس وهو محال ، فيجوز أن يشتد حرّ صيف البلدة المفروضة ، بسبب تزايد طول النهار على الليل إلى الضعف تقريبا ، لأن طول نهارها يبلغ ست عشرة ساعة تقريبا ، وقصر لياليها ثماني ساعات كذلك ، بخلاف خط الاستواء ، فإن الليل والنهار فيه دائما على السواء ، فيتعادل الحر والبرد ، وأيضا المألوف لا يؤثر ، فلعل أهل خط الاستواء لإلفهم بالحرّ لا تتأثر أمزجتهم ، ولا تتسخن من حرّ مسامتة الشمس ، ويستبردون الهواء عند بعد المسامتة ، أعني كون الشمس في الانقلابين ، فيبقى الاعتدال بخلاف البلدة المفروضة ، فإن الحر يشتد على جسمهم ، ويؤثر فيهم لعدم إلفهم به ، ولانتقالهم إليه من شدة البرد ، وإن كان على التدريج ، ولا يخفي على المصنف ضعف هذا الجواب ، وكذا إسناد حرّ البلدة إلى الأسباب الأرضية.

وأما الجواب عن احتجاج ابن سينا على كون سكان خط (١) الاستواء أقرب الأصناف إلى الاعتدال الحقيقي ، بالنظر إلى أوضاع العلويات ، فهو أن تشابه الأحوال بمعنى أنه لا يطرأ عليهم تغير يعتد به ، ولا تلحقهم كذلك (٢) نكاية من حر أو برد لا يفيد المطلوب. أعني قربهم من الاعتدال الحقيقي الذي تساوي فيه (٣) الكيفيات لجواز أن يكون البالغ في الحرارة أو البرودة المألوفة كذلك.

وذهب جمع من الأوائل ، وكثير من المتأخرين إلى أن أعدل الأصناف سكان الإقليم الرابع استدلالا بالآثار كما هو مذكور في المتن ، غني عن الشرح ، وفيه إشارة إلى دفع اعتراضين :

أحدهما : أن كثرة التوالد والتناسل وتوفر العمارات وغير ذلك من الكمالات ، إنما يتبع الاعتدال العرضي الذي هو توفر القسط الأليق من الكيفيات لا الحقيقي الذي هو تساويها ، وفيه النزاع. ودفعه أن المعتدل الفرضي كلما كان إلى المعتدل الحقيقي أقرب ، وبالواحد المبدأ أنسب ، كان بإفاضة الكمال أجدر ، فيتم

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (خط).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (كذلك).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (فيه).

٢٢٦

الاستدلال بزيادة الكمال على زيادة القرب من الاعتدال الحقيقي على ما هو المطلوب.

وثانيهما : أن قلة الكمالات في خط الاستواء وكثرتها في الاقليم الرابع. يجوز أن تكون عائدة إلى الأسباب الأرضية دون أوضاع العلويات. ودفعه أن الحدس يشهد بما ذكرنا ، ويحكم ببطلان أن لا يوجد في خط الاستواء ، وهو أربعة آلاف فرسخ بقعة خالية عن الموانع الأرضية ، ولا في الإقليم الرابع على كثرة بلادها ، بلدة خالصة للأسباب العلوية.

فإن قيل : إذا صح الاستدلال على اعتدال الاقليم الرابع بكونه وسطا بين الأقاليم بعيدا عن الفجاجة الشمالية ، والاحتراق الجنوبي ، فأولى أن يستدل على اعتدال خط الاستواء (١) بكونه على حاف الوسط من الشمال والجنوب.

قلنا : التوسط هاهنا توسط بين ما هو من أسباب الحرّ والبرد ـ أعني قرب المسامتة وبعدها بخلاف التوسط بين القطبين. فإنه نسبة الشمس إليها على السواء ، وأهل ذلك الوسط دائما في المسامتة ، أو القرب منها ، وإنما يصح الاستدلال لو كان غاية الحرّ والبرد تحت نقطتي الجنوب والشمال وليس كذلك.

__________________

(١) خط الاستواء : هو خط متوهم ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس برج الحمل ، والليل والنهار أبدا على ذلك الخط متساويان والقطبان هناك ملازمان للأفق ، أحدهما مما يلي مدار سهيل في الجنوب والاخر في الشمال مما يلي الجدي وهذا مثال ذلك

٢٢٧

[قال (وأما المباحث)

المبحث الأول

ففي أقسام الممتزج وتسمي المواليد وهي المعدنيات والنبات والحيوان. لأنه إن تحقق فيها مبدأ التغذية والتنمية ، فإما مع مبدأ الحس والحركة وهو الحيوان أو لا وهو النبات وإلا فالمعادن ، ولا قطع لعدم الحس والحركة فيهما ، بل ربما يدعي ذلك في النبات ، ويستشهد بالامارات. ولما كان اختلاف مراتب الصورة في الكمال باختلاف الأمزجة في القرب من الاعتدال ، لم يبعد أن لا ينتهي نقصان الاستحقاق في البعض إلى حد الانتفاء ، بل الضعف والخفاء].

