شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعدا لقبول نفس أكمل ، يصدر عنها مع حفظ المادة ، الأفعال النباتية فتجذب (١) الغذاء ، ويضيفها إلى تلك المادة فيتمها ، وتتكامل المادة بترتيبها إياها ، فتصير تلك الصورة مصدرا مع ما كان يصدر عنها بهذه الأفاعيل.

وهكذا إلى أن تصير مستعدة لقبول نفس أكمل يصدر عنها ، مع جميع ما تقدم الأفعال الحيوانية أيضا ، فيصدر عنها تلك الأفعال أيضا ، فيتم البدن ويتكامل إلى أن يصير مستعدا لقبول نفس ناطقة يصدر عنها ، مع جميع ما تقدم النطق ، وتبقى مدبرة في البدن إلى أن يحل الأجل. وقد شبهوا تلك القوى في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها نفسا مجردة بحرارة تحدث في فحم من نار مشتعلة مجاورة ، ثم تشتد ، فإن الفحم بتلك الحرارة يستعد لأن يتجمر ، وبالتجمر يستعد ، لأن يشتعل نارا ، شبيهة بالنار المجاورة ، فمبدأ الحرارة الجاذبة (٢) في الفحم ، كتلك الصورة الحافظة واشتدادها ، كمبدإ الأفعال النباتية وتجمرها ، كمبدإ الأفعال الحيوانية ، واشتعالها نارا كالناطقة ، وظاهر أن كل ما يتأخر يصدر عنه مثل ما صدر عن المتقدم وزيادة ، فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجه من حد ما من النقصان إلى حد ما من الكمال ، واسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة ، فهي على اختلاف مراتبها نفس البدن المولود. وتبين من ذلك أن الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في المنيين هو نفس الأبوين ، وهو غير حافظها ، والجامع للأجزاء المضافة إليها ، إلى أن يتم البدن ، وإلى آخر العمر ، والحافظ للمزاج هو نفس المولود.

[قال (ثم لهم تردد) :

في تعدد هذه القوى بالذات ، إذ لا يمتنع استناد تعدد الأفعال واختلافها بالقوة والضعف ، وتفاوتها بالحدوث والبقاء ، إلى اختلاف القوابل والآلات ، ثم في مغايرتها للنفس النباتية أو الحيوانية ، وفي مغايرة الغاذية (٣) للخوادم ، وفي أن مبدأ

__________________

(١) في (ب) فتحدث بدلا من (فتجذب)

(٢) في (ب) الحادثة بدلا من (الجاذبة)

(٣) سقط من (أ) لفظ (الغاذية)

٢٦١

تحصيل الغذاء وتشبيهه وإلصاقه واحد أو متعدد. وتحيروا في كيفية صدور هذه الأفعال المتفقة عن القوى الضعيفة سيما إذا تؤمل ما نشاهد من أنواع الحيوان والنبات ، من عجائب الصور والأشكال وغرائب النقوش ، والألوان (١) والتجئوا على ما هو موجب الفطرة السليمة إلى إذن الخالق القدير ، وتقدير العزيز العليم].

يعني لما كان كلامهم في باب القوى مبنيا على الحدس (٢) والتخمين دون القطع واليقين وقع مترددا في عدة مواضع منها : أن الغاذية والنامية والمولدة قوى متعددة متغايرة بحسب الذات ، أم بمجرد الاعتبار ، ويكون اختلاف الأفعال والآثار راجعا إلى اختلاف الآلات والاستعدادات. مثلا تفعل الغاذية النمو ، فيما إذا كان الوارد زائدا على المتحلل ، والتوليد فيما إذا صار صالحا ، لأن يصير منيا وحاصلا في الأنثيين ، ويعرض لأفعالها قوة أو ضعف في بعض الأحوال ، لأسباب عائدة إلى المواد والآلات وزيادة الحرارة الغريزية ونقصانها. وكذا تفاوت في الحدوث ، بأن يحدث التوليد بعد التغذية والتنمية ، ويبقى التوليد دون التنمية ، وتبقى التغذية دون التنمية والتوليد ، وما تقرر عندهم من أن أثر الواحد ، لا يكون إلا واحدا. فإنما هو في الواحد بجميع الجهات ، ومنها أن النفس النباتية اسم لهذه القوى في النبات ، وكذا الحيوانية في الحيوان ، أم هي صورة جوهرية ، مبدأ لهذه القوى في النبات ، وللحس والحركة أيضا (٣) في الحيوان ، ولإدراك المعقولات أيضا في الإنسان ، ومنها أن الغاذية هل هي مغايرة بالذات للجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة أم لا ، بل هي عبارة عنها ، كما يشعر به كلام جالينوس وغيره ، وأيضا ذهب بعضهم إلى أن الأربعة واحدة بالذات ، متغايرة بالاعتبار. بمعنى أن هناك قوة واحدة ، فعلها جذب عند الإدرار (٤) ، إمساك بعد الإدرار ، هضم بعد الإمساك ، دفع بعد الانهضام. ومنها أن الغاذية على تقدير مغايرتها للبواقي ، هل هي قوة واحدة فعلها التحليل (٥) والتشبيه والإلصاق ، أم قوى ثلاث متغايرة بالذات مبادي للأفعال

__________________

(١) في (أ) الحيوان بدلا من (الألوان)

(٢) في (ب) الحس بدلا من (الحرس)

(٣) سقط من (ب) لفظ (أيضا)

(٤) في (ب) الازدراد بدلا من (الإدرار)

(٥) في (ب) التحصيل بدلا من (التحليل)

٢٦٢

الثلاثة. وميل ابن سينا إلى الثاني ، وهو الظاهر من قواعدهم ، ثم إنها نفس القوى الثلاث ، لا قوة أخرى نستخدمها ، لأنه ليس هناك فعل آخر ، غير إيراد البدل والتشبيه والإلصاق ، ومنها : أنه كيف تصدر هذه الأفعال المتقنة المحكمة على النظام المخصوص عن القوى ، التي هي أعراض قائمة بالأعضاء لا يتصور لها قدرة أو إرادة أو علم ، خصوصا إذا تؤمل في الصور العجيبة ، والأشكال الغريبة ، والنقوش المؤتلفة ، والألوان المختلفة الموجودة في أنواع النبات والحيوان ، فإن العقل لا يكاد يزعن لصدورها عن القوة التي سموها مصورة.

