شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

أنه لو كان هناك امتدادان جوهري وعرضي ، فإما أن يتفاوتا فيكون البعض من أحد (١) الامتدادين لا في مادة أو يستويا فيرتفع الامتياز].

هم قوم من الفلاسفة يؤثرون طريق أفلاطون ، وما له من الكشف (٢) والعيان على طريقة أرسطو وما له من البحث والبرهان ، ذهبوا إلى أن الجسم متصل واحد في نفسه كما هو عند الحس لا تركيب فيه أصلا ، لا من أجزاء لا تتجزأ ، ولا من الصورة والهيولي بل هو مقدار جوهري لا يتغير في ذاته بتبدل المقادير العرضية عليه ، أعني ما يوجد بحسب ذهاب جوانب الجسم في الجهات ويسمى طولا ، وعرضا ، وعمقا ، مثلا المقدار الذي هو الشمعة لا يتغير عن ذلك القدر بتغير الأشكال ، وإنما يتغير ذهاب آحاد المقادير في الجهات ، فيزيد الطول على ما كان ، وينقص العرض أو بالعكس ، وكذا العمق ، وليس الانفصال عبارة عن زوال الاتصال بهذا المعنى. أعني المقدار الجوهري بل بالمعنى الذي يعتبر بين المقدارين ، فلا يمتنع قبوله إياه مع بقائه بذاته ، ومنشأ الغلط إطلاق لفظ الاتصال على المعنيين والأجسام المتشاركة في الجسمية ، إنما تختلف في المقادير المخصوصة (٣) التي هي بإزاء الجسميات (٤) المخصوصة لا في المقدار المطلق الذي بإزاء الجسم المطلق ، ثم الجسم من حيث قبوله للهيئات المتبدلة عليه ، ومن

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (أجد)

(٢) الكشف في اللغة : رفع الحجاب وفي الاصطلاح هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور العقلية وجودا وشهودا (راجع تعريفات الجرجاني) وقد بين القدماء أن الكشف عن الأمور الغيبية يتم بطريقين أحدهما طريق الالهام والحدس. وهو ذاتي والآخر طريق الوحي ، وهو خارجي طارئ أما الالهام فهو العلم الذي يقع في القلب بطريق الفيض من غير استدلال ولا نظر بل بنور يقذفه الله في الصدر (راجع الغزالي المنقذ من الضلال)

(٣) سقط من (ب) لفظ (المخصوصة)

(٤) الجسم في بادئ النظر هو هذا الجوهر الممتد القابل للأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق ، وهو ذو شكل ووضع ، وله مكان إذا شغله منع غيره من التداخل فيه معه ، فالامتداد وعدم التداخل هما إذن المعنيان المقومان للجسم. والجسماني : هو المنسوب الى الجسم ، والجسمانية : هي المادية والجسيمات : هي الأجسام الصغيرة أطلق هذا اللفظ في القرنين السابع عشر والثامن عشر على الذرات والجواهر الفردة ثم اطلق في أيامنا هذه على العناصر الصغيرة المحسوسة مثل جسيمات اللمس. وفلسفة الجسيمات نظرية طبيعية تحاول تفسير بعض الظواهر الطبيعية بتجمع بعض الجزئيات غير المرثية.

٦١

حيث حصول الأنواع المختلفة منه يسمى هيولى ، كما تسمى تلك الهيئات من حيث تواردها عليه صورا ، واعترضوا على الحجة المذكورة التي هي العمدة في إثبات الهيولي بوجوه :

الأول : أنه إن أريد بالامتداد والاتصال الجوهر الممتد في الجهات القابل للأبعاد ، فلا نسلم أنه غير الجسم بالامتداد (١) والاتصال (٢) ، وإن أريد ما يفهمه العقلاء من هذين اللفظين ، فلا نسلم أنه جوهر بل عرض ، ودعوى كونه جزءا من حقيقة الجسم ، وأول ما يدرك من جوهريته غير مسموعة ، والتمسك بأن في الشمعة امتدادا باقيا مع تبدل المقادير عليه ضعيف ، لأن ذلك هو مطلق الامتداد الباقي بتعاقب خصوصياته ، من غير ثبوت أمر سوى الخصوصيات ، كما يقطع ببقاء الشكل عند تبدل الأشكال مع القطع بأنه عارض.

وبالجملة ، فلا نسلم أن فيها امتدادا معينا ثابتا لا يتغير أصلا (٣).

فإن قيل : نعني به ذلك الأمر الذي لم ينعدم عند تبدل الأشكال والمقادير ، وانعدم عند انفصال الشمعة إلى الشمعتين.

قلنا : هو ما يقابل الانفصال من اتصال الأجزاء المفروضة (٤) بعضها بالبعض وهو عرض والباقي هو الجسم نفسه.

وحاصل الكلام ، أنا لا نسلم أن الاتصال ، والامتداد بالمعنى الذي يقابل الانفصال، ويزول بطريانه جوهر ، وجزء من الجسم ، بل لا يعقل منه إلا أمر لا قوام له بنفسه ، ولا غنى له عن الموضوع ، فلا يكون إلا عرضا ، غايته أنه لازم للجسم ، فعند زواله إلى اتصالين ، يصير الجسم جسمين ، حتى لو أمكن زواله لا إلى اتصالين ، انعدم الجسم بالكلية ، وأما بمعنى الأمر الذي شأنه الامتداد في الجهات وصحة فرض الأبعاد. فلا نسلم أنه غير الجسم ، كيف ولا يعقل منه إلا أمر قائم

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (بالامتداد)

(٢) سقط من (ب) لفظ (والاتصال)

(٣) سقط من (ب) لفظ (أصلا)

(٤) في (أ) المعينة بدلا من (المفروضة)

٦٢

بنفسه ، متميز بذاته مستغن في قوامه عن المحلّ؟ والتعبير عنه بالهوية (١) الاتصالية أو المتصل بالذات ، أو نحو ذلك من العبارات لا يفيد.

الثاني : أن الامتداد طبيعة واحدة فيمتنع كون بعض أفراده أو أصنافه جوهرا والبعض عرضا ، وإن وقع الاصطلاح على تسمية بعض الجواهر بذلك. فلا نسلّم أن في المتميز جوهرا غير نفس الجسم.

الثالث : أنه لو كان في الجسم امتدادان أحدهما جوهري ، والآخر عرضي ، فإن فضل أحدهما على الآخر وقع القدر الذي به التفاضل لا في مادة وهو محال ، إذ لا عرض بدون الموضوع ، ولا صورة بدون الهيولي.