بعد الفراغ من مقدمة القسم الرابع من الأقسام الأربعة المرتب عليها الكلام فيما يتعلق بالأجسام على التفصيل وهو في المركبات التي لها مزاج ، شرع في مباحثه. وهي ثلاثة حسب أقسام (١) الممتزج المسماة بالمواليد الثلاثة. أعني المعادن والنبات والحيوان. ووجه الحصر أن الممتزج إن تحقق فيه مبدأ التغذية والتنمية. فإما مع تحقق مبدأ الحس والحركة الإرادية ، وهو الحيوان ، أو بدونه وهو النبات ، وإنه لم يتحقق ذلك فيه ، فالمعادن. وإنما قلنا مع تحقق مبدأ الحس والحركة ، لأنه لا قطع بعدهما في النبات والمعدن. بل ربما يدعى حصول الشعور والإرادة للنبات ، لامارات تدل على ذلك ، مثل ما نشاهد من ميل النخلة الأنثى إلى الذكر ، وتعشقها به ، بحيث لو لم تلقح منه لم تثمر (٢) ، وميل عروق الأشجار إلى

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (أقسام)

(٢) قال تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ومعنى «لواقح» حوامل : لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع قال الازهري : وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب أي تقله وتصرفه ، أي تنزله قال تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا أي حملت ، وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها ، وقيل : لواقح بمعنى ملقحة وهو الأصل ، ولكنها لا تلقح إلا وهي في نفسها لاقح ، كأن الرياح لقحت بخير ، وقيل ذوات لقح وكل ذلك صحيح أي منها ما يلقح الشجر كقولهم : عيشه راضية ، أي فيها رضا ، وليل نائم أي فيه نوم. وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكرها الله في كتابه وفيها منافع للناس وروى عنه عليه‌السلام أنه قال : ما هبت جنوب إلا أتبع الله بها عينا غدقة وقال أبو بكر بن عياش : لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربعة فيها فالصبا تهيجه ، والدبور تلقحه ، والجنوب تدره ، والشمال تفرقه.

٢٢٨

جهة الماء ، وميل أغصانها في الصعود من جانب الموانع إلى الفضاء ، ثم ليس هذا ببعيد عن القواعد الفلسفية ، فإن تباعد الأمزجة عن الاعتدال الحقيقي ، إنما هو على غاية من التدريج ، فانتقاص استحقاق الصور الحيوانية وخواصها ، لا بدّ أن تبلغ قبل الانتفاء إلى حد الضعف والخفاء ، وكذا النباتية.

ولهذا اتفقوا على أن من المعدنيات ما وصل إلى أفق النباتية ، ومن النباتات ما وصل إلى أفق الحيوانية كالنخلة ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام :

«أكرموا عمتكم النخلة» (١).

[قال (والمراد بالحيوان)

ما يعمه وأجزاءه ومتولداته كالشعر والعظم واللبن والابريسم واللؤلؤ. وبالنبات ما يعم نحو الأشجار والأثمار ، وما يتخذ منها ، والمرجان وبالمعدن ما سوى ذلك من الممتزجات ، ولو بالصنعة كالزنجار والسنجرف ، ليتم حصر الأجناس. وأما حصر الأنواع فلا سبيل إليه للبشر].

إشارة إلى دفع ما يورد على حصر الأجناس في الثلاثة. حيث يوجد أشياء ليس فيها مبدأ الحس والحركة ، مع القطع بأنها ليست من النبات أو المعدن ، كبعض أجزاء الحيوان ومتولداته ، كالعظم والشعر واللبن والعسل واللؤلؤ والابريسم ، وما أشبه ذلك ، وأشياء لا يطلق عليها اسم النبات والمعدن كالثمار وما يتخذ منها ، وكالزنجار والسنجرف ونحو ذلك.

__________________

(١) لفظ الحديث : أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم وليس من الشجر شجرة اكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران فاطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر».

رواه أبو نعيم في الأمثال عن على مرفوعا ، وأخرجه أبو يعلي في مسنده عن ابن عباس ولكن بلفظ نزلت بدل ولدت ، وبلفظ فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم ، وليس من الشجر يلقح غيرها ، وأخرجه عثمان الدارمي بلفظ «أطعموا نفساءكم الرطب ، فإن لم يكن رطب فالتمر ، وهي الشجرة التي نزلت مريم ابنة عمران تحتها ، وفي سنده ضعف وانقطاع وفي خبر من كان طعامها في نفاسها تمرا جاء ولدها حليما ، ورواه في الإصابة بلفظ «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطينة التي خلق منها آدم» قال وفي سنده ضعف وانقطاع انتهى.

