شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

١

٢

٣
٤

المقصد الرابع في الجواهر

قال (المقصد الرابع في الجوهر)

[وفيه مقدمة ومقالتان. أما المقدمة فهي أن الجوهر عندنا إن كان منقسما فجسم ، وإلا فجوهر فرد ، وعند جمهور الفلاسفة إن كان حالا في جوهر فصورة ، أو محلا له فهيولى (١) ، أو مركبا منهما فجسم ، وإلا فإن تعلق بجسم تدبيرا وتصرفا فنفس ، وإلا فعقل. أو يقال إن كان مفارقا في ذاته وفعله فعقل ، أو في ذاته فقط فنفس ، وإن كان مقارنا فإما حال أو محل أو مركب. أو يقال إن كان له أبعاد ثلاثة فجسم ، وإلا فإما جزء له (٢) هو به بالفعل أو لا ، وإما خارج متعلق به أو لا ، ومبني التقسيم على ما تقرر عندهم من نفي الجوهر الفرد ، واثبات جوهر حال به الجسم بالفعل ، إلى غير ذلك من القواعد ، إلا أن الوجه الأخير أولى (٣) لاشتماله على ما يوجب تباين الجسم والهيولي ، فلا يدخل فيها الجسم الذي هو محل الصورة

__________________

(١) لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة ، وفي الاصطلاح هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية (راجع تعريفات الجرجاني) وقال ابن سينا : الهيولى المطلقة فهي جوهر ، ووجوده بالفعل إنما يحصل لقبول الصورة الجسمية لقوة فيه قابلة للصور ، وليس له في ذاته صورة تخصه إلا معنى القوة. ومعنى قولى لها هي جوهر. والهيولى عند القدماء على أربعة أقسام : الهيولى الأولى : وهي جوهر غير جسم ، قابل لما يعرص لذلك الجسم من الاتصال والانفصال. الهيولى الثانية : وهي جسم قام به صورة كالأجسام ، الهيولى الثالثة : وهي الأجسام مع الصورة النوعية التي صارت محلا لصور أخرى كالخشب لصورة السرير. الهيولى الرابعة : وهي أن يكون الجسم مع الصورتين محلا للصورة كالأعضاء لصورة البدن.

وجملة القول : أن الهيولى الأول جزء الجسم ، والثانية نفس الجسم أما الثالثة والرابعة فالجسم جزء لهما.

(٢) سقط من (أ) لفظ (له)

(٣) في (ب) أو في بدلا من (أولى)

٥

النوعية. وعند الأقدمين الجوهر إن كان متميزا فجرماني وهو الجسم لا غير وإلا فروحاني وهو النفس والعقل].

قد سبق تعريف الجوهر على رأي المتكلمين والحكماء ، وهذا المقصد مرتب على مقدمة لتقسيمه ، وما يتعلق بذلك ، ومقالتين بمباحث الأجسام ، ومباحث المجردات ، أما تقسيمه على رأي المتكلمين ، هو أن الجوهر لما كان عبارة عن المتحيز بالذات. فإما أن يقبل الانقسام وهو الجسم أو لا وهو الجوهر الفرد ، وعلى رأي المشائين (١) من الحكماء هو أنه إما عقل (٢) أو نفس أو جسم أو هيولى ، أو صورة ، ولهم في بيان ذلك طرق مبناها على ما يرون من نفس الجوهر الفرد ، وتجرد العقل والنفس ، وتحقق جوهرين حال ومحل هما حقيقة الجسم ونحو ذلك من قواعدهم ، وإلا فعليها إشكالات لا يخفي. الطريق الأول. أن الجوهر إن كان حالا في جوهر آخر فهي الصورة وإلا فإن كان محلا له فهي الهيولي وإلا فإن كان مركبا من الحال والمحل فهو الجسم ، وإلا فإن تعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف فالنفس ، وإلا فالعقل. الطريق الثاني : إن الجوهر إن كان مفارقا في ذاته بأن يكون مستغنيا عن مقارنة جوهر آخر. فإما أن يكون مفارقا في فعله أيضا وهو العقل أو لا وهو النفس وإن لم يكن مفارقا في ذاته ، بل مقارنا لجوهر آخر ، فإما أن

__________________

(١) المشاءون : أتباع ارسطو وتلاميذه أطلق عليهم الاسم لانهم كانوا يمشون في ممرات ملعب اللوقيون الذي اتخذه ارسطو مدرسة أشهرهم ثاوفرسطوس واستراتون.

(٢) العقل في اللغة : هو الحجى والنهى وقد سمى بذلك تشبيها بعقل الناقة لأنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل كما يمنع العقال الناقة من الشرود.

والجمهور يطلق العقل على ثلاثة أوجه (راجع معيار العلم للغزالي ص ١٦٢) الأول يرجع إلى وقار الانسان وهيئته ، ويكون حده أنه هيئة محمودة للانسان في كلامه واختياره وحركاته وسكناته. والثاني يراد به ما يكتسبه الانسان بالتجارب من الأحكام الكلية فيكون حده انه معان مجتمعة في الذهن تكون مقدمات تستنبط بها الأغراض والمصالح. والثالث : يراد به صحة الفطرة الأولى في الانسان فيكون حده أنه قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ..

والفلاسفة يطلقون العقل على عدة معان : منها أن العقل : جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها (الكندي رسالة في حدود الأشياء ورسومها). وهذا الجوهر : ليس مركبا من قوة قابلة للفساد. «ابن سينا الاشارات ص ١٧٨».