وبالجملة لا حال بدون المحل ، وإن لم يفضل بل تساويا في جميع الأقطار ارتفع الامتياز والاثنينية ، لأن امتياز أفراد الطبيعة الواحدة الحالة إنما يكون بحسب المحل ، وهذا مدفوع بأنهما متميزان بالحقيقة مع أن محل العرضي هو الجوهري أو الجسم ، ومحل الجوهري هو المادة وإن أريد عدم الامتياز في الحس فلا ضير.

[قال (وقد يستدل)

على نفي الهيولي بأنها إن لم تتحيز لم تصلح محلا لما له اختصاص بالحيز ، وإن تحيزت فإما بالاستقلال فكان مثل الجسمية ، فلم يجامعها ، ولم يكن بالمحلية أولى ولزم استغناء الجسمية عن المادة أو تسلسل المواد. وإما بالتبعية ، فكانت صفة للجسمية حالة فيها. ويجاب بأن عدم الاستقلال لا يلزم أن يكون بحلولها بل

__________________

(١) اسم الهوية ليس عربيا في أصله وإنما اضطر إليه بعض المترجمين فاشتق هذا الاسم من حرف الرباط أعني الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره وهو حرف (هو) في قولهم زيد هو إنسان أو حيوان. (راجع ابن رشد تفسير ما بعد الطبيعة ص ٥٥٧) وللهوية عند القدماء عدة معان وهي التشخص والشخص نفسه والوجود الخارجي قالوا ما به الشيء هو هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتا وباعتبار تشخصه يسمى هوية وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية (راجع كليات أبي البقاء) وفلسفة الهوية تطلق على مذهب شيلينغ القائل بوحدة الطبيعة والفكر ووحدة المثل والواقع وكل فلسفة لا تفرق بين المادة والروح ولا بين الذات والموضوع فهي فلسفة من هذا القبيل لأنها تجمع بينهما في وحدة لا تنفصل وترجعهما الى شيء واحد هو المطلق (راجع المعجم الفلسفي ج ٢ ص ٥٣٢).

٦٣

قد يكون بالحلول فيها ، على أن الاشتراك في اللازم لا يوجب التماثل].

إشارة إلى معارضة أوردها الإمام تقريرها أنه لو وجدت الهيولي ، فإما أن تكون متحيزة أو لا وكلاهما محال. أما الثاني فلامتناع حلول الجسمية المختصة بالحيز والجهة فيما ليس بمتحيز أصلا ، ولهذا لا يقع شك في امتناع كون بعض المجردات محلا للأجسام ، وأما الأول فلأن تحيزها إما أن يكون بطريق الاستقلال أو التبعية ، ويلزم على الأول أن تكون هي والجسمية مثلين لاشتراكهما في أخص صفات النفس ، أعني التحيز بالذات فيمتنع [أن يجتمعا] (١) لاستحالة اجتماع المثلين ، وأن يختص إحداهما بالمحلية والأخرى بالحالية ، لأن حكم الأمثال واحد ، وأن تختص الجسمية بالافتقار إلى المدة ، بل يجب إما استغناؤهما فلا تكون الجسمية حالة في مادة أو افتقارهما فيكون للمادة مادة ويتسلسل ، ويلزم على الثاني أن تكون المادة صفة للجسمية ، حالة فيها دون العكس ، لأن معنى الحلول (٢) التبعية في التحيز ، ولأنه لو جاز العكس لجاز أن يقال الجسم صفة للون حال فيه.

والجواب : أن عدم كون تحيزها بالاستقلال لا يستلزم وصفيتها وحلولها ، لجواز أن يكون ذلك باعتبار أن حلول الجسمية فيها شرط لتحيزها ، ولا نسلم أن كل ما يكون تحيزه مشروطا بشيء كان هو وصفا لذلك الشيء حالا فيه ، بل ربما يكون بالعكس ، على أن الاشتراك في التحيز (٣) بالاستقلال لا يستلزم تماثلهما ،

__________________

(١) سقط من (ب) ما بين القوسين.

(٢) الحلول السرياني : عبارة عن اتحاد الجسمين بحيث تكون الاشارة الى أحدهما إشارة الى الآخر كحلول ماء الورد في الورد ، فيسمى الساري حالا والمسري فيه محلا. والحلول الجواري : عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفا للآخر كحلول الماء في الكوز. (راجع تعريفات الجرجاني)

(٣) التحيز هو الحصول في المكان على ما في شرح المواقف في مقدمة الموقف الثالث وهذا وإن كان في نفسه صحيحا باعتبار ترادف الحيز والمكان لكن الأولى أن يفسر بالحصول في الحيز لكونه صحيحا مطلقا سواء اعتبر ترادفهما أم لا.

والمتحيز هو الحاصل في الخبر وبعبارة أخرى القابل بالذات او بالتبعية للاشارة الحسية فعند المتكلمين لا جوهر الا المتحيز بالذات أي القابل للإشارة بالذات وأما العرض فمتحيز بالتبع ـ

٦٤

إذ لا نسلم أن ذلك أخص صفات النفس. ولو سلّم فالمتماثلان إنما يتساويان في لوازم الماهية، لا في كل لازم لجواز أن يكون عائدا إلى العوارض].

__________________

ـ وعند الحكماء قد يكون الجوهر متحيزا بالذات وقد لا يكون متحيزا أصلا كالجواهر المجردة هكذا يستفاد مما ذكر في شرح المواقف في مقدمة الأمور العامة ومبحث الجوهر والعرض قال صاحب المحاكمات المتحيز ثلاثة أقسام إما ان يكون متحيزا بالاستقلال كالصورة والجسم وإما أن يكون متحيزا بالتبعية إما على سبيل حلوله في الغير كالأعراض أو على سبيل حلول الغير فيه كالهبوط فإنه متميز بشرط حلول الصورة فيها. (راجع كشاف اصطلاحات الفنون ج ٢ ص ٤٢)

٦٥

المبحث الرابع

[قال (المبحث الرابع في تفاريع المذاهب)

أما القائلون بالجزء فقد اختلفوا في أنه هل يقبل الحياة والأعراض المشروطة بها ، وفي أنه هل يمكن وقوع الجزء على متصل الجزءين ، وفي أنه هل يمكن جعل الخط المؤلف من الأجزاء دائرة ، وفي أنه هل له شكل ، واختلف المثبتون فقيل شبه الكرة ، وقيل المثلث ، وقيل المربع ، أي المكعب ، ليكن كونه محفوظا بجواهر ستة ، واتفقوا على أنه لا حظ له في الطول والعرض ، إلا ما نسب إلى الصالحي ، وابن الراوندي. أما ما نقل من الاتفاق على أن له خطا من المساحة (١). فمبني على (٢) أنها اسم للتحيز والجرم الموجب للتكاثف بانضمام الأمثال على أن المنقول عن الجبائي خلافه].