وقال في الدرر : رواه أبو يعلي ، وأبو نعيم عن ابن عباس بسند ضعيف بلفظ : «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم» وفي الباب : نعم المال النخل. وشبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ النخلة بالمؤمن ، فإنها تشرب برأسها وإذا قطع ماتت وينتفع بجميع أجزائها ـ انتهى.

٢٢٩

[قال (المبحث الأول)

المعدني إما ذائب مع الانطراق أو الاشتعال أو بدونهما ، وإما غير ذائب لفرط رطوبته أو يبوسته. فالأول كالأجساد السبعة. الذهب والفضة والرصاص والأسرب والحديد وإذابته بالحيلة ، والنحاس والخارصيني وتكونها من الزئبق والكبريت على حسب اختلاف صفاتهما وامتزاجاتهما بشهادة الأمارات ، وعدم وجدانهما في معادنهما يجوز أن يكون لتغيرهما أو بصغر جرمهما (١) جدا].

أقسام المعدني خمسة : ذائب منطرق. ذائب مشتعل. ذائب غير منطرق ولا مشتعل. غير ذائب لفرط الرطوبة. غير ذائب لفرط اليبوسة.

فالأول : أي الذائب المنطرق هو الجسم الذي انجمد فيه الرطب واليابس بحيث لا تقدر النار على تفريقهما مع بقاء دهنية قوية بسببها يقبل ذلك الجسم الانطراق. وهو الاندفاع في العمق بانبساط يعرض للجسم في الطول والعرض قليلا قليلا ، دون انفصال شيء ، والذوبان سيلان الجسم بسبب تلازم رطبه ويابسه ، والمشهور من أنواع الذائب المنطرق سبعة : الذهب والفضة والرصاص والأسرب والحديد والنحاس والخارصيني ، قيل هو جوهر شبيه بالنحاس يتخذ منه مراي لها خواص. وذكر الخازني (٢). أنه لا يوجد في عهدنا والذي يتخذ منه مرايا ويسمى

__________________

(١) في (ب) أجزائها بدلا من (جرمها)

(٢) هو عبد الرحمن الخازن أو الخازني أبو الفتح ، حكيم فلكي مهندس. قال البيهقي كان غلاما روميا لعلي الخازن المروزي فنسب إليه ، حصل على علوم الهندسة والمعقولات ، وصنف «ميزان الحكمة» و «الزيج» المسمى بالمعتر السنجري ، نسبة إلى السلطان سنجر ، وكان متقشفا يلبس لباس الزهاد بعث إليه السلطان سنجر ألف دينار فأخذ منها عشرة ورد بقيتها وقال : يكفيني كل سنة ثلاثة دنانير ، وليس معي في الدار إلا سنور توفي عام ٥٥٠ ه‍.

راجع تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي ١٦١ وفي معجم المطبوعات ٨١٠ أن قسما من ميزان الحكمة نشر في المجلة الاميركية الجزء ٨٥ ص ١٢٨

٢٣٠

بالحديد الصيني ، والانقنجوسن فجوهر مركب من بعض الفلزات ، وليس بالخارصيني والذوبان في غير الحديد ظاهر. وأما في الحديد فيكون بالحيلة على ما يعرفه أرباب الصنعة ، وشهدت الأمارات بأن مادة الأجسام السبعة الزئبق والكبريت ، واختلاف الأنواع والأصناف عائد إلى اختلاف صفاتهما واختلاطهما ، وتأثر أحدهما عن الآخر ، أما الأمارات فهي أنها سيما الرصاص تذوب إلى مثل الزئبق ، والزئبق ينعقد برائحة الكبريت إلى مثل الرصاص ، والزئبق يتعلق بهذه الأجساد ، ثم الزئبق مركب من مائية وكبريتية. وامتحان علم الصنعة أيضا يشهد بذلك. واعتراض أبي البركات (١) بأنه لو كان الأمر (٢) كذلك لوجد كل من الزئبق والكبريت في معدن الآخر ، وفي معادن هذه الأجسام مدفوع بأنه يجوز أن يكون عدم الوجدان لتغيرهما بالامتزاج ، أو لعدم الاحساس بواسطة تصغر الأجزاء ، وأما كيفية تكونها ، فهي أنه إذا كان الزئبق والكبريت صافيين ، وكان انطباخ أحدهما بالآخر تاما ، فإذا كان الكبريت مع بقائه أبيض غير محترق تكونت الفضة ، وإن كان أحمر وفيه قوة صباغة لطيفة غير محرقة تكون الذهب ، وإن كانا نقيين وفي الكبريت قوة صباغة لكن وصل إليه قبل كمال النضج برد مجمد عاقد يكون الخارصيني ، وإن كان الزئبق نقيا ، والكبريت رديئا ، فإن كان مع الرداءة فيه قوة إحراقية ، تكون النحاس ، وإن كان غير شديد المخالطة بالزئبق ، بل متداخلا إياه سافا فسافا تولد الرصاص ، وإن كان الزئبق والكبريت رديئين ، فإن قوي التركيب ، وفي الزئبق تخلخل أرضي ، وفي الكبريت إحراق تكون الحديد ، وإن ضعف التركيب تكون الأسرب ، وأصحاب الصنعة يصححون هذه الدعاوي بعقد الزئبق بالكبريت انعقادا محسوسا يحصل لهم بذلك غلبة الظن ، بأن الأحوال الطبيعية تقارب الأحوال الصناعية ، وأما القطع فلا يد (٣) فيه لأحد.