٦

يكون حالا فيه ، أو محلا له (١) أو مركبا منهما ، لأن ما لا يكون كذلك كان مفارقا لا مقارنا.

الطريق الثالث : إن الجوهر إن كان قابلا للأبعاد الثلاثة فجسم ، وإلا فإن كان جزءا منه هو به بالفعل فصورة ، أو بالقوة فمادة ، وإن لم يكن جزءا منه فإن كان متصرفا فيه (٢) فنفس ، وإلا فعقل ، وهذا ما قال في الشفاء. إن الجوهر إن كان مركبا فجسم ، وإن كان بسيطا ، فإن كان داخلا في تقويم المركب. فإما دخول الخشب في وجود الكرسي (٣) فمادة ، أو دخول شكل الكرسي فيه فصورة ، وإن لم يكن داخلا فيه ، بل مفارقا فإن كان له علاقة ما في الأجسام بالتحريك فنفس وإلا فعقل.

فإن قيل : الجسم يكون مع الهيولي أيضا بالفعل البتة لامتناع انفكاكها عن الصورة كما سيجيء ..

قلنا : المراد أن وجود المركب بالنظر إلى المادة نفسها من حيث أنها مادة لا يكون إلا بالقوة ، وبالنظر إلى الصورة بالفعل على ما قال في الشفاء. إن المادة هي ما لا يكون باعتباره وحدة للمركب وجود بالعقل (٤) بل بالقوة ، والصورة إنما يصير المركب هو هو بالفعل بحصولها ، حتى لو جاز وجود الصورة بدون المادة لكان مستلزما لحصول المركب بالفعل البتة.

فإن قيل : الداخل في قوام (النفس) الجسم والحال في المادة التي هي أحد الأقسام الخمسة. أعني الهيولي الأولى البسيطة إنما هي الصورة الجسمية ، وأما النوعية فمحلها الجسم نفسه ، وإن كان يسمى من حيث توارد الصور عليه هيولى ومادة. قلنا : الصورة (٥) النوعية ، وإن لم تكن داخلة في قوام الجسم المطلق فهي

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (له)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (فيه)

(٣) في (ب) السرير بدلا من «الكرسي»

(٤) في (ب) بالعقل بدلا من (بالفعل)

(٥) الصورة في اللغة : الشكل والصفة والنوع ، ولها في عرف العلماء عدة معان :

أ ـ الصورة هي الشكل الهندسي المؤلف من الأبعاد التي تتحد بها نهايات الجسم كصورة ـ

٧

داخلة في أنواعه من الفلكيات والعنصريات ، وسيجيء أن محلها أيضا هو الهيولي. وعند الأقدمين من الحكماء. الجوهر إن كان متحيزا فجرماني وهو الجسم لا غير إذ لا يثبت وجود جوهر حال هو الصورة ، وآخر محل هو الهيولي ، وإنما الهيولي اسم للجسم من حيث قبوله الأعراض المحصلة للأجسام المتنوعة ، والصورة اسم لتلك الأعراض ، وإن لم يكن متحيزا فروحاني وهو النفس والعقل.

قال (تنبيه)

[المحل أعم من الموضوع ، والحال من العرض ، والموضوع مباين للعرض ، والمحل أعم منه من وجه ، واستناد العرض (١) إلى الموضوع قد يكون بوسط ، فيكون الوسط محلا لا موضوعا].

قد سبق أن الموضوع هو المحل المقوم للحال ، فيكون المحل أعم منه ، وأن الحال قد يكون جوهرا كالصورة ، وقد يكون عرضا فيكون أعم من العرض ، وأن العرض لا يقوم بنفسه ، فلا يقوم بغيره ، وإن جاز كونه محلا للعرض (٢) بمعنى الاختصاص الناعت (٣) فيكون بين العرض والموضوع مباينة كلية ، وأما بين العرض والمحل فعموم من وجه لتصادقهما في عرض يقوم به عرض ، وتفارقهما حيث يكون المحل جوهرا ، أو يكون العرض مما لا يقوم به شيء. فإن قيل :

__________________

ـ الشمع المفرغ في القالب : فهي شكله الهندسي. والصورة هي الصفة التي يكون عليها الشيء كما في قولنا : إن الله خلق آدم على صورته. والصورة هي النوع يقال : هذا الأمر على ثلاث صور أي على ثلاثة أنواع يقال صورة الإنتاج أي أنواع الإنتاج ، وقد تطلق الصورة على ما به يحصل الشيء بالفعل كالهيئة الحاصلة للسرير بسبب اجتماع خشباته. وهي بهذا المعنى علة. أي علة صورية. يقابلها العلة المادية ، والعلة الفاعلية ، والعلة الغائية.

(١) العرض : ضد الماهية ، وهو ما لا يدخل في تقويم طبيعة الشيء أو تقويم ذاته كالقيام والقعود للانسان فهما لا يدخلان في تقويم ماهيته.

والعرض ضد الجوهر ، لأن الجوهر هو ما يقوم بذاته ، ولا يفتقر إلى غيره ليقوم به ، على حين أن العرض هو الذي يفتقر الى غيره ليقوم به ، فالجسم جوهر يقوم بذاته اما اللون فهو عرض ، لأنه لا قيام له إلا بالجسم ، وكل ما يعرض في الجوهر من لون وطعم وذوق ، ولمس ، وغيره ، فهو عرض لاستحالة قيامه بذاته.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (للعرض)

(٣) في (ب) الباعث بدلا من الناعت

٨

استناد العرض إلى محل يقومه (١) ضروري وهو معنى الموضوع ، فالعرض الذي يقوم عرضا يكون موضوعا ، فلا يكون بينه وبين الموضوع مباينة.

