شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

١

٢

٣
٤

٥
٦

٧
٨

٩
١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ولم يشاركه في ملكه أحد ، يا من تعالت أسماؤك ، وتقدست صفاتك. تعطي وتمنع ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، يا مالك الملك ، تعطي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، والصلاة والتسليم على من اصطفيته لخير رسالة ، وأنزلت عليه خير كتاب ، لخير أمة أخرجت للناس ، سيدنا محمد ابن عبد الله ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

وبعد

فإن علم التوحيد ، علم جليل الشأن ، عظيم القدر ، شرف بنسبته إلى الله سبحانه تعالى ، وهو أساس لكل علم نافع ومفيد.

وعقيدة توحيد الله ، وانفراده باستحقاق الربوبية والمعبودية ، جاء أمر الله بها ، لكل رسول ، بعث إلى قومه ، ليبلغهم باعتناقها لا يعتريها تغيير ، ولا تبديل ، مهما تغيرت الأجيال والأزمان.

أما الشرائع المبنية عليها ، فإنها تتغير بما يناسب حال كل أمة مصداقا لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (١) ولما اكتمل رشد الإنسانية واتسعت دائرة تفكيرها ومواهبها ، جاءت خاتمة الرسالات ، متضمنة شريعة سمحاء لكل زمان ومكان ، لما اشتملت عليه من المبادي العامة ، وأمهات الفضائل ، ولما فيها من سعادة البشرية ، دنيا ودينا ، مع يسرها وعدم الحرج

__________________

(١) سورة المائدة. آية رقم ٤٨.

١١

والمشقة فيها ، لذلك كانت خالدة خلود الدهر ، لا تبديل فيها ، ولا تحريف إلى أن تقوم الساعة ، فكانت رحمة للعالمين ، وعامة للناس أجمعين ، وصدق الله حيث يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) هذا ولما كان علم التوحيد ، ويسمى علم التوحيد ، ويسمى علم الكلام ، له هذه المنزلة العظيمة في تأصيل هذه العقيدة ، والدفاع عنها ، عني المتكلمون قديما وحديثا بالتأليف فيه ، وتباروا في ذلك ، فمنهم المقتصد ، ومنهم المتعمق ، ومنهم المتوسط. وكان من أشهر الكتب المتعمقة والمشتملة على الأمور العامة التي يحتاج إليها المستدل على حدوث العالم ، ومنه على وجود الصانع. كتاب (المطالب العالية) للفخر الرازي ، (والعقائد النسفية) للنسفي وكتاب (المواقف) للإيجي شيخ سعد التفتازاني ، وكتاب (طوالع الأنوار) للبيضاوي وكتاب (المقاصد) للعلامة السعد التفتازاني ، وهو كتاب جامع يحتاج إليه كل باحث ، لما حواه من المباحث والنظريات العقلية ، وقد تدارك فيه ما فات من كتب من سبقه خاصة كتاب (المواقف) ، و (المطالب العالية) ، وهو وإن كان صعب المنال لدقة أسلوبه ، وتعمق في أبحاثه ، إلا أنه ألف في عصر نضجت فيه العقول ، واتسعت مداركها ، حتى كانوا لا يقبلون إلا على ما فيه عمق في التفكير والنظر. هذا كان دأب المؤلفين في هذا العصر ، وشأن تلاميذتهم ، فأقدرهم علما ، أعقدهم كتابة. وفي الحق إن الإنسان إذا استسهل الصعب ، وفكر فيه ونظر ، ثم أشحذ ذهنه في المحصل من وراء ذلك على فهم ما دقّ من المسائل ، رسخ ذلك في عقله ، وربى عنده ملكة قوية ، يفهم بها كل ما دقّ فهمه ، ولا كذلك الذي يجري وراء السهل من الكتب ، فإنه لا تكون له هذه الملكة ، ولا تبرز له شخصية يتميز بها عن غيره في الفهم والتحصيل.