وإن فرضنا كونها مركبة ، وكون المواد مختلفة. كيف وقد ورد الكتاب الإلهي في عدة مواضع ، باستناد جميع ذلك إلى الله سبحانه (١) ، وأشار إلى دلالتها على كونه قادرا حكيما ، وصانعا قديما. والفلاسفة أيضا لما رجعوا إلى الفطرة السليمة. صرحوا بأن هذه القوى ، إنما تفعل ذلك بإذن خالقها القدير وموجدها الحكيم الخبير. ومنهم من قال ، نحن نعلم قطعا أن ما في التغذية والتنمية والتوليد من الحركات ، إلى الجهات المختلفة ، ومن الإلصاقات ، ومن التشكيلات لا يصح بدون الإدراك. وأن هذا الإدراك ليس للنفس الإنسانية (٢) ، فإن هذه الأفعال دائمة في البدن ، والنفس غافلة عنها ، وتحدس حدسا موجبا لليقين ، أن الحيوانات العجم أيضا ، لا تدرك أفعال هذه القوى في أبدانها. فإذن هو إدراك موجود آخر له اعتبار بهذه الأنواع.

[قال (خاتمة)

النبات كما أنه ليس بحيوان ، ليس بحي ، لأن الحياة صفة تقتضي الحس ،

__________________

(١) قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) سورة المؤمنون الآيات ١٢ ـ ١٤.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه قال : إذا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث فذلك قوله (ثم أنشأناه خلقا آخر) يعني نفخنا فيه الروح.

(٢) في (ب) النباتية بدلا من (الإنسانية)

٢٦٣

والحركة الإرادية ، ومنهم من جعل التصرف في الغذاء حياة ، فسماه حيا ، ومنهم من بالغ فجعل للنبات مع الحس عقلا].

لا خلاف في أن النبات ليس بحيوان ، لأن المراد به ، ما علم فيه تحقق الحس والحركة ، وإنما الخلاف في حياته. فقيل هو حي ، لأن الحياة صفة هي مبدأ التغذية والتنمية.

وقيل لا : إذ الحياة صفة هي مبدأ الحس والحركة الإرادية.

واعترض بأنا لا نسلّم انتفاء ذلك في النبات. غاية الأمر انتفاء العلم بتحققه فيه ، ومنهم من ادعى تحققه فيه ، مستشهدا بالأمارات على ما سبق ، ومنهم من بلغ في اتصافه بالإدراك ، حتى أثبت له إدراك الكليات. وهو المعنى بالعقل ، زعما منه ، أن ما يشاهد من ميل إناث النخيل إلى بعض الذكور دون البعض ، وميل عروقها إلى الصوب (١) الذي فيه الماء ، وانحرافها في صعودها عن الجدار المجاور ، لا يتأتى بدون ذلك ، وهذا ينسب إلى جمع من قدماء الحكماء.

__________________

(١) الصوب : نزول المطر ، والصيب : السحاب دون الصوب ، وصاب أي نزل. قال الشاعر :

فلست لإنس ولكن لملأك

تنزل من جو السماء يصوب

والتصوب مثله ، وصوبت الفرس إذا أرسلته في الجري.

٢٦٤

المبحث الثالث

[قال (المبحث الثالث) :

اختص الحيوان لزيادة اعتداله بقوى تسمى نفسانية حيوانية هي إما مدركة أو محركة].

لا خفاء في اشتراك القوى الطبيعية بين النبات والحيوان ، وإن كان اشتراكا بمجرد المفهوم دون الحقيقة ، للقطع بأن غاذية الحيوان ، تخالف بالنوع غاذية النبات ، بل صرح ابن سينا. بأن غاذية كل عضو تخالف بالنوع غاذية عضو آخر ، ثم الحيوان يختص بقوى أخرى مدركة ومحركة ، تسمى نفسانية نسبة إلى النفس الحيوانية ، أو إلى النفس الناطقة ، لكونها في الإنسان أكمل منها في سائر الحيوانات ، وذلك لأن الحيوان لزيادة اعتداله ، قد يختص بما ينفعه ويلائمه ، وبما يضره وينافيه ، فاحتاج إلى طلب النافع ، وهرب من الضار ، وذلك بإدراكهما ، والاقتدار على الحركة إلى النافع ، وعن الضار بخلاف النبات ، فإنه ليس في ذلك الاعتدال ، ولو كان فإنه مركوز في موضعه لا يمكنه التحرك عن شيء إلى شيء فيكون قوة الإدراك والتحريك فيه ضائعا ، بل ربما يكون ضائرا. ثم إن (١) كلامهم متردد في أن القوى النفسانية جنس للمدركة والمحركة. أي بمنزلة الجنس ، وكذا في انقسام كل منهما إلى ماله من الأقسام ، بل في جميع الانقسامات الواقعة في باب القوى ، وذلك لأن معرفة الأجناس والفصول (٢) ، وتمييز الذاتيات والغرضيات عسيرة جدا في الحقائق المدركة بالعيان ، فكيف فيما لا يعرف إلا من جهة الآثار ، ولا يعقل إلا بحسب الإضافات والاعتبارات ككون الشيء مبدأ التغير في آخر.

[قال (وقد يثبت) :

قوة أخرى هي مبدأ لها تخص باسم القوة الحيوانية توجد في العضو

__________________

(١) سقط من (أ) حرف (إن)

(٢) في (ب) الفصل بدلا من (الفصول)

٢٦٥

المفلوج (١) والذابل.