قلنا : استناده إلى الموضوع يجوز أن يكون بواسطة هي العرض ، والمحل الأولى الذي يتصف بها كاستناد السرعة (٢) إلى الجسم بواسطة الحركة ، فلا يلزم من لزوم استناده إلى الموضوع أن يكون محله الأولى موضوعا.

قال (وقد توهم)

افتقار كليا الجواهر إلى الموضوع ، لكونها محمولات ذاتية للشخص ، وصورا قائمة بالنفس. وردّ بأن معنى الموضوع هاهنا غير موضوع القضية ، ومعنى جوهرية الصور أنها إذا وجدت في الأعيان كانت لا في الموضوع ، وأما من حيث حلولها في النفس الجزئية ، فهي أشخاص أعراض لا كليات جواهر.

لما كان معنى الموضوع هو المحل المقوم للحال ، ومعنى الجوهر هو ما يقوم بنفسه لا بغيره كان استغناؤه عن الموضوع ظاهرا إلا أنه قد توهم اختصاص ذلك بجزئيات الجواهر دون كلياتها لوجهين :

أحدهما : أنها مفتقرة في الوجود إلى أشخاصها التي هي موضوعات لها لكونها محمولة عليها بالطبع.

وثانيهما : أنها صورة قائمة بالنفس لا قوام لها من حيث هي كليات بدونها.

__________________

(١) في (ب) يقوم به بدلا من (يقومه)

(٢) هناك سرعة الإفلات : وهي التي تكتسبها مركبة الفضاء لتتمكن من التغلب على قبضة جذب الأرض لتسبح في الفضاء ، ولكل جرم سماوى سرعة افلات خاصة تتوقف على كتلته وحجمه ، والبعد عن المركز ، فهي على سطح الأرض تعادل ٩٢ ، ٦ ميلا في الثانية وعلى سطح القمر تعادل ٤٩ ، ١ ميلا في الثانية.

سرعة فوق صوتية : السرعة التي تتحرك بها الموايع أو الأجسام عند ما تفوق سرعة الصوت في الهواء المساوية تقريبا ١٢٢٥ كم في الساعة عند ما تطير طائرة بسرعة فوق صوتية فإنها تسبب تزاحم جزئيات الهواء فجأة فتتجمع مكونة ما يسمى «بالحاجز الصوتي» وتستطيع الطائرات ذات المحركات القوية اختراق هذا الحاجز.

راجع موسوعة الثقافة الاسلامية ص ٥٤١ ، ٥٤٢

٩

وردّ الأول بأنه غلط من جهة اشتراك لفظ الموضوع بين المحكوم عليه في القضية وبين المحل المقوم للحال ، والشخص إنما يكون موضوعا للكلي بالمعنى الأول دون الثاني. ورد الثاني بأن معنى كون الصور جواهر أنها في ذاتها طبائع إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، وأما من حيث حلولها في النفس الجزئية ، وقيامها فهي من قبيل الأعراض الجزئية لا الجواهر الكلية.

قال (وأما المقالة الأولى)

[ففيما يتعلق بالأجسام وفيه فصلان :

الفصل الأول : فيما يتعلق بها على الإجمال وفيه مباحث :

البحث الأول : الجسم عندنا القابل للانقسام فيتناول المؤلف من الجزءين فصاعدا ، لا كل واحد منهما ، على ما زعم القاضي تمسكا بأنه الذي قام به التأليف ، فيكون مؤلفا ، وكل مؤلف جسم ، للفرق الظاهر بين المؤلف من (١) الشيء ومع الشيء].

لا خفاء ولا نزاع في أن لفظ الجسم في لغة العرب ، وكذا ما يرادفه في سائر اللغات موضوع بإزاء معنى واحد واضح عند العقل من حيث الامتياز عما عداه ، لكن لخفاء حقيقته ، وتكثر لوازمه كثر النزاع في تحقيق ماهيته ، واختلفت العبارات في تعريفه ، وأدى ذلك إلى اختلاف في بعض الأشياء إنه هل يكون جسما أم لا؟ فعند المحققين من المتكلمين هو الجوهر القابل للانقسام من غير تقييد بالأقطار الثلاثة. فلو فرضنا مؤلفا من جوهرين فردين كان الجسم هو المجموع لا كل واحد منهما كما زعم القاضي تمسكا بأنه جوهر مؤلف ، وكل جوهر مؤلف جسم وفاقا ، ومبني الصغرى على امتناع قيام التأليف بالجزءين لامتناع قيام العرض الواحد بمحلين ، بل لكل جزء تأليف قائم به وهو معنى المؤلف.

والجواب : أن التأليف معنى بين الشيئين يعتبر استناده إلى المجموع من حيث

__________________

(١) في (ب) عن بدلا من (من)

١٠

هو المجموع فيكون مؤلفا من الشيء وإلى كل واحد فيكون مؤلفا مع الشيء كما يقال في النحو الكلام هو المركب الذي فيه الإسناد ، والمعرب المركب الذي لم (١) يشبه مبني الأصل ، فالجسم هو المؤلف بالمعنى الأول والجزء بالمعنى الثاني فلا تكرر للوسط.