__________________

(١) هو أبو البركات بن القضاعي ، طبيب مشهور لقبه الخليفة الموفق بأبي البركات كان ماهرا في صناعته متضلعا من علومها ، وكانت صناعته الرمد ويعد من الأفاضل فيها. خدم الملك العزيز بن الملك الناصر صلاح الدين بالديار المصرية ، وتوفي بالقاهرة سنة ٥٩٨ ه‍ راجع دائرة معارف القرن العشرين ٢ : ١٣٨

(٢) سقط من (أ) لفظ (الأمر)

(٣) في (ب) يدعيه بدلا من (يدفيه)

٢٣١

[قال (وتكونها بالصنعة)

سيما الذهب والفضة مما يثبته الأكثرون ، ويزعمون أن تحصيل صورها النوعية على تقدير ثبوتها غير مشروط بالعلم بحقائقها ، وتفاصيلها ، بل يكفي العلم بجميع المواد على وجه يستحق فيضان الصور بأسباب لا نعلمها].

يعني أن الكثير من العقلاء ذهبوا إلى أن تكون الذهب والفضة بالصنعة واقع. وذهب ابن سينا إلى أنه لم يظهر له إمكانه فضلا عن الوقوع ، لأن الفصول الذاتية التي بها تصير هذه الأجساد أنواعا أمور مجهولة. والمجهول لا يمكن إيجاده. نعم. يمكن أن يصبغ (١) النحاس بصبغ (٢) الفضة ، والفضة بصبغ (٣) الذهب ، وأنه يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص ، لكن هذه الأمور المحسوسة يجوز أن لا تكون هي الفصول. بل عوارض ولوازم.

وأجيب : بأنا لا ثم اختلاف الأجسام بالفصول ، والصور النوعية. بل هي متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض التي يمكن زوالها (٤) بالتدبير.

ولو سلّم. فإن أريد لمجهولية الصور النوعية والفصول الذاتية ، أنها مجهولة من كل وجه فممنوع. كيف وقد علم أنها مبادي لهذه الخواص والأعراض. وإن أريد أنها مجهولة بحقائقها وتفاصيلها ، فلا نسلم (٥) أن الايجاد موقوف على العلم بذلك. وأنه لا يكفي العلم بجميع المواد على وجه حصل الظن بفيضان الصور عنده ، لأسباب لا تعلم على التفصيل ، كالحبة من الشعر ، والعقرب من البازروج ، ونحو ذلك ، وكفى بصنعة الترياق ، وما فيه من الخواص والآثار شاهدا على إمكان ذلك. نعم الكلام في الوقوع ، وفي العلم بجميع المواد ، وتحصيل

__________________

(١) في (ب) يصنع بدلا من (يصبغ)

(٢) في (ب) يصنع بدلا من (يصبغ)

(٣) في (ب) يصنع بدلا من (يصبغ)

(٤) سقط من (أ) لفظ (زوالها)

(٥) في (أ) فلا ثم بدلا من (فلا نسلم)

٢٣٢

الاستعداد ولهذا جعل الكيمياء (١) كالعنقاء مثلا في اسم بلا مسمى.

[قال (والثاني)

كالكبريت والزرنيخ مما فيه امتزاج ضعيف بين يبوسة ودهنية انعقدت بالبرد].

أي الذائب المشتعل هو الجسم الذي فيه رطوبة دهنية ، مع يبوسة غير مستحكم المزاج ، ولذلك تقوى النار على تفريق رطبه عن يابسه. وهو الاشتعال. وذلك كالكبريت المتولد من مائية تخمرت بالأرضية والهوائية تخمرا شديدا بالحرارة ، حتى صارت تلك المائية دهنية ، وانعقدت بالبرد ، وكالزرنيخ وهو كذلك. إلا أن الدهنية فيه أقل.

[قال (والثالث)

كالزاجات والأملاح مما ضعف امتزاجه ، وكثرت رطوبته المنعقدة بالحر واليبس ، ولذا يذوب بالماء ، وفي الزاجات مع الملحية والكبريتية وقوة بعض الأجساد الذاتية] (٢).

أي الذائب الذي لا ينطرق ، ولا يشتعل ، ما ضعف امتزاج رطبه ويابسه وكثرت رطوبته المنعقدة بالحر واليبس ، كالزاجات وتولدها من ملحية وكبريتية وحجارة ، وفيها قوة بعض الأجساد الذائبة ، وكالأملاح وتولدها من ماء خالطه دخان حار لطيف

__________________

(١) الكيمياء : هو علم يبحث فيه عن طبائع وخواص الأجسام الأرضية وكيفية تحليلها وتركيبها.