يعني أن الأطباء يثبتون جنسا آخر من القوى يسمونها القوة الحيوانية ، ويجعلونها مبدأ القوى النفسانية ، حيث يفسرونها بالقوة ، التي إذا حصلت في الأعضاء ، هيأتها لقبول الحس والحركة وأفعال الحياة ، كجعل الغذاء بحيث يصلح لتغذية بدن الحيوان ، وكحركات الانبساط عند الغضب والفرح ، والانقباض عند الخوف والغم. ويستدلون على ذلك ، بأن في العضو المفلوج أو الذابل ، قوة تحفظ عليه الحياة ، وتمنعه النقص (٢) والفساد. وليست هي قوة الحس والحركة لفقدها في المفلوج ، ولا قوة التغذية لفقدها في الذابل ، فهي التي نسميها القوة الحيوانية.

واعترض عليه من وجهين :

أحدهما : أنا لا نسلم (٣) انتفاء قوة الحس والحركة في المفلوج ، وقوة التغذية في الذابل ، لجواز أن توجد القوة ، ولا يترقب عليها الفعل ، لفقد شرط ، أو وجود مانع (٤) ، فإن قيل: لو انتفى الشرط أو وجد المانع ، لما ترتب حفظ الحياة.

قلنا : يجوز أن يكون لبعض الشروط والموانع اختصاص ببعض الأفعال دون البعض.

فإن قيل : القوة الواحدة لا تكون مبدأ إلا لفعل واحد.

__________________

(١) الفلج : في الأسنان : تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. رجل أفلج الأسنان ، وامرأة فلجاء الأسنان.

قال ابن دريد لا بد من ذكر الأسنان والأفلج أيضا من الرجال : البعيد ما بين الثديين ، ورجل مفلج الثنايا أي منفرجها وهو خلاف المتراص الأسنان.

والسهم الفالج : الفائز. والفالج : ريح ، وقد فلج الرجل فهو مفلوج قال ابن دريد : لأنه ذهب نصفه قال: ومنه قيل لشقة البيت فليجة. والفالج : الجمل الضخم ذو السنامين ، وفلجت الشيء بينهم أفلجه بالكسر فلجا إذا قسمته ، وفلجت الجزية على القوم إذا فرضتها ، وتفلجت قدمه : تشققت. والله أعلم.

(٢) في (ب) النقض بدلا من (النقص)

(٣) في (أ) ثم بدلا من (لا نسلم)

(٤) سقط من (ب) جملة (أو وجود مانع).

٢٦٦

قلنا : فأي حاجة إلى ما ذكر من المقدمات.

والجواب : أن الفلاسفة معترفون بانتفاء القوتين في المفلوج والذابل.

وثانيهما : أن الحافظ يجوز أن يكون المزاج الخاص ، أو تعلق النفس بالبدن.

والجواب : أن الكلام فيما يحفظ المزاج الخاص الذي به قوام الحياة في الحيوان الناطق وغيره ، وفيه نظر. لأنهم لا يعنون بالنفس الجوهر المجرد ، بل مبدأ الحركات ، والأفاعيل المختلفة ، أو مبدأ الإدراك ، والتحريك الإرادي.

[قال (أما المدركة فالحواس الظاهرة والباطنة) :

وكل منهما خمس ، حسب ما ثبت بالوجدان والبرهان ، وإن لم يقع الجزم بامتناع الغير ، لجواز أن لا يحصل للشيء بعض ما هو ممكن له لانتفاء شرط ، وجعل بعضهم مدرك اللذة والألم ، بل جميع الوجدانيات قوة أخرى ، لما نجد عند تحققها من حالة مغايرة لتعقلها ، أو تخيلها.

والجواب : إنها إدراكات لا مدركات].

لأن الكلام في القوى التي يشترك فيها الانسان ، وغيره من الحيوانات ، وأما القوة النطقية المدركة للكليات ، فستأتي في بحث النفس وكل منهما. أي من قسمي القوة المدركة جنس أو بمنزلة الجنس ، لقوى خمسة. كما أن المدركة جنس أو بمنزلة الجنس للقسمين ، وذلك ظاهر في الحواس الظاهرة لما أن كل أحد يجد من نفسه تلك الإدراكات ، وتعقلها (١) بما يخصها من الآلات ، وأما الباطنة. فتثبت بالبرهان ، كما سيأتي على التفصيل ، ثم لا جزم للعقل ، بامتناع حاسة سادسة من الظاهرة أو الباطنة. إذ الممكن قد لا يوجد لانتفاء شرط من شرائط الوجود ، وما يقال : أن الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوان إلى درجة فوقها ، إلا وقد استكملت جميع ما في تلك (٢) الدرجة ، فلو كان في الامكان حس آخر ، لكان حاصلا للإنسان ، لأنه أعدل ما في هذا العالم ضعيف ، وكذا ما يقال أن الإدراك

__________________

(١) في (أ) ويعلقها بدلا من تعقلها وهو تحريف

(٢) في (ب) هذه بدلا من (تلك)

٢٦٧

كمال للنفس ، وهي مستعدة لحصول الكمال ، ولا صفة من (١) جانب الواهب ، فلو أمكن وجود قوة أخرى إدراكية ، لكانت حاصلة للنفس ، ومنهم من زعم أن مدرك اللذة والألم حاسة أخرى غير العشر ، فإن من التذ أو تألم ، يجد من نفسه حالة إدراكية ، مغايرة لتعقل اللذة والألم وتخيلهما ، ويشبه أن تكون جميع الوجدانيات من الجوع والعطش ، والخوف (٢) والغضب ، وغيرها بهذه المثابة. فإنا نجد عند تحقق هذه المعاني ، حالة إدراكية مغايرة لحالة تعقلها بصورها الكلية ، أو تخيلها بصورها الجزئية. والجواب : أن اللذة والألم (٣) مثلا من قبيل الإدراكات ، لانها إدراك حسي أو عقلي ، ونيل (٤) لما هو عند المدرك كمال وخير ، لا من قبيل المدركات ، ليطلب لها حاسة تدركها. وفيه نظر. وأما المحسوسات المشتركة ، مثل المقادير ، والأعداد ، والأوضاع ، والحركات ، والسكنات ، والأشكال ، والقرب ، والبعد ، والمماسة ، ونحو ذلك. فليست كما يظن أن مدركها حس آخر ، بل إدراكها ، إنما هو بالحواس الظاهرة ، وإن كان بعضها قد يستعين بالبعض ، أو بضرب من القياس والتعقل.