فإن قيل : المراد بالتأليف عرض خاص مغاير لمعناه اللغوي المشعر بالانضمام المقتضى للتعدد وهو السبب عند المعتزلة لصعوبة الانفكاك.

فالجواب : حينئذ منع الكبرى وجعل الآمدي (٢) النزاع لفظيا عائدا إلى أن لفظ الجسم بإزاء أي معنى وضع ، وصاحب المواقف معنويا عائدا إلى أنه هل يوجد عند اجتماع الأجزاء وحصول الجسم عرض خاص هو التأليف والاتصال ، والسبب لصعوبة الانفكاك على ما يراه المعتزلة أم لا بل الجسم هو نفس الأجزاء المتجمعة ، فالقاضي يحكم بوجوده ، لكن يزعم أنه ليس قائما بالجزءين كما هو (٣) رأى المعتزلة ، بل لكل جزء تأليف يقوم به فيكون جسما لما سيجيء من أن الجزء بمنزلة المادة ، والتأليف بمنزلة الصورة ، وفيه نظر لأن جمهور الأصحاب أيضا قائلون به وبعدم قيامه بجزءين ، وإن جعل النزاع بينه وبين المعتزلة بمعنى أنهم قائلون بالتأليف دونه ففساده أكثر لأن القاضي يقول بالتأليف وهم لا (٤) يقولون بجسمية الجوهرين.

__________________

(١) في (ب) لا بدلا من (لم)

(٢) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي ، أبو الحسن ، سيف الدين الآمدي ، أصولي باحث أصله من آمد (ديار بكر) ولد بها وتعلم في بغداد والشام وانتقل الى القاهرة فدرس فيها واشتهر ، وحسده بعض الفقهاء فتعصبوا عليه ، ونسبوه الى فساد العقيدة والتعطيل ومذهب الفلاسفة ، فخرج مستخفيا الى حماه ومنها الى دمشق فتوفي بها له نحو عشرين مصنفا منها الإحكام في أصول الأحكام أربعة أجزاء وأبكار الأفكار في علم الكلام وغير ذلك مولده عام ٥٥١ ه‍ ووفاته عام ٦٣١.

راجع ابن خلكان ١ : ٣٣٩ والسبكي ٥ : ١٢٩

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (هو).

(٤) في (ب) وهو بدلا من (وهم) وهو تحريف.

١١

قال (وعند المعتزلة)

[هو الطويل العريض العميق ، وهذا التعريف بالخاصة اللازمة الشاملة ، بناء على أن المراد قبول تلك الأبعاد على الإطلاق ، فلا يضر انتفاؤها بالفعل كما في الكرة ، ولا تبدلها مع بقاء الجسمية كما في الشمعة ، على أن ذلك عندهم عائد إلى ترتيب الأجزاء من غير إثبات المقادير زائدة على الجسمية ، وهذا جعلوه خالية (١) بدون افتقار إلى ذكر الجوهر ، وأما قيد العرض والعمق ، فاحتراز عن المركب ، الذي هو واسطة بين الجسم والجوهر الفرد ، وذلك بأن يكون تركب أجزائه على سمت أو سمتين فقط ، أو يكون عددها أقل من أدنى ما يتركب منه الجسم أعني ثمانية أو ستة أو أربعة على اختلافهم في ذلك].

المشهور بينهم في تعريف الجسم أنه الطويل العريض العميق ، ولا نزاع لهم في أن هذا ليس بحد بل رسم بالخاصة ، ومبني كونها خاصة ، على أنهم لا يثبتون الجسم التعليمي الذي هو كم له الأبعاد الثلاثة لتكون هذه عرضا عاما يشمله ، فيفتقر إلى ذكر الجوهر احترازا عنه ، ويكون المجموع خاصة مركبة للجسم الطبيعي كالطائر الولود للخفاش ، ولا يضره كون الجوهر جنسا لأن المركب من الداخل والخارج خارج على أنه يحتمل أن يراد بالطويل مثلا ما يكون الطول أي الامتداد المفروض أولا عارضا له فلا يشمل الجسم التعليمي لأن هذه الأبعاد أجزاؤه.

واعترض بأن الخاصة إنما تصلح للتعريف إذا كانت شاملة لازمة. وهذه ليست كذلك أما الشمول فلأنه لا خط بالفعل في الكرة ولا سطح فيما يعرض من الجسم الغير المتناهي فإنه جسم وإن امتنع بدليل من خارج بخلاف ما إذا فرض أربعة ليست بزوج. فإن الزوجية من لوازم الماهية ، وأما اللزوم فلأن الشمعة المعينة قد يجعل طولها تارة شبرا وعرضها أصابع ، وتارة ذراعا وعرضها إصبعا ، فيزول ما فيها من الأبعاد مع بقاء الجسمية.

وأجيب : بعد تسليم أن انتفاء الخط والسطح لفعل يستلزم عدم اتصاف الجسم

__________________

(١) في (ب) خاصة بدلا من (خالية)

١٢

بالطول والعرض والعمق. بأن المراد قبول تلك الأبعاد وإمكانها ، وهذه خاصة شاملة لازمة على أن ما ذكر من زوال مقدار وحدوث آخر مما لا يثبت له عند المتكلمين ، بل الجواهر الفردة هي التي تنتقل من طول إلى عرض.