من فروع القول بكون الجسم من الجواهر الفردة ، اختلافهم في أن الجوهر الفرد هل يقبل الحياة والأعراض المشروطة بها ، كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، فجوزه الأشعري ، وجماعة من قدماء المعتزلة ، وأنكره المتأخرون منهم ، وهي مسألة كون الحياة مشروطة بالبنية ، وقد مرت ، ومنها اختلافهم في أنه هل يمكن وقوع جزء على متصل الجزءين ، فأنكره الأشعري (٣) لاستلزامه الانقسام ، وجوزه

__________________

(١) في (ب) المسافة بدلا من (المساحة)

(٢) سقط من (أ) لفظ (على)

(٣) هو على بن اسماعيل بن إسحاق أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين ولد في البصرة وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيه ثم رجع وجاهر بخلافهم توفى ببغداد عام ٣٢٤ ه‍ قيل بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب منها الرد على المجسمة ومقالات الإسلاميين (راجع طبقات الشافعية ٢ / ٢٤٥ ودائرة المعارف الإسلامية ٢ / ٢١٨).

٦٦

أبو هاشم ، والقاضي عبد الجبار ، ومنها اختلافهم في أنه هل يمكن جعل الخط المؤلف من الأجزاء دائرة؟ فأنكره الأشعري ، وجوزه إمام الحرمين. وقد سبق بيانهما ، ومنها اختلافهم في أن الجوهر الفرد هل له شكل؟ فأنكره الأشعري ، وأثبته أكثر المعتزلة ، كذا ذكره الإمام ، ونقل الآمدي اتفاق الكل على نفيه لاقتضائه محيطا أو ومحاطا فينقسم ، وإنما الخلاف في أنه هل يشبه شيئا من الأشكال؟ فقال القاضي : لا ، وقال غيره : نعم ، ثم اختلفوا فقيل يشبه الكرة ، لأن في المضلع اختلاف جوانب ، وقيل : المثلث لأنه أبسط الأشكال المضلعة ، وقيل : المربع لأنه الذي يمكن تركب الجسم منه بلا فرج ، وهذا قول الأكثرين. قال الإمام : والحق أنهم شبهوه بالمكعب ، لأنهم أثبتوا له جوانب ستة ، [وزعموا أنه يمكن أن يتصل به جواهر ستة من جوانب ستة] (١) ، وإنما يكون ذلك في المكعب ، وقد يستدل على وجوب الشكل له بأنه متناه ضرورة فتكون له نهاية وحد يحيط به ، إما واحد فيكون كرة ، أو أكثر فيكون مضلعا ويجاب بأنه إن أريد بكونه متناهيا أنه لا يمتد إلى غير نهاية فمسلم (٢) ، ولا يلزم إحاطة حديه به (٣) مغاير للمحاط ، وإن أريد أنه يحيط به نهاية ، وينتهي إلى جزء لا جزء وراءه فممنوع ، بل هو نفس النهاية. أعني الجزء الذي إليه ينتهي كل متناهي (٤). ومنها أنهم اتفقوا على أنه لا حظ له من الطول والعرض بمعنى أنه لا يتصف بشيء من ذلك ، وإلا لكان منقسما ضرورة ، وإنكار ذلك على ما نسب إلى أبي الحسين الصالحي من قدماء المعتزلة جهالة. والمحكى في كلام المعتزلة عن الصالحي أنه كان يقول الجزء الذي لا يتجزأ جسم لا طول له ولا عرض ولا عمق ، وليس بذى نصف ، وأن الجسم ما احتمل الأعراض. ونقل الآمدي اتفاق الكل على أن للجزء خطا من المساحة ، وحمله على أن له حجما ما على ما في المواقف لا يزيل الاشتباه ، ولزوم

__________________

(١) سقط من بعض النسخ ما بين القوسين.

(٢) في (أ) (ففم) بدلا (فمسلم) وهو تحريف.

(٣) سقط من ألف (به).

(٤) سقط من (أ) جملة (كل متناهي).

٦٧

قبول الانقسام ، بل ربما كان ذلك في الحجم أظهر لأنه اسم لما له امتداد ومقدار ما ، بحيث إذا كان ذلك في الجهات كان جسما ، وإن أريد أن له مدخلا في الحجمية والمساحة حيث يزيد ذلك بزيادة الأجزاء ، فكذا في الطول والعرض ، والمذكور في كلام المعتزلة أن له حظا من المساحة ، ومن الطول عند ابن الراوندي ، واتفق أبو علي ، وأبو هاشم ، على أن لا حظ له من الطول ، لأن مرجعه إلى التأليف الذي تذهب به الأجزاء في جهة مخصوصة ، ثم اختلفا فذهب أبو علي إلى أن لا حظ له من المساحة لأنها أيضا باعتبار التأليف ، وذهب أبو هاشم إلى أن له حظا من المساحة لأنها اسم لتحيز الجوهر وجرمه الموجب لتكاثفه عند انضمام أمثاله إليه ، ومنها اختلافهم في أن الجوهر الواحد هل يوصف بالجهات؟ [وفي أنه هل يجوز أن يرى؟ وفي أنه هل يجوز أن يصير بثقل الجبل؟ وفي أنه كم يجوز أن يلقاه من الجواهر (١)؟] وفي أنه هل يجوز أن يخلقه الله تعالى على الانفراد؟ وفي أنه هل يجوز أن تحله الحركة والسكون على البدل؟ وفي أنه هل يجوز أن تحله أعراض كثيرة؟ وتفاصيل ذلك مذكورة في المطولات ، ونحن لا نبالي أن ينسب كتابنا إلى القصور بإعوازه لما لا طائل فيه ، ونسأل الله سبحانه لمن اجتهد في نفض ذلك الغبار عن الكلام (٢) شكر مساعيه.

[قال (وأما القائلون)

بالأجزاء القابلة للانقسام الوهمي دون العقلي ، وقد اختلفوا في أشكالها ، فقيل كرات ، وقيل مكعبات ، وقيل مثلثات ، وقيل مربعات ، وقيل مختلفات].