[قال (أما الحواس الظاهرة فمنها اللمس) :

وهي قوة سارية في البدن تدرك بها الحرارة والبرودة ، ونحوهما عند المماسة ، وهي للحيوان في محل الضرورة ، كالغاذية للنبات ، ولذا كانت لمعونة العصب سارية في جميع الأعضاء ، سوى ما يتضرر به كالكبد والطحال ، والكلية والرئة والعظم ، وكان الحيوان يبقى عند بطلان سائر الحواس دونها].

هي قوة تأتي في الأعصاب إلى جميع الجلد ، وأكثر اللحم والغشاء ، من شأنها إدراك الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والخشونة والملاسة ، ونحو ذلك ، بأن ينفعل عنها العضو اللامس عند المماسة بحكم الاستقراء ، ولأنها لو أدركت

__________________

(١) في (أ) صنعة بدلا من (صفة) وهو تحريف.

(٢) سقط من (ب) كلمة (الخوف)

(٣) سقط من (أ) لفظ (الألم)

(٤) في (ب) وفعل بدلا من (ونيل)

٢٦٨

البعيد أيضا ، لم يحصل التمييز بن ما يجب دفعه ، وما لا يجب ، فيفوت الغرض من خلق اللامسة (١). أعني رفع الضار ، وجلب النافع.

واللامسة (٢) للحيوان في محل الضرورة ، كالغاذية للنبات.

قال ابن سينا : أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس ، فإنه كما أنه (٣) للنبات قوة غاذية ، يجوز أن تفقد سائر القوى دونها ، كذلك حال اللامسة (٤) للحيوان ، لأن مزاجه من الكيفيات الملموسة ، وفساده باختلافها ، والحس طليعة للنفس ، فيجب أن تكون الطليعة الأولى هو ما يدل على ما يقع به الفساد ، ويحفظ به الصلاح ، وأن يكون قبل الطلائع التي تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عند القوام ، أو مضرة خارجة عن الفساد والذوق ، وإن كان دالا على الشيء الذي به تستبقى الحياة من المطعومات ، فقد يجوز أن يبقى الحيوان بدونه ، بإرشاد الحواس الأخر على الغذاء الموافق ، واجتناب المضاد ، وليس شيء منها يعين على أن الهواء المحيط بالبدن محرق ، أو مجمد.

وبالجملة فالجوع شهوة الحار اليابس ، والعطش شهوة البارد الرطب ، والغذاء ما يتكيف بهذه الكيفيات اللمسية (٥) ، وأما الطعوم فتطيبات. فلذلك كثيرا ما يبطل حس الذوق أو غيره ، ويبقى الحيوان حيوانا بخلاف اللمس ، ولشدة الاحتياج إليه ، كان بمعونة الأعصاب ، ساريا في جميع الأعضاء ، إلا ما يكون عدم الحس أنفع له كالكبد والطحال والكلية ، لئلا يتأذى بما يلاقيها من الحار اللاذع (٦). فإن الكبد مولد للصفراء ، والسوداء ، والطحال والكلية ، معينان (٧) لما فيه لذع ، وكالرئة فإنها دائمة الحركة ، فتتألم باصطكاك (٨) بعضها ببعض ، ومولد للأبخرة الحادة ،

__________________

(١) في (ب) الملامسة بدلا من (اللامسة)

(٢) في (ب) الملامسة بدلا من (اللامسة)

(٣) سقط من (أ) لفظ (إنه)

(٤) في (ب) الملامسة بدلا من (اللامسة)

(٥) سقط من (ب) لفظ (اللمسية)

(٦) في (أ) الذراع بدلا من (اللاذع) وهو تحريف.

(٧) في (ب) يخصان بدلا من (معينان)

(٨) في (أ) باسككاك وهو تحريف

٢٦٩

ومصب (١) ومصعد للمواد ، فيتأذى بذلك ، وكالعظام فإنها أساس البدن ، ودعامة الحركات ، بمعنى أنها تجعل الحركات أشد ، بجعل أعضائها أقوى ، فلو أحست لتألمت بالضغط والمزاحمة (٢) ، وبما يرد عليه من المصاكات.

[قال (وأثبتها) :

بعضهم للفلكيات ، وبعضهم للبسائط العنصرية].

أي القوة اللامسة بعضهم للفلكيات ، زعما منهم أنها من توابع الحياة ، وللأفلاك حياة ، لكون حركاتها نفسانية ، فيكون لها شعور ولمس بالضرورة. والقول بأنها إنما تكون بجذب الملائم ، ودفع المنافي ، فيكون وجودها في الفلك الممتنع عليه الكون والفساد معطلا ، مردود بأن ذلك. إنما هو في الأرضيات ، وأما في الفلكيات فيجوز أن توجد لغرض آخر كتلذذها بالملامسة والاصطكاك. والجواب : منع كونها من لوازم الحياة على الإطلاق. وأما ما ذهب إليه البعض من وجود الملامسة للعنصريات ، بناء على أن الأرض تهوى (٣) من العلو إلى السفل على نهج واحد ، والنار بالعكس ، وذلك يدل على شعورهما بالملائم وغير الملائم ففي غاية الضعف.

[قال (ومال ابن سينا إلى تعددها) :

حسب تعدد التضاد بين الملموسات ، فإن بين الحرارة والبرودة نوعا من التضاد ، غير الذي بين الرطوبة واليبوسة مثلا ، بخلاف تضاد (٤) الطعوم.