ولو سلّم فالمراد مطلق الأبعاد وهي لازمة ، وإنما الزوال للخصوصيات.

فإن قيل : على تقدير نفي المقادير ، فالطويل خاصة للجسم ، وعلى تقدير إثباتها فالجوهر الطويل ، فأي حاجة إلى ذكر العرض والعموم.

قلنا : إنما يصح ذلك لو كان منقسم جسما حتى المؤلف من جزءين ، وهم لا يقولون بذلك بل عند النظام أجزاء كل جسم غير متناهية ، وعند الجبائي (١) أقلها ثمانية ، بأن يوضع أربعة بحيث يحصل مربع ثم فوقها أربعة كذلك ، وعند أبي الهزيل (٢) ستة ، بأن يوضع ثلاثة ثم فوقها ثلاثة ، وقيل أربعة بأن يوضع جزءان ، وبجنب أحدهما في سمت آخر فرد واحد(٣) ، وفوق أحد الثلاثة جزء آخر ، وإنما لم يفرض بالثلاثة على وضع المثلث والثالث على (٤) ملتقاهما بحيث يحصل مكعب ، لأن جواز ذلك عندهم في حيز المنع لاستلزامه الانقسام على ما سيجيء : وبالجملة فالجوهر المركب الذي يكون عدد أجزائه أقل من أدنى ما يصح تركب

__________________

(١) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي : من أئمة المعتزلة ، ورئيس علماء الكلام في عصره ، وإليه نسبة الطائفة الجبائية. له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب نسبته الى جبى (من قرى البصرة) اشتهر في البصرة ومات عام ٣٠٣ ه‍ ودفن بجبى له تفسير حافل مطول رد عليه الأشعري.

(٢) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف من أئمة المعتزلة ، ولد في البصرة عام ١٣٥ واشتهر بعلم الكلام. قال المأمون : أطل ابو الهزيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات كان حسن الجدل قوى الحجة سريع الخاطر ، كف بصره آخر عمره ، وتوفي بسامرا له كتب كثيرة منها كتاب سماه «ميلاس» على اسم مجوسي أسلم على يده وللأستاذ علي مصطفى الغرابي «أبو الهذيل العلاف» توفي عام ٢٣٥ ه‍.

راجع وفيات الأعيان ١ : ٤٨٠ ولسان الميزان ٥ : ٤١٣ ومروج الذهب ٢ : ٢٩٨

(٣) في (ب) جزء آخر بدلا من (فرد واحد)

(٤) في (ب) الرابع بدلا من الثالث وهو تحريف

١٣

الجسم منه أو يكون تركب أجزائه على سمت واحد فقط المسمى عندهم بالخط وفي سمتين فقط وهو المسمى عندهم (١) بالسطح يكون واسطة بين الجسم والجوهر الفرد ويجب الاحتراز عنه بقيد العرض والعمق.

قال (وعند الفلاسفة)

[هو الجوهر الذي يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة وقد يقيد بالتقاطع على زوايا قوائم وهو للتحقيق ، ودفع الوهم دون الاحتراز.

والمراد بالأبعاد هاهنا الخطوط المتوهمة في داخل الجسم لا امتدادات حاصلة بالفعل لازمة كما في الفلكيات (٢) ، أو غير لازمة بخصوصياتها كما في العنصريات ، ولا النهايات المنفية من الجسم الغير المتناهي.

والمراد قبول أعيانها لا صورها العقلية أو الوهمية ، فلا يرد النفس ولا الوهم على أن الجوهر لا يشمله ، ثم لا خفاء في أن المتصف بها هو الجسم لا الهيولي].

التعريف السابق هو الذي ذكره قدماء الفلاسفة. وحين ورد على ظاهره أنه لا بد من ذكر الجوهر احترازا عن الجسم التعليمي ، وأنه لا عبرة بوجود الأبعاد بالفعل ، صرح أرسطو (٣) وشيعته بالمقصود ، فقالوا : هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة ، أي

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ عندهم.

(٢) الفلك : علم دراسة الأجرام السماوية ، بدأ برصد مواقعها لتعيين الفترات الزمنية ثم محاولات متعددة لتفسير حركاتها. وفي القرن ١٦ أكد كوبرنيكوس أن الشمس لا الأرض هي مركز الكون ، وفسرت دراسات نيوتن وجاليليو القوة التي تربط الكواكب والأقمار في مساراتها ، وينقسم علم الفلك الى أقسام منها : الفلك الكروي ، ويتناول المواقع والحركات الظاهرية الدورية ، وانكسار الضوء وتقهقر الاعتدالين واهتزاز محور الأرض ، وزيغ الضوء واختلاف المنظر ، والقسم الثاني : الميكانيكا السماوية ، والقسم الثالث : الفلك الديناميكي ، والقسم الرابع : الفلك الطبيعي ، والخامس : الفلك اللاسلكي ، والسادس : الفلك النظري.