ذكر الإمام أن القائلين بكون الجسم من أجزاء صغار قابلة للانقسام الوهمي دون الفعلي ، اختلفوا في أشكالها ، فذهب الأكثرون إلى أنها كرات لبساطتها ، والتزموا القول بالخلاء وقيل : مكعبات وقيل : مثلثات ، وقيل : مربعات ، وقيل : على خمسة أنواع من الأشكال فللنار ذو أربع مثلثات ، وللأرض مكعب ، وللهواء

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ)

(٢) سقط من (أ) جملة (عن الكلام)

٦٨

ذو ثماني (١) قواعد مثلثات ، وللماء ذو عشرين قاعدة مثلثات ، وللفلك ذو اثني عشر قاعدة مخمسات (٢) ، وذكر في الشفاء أنهم يقولون إنها مختلفة الأشكال ، وبعضهم يجعلها الأنواع الخمسة (٣).

[قال (ثم المشهور من الطائفتين)

أن طبيعة الأجزاء واحدة في جميع الأجسام فيكون اختلافها بحسب الأعراض ، ويستند اختلاف الأعراض عندنا إلى قدرة المختار ، وعندهم إلى اختلاف الأشكال ، فلا حاجة إلى جعل بعض الأعراض داخلة في حقيقة الجسم].

أي القائلين بكون الجسم من أجزاء لا تنقسم أصلا ، والقائلين بأنها تنقسم وهما لا فعلا إنها متماثلة أي جوهرها واحد بالطبع في جميع الأجسام. فاختلاف الأجسام إنما يكون بحسب الأعراض دون الماهيات ، واختلاف الأعراض مستند عند المتكلمين إلى الفاعل المختار ، وعند الآخرين إلى اختلاف أشكال الأجزاء على ما صرح به في الشفاء ، وهل يلزم أن يكون بعض تلك الأعراض داخلا في حقيقة الجسم ، فتكون عوارض للأجزاء وذاتيات للأجسام فيتحقق اختلافها بحسب الماهية؟ فيه كلام كما (٤) سيجيء إن شاء الله.

[قال (وأما القائلون)

بالهيولى والصورة فقد اتفقوا على فروع :

الأول : عموم الهيولي لكل جسم ، وإن لم يقبل الانفكاك كالفلكيات ، لأن الجسمية طبيعة نوعية ، فلا يخالف (٥) في اللوازم وتحقيقه أنه قد ثبت لزوم المادة للجسمية مع قطع النظر عن تشخصاتها ، والأسباب المنفصلة عنها ، ثم إنها ليست

__________________

(١) في (أ) ثاني بدلا من (ثماني) وهو تحريف

(٢) سقط من (ب) لفظ (مخمسات)

(٣) في (ب) كلها بدلا من (الخمسة)

(٤) سقط من (ب) لفظ (كما)

(٥) في (ب) يختلف بدلا من (يخالف)

٦٩

طبيعة عرضية ، أو جنسية ، يقع على معروضات أو ماهيات مختلفة اللوازم ، كالوجود ، والحيوانية ، بل نوعية ، لكونه أمرا متحصلا بنفسه ، إذ لا يختلف إلا بما يلحقه من حرارة وبرودة ، وما يقارنه من طبيعة (١) فلكية ، أو عنصرية ، ونحو ذلك مما هو خارج عنها ، متميزة بحسب الوجود ، ولهذا لم يكن الجواب عن الكل والبعض إلا جوهرا متصل الذات ، وهذا لا ينافي كون الجسم جنسا يؤخذ مبهما لا يتحصل إلا بما ينضاف إليه من الفصول ، وقد يقرر بأن كل جسم يقبل الانفكاك في ذاته ، وإن امتنع لعارض ، وبأن الانفصال في الوهم كاف في ثبوت المادة].

ذكر من فروع القول بتركب الجسم من الهيولي والصورة (٢) خمسة :

الأول : ثبوت ذلك لكل جسم ، وإن لم يكن قابلا للانفصال الانفكاكي كالفلكيات وذلك لأن الجسمية. أعني الامتداد الجوهري طبيعة نوعية ، إذ لا تختلف حيث تختلف إلا بالعوارض والمشخصات دون الفصول ، وقد ثبت أنها فيما يقبل الانفصال الانفكاكي مفتقرة إلى المادة ، نظرا إلى ذاتها الاتصالية من غير اعتبار بالتشخصات ، والأسباب الخارجة ، فكذا فيما لا يقبله ، لأن لازم الماهية لا يختلف ، ولا يختلف. وتحقيق ذلك ما ذكر في الشفاء إن جسمية إذا خالفت جسمية أخرى تكون لأجل أن هذه حارة ، وتلك باردة ، وهذه لها طبيعة فلكية ،

__________________

(١) الطبيعة هي القوة السارية في الأجسام التي يصل بها الموجود الى كماله الطبيعي وهذا المعنى هو الأصل الذي ترجع إليه جميع المعاني الفلسفية التي يدل عليها هذا اللفظ فمن هذه المعاني قول ابن سينا الطبيعة مبدأ أول لكل تغير ذاتي وثبات ذاتي. (راجع رسالة الحدود) ويطلق لفظ الطبيعة على النظام او القوانين المحيطة بظواهر العالم المادي وهي عند أرسطو ضد المصادفة والاتفاق. (راجع رسالة الحدود لابن سينا وفلسفة ابن رشد).

(٢) الصورة في اللغة الشكل والصفة والنوع ولها في عرف العلماء عدة معان فهي تطلق على ترتيب الأشكال ووضع بعضها على بعض وتسمى بالصورة المخصوصة وتطلق على ترتيب المعاني المجردة فيقال صورة المسألة وصورة السؤال والجواب. (راجع كليات أبي البقاء).

والفلاسفة يفرقون بين الصورة الجسمية والصورة النوعية وبين الصورة الجوهرية والصورة العرضية ويرى الفلاسفة أن الفكر مادة وصورة أما مادته فهي الحدود التي يتألف منها وأما صورته فهي العلاقات الموجودة بين هذه الحدود وللقضايا المنطقية صفة صورية وهي انقسامها إلى أربعة أقسام القضايا الموجبة والقضايا السالبة والقضايا الكلية والقضايا الجزئية. (راجع تعريفات الجرجاني والنجاة لابن سينا ص ٢٦٤).

٧٠

وتلك لها طبيعة عنصرية ، وهي أمور لا تلحق الجسمية من خارج ، فإن الجسمية في الخارج موجودة ، والطبيعة الفلكية موجودة أخرى ، وقد انضاف إلى تلك الطبيعة القائمة المشار إليها هذه الطبيعة الأخرى في الخارج ، بخلاف المقدار الذي هو ليس في نفسه شيئا محصلا ما لم يتنوع بأن يكون خطا أو سطحا إذ ليست المقدارية موجودة ، والخطية موجودة أخرى ، بل الخطية نفسها هي المقدارية المحمولة عليها ، فالجسمية مع كل شيء يفرض بشيء متقرر هو جسمية فقط من غير زيادة ، وأما المقدار فلا مقدار فقط ، بل لا بد من فصول حتى يوجد ذاتا متقررة إما خطا أو سطحا.