يعتبر هذا العلم من العلوم الحديثة العهد فلم يبعد تاريخ تكوينه على حالته المعروفة اليوم عن مائة سنة. أما قبل ذلك فقد كان عبارة عن نظريات تجريبية لا نظام لها ولا قانون يجمع شتاتها وكثيرا ما كانت محتوشة بالخطإ ، أما اليوم فقد صارت الكيمياء من وجهتها النظرية والعلمية في مصاف جميع العلوم المقررة ومما يؤثر عنها أنها ترقت ترقيا سريعا للغاية ، فإن قيامها على حالتها العصرية لم تكن نتيجة مجهودات القرائح في أجيال عدة كما كانت حال جميع العلوم الأخرى ، فإن مسائل تحليل الهواء ونظرية الاحتراق والتنفس والتمييز بين الأجسام القابلة للوزن وغير القابلة للوزن والفصل بين الأجزاء البسيطة والمركبة وجميع المكتشفات التي قلبت حال هذا العلم تمت كلها في خمس عشرة سنة ، وكل هذه الانقلابات السريعة المدهشة التي طرأت على هذا العلم هي عمل رجل واحد هو «لافوازيه» العالم الفرنسي.

راجع دائرة معارف القرن العشرين ٨ : ٢٥٣ وما بعدها

(٢) في (أ) الذاتية بدلا من (الذائبة) وهو تحريف

٢٣٣

كثير النارية ، وانعقد باليبس مع غلبة الأرضية الدخانية ، ولذا يتخذ الملح من الرماد المحترق بالطبخ ، والتصفية.

[قال (والرابع)

كالزئبق وهو من امتزاج شديد بين مائية كثيرة ، وأرضية لطيفة كبريتية].

أي الذي لا يذوب ولا ينطرق لرطوبته ، ما استحكم الامتزاج بين أجزائه الرطبة الغالبة (١) ، والأجزاء اليابسة بحيث لا تقوى النار على تفريقهما كالزئبق وتولده من مائية خالطته أجزاء أرضية كبريتية بالغة (٢) في اللطافة.

[قال (والخامس)

كالياقوت واللؤلؤ (٣) والزبرجد ونحو ذلك مما فيه امتزاج شديد بين أجزاء يابسة ، وقليل مائية يحيلها البرد إلى الأرضية بحيث لا تبقى رطوبة فيه دهنية].

أي الذي لا يذوب ولا ينطرق ليبوسة ما اشتد الامتزاج بين أجزائه الرطبة والأجزاء اليابسة المستولية بحيث لا تقدر النار على تفريقهما مع إحالة البرد للمائية إلى الأرضية ، بحيث لا تبقى رطوبة حية دهنية ، ولذا لا ينطرق ، ولما أن عقده باليبس لا يذوب إلا بالحيلة بحيث لا يبقى ذلك الجوهر ، بخلاف الحديد المذاب ، وذلك كالياقوت واللؤلؤ (٤) والزبرجد ونحو ذلك من الأحجار.

__________________

(١) في (ب) العالية بدلا من (الغالبة)

(٢) سقطت من (ب) بالغة وبها زيادة (ما بلغت)

(٣) في (أ) واللعل بدلا من (اللؤلؤ) وهو تحريف

(٤) اللؤلؤ : معروف ، وهو مكون من طبقات صدفية تركزت ، ويظهر أن في وسطها جسم غريب ، اعتبر «بليدناس» من الاقدمين هذا اللؤلؤ من بادزهر وحصيات ناشئة من طفحان عارضي الصدف الذي لا يتميز عنه في نظر الكيمياء.

لاجل اجتناء اللؤلؤ يغوص الغواصون عليه في أعماق البحار لتقلع منها الحيوانات الصدفية التي. توجد فيها اللآلئ ، وتلك الحيوانات تكثر بجوار جزيرة سيلان ، ورأس قوران والخليج الفارسي وهو لاندة الجديدة ، وخليج المكسيك ولذلك يميز اللؤلؤ إلى شرقي وغربي. اللؤلؤ كلما كان ماؤه أصفى وحجمه أعظم ، وشكله أنظم كان أكثر اعتبارا وأجل قيمة ، وقد ذكر أن اللؤلؤ يفقد لمعانه ولاجل إعادته إليه قيل يعطي للدجاج لتزدرده ثم تذبح بعد دقيقة ويخرج اللؤلؤ من معداتها معلما فإذا ـ

٢٣٤

[قال (ومرجع المعدنيات إلى الأبخرة والأدخنة)

وتكون البعض بالتصعيد كالنوشادر والملح ظاهر].