راجع الموسوعة الثقافية بتصرف ص ٧٢٤

(٣) ارسطو : (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م) فيلسوف يوناني تتلمذ على افلاطون وعلم الاسكندر الاكبر وأسس «اللوقيون» حيث كان يحاضر ماشيا فسمى هو وأتباعه بالمشائين ألف (الأورغانون) في ـ

١٤

الذي يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة ، وزاد بعضهم قيد التقاطع على زوايا قائمة. ومعنى ذلك أنه إذا قام خط على آخر فإن كان قائما عليه أي غير مائل إلى أحد جانبيه. فالزاويتان الحادثتان تكونان متساويتين ، وتسميان قائمتين ، وإن كان مائلا فلا محالة تكون إحدى الزاويتين أصغر وتسمى حادة ، والأخرى أعظم وتسمى منفرجة. فإذا فرضنا في الجسم بعدا كيف اتفق ، ثم آخر يقاطعه في أي جهة شئنا بحيث تحصل أربع قوائم ثم ثالثا يقاطعهما بحيث تحصل منه بالنسبة إلى كل من الأولين أربع قوائم. وهذا الثالث متعين لا يتصور فيه التعدد ، فهذا معنى تقاطع الأبعاد على زوايا قائمة ، وهذا القيد لتحقيق أن المعتبر في الجسم قبول الأبعاد على هذا الوجه ، وإن كان هو قابلا لأبعاد كثيرة لا على هذا الوجه ، فما ذكر في المواقف أن الجوهر القابل للأبعاد لا يكون إلا كذلك. والذي يقبل أبعادا لا على هذا الوجه إنما هو السطح ينبغي أن يكون إشارة إلى صحة التقاطع على زوايا قائمة لا إلى التقاطع ، ولدفع وهم من يتوهم التعريف بالجوهر القابل للأبعاد شاملا للسطح بناء على تركيبه من الجواهر الفردة ، وكان هذا مراد من قال إنه احتراز من السطح أي على توهم كونه جوهرا ، ولا يرد الجسم التعليمي لأنهم لا يتوهمونه ، بل يجعلون الحاصل من تراكم السطوح هو الجسم الطبيعي لا غير. وقد يقال إن معنى الاحتراز عن السطح أن لا يبقى القابل للأبعاد شاملا له فيصير خاصة للجسم صالحا في معرض الفصل لصيرورته أخفى من الجوهر مطلقا لا من وجه. وهذا إنما يتم لو لم يبق مع هذا القيد شاملا للجسم التعليمي ، وإنما اعتبر الفرض لأن جسمية الجسم ليست باعتبار ما لها من الأبعاد بالفعل لأنها مع بقاء الجسمية بحالها قد تتبدل كما في الشمعة ، وقد تزيد وقد تنقص بالتخلخل والتكاثف ، ولأنه قد ينفك الجسم في ماهيته عن السطح ، والخط كما في تصور جسم غير متناه بل وعن الخط في الوجود أيضا كما في الكرة المصمتة ، والأسطوانة ، وذكر الإمكان لأن فعل

__________________

ـ المنطق. ولارسطو في العلم الطبيعي مؤلفات منها «السماع الطبيعي» و «السماء» و «والكون والفساد» و «النفس» وغير ذلك.

راجع الموسوعة الثقافية ص ٦٣

١٥

الفرض أيضا ليس بلازم ، بل مجرد إمكانه كاف ، فمن المجردات يستحيل فرض الأبعاد بمعنى أن اتصافها بها من المحالات (١) التي لا يمكن فرضها. والظاهر أنه يكفي ذكر الإمكان أو القابلية ، ولا حاجة إلى اعتبار الفرض. وذكروا أن المراد بهذا الإمكان هو الإمكان العام ليشمل ما تكون الأبعاد فيه حاصلة بالفعل لازمة كما في الأفلاك أو غير لازمة كما في العنصريات ، وما يكون بالقوة المحضة كما في الكرة المصمتة فكلامهم يمثل تارة إلى أن المراد بالأبعاد تلك الامتدادات الآخذة في الجهات على ما هو حقيقة الجسم التعليمي. أعني الكمية القائمة بالجسم السارية فيه المحصورة بين السطوح حتى أن بين السطوح الستة للجسم المربع جوهرا هو الجسم الطبيعي ، وعرضا ساريا فيه هو الجسم التعليمي له أبعاد ثلاثة هي أجزاؤه لا بمعنى الخطوط إذ لو كانت فيه بالفعل لكانت في كل جسم بالفعل (وهذا غير الامتداد الذي هو الصورة الجسمية الحاصلة في كل جسم بالفعل) (٢) بحيث لا يلحقه التبدل والتغير أصلا ، وتارة إلى أنها الخطوط التي لا توجد في الكرة الساكنة إلا بالقوة المحضة بخلاف المتحرك كالفلك. فإن المحور عندهم (٣) خط بالفعل ، وتارة إلى أنها السطوح والخطوط التي هي النهايات حيث نفوها عن الجسم الغير المتناهي ، ولا خفاء في أنها ليست هي التي تتقاطع على زوايا قائمة ، وإلا ظهر أن المراد بها الخطوط المتوهمة المتقاطعة التي هي الطول والعرض والعمق ، وهي ليست بالفعل لا في الطبيعي ولا في التعليمي والانفصال الذي هو أيضا بالقوة ليس مقابلا له ليلزم كون الجسم ليس بمتصل بالفعل ، ولا منفصل بالفعل ، بل للاتصال الذي هو حاصل بالفعل. وفرق ابن سينا (٤) بين البعد والمقدار بأن البعد هو الذي

__________________

(١) في (ب) المحاكات بدلا من (المحالات) وهو تحريف.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) سقط من (ب) كلمة (عندهم).