الجمهور على أن اللامسة قوة واحدة ، بها تدرك جميع الملموسات ، كسائر الحواس ، فإن اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات ، ليستدل بذلك على تعدد مبانيها (٥) ، وذكر ابن سينا في القانون : أن أكثر المحصلين على أن

__________________

(١) في (أ) ومصبب بدلا من (ومصب)

(٢) في (أ) بالضعط بدلا من (الضغط)

(٣) في (أ) تهرب بدلا من (تهوي) وهو تحريف

(٤) سقط من (ب) لفظ (تضاد)

(٥) في (أ) مباديها بدلا من (مبانيها)

٢٧٠

للمس قوي كثيرة ، بل قوى أربع. وقال في الشفاء : يشبه أن تكون اللامسة عند قوم ، لا نوعا أخيرا ، بل جنسا لقوى أربع ، أو فوقها منبثا (١) معا في الجلد كله ، إحداها حاكمة (٢) في التضاد الذي بين الحار والبارد ، والثانية في التضاد ، الذي بين الرطب واليابس ، والثالثة في الذي بين الصلب واللين ، والرابعة في الذي بين الخشن والأملس ، إلا أن اجتماعها في آلة واحدة ، يوهم تأحدها في الذات (٣). وقال : أيضا. يشبه أن تكون قوى اللمس قوى كثيرة ، تختص كل واحدة منها بمضادة ، فيكون ما يدرك به المضادة التي بين الثقيل (٤) والخفيف ، غير ما يدرك به المضادة التي بين الحار والبارد. فإن هذه أفعال أولية للحس ، يجب أن يكون لكل جنس منها قوة خاصة ، إلا أن هذه القوى لما انتشرت في جميع الآلات بالسوية ، ظنت قوة واحدة ، كما لو كان اللمس والذوق منتشرين في البدن كله انتشارهما في اللسان ، لظن مبدؤهما قوة واحدة ، فلما تميزا عرف اختلافهما ، وليس يجب أن يكون لكل واحدة من هذه القوى آلة تخصها ، بل يجوز أن تكون آلة واحدة مشتركة لها. ويجوز أن يكون هناك انقسام في الآلات غير محسوس. ثم قال :

فإن قيل : فالسمع أيضا يدرك المضادة التي بين الصوت الثقيل والحاد ، والتي بين الصوت الخافت والجهير وغير ذلك ، فلم لم تجعل قوى كثيرة.

فالجواب : أن محسوسه الأول هو الصوت ، وهذه أعراض لها ، وتوابع بخلاف اللمس ، فإن كل واحدة من المتضادات تحس لذاتها ، لا بسبب الاخر ، ولما كان السؤال في الذوق المدرك للطعوم المتضادة ظاهرا.

أجاب الإمام : بأن الطعوم وإن كثرت فبينها مضادة واحدة ، بخلاف الملموسات ، فإن بين الحرارة والبرودة نوعا من التضاد ، غير النوع الذي بين الرطوبة واليبوسة.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (منبثا)

(٢) سقط من (ب) إحداها

(٣) في (ب) بأحدهما بدلا من (تأحدها)

(٤) في (ب) تدرك بدلا من (بين)

٢٧١

والحكماء أوجبوا. أن يكون الحاكم على كل نوع من أنواع التضاد قوة واحدة ، تسمى بالشعور والتمييز. وأنت خبير بأن دعوى تنوع التضاد في الملموسات إن كانت من جهة ، أن تنوع المعروضات يوجب تنوع الإضافات العارضة ، فالكل سواء. وإن كانت بالنظر إلى نفس التضاد العارض ، فلا يتم بدون برهان وتفرقة ، ومن سخيف الكلام. ما قيل : أن تباين الكيفيات الأول. أعني الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، أشد من تباين الكيفيات الثواني الحادثة من تفاعلها كالروائح والألوان والطعوم ، فلذلك تعددت قوى اللمس (١) ، دون باقي الحواس.

وهاهنا بحث آخر ، وهو أن المدرك بالحس هو المتضادات كالحرارة والبرودة دون التضاد ، فإنه من المعاني العقلية ، فكيف جعلوا مبنى تعدد اللامسة ، تعدد أنواع التضاد ، وجوزوا إدراك القوة الواحدة للمدركات المتضادة ، كالباصرة للسواد والبياض. ولم يجعلوا ذلك أفعالا مختلفة من مبدأ واحد بالذات والاعتبار.

[قال (ومنها الذوق) :

وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان ، تدرك بها الطعوم بشرط المماسة ، وتوسط الرطوبة اللعابية ، وخلوها عن المثل والضد ليتكيف بكيفية الطعوم أو تخالطها أجزاء منه فيغوص].

هو تال للمس في المنفعة ، بحيث يفعل ما به يتقوم البدن ، وهو تشهية (٢) الغذاء واختياره ، ويوافقه في الاحتياج إلى الملامسة ، ويفارقه في أن نفس الملامسة ، لا تؤدي الطعم ، كما أن نفس ملامسة الحار ، تؤدي إلى (٣) الحرارة ، بل لا بد من توسط الرطوبة اللعابية (٤) المنبعثة من الآلة المسماة بالملعبة ، بشرط خلوها عن طعم ،

__________________

(١) في (ب) النفس بدلا من (اللمس)

(٢) في (ب) تشبه بدلا من (تشهية)

(٣) سقط من (أ) حرف الجر (إلى)

(٤) سقط من (ب) لفظ (اللعابية)

٢٧٢

وإلا لم تؤد الطعم لصحة كما في بعض الأمراض ، واختلفوا في أن توسطها. بأن يخالطها أجزاء ذي الطعم ، مخالطة ينتشر فيها ، ثم ينفذ فيغوص في اللسان ، حتى يخالط اللسان فيحسه. أو بأن يستحيل نفس الرطوبة إلى كيفية المطعوم ، ويقبل الطعم منه من غير مخالطة.

فعلى الأول. تكون الرطوبة واسطة ، تسهل وصول جوهر المحسوس الحامل للكيفية ، إلى الحاس ، ويكون الإحساس بملامسة الحاس للمحسوس بلا واسطة.

وعلى الثاني. يكون المحسوس بالحقيقة هو الرطوبة ، ويكون بلا واسطة.