ولقد كان كتاب المقاصد من أعقد العقد ، حتى تبارى الباحثون في فهمه ، فكثرت شراحه ليقربوه إلى الأفهام ، وكان هذا الكتاب يدرس في الأزهر هو وغيره من الكتب المطولة العميقة ، حينما كان هناك علماء ، لا يشغل بالهم إلا

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٣

١٢

الاطلاع على مثل هذه الكتب ، وحينما كان هناك أيضا طلاب يسيرون على منهج أساتذتهم ، لا يتعلمون إلا للعلم ، لا يبغون به جاها ، ولا مالا ولا سلطانا ، واستمر تدريس هذه الكتب في الأزهر ، إلى أن أنشئ قانون الأزهر الجديد عام ١٩١١ م المعروف بنظام الشيخ شاكر ، فغيرت هذه الكتب بكتب سهلة التحصيل لأي طالب. مثل كتاب (الجوهرة) و (الخريدة) و (أم البراهين) و (المسايرة) وغير ذلك.

ولما أنشئت الكليات الأزهرية ، رجع الأزهر إلى تدريس بعض هذه الكتب المعقدة ، ومنها كتاب المواقف والمقاصد ، خاصة في نظام التخصص القديم ، ثم وفي تخصص المادة ، حتى تخرج فيها علماء أجلاء يفخر بهم الأزهر ، بيد أنه لما كثرت الشواغل ، وتعلم الطلاب لأجل الوظيفة ، صعب عليهم فهم هذه الكتب ، فطلبوا من أساتذتهم وضع مذكرات ليسهل عليهم المرور بها في الامتحان ، حتى نسوا أسماء هذه الكتب ، وأصبح من النادر وجودها لمن يطلبها ، لذلك رأت لجنة إحياء التراث ، المنبثقة من مجمع البحوث الإسلامية ، تجديد طبع هذه الكتب ،. حفاظا على تراث هؤلاء الأعلام الذين ألفوها حتى كانت مفخرة لهم وللأجيال من بعدهم.

وفعلا أوصت اللجنة المذكورة بأن يكون كتاب المقاصد هو أول كتاب يطبع ، غير أنه شاء الله تعالى ، ونعمت مشيئته أن يسبق توصية هذه اللجنة الدكتور عبد الرحمن عميرة الأستاذ بكلية أصول الدين ـ أسيوط ـ بتحقيق هذا الكتاب وإخراجه إلى حيز الوجود ، فقام مشكورا بهمة عالية ، باذلا من جهده ووقته وماله وسهره بالسير فيما قصد ، على الرغم من كثرة مشاغله ، وقد تفضل وعهد إليّ مراجعة هذا التحقيق ، فقبلت شاكرا له وفاءه ، وحسن ثقته بأستاذه ، وقد كنت قبل الاطلاع على هذا التحقيق أظن ، وبعض الظن غير حسن ، أن الدكتور عبد الرحمن عميرة ، أديب وشاعر أكثر منه متكلما ، لأن من عادة الأدباء والشعراء أن يعنوا بالخيال والحس والوجدان والشعور ، وأن يبحثوا عن المحسنات البديعية ، والمجازات والكنايات والتشبيه ليكون لنثرهم وشعرهم وقع

١٣

جميل في نفس السامع ، أما النظريات العقلية التي تحتاج إلى فكر وتأمل. وأما الأدلة والاعتراض عليها منعا ونقضا ، وأخذا وردا ، فالأديب والشاعر بعيد عن كل ذلك.