فإنها إذا لم تكن كثيرة قوية بحيث تفجر الأرض فتخرج عيونا أو زلازل ، بل ضعيفة تحتبس في باطن الأرض ، وتمتزج بالقوى المودعة في الأجسام التي هناك على ضروب مختلفة ، فقد تفسد تلك الأجسام لقبول قوى أخرى ، وصور تكون بها أنواعا هي الجواهر المعدنية ، ويختص كل نوع ببقعة لمناسبة له معها ، فإذا زرع في بقعة أخرى لم يتولد منه شيء ، لأن القوة المولدة له ، إنما هي في تلك الأرض ، ولا خفاء في أن بعضها مما يتولد بالصنعة بتهيئة المواد ، وتكميل الاستعداد كالنوشادر والملح ، ولا في أن مثل الذهب والفضة واللؤلؤ وكثير من الأحجار قد يعمل له شبه ، يعسر التمييز بينه وبين ذلك الجوهر في بادئ النظر ، وإنما الكلام في عمل حقيقة ذلك الجوهر.

[قال (واتفقوا)

على زوال صور المواد المركبة كالزئبق والكبريت عند تكون الذهب ، لكونها تابعة للمزاج المنعدم (١) عند تصغر الأجزاء جدا ، ولهذا لا يكون حجم الذهب ووزنه ، بين حجم الزئبق والكبريت ووزنيهما ، كما هو حكم المركبات الباقية على صور أجزائها].

يريد أن المزاج الثاني ليس كالأول في بقاء الأجزاء. أعني البسائط العنصرية على صورها النوعية ، بل المواد المركبة ، كالزئبق (٢) والكبريت المتكون منهما

__________________

ـ صح هذا يمكن تفسيره بأن اللؤلؤ شديد التأثير بالجوامض حتى الضعيفة فإن ازدردته الدجاج أثرت عليه حوامض معدتها فأخذت من سطحه طبقة فعاد إليه لمعانه. وقد اشتهرت اللآلئ الصغيرة في طب العرب وغيرهم من الأقدمين ، وقد بطل الآن استعمالها فأوصى الأقدمون باختيار الأبيض الزاهي الشفاف النقي منها وقالوا إذا تحول اللؤلؤ إلى مسحوق فإنه يعطي بمقدار من ٧ قمحات إلى نصف درهم فيكون مقويا للقلب ومضادا للسم وغير ذلك ، ولا سيما القلويات ، والاسهال ، والأنزفة ونحوها.

ويدخل في معجون القرمز ، ومسحوق الورد الأحمر مع أنه في الحقيقة ماص فقط ، عادم الطعم.

(١) في (ب) المتقدم بدلا من (المنعدم)

(٢) سبق الحديث عن الزئبق أنواعه وخواصه في كلمة وافية فليرجع إليها.

٢٣٥

الذهب ، لا تبقى على صورها لكونها تابعة للمزاج المنعدم (١) عند تصغر الأجزاء جدا. فالتركيب المفضى إلى حصول المزاج التابع لتصغر الأجزاء ، لا كتركيب الشخص من الأعضاء ، لا يكون عند التحقيق إلا من البسائط العنصرية ، ولهذا لا يكون حجم الذهب ووزنه بين حجم الزئبق والكبريت (٢) ووزنيهما ، على ما هو قياس المركب من الأجسام المختلفة في الثقل الباقية على صورها ، بل حجمه ، أقل منهما بكثير ووزنه أكثر على ما سيأتى.

[قال (خاتمة)

الأجسام تتفاوت في الثقل لاختلاف الصور ، وبحسب ذلك تتفاوت في الحجم والحيز ، وفي الطفو على الماء والرسوب فيه ، ويختلف وزن كل في الماء والهواء ، ويتعين جميع ذلك بتعين الماء الذي يخرج من الإناء حين يلقى فيه قدر معين من كل منها ، مثلا ماء مائة مثقال من الذهب خمسة مثاقيل وربع ، ومن الفضة تسعة وثلثان ، ونسبة ماء الذهب إلى ماء الفضة نسبة حجمه إلى حجمها ، وثقلها إلى ثقله ، وإذا سقط ماء كلّ عن وزنه في الهواء بقي وزنه في الماء ، وما كان ماؤه أقل من وزنه ، فهو راسب أو أكثر فطاف ، وإن تساويا نزل فيه بحيث يماس أعلاه (٣) سطح الماء].

هذا بحث شريف يتفرع عليه أحكام كثيرة في باب الفلزات (٤) والأحجار ،

__________________

(١) في (ب) المتقدم بدلا من (المنعدم)

(٢) الكبريت : عنصر لا فلزي ، رمزه ، (كب) ذو شكلين بلورين أصفرين ، وثالث غير بلوري قاتم اللون. نشيط كيميائيا ينتشر في الطبيعة ، وهو أحد العناصر الموجودة في الجبلة (البرموتوبلازم) يستعمل لتحضير (البارود ، كبريتات الباريوم ، وثاني اكسيد الكبريت وحمص الكبريتيك ، وعجينة الورق ، والمطاط ، والثقاب ، ومبيدات الحشرات).