[قال (وما في اللسان) :

ومن الذائقة (١) واللامسة قد يتميز أثرهما ، كالحلاوة والحرارة ، وقد لا يتميز به كالحرافة.

يعني أن المطعومات كما تفيد ذوقا ، فقد يفيد بعضها لمسا ، أما مع تميزه في الحس ، كما في الحلو الحار ، وإما بدونه. وحينئذ يتركب من الكيفية الطعمية ، ومن التأثير اللمس شيء واحد ، يصير كطعم محض مثل الحرافة. فإنها طعم مع تفريق واسخان ، وكالحموضة ، فإنها طعم مع تفريق بلا اسخان ، وكالعفوصة فإنها طعم مع تجفيف أو تكثيف (٢).

__________________

(١) ذقت الشيء أذوقه ذوقا وذواقا ومذاقة. وذقت ما عند فلان أي خبرته. وذقت القوس ، إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها وأذاقه الله وبال أمره. قال طفيل :

فذوقوا كما ذقنا غداة محجر

من الغيظ في أكبادنا والتحوب

وتذوقته ، أي ذقته شيئا بعد شيء. وأمر مستذاق ، أي مجرب معلوم قال الشاعر :

وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عنه الجعائل مستذاق

والذواق : الملول.

(٢) في (ب) تكييف بدلا من (تكثيف)

٢٧٣

[قال (ومنها الشم) (١)

وهي قوة في زائدتي مقدم الدماغ تدرك بها الروائح ، بأن يصل إليهما الهواء المتكيف بها ، لا أجزاء تنفصل عن ذي الرائحة ، وإلا انتقص وزنه ، وحجمه بكثرة شمه. نعم ، قد يعين انفصال الأجزاء البخارية على تكيف الهواء بسرعة ، وكثرة اللمس على تحلل رطوبات المشمومات ، ولذا تهاج الروائح بالحر ، وتذبل التفاحة بالشم ، ولا بأن يؤثر المشمومات في الشامة من غير استحالة في الهواء ، وإلا لما أدرك الرائحة من حضر ، بعد زوال المشموم ، وأما أنه كيف يفعل ذو الرائحة في فراسخ ، والنار مع شدة تأثيرها لا تسخن إلا ما يقرب منها فمجرد استبعاد].

الجمهور على أن إدراك الروائح بوصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى آلة الشم. وقيل بتبخر وانفصال أجزاء من ذي الرائحة ، تخالط الأجزاء الهوائية ، فتصل إلى الشامة.

وقيل : بفعل ذي الرائحة في الشامة من غير استحالة ، في الهواء (٢) ولا تبخر وانفصال أجزاء. ورد الثاني. بأن القليل من المسك يشم على طول الأزمنة ، وكثرة الأمكنة ، من غير نقصان في وزنه وحجمه ، فلو كان الشم بالتبخر ، وانفصال الأجزاء لما أمكن ذلك. والثالث. بأن المسك قد يذهب به إلى مسافة بعيدة جدا ، أو يحرق ، ويفني بالكلية ، مع أن رائحته تدرك في الهواء الأول أزمنة متطاولة. تمسك الفريق الثاني. بأن الشم لو لم يكن بالتبخر ، وتحلل الأجزاء اللطيفة وانفصالها ، من ذي الرائحة ، لما كانت الحرارة ، وما يهيجها من الدلك والتبخر

__________________

(١) شممت الشيء أشمه شما وشميما والمشامة مفاعلة منه والتشام التفاعل ، والمشامة ، الدنو من العدو حتى يتراءى الفريقان ويقال : شامم فلانا أي انظر ما عنده ، وشاممت الرجل : إذا قاربته ودنوت منه ، وشمام : اسم جبل. قال جرير :

عاينت مشعلة الرعال كأنها

طير تغاول في شمام وكورا

والشمم : ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه ، فإن كان فيها احديداب فهو القنا. ورجل أشم الأنف. وجبل أشم ، طويل الرأس بين الشمم فيهما قال الخليل بن أحمد : تقول للوالي : أشممني يدك ، وهو أحسن من ناولني يدك

(٢) سقط من (أ) كلمة الهواء

٢٧٤

تذكى الروائح ، ولما كان البرد الشديد يخفيها ، ولما ذبلت التفاحة بكثرة التشمم. واللازم باطل بحكم المشاهدة.

والجواب : منع الملازمة لجواز أن يكون ذلك من جهة ، أن التبخر وتحلل الأجزاء يعين على تكيف الهواء ، بكيفية ذي الرائحة ، وكثرة اللمس والتشمم ، على ذبول التفاحة ، وتحلل رطوباتها ، وتمسك الآخرون بأن النار مع شدة إحالتها لما يجاورها لا تسخن إلا مسافة قريبة منها. فكيف يحيل الجسم ذو الرائحة الهواء على مسافة بعيدة ، ربما تبلغ مسيرة أيام على ما حكى أرسطو أنه وقع ملحمة ببلاد يونان ، التي لا رخم (١) فيها ، فسافرت الرخم إليها لروائح الجيف من مسيرة أيام.

والجواب : أنه استبعاد ولا دليل على الامتناع سلمنا. لكن وصول الهواء المتكيف إلى المسافات البعيدة على ما حكى يجوز أن يكون بهبوب رياح قوية.

[قال (ومن الفلاسفة) :

من يزعم أن للفلكيات شما ، وفيها روائح ، واشتراط وصول الهواء إلى الخيشوم ، إنما هو في عالم العناصر].

نقل عن أفلاطون وفيثاغورس وهرمس وغيرهم. أن الأفلاك والكواكب لها شم ، وفيها روائح. ورد عليهم المشّاءون. بأنه لا هواء هنالك يتكيف ، ولا بخار يتحلل.

إنما هو في العنصريات ، ومن كلمات بعض المتأخرين : أنا عند اتصالنا

__________________

(١) الرخمة : طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة يقال له الأنوق والجمع رخم وهو للجنس قال الأعشى.