غير أني خاب ظني ، وظهر لي أنه ظن خاطئ ، لأني حينما راجعت هذا التحقيق ، اتضح لي أن المحقق متكلم أكثر منه شاعرا وأديبا ، في فهم النظريات العقلية ، وفي نظم الأدلة ، وفي فهم ما يحققه على الرغم من صعوبته ، كما تبين لي أنه عميق في تفكيره ، يغوص البحار ، ويطوي القفار ، يستسهل الصعب ، صابرا مجدا ، ساهرا منقبا ، مضطلعا على المراجع الكثيرة ، ليصل بذلك إلى ما يؤمله ويرجوه. لذلك كله أكبرت فيه هذا العمل الضخم الأشم ، وحق لي أن أفخر ببنوته ، وتلمذته ، والإنسان بجبلته لا يحب أن يساويه أحد ، أو يفوقه ، غير الأب مع ابنه ، والأستاذ مع تلامذته ، فإنه يحب لهم أكثر ما يحب لنفسه ، ولهذا يقول الشاعر :

قالوا أبا الصقر من شيبان قلت لهم

كلا لعمري منه شيبان

فكم أب بابن علا شرفا

كما علت برسول الله عدنان

وبالاطلاع على منهج المحقق في تحقيقه لهذا الكتاب ، يتضح لنا أيضا شخصيته الفذة ، ومدى ما عاناه من جهد وفكر ، وبعد نظر ، حتى جاء التحقيق وافيا للغرض يستفيد منه كل باحث ، فإنه بعد أن عرف سعد الدين ، ومكانته العلمية التي جعلت منه إماما في المعقول والمنقول ، وحافظا على كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وداحضا لشبه الملحدين والمارقين بالحجة والبرهان ، وبمثل السلاح الذي تسلح به هؤلاء ، سلاح المنطق والعقل ، وبعد أن بين ما احتواه الكتاب من مقاصده الست ، وفصول كل مقصد ، بعد هذا شرع يبين الخطة التي سار عليها في هذا التحقيق ، فبين أنه عثر على خمس نسخ مخطوطة ، رمز إلى كل واحدة منها بحرف ، ثم وازن بين هذه النسخ ، ورجح ما اختاره منها للاعتماد عليها مع بيان سبب الترجيح ، ثم عني بتنقية النص من الأخطاء النحوية ، وقد رأى أن كثيرا من المباحث والفصول لم يكن لها عنوان ، فوضع المحقق العنوان

١٤

لها. كما رأى أن السعد في مقاصده ينقل كثيرا من كتاب المواقف ، ومن المطالب العالية ، ومن كتاب الشفاء ، والنجاة ، والقانون ، لابن سينا وغير ذلك ، وأنه ، تارة ينقلها بالمعنى ، وتارة يزيد أو ينقص منها. وفي بعض هذه النقول تحريفات ، فكان من جهد المحقق أن يرجع إلى النص الأصلي مشيرا إلى تحديد صفحات وأسماء الكتب. كذلك مما عني به المحقق تشكيل الآيات القرآنية ، والدلالة على سورها مع ترقيم الآيات. كما عني أيضا بتخريج الأحاديث التي استشهد بها السعد ، تخريجا وافيا ، من الكتب المعتمدة ، وقد عرف البلدان والأماكن ، التي وردت في كتاب المقاصد ، كما عرف المصطلحات العلمية التي ذكرها السعد في كتابه ، إلى غير ذلك مما جاء في التحقيق. الأمر الذي يدل على جهد المحقق ، وطول باعه ، وعمق تفكيره.

وإني حينما راجعت هذا التحقيق ، وما بذل فيه المحقق من جهد ، وعلم ، ودقة فهم ، وقدرة على الابتكار ، أيقنت أن الله تعالى بارك له في وقته وعمله حتى انتهى تحقيقه في مدة لا تعدو الأربع سنوات ، مع أنه بهذه الدقة ، وصعوبة فهم المقاصد ، كان يتطلب ذلك سنين عديدة.

وختاما أرجو منه أن يزيدنا تحقيقا لتراثنا القديم ، الذي لولاه ما علمنا شيئا ، فهو المعلم لنا والمرشد ، وهو النور الذي نستضيء به ، فجزى الله علماءنا الذين خلفوا لنا هذا التراث أحسن الجزاء ، وأثابهم بما قدموه للأمة الإسلامية خير الثواب. هذا ومن الوفاء والخير لنا أن نحافظ على تراثهم ، ونحيي ما درس منها ، أما ما يقوله بعض المتفقهين : ما لنا ولهذه الكتب الصفراء التي أكل عليها الدهر وشرب؟؟ فهؤلاء عمي البصيرة ، غلف القلوب ، أعداء ما جهلوا ، فلا يؤبه لقولهم لأنه لا يعرف الفضل من الناس إلا ذووه.