فإن قيل : لا خفاء ولا خلاف في أن الجسم جنس تحته أنواع بل أجناس ، وإنما الكلام في أنه جنس عال أو فوقه جنس الجوهر ، فكيف يصح القول بأن الجسمية طبيعة نوعية؟ ثم أي حاجة إلى ذلك في إثبات المطلوب. ومعلوم أن لوازم الطبيعة الجنسية أيضا لا يختلف ولا يتخلف.

قلنا : فرق بين الجسم الذي يؤخذ أمرا مبهما ، لا يتحصل إلا بما ينضاف إليه من الفصول ، وبين الجسمية المتحصلة في الخارج بحكم الحس ، واحتيج إلى بيان نوعيتها ليعلم أن احتياجها إلى المادة كما أنه ليس من جهة تشخصها ، أعني كونها هذه الجسمية ، أو تلك التشخص بالبعض دون البعض كذلك ليس من جهة فصول بعض الأقسام أو ماهياتها بأن تكون الجسمية طبيعة جنسية ، تحتها جسميات ، مختلفة الحقائق بالفصول ، ممكنة الافتراق في اللوازم ، كالحيوانية ، أو عرضا عاما لجسميات كذلك كالوجود.

نعم يرد بعد تسليم ما ذكر في بيان نوعيتها أنه لم لا يجوز أن يكون ذلك من جهة بعض العوارض كقبول الانفصال الانفكاكي ، فلا يجري فيما لا يقبله كالفلكيات. وقد أشير في الإشارات إلى الجواب بأن قبول الجسمية للانفصال مع امتناع بقائها معه معرف لاحتياجها في ذاتها إلى المادة ، فيفتقر إليها ، حيث كانت يعني أنه ليس علة الاحتياج ليخص الاحتياج بما يقبل الانفصال ، بل علة للتصديق بالاحتياج الذاتي فيعم. ولا خفاء في توجه المنع ، وقد تقرر عموم الهيولي للاجسام بأن كل جسم فهو بالنظر إلى ذاته وامتداده ومقداره قابل للانفصال الانفكاكي ، وإن

٧١

امتنع ذلك لأمر زائد لازم كالصورة الفلكية ، أو غير ذلك لازم كغاية الصغر والصلابة ، وفي شرح الإشارات ما يشعر بأن قبول الانفصال الوهمي كاف في إثبات المادة إذ لا بقاء للاتصال مع الانفصال فلا بدّ من قابل باق.

واعترض بأن الانفصال الوهمي إنما يرفع الاتصال في الوهم دون الخارج ، فلا يلزم وجود الهيولي في الخارج على ما هو المطلوب.

وأجيب : بأن معنى إمكان الانفصال الوهمي هو أن يكون الجسم بحيث يصح حكم الوهم بأن فيه شيئا غير شيء وجزءا دون جزء لا من الأحكام الكاذبة الوهمية ، بل الصادقة المبنية على إمكان جزء غير جزء في نفس الأمر وهو معنى الانفصال الخارجي ، وحاصله أن القسمة الوهمية ، وإن لم تستلزم الانفكاكية لكن قبولها يستلزم قبولها ، وهو يستلزم ثبوت المادة في نفس الأمر.

[قال (الثاني)

امتناع الهيولي بدون الصورة لأنها إن كانت مشارا إليها كانت جسما لامتناع الجوهر الفرد ، وإلا فعند حصول الصورة تكون في بعض الأحياز ضرورة وهو تخصيص بلا مخصص ، ورد بمنع انحصار المخصص في الصورة].

من فروع القول بالهيولى أنها تمتنع أن توجد مجردة عن الصورة لأنها حينئذ إما أن تكون ذات وضع أو لا. والمراد بالوضع هاهنا كون الشيء بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه هاهنا أو هنالك ، فإن كانت ذات وضع كان جسما لكونه جوهرا متحيزا قابلا للانقسام في الجهات لما علم في بحث نفي الجزء من أنه يمتنع أن يوجد جوهر متحيز لا ينقسم أصلا بمنزلة النقطة (١) أو ينقسم في جهة دون جهة بمنزلة الخط أو السطح وإنما لم يقل كان جسما أو حالا في جسم كالأعراض والصور ، لأن الكلام في جوهر قابل للصور ، وإن لم تكن ذات وضع ولا محالة تصير محلا للصورة في الجملة.

__________________

(١) النقطة ثلاثة أقسام مادية ورياضية ومتافيزيقية أما النقطة المادية فهي أصغر شيء ذي وضع يمكن أن يشار إليه بالإشارة الحسية ، وأما النقطة الرياضية فهي معنى هندسي أولي لا يمكن تعريفه إلا بنسبته الى غيره كقولنا النقطة ذات غير منقسمة ولها وضع وهي نهاية الخط (راجع رسالة الحدود لابن سينا ص ٩٢) وأما النقطة الميتافيزيقية فهي الذرة أو الموناد (اصطلاح أجنبي).

٧٢

فعند حلول الصورة إما أن تكون في جميع الأحياز وهو تخصيص بلا مخصص ، لأن نسبة الصورة الجسمية إلى جميع الأحياز على السوية.

فإن قيل : لعل معها صورة نوعية تقتضي الاختصاص.

قلنا : فننقل الكلام إلى خصوصية ذلك المظهر. أعني الصورة النوعية دون سائر المظاهر ، ثم تعيين هذا الحيز من بين الأحياز التي هي أجزاء حيز كلية ذلك النوع ، ولا يرد النقض بهذا من الأرض مثلا ، حيث يخصص بهذا الجزء من حيز الأرض لجواز أن يكون ذلك بسبب صورة سابقة مقتضية لهذا الوضع المقتضي (١) بهذا الحيز كما إذا صار جزء من الهواء ماء ثم صار (٢) أرضا فإنه ينزل على استقامة إلى أن يقع في حيز من الماء ثم الأرض. وسيجيء لهذا زيادة بيان ، وكذا الكلام في وجه اختصاص المادة بما لها من الصورة النوعية على ما نفصله في الفرع الخامس. فلا يرد النقض به. نعم يتوجه أن يقال لم لا يجوز أن تكون للهيولي المجردة أوصاف وأحوال غير الصورة والأوضاع تعدها (٣) للاختصاص عند التجسم ببعض الأوضاع والأحياز على التعيين ، وأما الرفع بإسناد الاختصاص إلى القادر المختار على ما ذكره الإمام فلا يتأتى على أصول القائلين بالهيولى.