يا رخما قاظ على مطلوب

والرخمة أيضا قريب من الرحمة يقال : وقعت عليه رخمته أي محبته ولين أبو زيد : رخمه رخمة ، ورحمه رحمة وهما سواء قال الشاعر :

عجبت لآل الحرقتين كأنما

راوني نفيا من إياد وترخم

والرخام : حجر أبيض رخو.

٢٧٥

بالفلكيات في نوم ، أو يقظة ، نشم منها روائح أطيب من المسك والعنبر ، بل لا نسبة لما عندنا الى ما هناك. ولهذا اتفق أرباب العلوم الروحانية ، على أن لكل كوكب بخورا مخصوصا ، لكل روحاني رائحة معروفة يستنشقونها ، ويتلذذون بها ، وبروائح الأطعمة المصنوعة لهم ، فيفيضون على من يرتب ذلك ما هو مستعد له.

[قال (ومنها السمع) :

وهي قوة في عصب باطن الصماخ (١) يدرك بها الأصوات].

قد سبق في بحث الصوت ما يغني عن شرح هذا الموضع ، والمراد بالهواء المتوسط ، هو المتموج الحامل للصوت ، سواء كان معلولا للقرع ، أو للقلع. ومعنى توسطه بين القارع والمقروع ، كونه بين الجزء الذي يفعل الصدم بعد الصدم ، وبين تجويف الصماخ ، وهذا ظاهر. وإنما الإشكال في عبارة الشفاء. وهو أن السامعة قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ يدرك صورة ما يتأدى إليه من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع ، مقاوم له انضغاطا بعنف ، يحدث منه صوت ، فيتأدى تموجه إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ، ويحركه بشكل حركته ، حيث اقتصر في سبب الصوت على القرع ، مع تصريحه بأنه قد يكون بالقلع (٢).

[قال (ولا يمتنع)

أن يقوم الصوت بكل جزء من أجزاء الهواء النافذة في المنافذ الضيقة ويكون السماع مشروطا بكون الوصول أولا لعدم الانفعال (٣) عن المماثل].

__________________

(١) الصماخ : خرق الاذن ، وبالسين لغة ، ويقال : هو الاذن نفسها. قال العجاج :

حتى إذا صرّ الصماخ الاصمعا

وأصمخت الرجل : أصبت صماخه ، الصملاخ والصملوخ : وسخ الاذن ، والصمالخ : اللبن الخاثر المتكبد.

(٢) في (ب) بالقرع بدلا من (القلع) وهو تحريف.

(٣) في (ب) الانشغال بدلا من (الانفعال).

٢٧٦

إشارة إلى دفع إشكالين :

أحدهما : أن الهواء المتموج يمتنع أن يبقى على هيئته ، من تقصيعات الحروف وتشكيلاتها (١) ، عند دخوله في المنافذ الضيقة ، ومصادماته للجدران الصلبة.

وثانيهما : أن الهواء الحامل للصوت ، إن قام الصوت بمجموعه ، لزم أن (٢) لا يسمعه إلا واحد من الحاضرين ، لأنه بمجموعه لا يصل إلا إلى صماخ واحد ، وإن قام بكل جزء منه لزم أن يسمعه كل سامع مرارا بعدد (٣) يتأدى إليه من أجزاء الهواء المتموج.

[قال (فما يحكى)

من سماع الأصوات الفلكية لا يستقيم على الأصول الفلسفية].

يعني إن كان حدوث الصوت وسماعه مشروطين بالهواء ، لم يكن التماس الأفلاك صوت ، ولو فرض لم يمكن (٤) وصوله إلينا لامتناع النفوذ (٥) في جرم الفلك ، لكن نسب إلى القدماء من الأساطين ، أنهم يثبتون للفلكيات ، أصوات عجيبة ، ونغمات غريبة ، يتحير من (٦) سماعها العقل ، وتتعجب منها النفس ، وحكى عن فيثاغورس (٧) ، أنه عرج (٨) بنفسه إلى العالم العلوي ، فسمع بصفاء جوهر نفسه ، وذكاء قلبه ، ونغمات الأفلاك ، وأصوات حركات الكواكب ، ثم رجع إلى استعمال القوى البدنية ، ورتب عليها الألحان والنغمات ، وكمل علم الموسيقى.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (وتشكيلاتها).

(٢) سقط من (ب) حرف (أن).

(٣) في (أ) بعد ما بدلا من (بعدد).

(٤) في (أ) لم يكن بدلا من (لم يمكن)

(٥) في (أ) الغوذ بدلا من (النفوذ)

(٦) في (ب) في بدلا من (من).

(٧) سبق الترجمة له في كلمة وافية.

(٨) في (ب) ارتفع بدلا من (عرج).

٢٧٧

[قال (ومنها البصر) (١)

وهي قوة في ملتقى العصبتين المفترقتين إلى العينين ، يرى بها الألوان والأضواء وغيرهما ، بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية ، فيكون المرئي هو الشيء المنطبع شبحه ، ولا يمتنع اختلافهما في المقدار ، أو بخروج الشعاع على هيئة مخروط مصمت ، أو مؤتلف من خطوط مجتمعة ، فيما يلي الرأس ، متفرقة في ما يلي القاعدة ، وقيل على استواء مع اضطراب طرفه على المرئي ، وقيل بتوسط الهواء المتكيف بشعاع البصر ، وقيل بمجرد المقابلة على شرائطها من غير انطباع ولا شعاع ، والحق أنه بمحض خلق الله تعالى].

وقد تقرر في علم التشريح ، أنه ينبت من الدماغ أزواج سبعة من العصب. فالزوج الأول ، مبدؤه من غور البطنين المقدمين من الدماغ ، عند جوار الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي ، وهو صغير مجوف يتيامن النابت منهما يسارا ، ويتياسر النابت منهما يمينا ، ثم يلتقيان على تقاطع صليبين ، ثم ينفذ النابت يمينا إلى الحدقة اليمنى ، والنابت يسارا إلى الحدقة اليسرى.