(٣) في (أ) أعلى بدلا من (أعلاه)

(٤) الفلزات : واحدها : فلز : عنصر كيميائي يتميز ببريق خاص وبقابليته لتوصل الحرارة والكهرباء ، وقدرته على تكوين أيون موجب ، وتكون الفلزات نحو ثلثي العناصر المعروفة ، وتختلف في الصلادة ، والقابلية للطرق ، والسحب ، وقوة الشد ، والثقل النوعي ، ونقطة الانصهار ، والكروم أصله الفلزات والسيزيوم أكثرها رخاوة ، والفضة أحسنها توصيلا للكهرباء ويليها النحاس فالذهب فالألومنيوم ، وكل الفلزات موصلة جيدة نسبيا للحرارة ويمكن ترتيبها حسب نشاطها في متسلسلة دفع كهربائية وعموما يستطيع أي فلز أن يحل محل الهيدروجين

٢٣٦

ومعرفة مقدار كل منهما في المركب مع بقاء التركيب ، وفي عمل الموازين القريبة جعله خاتمة بحث المعدنيات ، لأن أمره فيها أظهر ، واحتياجها إليه أكثر وقد سبقت إشارة إلى أن اختلاف الأجسام في الخفة والثقل ، عائد إلى اختلافها في الصور والاستعدادات ، لا إلى كثرة الأجزاء وقلتها مع تخلل الخلاء ، وبحسب تفاوتها في الخفة والثقل ، تتفاوت فيما يتبع ذلك من الحجم والحيز والطفو على الماء والرسوب فيه ، ومن اختلاف أوزانها في الماء ، بعد التساوي في الهواء. مثلا حجم الأخف يكون أعظم من حجم الأقل مع التساوي في الوزن ، كمائة مثقال من الفضة ، ومائة من الذهب ، وحيز الأخف يكون إلى صوب المحيط (١) ، والأثقل إلى صوب المركز ، وإن تساويا وزنا أو حجما ، والأخف قد يعلو الماء ، والأثقل يرسب فيه كالخشب والحديد ، وإن كان وزن الخشب أضعاف وزن الحديد ، وإذا كان في إحدى كفتي الميزان مائة مثقال من الحجر ، وفي الأخرى مائة مثقال من الذهب أو الفضة أو غيرهما من الأجساد التي جوهرها أثقل من جوهر الحجر ولا محالة يقوم الميزان مستويا في الهواء ، فإذا أرسلنا الكفتين في الماء لم يبق الاستواء. بل يميل العمود إلى جانب الجوهر الأثقل ، وكلما كان من جوهر أثقل ، كان الميل أكثر ، ويفتقر الاستواء إلى زيادة في الحجر حسب زيادة الثقل ، مع أن وزن الجوهر ليس إلا مائة مثقال مثلا ، وذلك لأن الأثقل أقدر على خرق القوام الأغلظ ، وأما إذا أرسلنا أحدهما فقط في الماء ، فالعمود يميل إلى جانب الهواء ، لكونه أرق قواما. وقد حاول أبو ريحان (٢) تعيين مقدار تفاوت ما بين الفلزات ، وبعض الأحجار في الحجم ، وفي الخفة والثقل ، بأن عمل إناء على شكل الطبرزد مركبا على عنقه شبه ميزاب منحني (٣) ، كما يكون حال الأباريق ، وملأه ماء وأرسل فيه مائة مثقال من

__________________

(١) في (ب) المركز بدلا من (المحيط)

(٢) هو محمد بن أحمد ، أبو الريحان البيروني الخوارزمي ، فيلسوف رياضي مؤرخ من أهل خوارزم. أقام في الهند بضع سنين ومات في بلده عام ٤٤٠ ه‍ اطلع على فلسفة اليونانيين والهنود ، وعلت شهرته ، وارتفعت منزلته عند ملوك عصره ، وصنف كتبا كثيرة جدا متقنة ، رأى ياقوت فهرستها بمرو في ستين ورقة بخط مكتنف ، وياقوت مكثر من النقل من كتبه منها (الآثار الباقية عن القرون الخالية) ترجم إلى الإنجليزية والاستيعاب في صنعة الأسطر لاب ، والجماهر في معرفة الجواهر ، وتاريخ الأمم الشرقية وتاريخ الهند ، وفي أحكام النجوم ، وتحقيق ما للهند من مقولة مقبولة

(٣) في (ب) ميزان بدلا من (ميزاب)

٢٣٧

الذهب مثلا ، وجعل تحت رأس الميزاب كفة (١) الميزان الذي يريد به معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء ، وهكذا كل من الفلزات والأحجار ، بعد ما بالغ في تنقية الفلزات من الغش (٢) ، وفي تصفية الماء ، وكان ذلك من ماء جيحون (٣) في خوارزم (٤) في فصل الخريف. ولا شك أن الحكم يختلف باختلاف المياه ، واختلاف أحوالها بحسب البلدان والفصول. فحصل معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمائة مثقال من كل من الفلزات والأحجار ، وعرف بذلك مقدار

__________________

(١) في (ب) ميزان بدلا من (ميزاب)

(٢) في (أ) الفسق بدلا من (الغش)

(٣) جيحون : بالفتح ، وهو اسم أعجمي ، وقد تعسف بعضهم فقال : هو من جاحه إذا استأصله ، ومنه الخطوب الجوائح ، سمي بذلك لاجتياحه الأرضين. قال حمزة أصل اسم جيحون بالفارسية هارون ، وهو اسم وادي خراسان على وسط مدينة يقال لها جيهان فنسبه الناس إليها وقالوا جيحون على عادتهم في قلب الالفاظ.