[قال (الثالث امتناع الصورة بدون الهيولي)

لأنها لو قامت بذاتها استغنت عن المحل ، فلم تحل فيه. وردّ بأنه يجوز أن لا يكون التجرد (٤) ولا الحلول لذاتها].

ولهم في بيان ذلك وجوه :

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (المقتضى)

(٢) سقط من (أ) لفظ (صار)

(٣) في (ب) يعد الاختصاص بدلا من (تعدها للاختصاص)

(٤) التجريد أو التجرد في اللغة التعرية تقول جرد الشيء قشره وجرد الجلد نزع شعره وجرد السيف من غمده سلّه والتجريد عند الفلاسفة هو انتزاع النفس عنصرا من عناصر الشيء والتفاتها إليه وحده دون غيره مثال ذلك أن العقل يجرد امتداد الجسم من كتلته مع أن هذا الجسم لا تنفك عنه صفتاه في الوجود الخارجي قال ابن سينا ان أصناف التجريد مختلفة ومراتبها متفاوتة. (راجع النجاة ص ٢٧٥)

٧٣

أخصرها أنها لو وجدت مجردة لكانت مستغنية في ذاتها عن المحل فيمتنع حلولها فيه ، لأن ما بالذات لا يزول ، وأنها تستلزم قبول الانقسام الوهمي المستلزم لقبول الانقسام الانفكاكي المستلزم للمادة.

ورد الأول بأنه يجوز أن لا تقتضي ذاتها التجرد عن المادة ، ولا الحلول فيها ، بل كل منهما يكون لأمر من خارج.

والثاني : يمنع استلزام قبول الانقسام الوهمي للانفكاكي. وقد مرّ الكلام فيه.

وأشهرها : أن الصورة الجسمية مستلزمة للشكل ، وهو مستلزم للمادة.

أما الأول : فلما سيجيء من تناهي الامتدادات ولا نعني بالشكل إلا هيئة إحاطة نهاية أو نهايات.

وأما الثاني : فلأن حصول الشكل (١) لو لم يكن بمشاركة من المادة ولم يكن لها دخل في ذلك ، فإما أن تكون بمجرد الطبيعة الامتدادية ، فيلزم تساوي الأجسام في الأشكال أو بحسب فاعل من خارج ، فيتوقف اختلاف المقادير والأشكال على اتصال وانفصال وعلى قبول وانفعال ، وقد سبق أن ذلك بدون المادة محال.

واعترض بوجهين :

أحدهما : منع لزوم الانفصال ، فإنه قد تختلف المقادير والأشكال بدون الانفصال كما في تبدل مقادير الشمعة وأشكالها مع أن امتدادها بحالها ، وإن أريد أن إمكان الانفصال الوهمي مستلزم لإمكان الانفكاك المحوج إلى المادة على ما مر ، كأن باقي المقدمات مستدركا في البيان ، وهو وإن لم يكن قادحا في الفرض لكن لا كلام في استقباحه في أدب المناظرة سيما إذا كان بعض المقدمات

__________________

(١) الشكل في الأصل هيئة الشيء وصورته تقول شكل الارض صورتها والشكل أيضا هو المثل والشبيه والنظير قال ابن سينا مثل إدراك الشاة لصورة الذئب أعنى شكله وهيئته والشيء كلما بدل شكله تبدلت فيه الأبعاد المحدودة. (راجع رسالة الحدود والنجاة ص ٢٦٤) والشكل المنطقي هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط الى الحد الأصغر والحد الأكبر فإذا كان الحد الأوسط موضوعا في الكبرى ومحمولا في الصغرى كان القياس من الشكل الاول الخ ... (راجع كتاب المنطق ص ٤٣ / ٤٨ للدكتور جميل صليبا)

٧٤

المستدركة في غاية الخفاء كتناهي الأبعاد.

وثانيهما : النقض بكل بسيط من الفلكيات والعنصريات حيث كانت طبيعة الكل والجزء واحدة ، مع أن الجزء ليس على شكل الكل ومقداره.

وأجيب عن الأول بوجهين :

أحدهما : أن المراد لزوم أحد الأمرين ، أعني الانفصال كما في تشكلات الماء تجعله مياها أو مجرد الانفعال كما في الشمع ، وكل منهما يستلزم المادة على ما سبق من برهاني الانفصال والانفعال ، مع ما عليهما من الإشكال. ولا خفاء في أن هذا مع كونه مخالفا لظاهر تقرير القوم مشتمل على استدراك ، لأن إمكان الانفعال لازم قطعا ، فلا معنى لضم الانفصال إليه ، وجعل اللازم أحدهما ، ولا ينبغي أن يحمل على هذا المعنى عبارة شرح الإشارات (١). حيث قال : هذا الاعتراض ليس بقادح في الفرض ، لأنا لم نجعل لزوم المحال مقصورا على لزوم الفصل والوصل ، بل عليه وعلى لزوم الانفعال (٢) ، وإنما معناها أنا رتبنا لزوم المحال على لزوم الانفصال ، ولزوم الانفعال جميعا ، فإن ثبت كلا اللزومين فذاك ، وإلا فلا خفاء في لزوم الانفعال وهو كاف في لزوم المادة.

وثانيهما : أن ليس المراد انفصال الجسم في نفسه ، بل انفصال الأجسام بعضها عن بعض لمعنى عدم الاتصال عما من شأنه الاتصال ، فإن هذا هو المحوج إلى المادة لا مجرد التمايز والافتراق.

__________________

(١) كتاب الارشاد في (ب) بدلا من (الاشارات) وكتاب الارشاد تأليف إمام الحرمين الجويني. وقد قام بتحقيقه والتعليق عليه المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى والدكتور على عبد المنعم.

(٢) الانفعال : أطلق في اللغة العربية أولا على إحدى مقولات ارسطو (أن ينفعل) وهي ضد مقولة (أن يفعل) قال ابن سينا الانفعال هو نسبة الجوهر الى حالة فيه بهذه الصفة كالتقطع والتسخن (راجع النجاة ص ١٢٨) وقال الغزالي «الانفعال هو نسبة الجوهر المتغير الى الجوهر المغير ، فإن كل منفعل فعن فاعل ، وكل متسخن ومتبرد فعن مسخن ومبرد بحكم العادة المطردة عند أهل الحق ، وبحكم ضرورة الجبلة عند المعتزلة ، والفلاسفة ، والانفعال على الجملة تغير ، والتغير قد يكون من كيفية الى كيفية مثل تصيير الشعر من السواد الى البياض. (راجع معيار العلم ص ٢٠٩ ـ ٢١٠) وقال الجرجاني : الانفعال هو الهيئة الحاصلة للمتأثر من غيره بسبب التأثير أولا كالهيئة الحاصلة للمنقطع ما دام منقطعا .. التعريفات.