(٤) هو الحسين بن علي بن سينا أبو علي شرف الملك الفيلسوف الرئيس ، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والرياضيات والالهيات أصله من بلخ وولد في احدى قرى بخاري عام ٣٧٠ ه‍ نشأ وتعلم في بخاري ، وطاف البلاد وناظر العلماء واتسعت شهرته وتقلد الوزارة في همذان وثار عليه عسكرها ونهبوا بيته فتوارى ثم صار الى اصفهان وصنف بها أكثر كتبه وعاد في أواخر أيامه الى همذان فمرض بالطريق ومات بها عام ٤٢٨ ه‍ قال ابن الجوزية (ان ابن ـ

١٦

يكون بين نهايتين غير متلاقيتين. ومن شأنه أن يتوهم فيه نهايات من نوع تينك النهايتين ، فقد يكون بعد خطي من غير خط وسطحي من غير سطح كما في الجسم الذي لا انفصال في داخله بالفعل فإنك إذا فرضت فيه نقطتين فبينهما بعد خطي ولا خط ، وإذا فرضت خطين متقابلين فبينهما بعد سطحي ولا سطح ، وذلك البعد الخطي طول والسطحي عرض، فيظهر الفرق بين الطول والخط ، وبين العرض والسطح حيث يوجد الأول بدون الثاني ، وإن لم يوجد خط بلا طول وسطح بلا عرض.

قال (والمراد قبول أعيانها) أورد الإمام أن الوهم يصح فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، وليس بجسم فأجاب بأن المراد ما يكون كذلك بحسب الوجود الخارجي كما في قولهم الرطب ما يقبل الإشكال بسهولة ، ولا خفاء في أنه تحقيق للمقصود بحيث لا يرد الاعتراض بالنفس التي هي جوهر مجرد يقبل الأبعاد الثلاثة المتقاطعة ، وإلا فظاهر أن الوهم خارج بقيد الجوهرية، والحاصل أن المراد صحة فرض الأبعاد بحيث يتحقق الاتصاف بها ، وذلك في الوجود المتأصل لا غير ومن اعتراضاته أن الهيولي جوهر يصح فرض الأبعاد الثلاثة فيها غايته أن قبولها للأبعاد يكون مشروطا بقبولها للصورة الجسمية ، ولا يجوز أن تكون الصورة جزءا من القابل لما تقرر عندهم من أنها مبدأ الفعل ، والحصول دون الإمكان والقبول ، بل الجوهر القابل هو الهيولي لا غير. وجوابه : أن ما اختص الهيولي بقبوله هو الصور لا الأعراض من الكميات والكيفيات وغيرها. كيف وقد صرحوا بأنه لا حظ للهيولي من المقدار ، وإنما ذلك إلى الصورة فإنها امتداد جوهري به قبول الامتدادات العرضية على أنه قد سبق أن المراد بهذا القبول ما يعم الفعل ولو لزوما ، ولعل هذا الاعتراض بالنسبة إلى الصورة أوجه.

__________________

ـ سينا ـ كما أخبر عن نفسه ـ هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم من القرامطة الباطنيين وقال ابن تيمية «تكلم ابن سينا في أشياء من الالهيات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم بها سلفه ولا وصلت الى عقولهم». صنف نحو مائة كتاب منها القانون في الطب والسياسة وأسرار الحكمة المشرقية وغير ذلك. راجع وفيات الأعيان ١ : ١٥٢ وتاريخ حكماء الاسلام ٢٧ ـ ٧٢ ودائرة المعارف الإسلامية ١ : ٢٠٣

١٧

قال (وكلامهم متردد)

[في أن هذا التعريف حد أو رسم (١) ، وأبطل الإمام كونه حدا ، بأن ليس الجوهر جنسا له لكونه مفسرا بالموجود لا في موضوع ، والوجود زائد ، بل من المعقولات الثانية ، ولا في موضوع عدمي ، ولأنه لو كان جنسا لكان تمايز الجواهر بفصول ، وهي إما جواهر فيتسلسل أو أعراض فيتقوم مع الجوهر بالعرض ، ولا القابلية وما في معناها بفصل لكونها من الاعتباريات التي لا ثبوت لها في الأعيان ، وإلا لقامت بمحل قابل ، ولزم التسلسل فيما له ترتب ووجود بالفعل ، وهو باطل اتفاقا.

وأجيب : بأن الموجود لا في موضوع رسم للجوهر لا حدّ ، وصدق الجنس على الفصل عرضي لا يفتقر إلى فعل آخر ، وليس الفصل هي القابلية ، بل القابل. أعني الأمر الذي من شأنه القبول ، وكونه في الوجود نفس ذات الجسم غير قادح كما في سائر الفصول].

الظاهر أن التعريف المذكور رسم بالخاصة المركبة إذ على تقدير جنسية الجوهر فالقابل للأبعاد أعم منه من وجه ، ولا كذلك حال الفصل ، ولهذا اتفقوا على أن المركب من أمرين بينهما عموم وخصوص من وجه ماهية اعتبارية. وأيضا تحصل حقيقة الجسم بالأبعاد المفروضة غير معقول. وأما التمسك بأن تركب الجسم إنما هو من الهيولي والصورة لا من الجوهر ، وقابل الأبعاد ليكون التعريف بهما حدا فضعيف لما عرفت من الفرق بين الأجزاء الخارجية والأجزاء العقلية التي هي الذاتيات.

__________________

(١) الحد : منتهى الشيء ويطلق على السطح أو الخط او النقطة التي تفصل بين منطقتين متجاورتين أو على النقطة التي تفصل بين زمانين تقول : حدود الدولة ، وحدود الأزمنة وللحد بحسب هذا التعريف معنى مجازي وهو دلالته على النقطة التي ينتهي عندها امكان الفعل ، تقول : حدود السلطة التنفيذية ، وحدود العلم ، وحدود الصبر.