وقال ابن الفقيه يجيء جيحون من موضع يقال له ريوساران وهو جبل يتصل بناحية السند والهند وكابل ، ومنه عين تخرج من موضع يقال له عند ميس.

وقال الاصطخري : فأما جيحون فإنه عموده نهر يعرف بجرياب يخرج من بلاد وخّاب من حدود بذخشان وينضم إليه أنهار في حدود الختل ووخش فيصير من تلك الأنهار هذا النهر العظيم وينضم إليه نهر يلي جرباب يسمى بأخش وهذا النهر يجمد لمدة شهرين من شهور الشتاء.

(٤) خوارزم : قال بطليموس في كتاب الملحمة : خوارزم طولها مائة وسبع عشرة درجة وثلاثون دقيقة ، وعرضها خمس وأربعون درجة وهي في الاقليم السادس ، طالعها السماك ، ويجمعها الذراع بيت حياتها العقرب ، مشرقة في قبة الفلك وقال أبو عون في زيجة هي آخر الاقليم الخامس ، وطولها إحدى وتسعون درجة ، وخوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم للناحية بجملتها فأما القصبة العظمى فقد يقال لها اليوم الجرجانية ، وقد ذكرت في موضعها.

وقد ذكروا في سبب تسميتها بهذا الاسم أن أحد الملوك القدماء غضب على أربعمائة من أهل مملكته وخاصة حاشيته فأمر بنفيهم إلى موضع منقطع عن العمارات بحيث يكون بينهم وبين العمائر مائة فرسخ ، فلم يجدوا على هذه الصفة إلا موضع مدينة كاث وهي إحدى مدن خوارزم فجاءوا بهم إلى هذا الموضع وتركوهم وذهبوا فلما كان بعد مدة جرى ذكرهم على بال الملك فأمر قوما بكشف خبرهم فجاءوا فوجدوهم قد بنوا اكواخا ووجدوهم يصيدون السمك وبه يتفوتون وإذا حولهم حطب كثير فقالوا لهم كيف حالكم ..؟ فقالوا : عندنا هذا اللحم ، وأشاروا إلى السمك وعندنا هذا الحطب فنحن نشوي هذا بهذا ونتقوت به ، فرجعوا إلى الملك وأخبروه بذلك فسمي ذلك الموضع خوارزم. لأن اللحم بلغة الخوارزمية خوار والحطب رزم ، فصار خوارزم فخفف فقيل «خوارزم» استثقالا لتكرير الراء.

راجع معجم البلدان ٢ : ٣٩٥

٢٣٨

تفاوتها في الحجم والثقل ، فإن ما يكون ماؤه أكثر يكون حجمه أكبر ، وثقله أقل بنسبة تفاوت المادين ، وإذا أسقط ماء كل من وزنه في الهواء ، كان الباقي وزنه في الماء. مثلا. لما كان ماء مائة مثقال من الذهب ، خمسة مثاقيل وربع مثقال ، كان وزنه في الماء أربعة وتسعين مثقالا وثلاثة أرباع مثقال ، والماء الذي يخرج من الإناء بإلقاء الجسم فيه ، إن كان أقل من وزن الجسم ، فالجسم يرسب في الماء ، وإن كان أكثر منه فيطفو ، وإن كان مساويا له ، فالجسم ينزل في الماء بحيث يماس أعلاه سطح الماء.

وقد وضع أبو ريحان (١) ومن تبعه جدولا جامعا لمقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمائة مثقال من الذهب والفضة ، وغيرهما ، ولمقادر أوزانها عند كون الفلزات السبعة في حجم مائة مثقال من الذهب والجواهر في حجم مائة مثقال من الياقوت (٢) الآسمانجوني ، ولمقدار أوزانها في الماء ، بعد ما يكون مائة مثقال في الهواء. وهذا هو الجدول والله أعلم.

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية

(٢) جاء في المادة الطبية أنه يسمى بالأفرنجية (ياسنت) وأنواعه في المتجر كثيرة ، ومختلفة في التركيب أولها الياقوت الأحمر المسمى بالأفرنجية (رويس) وهو حجر أحمر شفاف كثير اللمعان مبلور. والياقوت الأزرق المسمى بالأفرنجية سفير وقد يوصف بالمشرقي ، وثالثها الياقوت الأصفر المسمى بالأفرنجية (طوباز)

٢٣٩

٢٤٠