والدليل على كون القوى المدركة ، في المحال المذكورة ، هو أن الآفة فيها توجب الآفة في تلك القوى. واختلفوا في كيفية الإبصار. فقيل : إنه بانطباع شبح المرئي (٢) في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد ، فإنها مثل مرآة ، فإذا قابلها متلون مضيء ، انطبع مثل صورته فيها (٣) ، كما ينطبع صورة الإنسان في المرآة. لا بأن ينفصل من المتلون شيء ، ويمتد إلى العين. بل بأن يحدث مثل

__________________

(١) تسقط أشعة الضوء الصادرة عن الجسم المنظور على قرنية العين فتمر منها إلى العدسة البلورية التي تقوم بكسر أشعة الضوء لتقع على شبكة العين ، فتظهر الصورة فيها مقلوبة وتؤثر أشعة الشمس الساقطة على الشبكة على الخلايا الحسية وتسبب توليد إشارات حسية تنتقل خلال العصب البصري ، وعند وصول الإشارات العصبية إلى المخ تشعر برؤية الجسم بشكل معتدل وليس بشكل مقلوب ، إذ أن المخ يقوم على تبويب المعلومات بشكل صحيح.

(٢) في (ب) صورة بدلا من (شبح)

(٣) سقط من (ب) لفظ (فيها)

٢٧٨

صورته في المرآة ، وفي عين الناظر ، ويكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة (١) ، مع توسط الهواء المشف.

ولما اعترض على هذا بوجهين. أحدهما أن المرئي حينئذ يكون صورة الشيء وشبحه لا نفسه ، ونحن قاطعون بأنا نرى نفس هذا الملون.

وثانيهما : أن شبح الشيء مساو له في المقدار ، وإلا لم يكن صورة له ومثالا. وحينئذ يلزم أن لا نرى ما هو أعظم من الجليدية ، لأن امتناع انطباع العظيم في الصغير معلوم بالضرورة. أشار إلى الجواب ، بأنه إذا كان رؤية الشيء بانطباع شبحه ، كان المرئي هو الذي انطبع شبحه ، لا نفس الشبح ، كما مرّ في العلم ، وبأن شبح الشيء ، لا يلزم أن يساويه في المقدار ، كما يشاهد من صورة الوجه في المرآة الصغيرة. إذ المراد به ما يناسب الشيء في الشكل واللون دون المقدار ، غاية الأمر أنا لا نعرف لمية إبصار الشيء العظيم (٢) ، وإدراك البعد بينه وبين المرئي ، بمجرد انطباع صورة صغيرة (٣) منه في الجليدية وتأديها (٤) بواسطة الزوج (٥) المصبوب في العصبتين إلى الباصرة.

وقيل : إن الإبصار بخروج شعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند العين ، وقاعدته عند المرئي. ثم اختلفوا في أن ذلك المخروط مصمت ، أو مؤتلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس ، متفرقة في الجانب الذي يلي القاعدة ، وقيل : لا على هيئة المخروط. بل على استواء ، لكن (٦) يثبت طرفه الذي على العين ، ويضطرب طرفه الاخر على المرئي. وقيل : الشعاع الذي في العين (٧) يكيف الهواء ، بكيفيته ، ويصير الكل آلة في الإبصار.

__________________

(١) سقط من (أ) كلمة المخصوصة

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (العظيم)

(٣) سقط من (ب) لفظ (صغيرة)

(٤) في (أ) ومادتها بدلا من (وتأديها)

(٥) في (أ) الروح بدلا من (الزوج)

(٦) سقط من (ب) لفظ (لكن)

(٧) في (ب) بزيادة (الذي)

٢٧٩

وقيل : لا شعاع ، ولا انطباع. وإنما الإبصار بمقابلة المستنير للعضو الباصر ، الذي فيه رطوبة صقيلة. فإذا وجدت هذه الشروط ، مع زوال الموانع ، يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر ، فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية. والحق :

أن الإبصار بمحض خلق الله تعالى عند فتح العين.

[قال (والمشهور من آراء الفلاسفة الانطباع والشعاع) :

والعمدة في إثبات الأول. أن نور العين مرئي ، وانطاع الشبح من الشيء في المقابل الصقيل المستنير ضروري. لكنه لا يفيد كون الرؤية بذلك ، وقد يستدل بالقياس على سائر الحواس ، حيث يأتيها المحسوس ، وبأن صورة الشمس قد تبقى زمانا ، في عين من أطال النظر إليها ، ثم أعرض ، وبأن الغريب مرئي أكثر ، وما ذلك إلا لكون الانطباع على مخروط من الهواء قاعدته سطح المرئي ، فعند القرب ، يكون وتر الزاوية أعظم ، وهو ضعيف (١).

تمسك أصحاب الشعاع ، بأنه يتفاوت الرؤية بقلة الشعاع وكثرته وغلظه ورقته ، ووقوع المرئي (٢) في سهم المخروط وجوانبه ، وقد يشاهد في الظلمة ، انفصال النور من العين ، وعند تغميض العين على السراج خطوط شعاعية.

والجواب : أن مرجع ذلك إلى نور العين المسمى بالروح الباصرة ، المعد لحصول مثله في المقابل المرتسم بينه وبين المرئي مخروط وهمي. وكان مبدأ (٣) هذا هو المراد بخروج الشعاع ، أو الجسم الشعاعي للقطع بأنه يمتنع أن يخرج من العين ما ينبسط على نصف كرة العالم ، وأن يتحرك إلى الجهات ، وينفذ في السموات ، ولا يتشوش (٤) بهبوب الرياح إلى غير ذلك من الأمارات].

أي القول بانطباع شبح المرئي في الرطوبة الجليدية ، والقول بخروج الشعاع من العين على هيئة المخروط.

__________________

(١) سقط من (ب) جملة (وهو ضعيف)

(٢) في (ب) ووقوعه في سهم المخروط وسقوط لفظ (المرئي)

(٣) سقط من (أ) لفظ (مبدأ)

(٤) في (ب) ولا يتأثر بدلا من (يتشوش)

٢٨٠