والرسم عند المنطقيين مقابل للحد وهو قسمان : رسم تام ورسم ناقص ، فالتام ما يتركب من الجنس القريب والخاصة ، كتعريف الانسان بالحيوان الضاحك ، والناقص ما يكون بالخاصة وحدها او بها وبالجنس البعيد كتعريف الإنسان بالضاحك او بالجسم الضاحك والرسم عند الاصوليين أخص من الحد ، لأنه قسم منه ، وعند الصوفية : هو العادة والخلق وصفاته لأن الرسوم هي الآثار وكل ما سوى الله تعالى آثار ناشئة عن أفعاله.

١٨

ونقل عن ابن سينا ما يشعر بأنه متردد في أن هذا حد أو رسم. وأبطل الإمام كونه حدا بأن الجوهر لا يصلح جنسا للجسم ولا قابلية الأبعاد فصلا.

أما الأول فلوجوه منها : أن الجوهر (١) هو مفسر بالموجود لا في موضوع. والوجود زائد على الماهية لا ذاتي لها بل هو من المعقولات الثابتة التي لا تحقق لها إلا في الذهن فلا يصلح جزءا للماهية الحقيقية ، وعدم الاحتياج إلى الموضوع عدمي لا يصلح ذاتيا للموجود ، لا يقال جميع الأجناس (٢) ، بل جميع الكليات من المعقولات الثانية.

لأنا نقول المنطقيات منها لا الطبيعيات كالجسم والحيوان ونحو ذلك ومنها أنه لو كان جنسا للجواهر لكان تمايزها لا محالة بفصول على ما هو شأن الأنواع المندرجة تحت جنس فتلك الفصول إما أن تكون جواهر فينقل الكلام إلى ما به تمايزها ويلزم التسلسل (٣) وإما أن يكون أعراضا فيلزم تقوم الجوهر بالعرض وهو باطل لاستلزامه افتقار الجوهر إلى الموضوع ، وأيضا يلزم كون العرض محمولا على الجوهر ، ونفسه بحسب الوجود على ما هو شأن الفصل مع النوع.

وأما الثاني : فلأن معنى القابلية وإمكان الفرض وصحته ونحو ذلك من العبارات أمر لا تحقق له في الخارج ، وإلا لقام بمحل قابل له ضرورة أنه من المعاني العرضية دون الجوهرية ، فننقل الكلام إلى تلك القابلية ، ويلزم التسلسل في الأمور الموجودة المترتبة. ضرورة (٤) توقف تحقق كل قابلية على قابلية أخرى

__________________

(١) سقط من (ب) كلمة (الجوهر).

(٢) الجنس في اللغة الضرب من كل شيء ، وهو أعم من النوع ، يقال : الحيوان جنس والانسان نوع مثال ذلك إذا كان أحد الصنفين مندرجا في الآخر كان الأول نوعا والثاني جنسا وكان الثاني أعم من الأول.

قال ابن سينا : الجنس : هو المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع أى بالصور والحقائق الذاتية وهذا يخرج النوع والخاصة والفصل القريب وللجنس عند قدماء الفلاسفة ثلاث مراتب وهي الجنس العالي ، وهو الجنس الذي لا يوجد فوقه جنس آخر ويسمى جنس الأجناس كالموجود والجنس المتوسط وهو الجنس الذي يكون فوقه وتحته جنس كالجسم او الجسم النامي ، والجنس السافل وهو الجنس الذي لا يكون تحته جنس كالحيوان.

(٣) سقط من (أ) لفظ (التسلسل).

(٤) سقط من (ب) لفظ (ضرورة).

١٩

سابقة عليها ، ومثله باطل بالاتفاق ، سيما وهذه (١) السلسلة محصورة بين حاصرين ، هما هذه القابلية والمحل.

وأجيب : عن الأول بأن الموجود لا في موضوع رسم لا حد ، إذ لا حد للأجناس العالية ، وعدم جنسية العارض لا يستلزم عدم جنسية المعروض.

وعن الثاني : بأن كون (٢) فصول الجواهر جواهر ، لا يستلزم افتقارها إلى فصل آخر، وإنما يلزم ذلك لو كان الجوهر جنسا لها أيضا ، لا عرضا عاما ، كالحيوان للناطق (٣).

وعن الثالث : بأن الفصل ليس هو القابلية ، بل القابل ، أعني الأمر الذي من شأنه القبول ، كالناطق للإنسان ، بمعنى الجوهر الذي من شأنه النطق ، أي إدراك الكليات.

لا يقال هذا نفس الجسم لا جزء منه ، فكيف يكون فصلا؟ لأنا نقول هو نفسه بحسب الخارج ، وجزؤه بحسب الذهن ، كما في سائر الفصول ، هذا كله بعد تسليم امتناع كون العدمي جنسا أو فصلا للماهية الحقيقية ، (وأورد صاحب المواقف بعد نقل هذه الأجوبة كلاما قليل الجدوى جدا) (٤).

__________________

(١) في (ب) هل بدلا من (هذه).

(٢) سقط من (ب) لفظ (كون)

(٣) في (ب) الناطق بدلا من (للناطق)

(٤) ما بين القوسين سقط من (ب)

٢٠