٧٥

وللتنبيه على هذا المعنى تعرضوا مع الانفصال للاتصال ، وإلا فلا دخل لاتصال الأجسام بعضها ببعض في اختلاف أشكالها ومقاديرها ، وعلى هذا يحمل ما قال في شرح الإشارات : أن المغايرة بين الأجسام لا تتصور إلا بانفصال بعضها عن بعض ، واتصال بعضها ببعض ، وذلك مستلزم للمادة ، ولما لاح على هذا الطريق أثر الضعف بناء على أنهم بنوا ثبوت المادة على إمكان الاتصال والانفصال في الجسم نفسه ، حتى لو لم يوجد إلا جسم واحد كان كذلك لا الاتصال والانفصال فيما بين الأجسام ، وأن دعوى إمكان الاتصال فيما بين كل جسمين حتى الفلك والعنصر بحسب الطبيعة الجسمية ربما لا يسمع عدل إلى طريق الانفعال. فقال : وبالجملة لا يمكن أن يحصل الاختلافات المقدارية والشكلية عن فاعلها في الامتداد ، إلا بعد أن يكون فيه قوة الانفصال المقتضية للمادة.

وأجيب عن النقض أيضا بوجهين :

أحدهما : أن هناك مادة تقبل الكلية والجزئية لقبولها بذاتها الاتصال والانفصال ، فيعود اختلاف الشكل والمقدار فيما بين الكل والجزء ، إلى اختلاف القابل ، وإن كان الفاعل واحدا هو الصورة النوعية ، بخلاف الصورة الجسمية. إذا فرضناها مجردة عن المادة ، فإنه لا يتصور فيها ذلك ، لأن حصول الجزئية بالانقسام ، والكلية بالالتئام من لواحق المادة.

وثانيهما : أن هناك مانعا هو الجزئية ، فإنه لما حصل للكل ذلك الشكل والمقدار امتنع بالضرورة حصوله للجزء ، ما دام الجزء (١) جزءا ، والكل كلّا ، ولا يتصور ذلك في الصورة المجردة من المادة ، وهذا عائد إلى الأول ، إلا أنه يرد عليه أن الجزء وإن امتنع كونه على مقدار الكل ، لا يمتنع كونه على شكله كتدوير الفلك وحامله (٢) ، والمقصود بالنقض هو الشكل ، وإنما المقدار استطراد.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الجزء)

(٢) في (ب) وحاصله بدلا من (وحامله)

٧٦

وجوابه أن الجزئية تمنع لزوم كون الجزء شكل الكل ضرورة ، امتناع كونه جميع أجزاء الكرة ، وهذا كاف في دفع النقض ، على أن مقتضى عدم التعدد في الفاعل والقابل هو أن يكون شكل الجزء والكل واحدا بالشخص ، ولا خفاء في أن الجزئية تمنع ذلك.

[قال (الرابع)

إن التلازم بينهما (١) ليس لعلية إحداهما ، بل لاحتياج الهيولي في بقائها إلى صورة ما ، والصورة في تشخصها إلى هيولى بعينها].

قد ثبت امتناع كل من الهيولي والصورة بدون الأخرى (٢) ، فاحتيج إلى بيان ذلك على وجه لا يدور ، وذلك أن الهيولي يحتاج في بقائها إلى صورة لا بعينها ، وتبقى محفوظة بصور متواردة كالسقف يبقى بدعائم تزال واحدة وتقام أخرى (٣). نعم قد يلزم صورة واحدة لأسباب خارجية كما في الفلك ، والصورة تحتاج في تشخصها إلى الهيولي المعينة ، التي هي محليها ، لما علم من أن شكلها إنما يكون بالمادة ، وما يتبعها من العوارض ، وليست الصورة علة للهيولي ، لكونها حالة فيها محتاجة إليها ، ولكونها مقارنة لما هو متأخر عن الهيولي. أعني التناهي والتشكل التابعين للمادة ، ولكونها جائزة الزوال إلى صورة أخرى ، مع بقاء الهيولي بعينها ، ولا يعقل في الشيء المعين أن تكون علته شيئا لا بعينه ، وليست الهيولي علة للصورة لما تقرر عندهم من أن القابل لا يكون فاعلا ، ومن أن الهيولي لا تقوم بالفعل إلا بالصورة ، فتكون محتاجة إليها في الوجود متأخرة عنها ، ولأنها قابلة لصور غير متناهية ، فلا تكون علة لشيء منها لعدم الأولوية ، وإن انضم إليها (٤) ما يفيد الأولوية لم يكن للهيولي إلا القبول ، والحق أن بيان كيفية تعلق الهيولي بالصورة ، وامتناع علية إحداهما

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (بينهما)

(٢) سقط من (ب) جملة (بدون الأخرى)

(٣) في (ب) تزال الأولى وتقام الثانية

(٤) سقط من (أ) لفظ (إليها)

٧٧

للأخرى ، ووجوب تقدم الصورة على الهيولي من حيث هي صورة ما ، وتأخرها عنها من حيث هي صورة مشخصة على وجه يندفع عنه ما سنح عليه (١) من الإشكالات عسر جدا ، والمتأخرون قد بذلوا فيه المجهود ، وبلغوا مداه ، ولو علمنا فيه خيرا لأوردناه.

[قال (الخامس)

إن اختلاف الأجسام في الآثار ليست للجسمية المشتركة ، بل لأمر مختص غير عارض دفعا للتسلسل ، وهو الصورة النوعية ، ونوقض باختلاف الصورة ، فإن التزم بقاءها لا إلى نهاية ، أو استناد اختلافها إلى اختلاف الاستعدادات التزمنا مثله في العوارض. وقد يقال إن مبادي آثار الأجسام أمور بها تنوعها وتحصلها ، فلا يكون إلا جوهر مقومه ، وحاصله أنا نقطع باختلاف حقيقتي الماء والنار مثلا ، مع الاشتراك في المادة والصورة الجسمية ، فلا بدّ من الاختلاف بمقوم جوهري ، نسميه الصورة النوعية ، ومبناه على امتناع تقوم الجسم بعرض قائم بجزئيه (٢) ، أو بجوهر غير حال في مادته].

من تفاريع القول بالهيولى والصورة إثبات صور نوعية ، هي مبادي اختلاف الأنواع بالآثار ، وبيانه أنه لا خفاء في أن للأجسام آثارا مختلفة (٣) كقبول الانفكاك والالتئام بسهولة كما في الماء أو بعسر كما في الأرض ، أو امتناع عن ذلك كما في الفلك ، وكالاختصاص بما لها بحسب طبعها من الأشكال والأمكنة والأوضاع ، وليس ذلك بمجرد الجسمية المشتركة ولا الهيولي القابلة وهو ظاهر ، ولا بأمر مفارق لتساوي نسبته إلى جميع الأجسام ، ولأن الكلام في آثار الأجسام فيلزم الخلف ، فتعين أن تكون بأمور مختصة مقارنة ، ويجب أن تكون صورا لا أعراضا ، لأنا ننقل الكلام إلى أسباب تلك الأعراض فيتسلسل ، ولأن تنوع الأجسام وتحصلها موقوف على الاتصاف بتلك الأمور ، ومن المحال تقوم الجوهر بالعرض.

__________________

(١) سقط من (ب) جملة (ما سنح عليه)

(٢) في (أ) بجزئه بدلا من (بجزئيه)

(٣) سقط من (ب) لفظ (مختلفة)

٧٨

واعترض بأن الترديد المذكور يجري في اختصاص كل جسم بما له من الصورة ، وقرره الإمام بأن اختصاص الجسم بهذه الصورة مثلا لو كان لأجل صورة أخرى ، فإما أن يكون ذلك على طريق المساوقة (١) ، فيلزم استناد كل صورة إلى صورة لا إلى نهاية ، أو على طريق المسابقة ، بأن تستند الصورة الحاصلة في الحال إلى صورة سابقة عليها ، فيندفع أصل الاحتجاج ، لجواز أن يستند كل عرض إلى عرض سابق عليه.

فأجاب بأنه على طريق المسابقة ، ويمتنع مثله في الأعراض لأنها مستندة إلى مبادي موجودة في الأجسام تعيدها (٢) عند زوالها بالقسر (٣) لوجهين :

أحدهما : أن الماء المسخن بالنار يعود باردا ، فلولا أن في جسم الماء شيئا محفوظ الذات عند ملاقاة النار كما كان كذلك بخلاف الصورة المائية ، فإنها إذا زالت إلى الهوائية لا تعود بالطبع.

وثانيهما : أن كيفيات العناصر تنكسر صرافتها عند الامتزاج ، ولا كاسر سوى الصورة لما سيجيء في بحث المزاج ، وأنت خبير بأن هذا إنما يتم لو ثبت لكل عرض كذلك أن يجب (٤) أن يعود بعد الزوال ، وينكسر عند الامتزاج وإلا فيجوز أن تكون الأعراض التي كذلك مستندة إلى أمور محفوظة هي أعراض يستند كل منها إلى عرض قبله ، وهكذا إلى غير النهاية كالصور ، ولذا قال الإمام رحمه‌الله في موضع (٥) آخر أن الذي حصل بالدليل هو استناد هذه الأعراض من الأين ،

__________________

(١) المساوقة : هي التلازم بين الشيئين بحيث لا يتخلف أحدهما عن الآخر في مرتبة (راجع كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي) وإذا كان لأحد الشيئين معية مع الآخر كان مساوقا له ، وكذلك إذا كان بينهما تلازم في التغير ، وقد تستعمل المساوقة فيما يعم الاتحاد في المفهوم ، والمساواة في الصدق ، فتشمل الألفاظ المرادفة والمساوية. (راجع ابن سينا كتاب النجاة ص ٣٢٣ فصل في مساوقة الواحد للموجود باعتبار ما)

(٢) في (ب) بصدها بدلا من (تعيدها)

(٣) في (ب) بالعسر بدلا من (بالقسر)

(٤) في (ب) بحيث بدلا من (يجب)

(٥) سقط من (أ) جملة (في موضع)

٧٩

والكيف ، وغيرهما ، إلى قوى موجودة في الجسم ، وأما إنها صور لا أعراض فلا ، بل الأقرب عندنا أنها من قبيل الأعراض.

والحاصل أنه كما لا يمتنع تعاقب الصور على الإطلاق ، لا يمتنع تعاقب الأعراض التي يستند إليها ما يعود بعد الزوال ، فيكون كل سابق معدا (١) للاحق ، ويرجع اختلافها إلى اختلاف الاستعدادات ، وإن كان المبدأ واحدا ، وقد يقال نحن نعلم بالضرورة أن هاهنا آثارا صادرة عن الأجسام كالإحراق للنار ، والترطيب للماء ، فلو لم يكن فيها إلا الهيولي والصورة الجسمية لما كان كذلك ، فلا بد فيها من أمور هي مبادي تلك الآثار. ولا خفاء في أن الأجسام إنما تختلف بحسب آثارها المخصوصة بتنوع (٢) نوع ، فتنوعها وتحصلها إنما يكون باعتبار تلك المبادي ، فتكون صورا لا أعراضا لامتناع تقوم الجوهر بالعرض. وحينئذ يندفع ما يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك الآثار مستندة إلى الفاعل المختار؟ أو يكون لبعض المفارقات خصوصية بالقياس إلى بعض الأجسام دون بعض؟ أو يكون اختلاف الآثار عن المفارق بحسب اختلاف استعدادات الأجسام وهيوليتها؟ وبهذا يظهر أنه يكفي في إثبات الصور النوعية أن يقال : نحن نقطع باختلاف حقيقتي الماء والنار مع الاشتراك في المادة والصور الجسمية ، فلا بد من الاختلاف بمقوم جوهري نسميه الصورة النوعية. ويردّ على هذا (٣) التقريرين بعد تسليم اختلاف الأجسام بالحقيقة ، وكون الآثار صادرة عنها ، وكون هيوليتها متفقة للحقيقة ، وكذا صورها الجسمية.

إنا لا نسلّم لزوم كون ما به الاختلاف جوهرا حالا في الهيولي ليكون صورة ، ولم لا يجوز أن يكون عرضا قائما بأحد جزئيه لا بالجسم نفسه ، ليدفع بأن العرض الحال في الجسم متقوم به ، متأخر عنه ، فلا يكون مقوما له متقدما عليه ، أو يكون جوهرا غير حال في مادته ، فلا يكون صورة ، ولا يكون الاحتياج

__________________

(١) في (ب) بعد بدلا من (معدا)

(٢) في (أ) نوع بدلا من (تنوع)

(٣) سقط من (أ) لفظ (هذا)

٨٠