أما أنت أيها العالم المحقق المدقق ، فلا نجد منا كلمة توفيك حقك من الثناء على ما قمت به في هذا التحقيق إلا أن نكل أمر عملك ، وتقديرك إلى الله ، جلت عظمته ، فهو القادر على كل شيء ، وسيوفي لك إن شاء الله الأجر مضاعفا دنيا ودينا. بارك الله في مسعاك وخطاك ، وأكثر من أمثالك ، ووفقك إلى

١٥

مرضاة ربك ودينك ومحبة نبيك. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١) صدق الله العظيم.

صالح موسى شرف

عضو هيئة كبار العلماء

ومجمع البحوث الإسلامية

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ١٠.

١٦

مقدّمة المحقّق

لكتاب

شرح المقاصد

١٧
١٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ، صفوة الأمة من خلقه ، ومن اهتدى بهداه ، وسار على نهجه إلى يوم الدين.

اللهم إنا نبرأ إليك من الحول والطول ، ونسألك التوفيق لما ترضاه من الفعل والقول ، ونعوذ بك أن نتكلف ما لا نحسن ، أو نقول ما لا نعلم ، أو أن نتخذ العلم بضاعة ، أو الدين صناعة ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.

كم أسعدنا وأثلج صدورنا ، أن نقدم للأمة العربية والإسلامية بعامة وطلاب المعرفة والبحوث الجادة بخاصة ، كتاب (شرح المقاصد) للعالم الكبير سعد الدين التفتازانى.

وهو كتاب غني عن التعريف ، لأنه ـ والحق يقال ـ يندر أن يكتب باحث في علم الكلام ، أو العلوم العقدية ، ولا يكون هذا الكتاب أحد المراجع الأساسية التي يستعين بها في بحثه.

لهذا كانت فرحة غامرة أن وفقنا الله سبحانه وتعالى ، في إخراج هذا الكتاب في الصورة التي عليها ، والتي نرجو أن تحوز رضى جهابذة الفكر ، ممن يشتغلون بهذا العلم.

ويعلم الله كم من الجهد والوقت بذل في تحقيقه وتبويبه ، وتقويم معوجه ،

١٩

وإزالة تحريفاته بإسقاط كلمة هنا ، وزيادة أخرى هناك ، وهو عبء لا يحس به ، ولا يشعر بوطأته إلا من كابد عملية التحقيق ، وعايش تراثنا معايشة جادة.

وهذه مقدمة بين يدي الكتاب تشتمل على الآتي :

أولا : كلمة عن علم الكلام. حقيقته ونشأته ، وموقف المسلمين منه عند قيامه ، ورأيهم فيه الآن ، وهو يمثل جزءا مهما من تراثهم الفكري والعقدي.

ثانيا : علم الجدل كظاهرة إنسانية لم يخل منها عصر من العصور ، ونماذج من الجدل ، واكبت تاريخ البشرية في سلمها وحربها.

ثالثا : الحالة السياسية ، والاجتماعية ، والعلمية ، في عصر سعد الدين التفتازانى.

رابعا : التفتازانى. اسمه ونسبه ، مولده ونشأته ، إعداده الفكري وتكوينه العلمي. آثاره ومؤلفاته.

خامسا : مكانته العلمية ، ورأي العلماء فيه ، وفاته.

سادسا : كتاب شرح المقاصد ، وموقف العلماء منه.

سابعا : منهجنا في تحقيق الكتاب ، النسخ التي اعتمدنا عليها في إخراج الكتاب.

نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه ، وأن يكتبه في حسناتنا يوم العرض عليه ، إنه نعم المولى ونعم المجيب ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢٠