شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

يخفى أن حركة المحيط لا توجب حركة المحاط عند اتحاد المركز ، لكن قد يتحرك بتبعيته لأسباب خارجية. وقد استدلوا بما يشاهد من حركات الشهب ، وذوات الأذناب على نهج حركة الفلك ، أن كرة النار تتحرك بحركة الفلك ، وأنما لم يتحرك الهواء تبعا للنار ، لأنه لرطوبته ، وعدم بقاء أجزائه على أوضاعها ينفصل بسهولة. فلا يلزم جرم (١) المحيط به. وقيل : إن كل جزء يفرض من النار له جزء معين من الفلك كالمكان الطبيعي له ، وهو ملازم له ، ملاصق به طبعا فيتبعه في الحركة.

وردّ بأن الفلك متشابه الأجزاء ، وكذا النار الملاقية لكونها بسيطة ، فيكون حال كل جزء من النار ، مع كل جزء من الفلك كحاله مع سائر الأجزاء ، فلا يكون (٢) البعض منها طالبا للبعض منه بالطبع ، وأما الهواء فمحدبه صحيح الاستدارة على الرأي الأصح لملاصقته مقعر النار ، لا مقعره لما يرى من أمر المياه والجبال والوهاد ، وله أربع طبقات. إحداها الدخانية المجاورة للنار يخالطها أجزاء من النار ، ويتصاعد إليها أجزاء من الدخان فتكون مركبة من الأرضية والهوائية والنارية ، وتحتها الصرفة التي يجاورها الدخان ، ولم يرتفع إليها البخار. وذلك لأن الدخان لمخالطته الأجزاء النارية ، وتصعده من اليابس (٣) من حيث أنه يابس ، يكون أخف حركة ، وأشد نفوذا ، وتحتها الطبقة الزمهريرية الباردة جدا لمخالطة الأبخرة الصاعدة إليها ، وانقطاع أثر (٤) انعكاس الأشعة الحاصلة من أنوار الكواكب ، وتحتها الطبقة المجاورة للأرض المتسخنة بانعكاس الأنوار من مطرح الشعاع. وأما الماء فطبقة واحدة(٥) هي البحر المحيط بالأرض ، ولم يبق على صرافتها لنفوذ آثار الأشعة ، ومخالطة الأجزاء الأرضية ، وإنما اختلفت بالعذوبة ، والملوحة ، والصفاء ، والكدورة ، لاختلاف مخالطة الأجزاء الأرضية قلة وكثرة ، وأما الأرض فثلاث طبقات. إحداها الغبرية (٦) التي انكشفت بعضها عن الماء ،

__________________

(١) سبق الحديث عنه في هذا الجزء

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (يكون)

(٣) سقط من (ب) لفظ (اليابس)

(٤) سقط من (ب) لفظ (أثر)

(٥) سقط من (أ) لفظ (واحدة)

(٦) في (ب) التربة بدلا من (الغبرية)

١٨١

١٨٢

وتجففت بحر الشمس والكواكب ، وبقي بعضها تحت الماء ، والثانية الطينية الممتزجة من الماء والتراب. والثالثة الصرفة القريبة من المركز ، فتكون طبقات العناصر تسعا ، وجعلها صاحب المواقف (١) سبعا لأنه أسقط الماء لعدم بقائه على الكرية والإحاطة عن الطبقات. وجعل الهواء ثلاثا. أعلاها المخلوطة من النارية والهوائية ، وتحتها الزمهريرية ، وفسرها بالهواء الصرف ، وتحتها البخارية المخلوطة من الهوائية (٢) والمائية. ولا أدري كيف خفى عليه أن ما تحت الأعلى مع بعده عن مجاورة الأرض والماء لا يكون زمهريرا وإن الزمهرير لا يكون هواء صرفا.

[قال (وهي)

مع الماء بمنزلة كرة واحدة (٣) ، وليست الأرض على حقيقة (٤) الاستدارة ، لما فيها من التضاريس ، إلا أن ذلك بالقاسر ، ولم تعد إلى الكربة لما في طبعها من اليبوسة. وما يقال : أن ذلك لا يقدح في كريتها معناه في كريتها بحسب الحس ، وإلا فالكرية لا تقبل الشدة والضعف].

أي الأرض مع الماء بمنزلة كرة واحدة مركزها مركز (٥) العالم ، وليست الأرض على حقيقة الاستدارة لما فيها من الجبال والوهاد ، وما يقال : أن ذلك لا يقدح في كريتها معناه، أنه ليست لتضاريس الأرض من الجبال والوهاد نسبة محسوسة (٦) إليها (٧) ، لأن نسبة أعظم جبل على الأرض ، وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلاثة على ما ذكره بعض المهندسين إلى الأرض كنسبة سبع (٨) عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع

__________________

(١) هو الامام عضد الدين الايجي راجع ترجمة وافية عنه في مقدمة الكتاب

(٢) في (ب) البخارية بدلا من (الهوائية)

(٣) سقط من (ب) لفظ (واحدة)

(٤) في (ب) واقع بدلا من (حقيقة)

(٥) سقط من (ب) مركز (الثانية)

(٦) في (أ) مجسوسة (بالجيم) بدلا من (محسوسة)

(٧) في (ب) إلينا بدلا من (إليها)

(٨) سقط من (ب) لفظ (سبع)

١٨٣

بالتقريب ، وأما الكرية بحسب الحقيقة ، فيقدح فيها أقل من ذلك ، لأنها لا تقبل الشدة والضعف ، لأن معناها أن تكون جميع الخطوط الخارجة من المركز إلى المحيط متساوية بحسب التحقيق لا بمجرد التقريب.

[قال (والذي تقتضيه قواعدهم إحاطة الماء بجميع الأرض)

ولم يذكروا لانكشاف البعض شيئا يعول عليه سوى العناية الإلهية ، فإن أرادوا ظاهرها ، فقد اهتدوا ، لكنهم يفسرونها بالعلم بالنظام على الوجه الأكمل].

لأن الأرض ثقيل مطلق (١) ، والماء ثقيل مضاف بمعنى أن حيزه الطبيعي أن يكون فوق الأرض ، وتحت الهواء ، والسبب في انكشاف الربع المسكون ، قيل هو انجذاب أكثر المياه إلى ناحية الجنوب لكونها أحر لقرب الشمس منها ، وبعدها عن ناحية الشمال ، لكون حضيض الشمس في البروج الجنوبية ، وأوجها في الشمالية ، وكونها في القرب أشد شعاعا من كونها في البعد ، وكون الحرارة اللازمة من الشعاع الأشد أقوى وأحد من الحرارة اللازمة من الشعاع الأضعف. ولا خفاء في أن من شأن الحرارة جذب الرطوبات كما يشاهد في السراج وعلى هذا تنتقل العمارة من الشمال إلى الجنوب وبالعكس بسبب انتقال الأوج من أحدهما إلى الأخر ، وتكون العمارة دائما حيث أوج الشمس لئلا يجتمع في الصيف قرب الشمس من سمت الرأس ، وقربها من الأرض فتبلغ الحرارة إلى النكاية والإحراق ، ولا البعدان في الشتاء فيبلغ البرد إلى حد النكاية والتفجيج. وقيل : السبب كثرة الوهاد والأغوار (٢) في ناحية الشمال ، باتفاق من الأسباب الخارجة فتنحدر المياه

__________________

(١) المطلق : مقابل للمقيد ، تقول : أطلق الرجل المواشي سرحها ، وأطلق الأسير ، خلي سبيله ، واطلق في كلامه ، لم يقيده ، فالمطلق إذن في اللغة هو المتعري من كل قيد.

والمطلق في علم ما وراء الطبيعة : اسم للشيء الذي لا يتوقف تصوره أو وجوده على شيء آخر غيره ، لأنه علة وجود نفسه ، ولذلك قيل ان الموجود المطلق هو الموجود في ذاته وبذاته ، وهو الضروري الذي لا يلحقه التغير ، والبريء من جميع انحاء النقص.

(٢) غور كل شيء قعره ، يقال فلان بعيد الغور ، والغور أيضا المطمئن من الأرض. والغور تهامة ، وما يلي اليمن ، وماء غور اي غائر وصف بالمصدر كدرهم ضرب ، وماء سكب وغار اتى الغور فهو غائر ، وبابه قال ، ولا يقال أغار ، وزعم الفراء أن أغار لغة.

١٨٤

إليها بالطبع ، وتبقى المواضع المرتفعة مكشوفة ، وقال بعضهم : ليس لانكشاف القدر المذكور سبب معلوم غير العناية الإلهية (١). فإن أرادوا بذلك إرادة الله أن يكون ذلك مستقرا للإنسان وسائر الحيوانات ، ومادة لما يحتاج إليه من المعادن والنبات ، فقد دخلوا في زمرة المهتدين ، حيث جعلوا الصانع عالما بالجزئيات ، فاعلا بالاختيار ، لا موجبا بالذات ، لكنهم يفسرون العناية بالعلم ، بالنظام على الوجه الأكمل ، وهو لا يوجب العلم بالجزئي من حيث هو جزئي ، ولا الفعل بالقصد والاختيار.

[قال (والعمدة في كرية الكل)

بساطتها وفي كون الأرض في الوسط ، ثقلها المطلق ، وفي سكونها أنها في حيزها مع انتفاء الميل المستدير لوجود المستقيم ، وقد يستدل على كرية الماء برؤية السائر في البحر أعالي الجبال قبل حضيضاتها ، وعلى توسط الأرض بعدم تفاوت الكواكب في الصغر والكبر بحسب البقاع ، وعلى كريتها بكون طلوع الكواكب وغروبها ، وارتفاع القطب وانخفاضه على نسبة واحدة بحسب البقاع ، وكأنه تحدث ، وإلا فبعد تسليم انتفاء سبب آخر لا يفيد حقيقة الاستدارة والتوسط].

قد اتفق المحققون على أن العناصر (٢) كلها كرية الشكل ، وأن الأرض في

__________________

وغار الماء سفل في الأرض ، وبابه قال ودخل وكذا باب غارت أي عينه دخلت في رأسه وغارت عينه تغار لغة فيه.

(١) في (ب) الأزلية بدلا من (الالهية)

(٢) العنصر في اللغة الأصل والجنس ، يقال : فلان كريم العنصر ، وجمعه عناصر ، وهي مرادفة للامهات ، والمواد والأركان والاسطقسات ، قال ابن سينا : العنصر : اسم للأصل الأول في الموضوعات ، فيقال عنصر للمحل الأول الذي باستحالته يقبل صورا تتنوع بها كائنات عنها ، اما مطلقا وهو الهيولي الأولي ، واما بشرط الجسمية ، وهو المحل الأول من الأجسام الكائنة بقبول صورتها (راجع رسالة الحدود) وقال الخوارزمي : «الاسطقس» (اي العنصر) هو الشيء البسيط الذي منه يتركب المركب كالحجارة والقراميد ، والجذوع التي يتركب منها القصر وكالحروف التي يتركب منها الكلام ، وكالواحد الذي يتركب منه العدد (راجع مفاتيح العلوم ص ٨٢) ـ

١٨٥

الوسط بمعنى أن وضعها من السماء كمركز الكرة عند محيطها ، وأنها لا تتحرك لا من المركز. ولا إليه ولا عليه. واستدلوا على ذلك بحسب النظر التعليمي بأدلة مذكورة في كتب الهيئة تفيد الآنية (١) ، وبحسب المنظر الطبيعي بما يفيد اللمية على ما ذكر في علم السماء والعالم مثل أن جميع العناصر بل الفلكيات بسائط ، والشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة ، لأن مقتضى الطبيعة الواحدة لا يختلف ، وأن الأرض ثقيل مطلق ، فتكون تحت الكل ، وهو ما يلي مركز محدد الجهات ، وإذا كانت في حيزها الطبيعي لم تتحرك عنه ، ولا إليه. وإن في الأرض مبدأ ميل مستقيم على ما يرى في أجزائها ، فلا يكون فيها مبدأ ميل مستدير ، لتضاد الميلين ، فلا تتحرك على المركز ، كما ذهب إليه البعض من أن ما يظهر من الطلوع والغروب بالحركة اليومية مستند إلى حركة الأرض على مركزها ، حركة وضعية من المغرب إلى المشرق ، والكل ضعيف ، لأنها لا يفيد كونها كذلك في الوجود ، لأن مقتضى الطبع قد يزول بالقاسر ، فيجوز أن لا تبنى على الكرية ، ولا في الوسط ، وتتحرك على الاستدارة لا بالطبع كالفلك.

وأما الأدلة التعليمية فكثيرة مذكورة في موضعها ، بما عليها من الإشكالات مثل استدلالهم على كرية الماء ، بأنه لو لم يكن كريا ساترا بنفسه ، لأسافل الجبل الشامخ على ساحل البحر ، لظهر الجبل كله دفعة للسائر في البحر ، وليس كذلك لأنه يظهر له رأس الجبل أولا ثم ما تحته قليلا قليلا ، ويتحقق ذلك ، بأن توقد نيران على مواضع مختلفة من أعلى الجبل إلى أسفله. ومثل استدلالهم على كون

__________________

ـ والعناصر عند القدماء أربعة : وهي النار ، والهواء ، والماء ، والتراب ،

(١) الآنية : اصطلاح فلسفي قديم معناه تحقق الوجود العيني ، زعم ابو البقاء : انه مشتق من (إن) التي تفيد في اللغة العربية التأكيد والقوة في الوجود ، قال : ولهذا اطلقت الفلاسفة لفظ (الانية) على واجب الوجود لذاته لكونه اكمل الموجودات في تأكيد الوجود وفي قوة الوجود ، وهذا لفظ محدث ليس من كلام العرب (راجع كليات ابي البقاء) وزعم بعض المحدثين ان الانية لفظ معرب عن كلمة (اين) اليونانية التي معناها كان أو وجد ، واختلفوا في ضبط هذه الكلمة ، فقرأها بعضهم آنية كما في تعريفات الجرجاني وهو خطأ لان الآنية نسبة الى الآن وقرأها بعضهم أنية نسبة الى أن المخففة.

والأنية : تحقق الوجود العيني والدليل على ذلك قول الجرجاني : الأنية هي تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية.

١٨٦

الأرض في الوسط ، بأنها لو لم تكن كذلك ، لزم أن يرى الكوكب في بعض البقاع أصغر لبعده عن السماء ، وفي البعض أكبر لقربه منها ، والواقع بخلافه ، ومثل استدلالهم على كرية الأرض ، بأنه لو كان امتدادها الطولي ، أعني ما بين المشرق والمغرب على استقامة ، لكان طلوع الكواكب على سكانها ، وكذا غروبها عنهم في آن واحد ، أو على تقعير لكان الطلوع على المغربين قبله على المشرقين في مساكن متفقة العرض ، وكذا الغروب فيها ، وليس كذلك، بل الطلوع والغروب للمشرقيين قبلهما للمغربيين ، بحكم ارصاد الحوادث الفلكية من الخسوفات القمرية وغيرها. فأن أوساطها إنما تتفق في آن واحد لا محالة ، وهي مختلفة بالنسبة إلى أول الليل حتى لو كانت للمغربي بعد مضي ساعتين كانت للمشرقي بعد مضي ثلاث ساعات ، إن كان ما بين نصفي نهاريهما (١) خمس عشرة درجة ، وبين مسكنيهما المتفقي العرض ألف ميل ، وعلى هذا النسق يتعين التحديب (٢) ، ولو كان الامتداد العرضي. أعني ما بين الجنوب والشمال على استقامة ، لبقي ارتفاع أحد القطبين ، وانحطاط الآخر (٣) على حاله بالنسبة إلى السائر كم سارا وعلى تقعير لانتقص ارتفاع القطب الظاهر ، وانحطاط الآخر بالنسبة إلى السائر إلى جهة القطب الظاهر وبالعكس للسائر إلى جهة القطب الخفي ، والوجود بخلاف ذلك ، إذ يزداد ارتفاع القطب الشمالي ، وانحطاط الجنوبي للواغلين في الشمال ، وبالعكس للواغلين في الجنوب بحسب وغولهما ، فتعين التحديب في هذين الامتدادين ، وكذا في سائر الامتدادات التي في سموت بين السمتين (٤) لتركب الاختلافين حسب ما يقتضيه التحديب دون الاستقامة أو التقعير (٥). وإذ ثبت استدارة القدر المكشوف حدس منه أن الباقي كذلك.

واعترض بأنه يجوز أن يكون وجود الأمور المذكورة على النهج المذكور (٦)

__________________

(١) في (ب) النهار بينهما بدلا من (نهاريهما)

(٢) في (ب) التحديث بدلا من (التحديب)

(٣) في (أ) الثاني بدلا من (الآخر)

(٤) سقط من (أ) لفظ (بين)

(٥) سقط من (أ) لفظ (او التقعير)

(٦) سقط من (ب) لفظ (المذكور)

١٨٧

مبنيا على سبب آخر غير الاستدارة والتوسط ، وحاصله أن ما ذكرتم استدلال بوجود المسبب على وجود سبب معين ، ولا يتم إلا إذا بين انتفاء سبب آخر.

ولو سلّم. فما ذكر لا يفيد إلا الاستدارة والتوسط بحسب الحس دون الحقيقة ، ولا محيص (١) إلا بالرجوع إلى أن ذلك تحدس كما في استضاءة القمر بالشمس.

(القسم الثالث)

في المركبات التي لا مزاج لها وهي أنواع :

النوع الأول : ما يحدث فوق الأرض البخار (٢) المتصاعد قد يلطف فيصبح (٣) هواء ، وقد يبلغ الطبقة الزمهريرية فيتكاثف فيجتمع سحابا ويتقاطر مطرا ، وربما يصيبه برد قبل تشكله قطرات فينزل ثلجا ، أو بعده فبردا ، وقد لا يبلغ فيصير ضبابا إن كثر ، ونزل صقيعا ، أو طلا (٤) إن قلّ وتكاثف برد الليل ، وربما ينعقد البخار الكثير سحابا ماطرا بتكاثفه بالبرد ، وأن يتصعد إلى الزمهريرية لمانع ، وقد يتصاعد مع البخار دخان ، فيحتبس في السحاب فيمزقه بعنف إلى فوق إن بقي على حرارته (٥) ، وإلى تحت إن أصابه برد ، فيحدث من تمزيقه ومصاكته إياه صوت هو الرعد (٦) ، ونارية لطيفة هي البرق (٧) ، أو كثيفة هي الصاعقة (٨) ، وقد يشتعل الدخان

__________________

(١) في (ب) ولا بد بدلا من (ولا محيص)

(٢) في (ب) النجار بدلا من (البخار) وهو تحريف

(٣) في (أ) فيصير بدلا من (فيصبح)

(٤) في (ب) أو طلالا بدلا من (طل) وهو تحريف

(٥) في (ب) ضراوته بدلا من (حرارته) وهو تحريف

(٦ ، ٧ ، ٨) ـ في السحب كهربائية موجبة ، وفي الأرض كهربائية سالبة ، وقد تكتسب السحب المنخفضة من كهربائية الأرض فتصير كهربائيتها سالبة مثلها فإن اتفق مرور سحابة من هذا النوع حصل بينهما تجاذب لأن الجسمين المتكهربين بكهربائيتين مختلفتين يتجاذبان وتتحد بينهما الكهربائيتان فتتجاذب تانك السحابتان حتى تتحد كهربائيتاهما وعادة يحصل من هذا الاتحاد حرارة شديدة ، وتتولد بينهما شرارة مناسبة لحجم السحابتين فتلك الشرارة هي الصاعقة ، وما يرى من نورها هو البرق ، وما يسمع من الرعد هو صوت سريانها في الهواء ، فيكون الرعد : هو صوت الشرارة الكهربائية تخترق طبقات الهواء ، وقد توصل (فرنكلان) الطبيعي لإحداث صاعقة بواسطة بالون كهربه بكهربائية مخالفة لكهربائية السحب وأطاره وهو ماسك له إلى بعد مناسب من الجو ـ

١٨٨

الغليظ بالوصول إلى كرة النار ، فيرى كأنه كوكب انقض ، وهو الشهاب ، وقد يدوم احتراقه ، فيقع على صورة ذؤابة ، أو ذنب ، أو حية ، أو حيوان له قرون ، فيدور بدوران الفلك ، وقد ينزل اشتعاله إلى الأرض وهو الحريق].

بعد الفراغ من مباحث البسائط بقسميها. أعني الفلكية والعنصرية ، شرع في قسمي مباحث المركبات. أعني التي لا مزاج لها ، والتي لها مزاج ، وقدم ذلك لكونه أشبه بالبسائط من جهة عدم استحكام تركيبه ، ومن جهة جواز اقتصاره على عنصرين ، أو ثلاثة ، وجعله ثلاثة أنواع ، لأن حدوثه : إما فوق الأرض أعني في الهواء ، وإما على وجه الأرض وإما في الأرض. فالنوع الأول منه ما يتكون من البخار ، ومنه ما يتكون من الدخان ، وكلاهما بالحرارة ، فإنها تحلل من الرطب أجزاء هوائية ومائية هي البخار ، ومن اليابس أجزاء أرضية تخالطها أجزاء نارية. وقلما تخلو (١) عن هوائية وهي الدخان فالبخار المتصاعد قد يلطف بتحليل الحرارة أجزاؤه المائية ، فيصير هواء ، وقد يبلغ الطبقة الزمهريرية فيتكاثف فيجتمع (٢) سحابا ويتقاطر مطرا إن لم يكن البرد شديدا ، وإن أصابه برد شديد فيجمد السحاب قبل تشكله بشكل (٣) القطرات نزل ثلجا ، أو بعد تشكله بذلك نزل بردا صغيرا مستديرا إن كان من سحاب بعيد لذوبان الزوايا بالحركة والاحتكاك ، وإلا فكبيرا غير مستدير في الغالب ، وإنما يكون البرد في هواء ربيعي أو خريفي لفرط (٤) التحليل في الصيفي ، والجمود في الشتوي ، وقد لا يبلغ البخار المتصاعد الطبقة الزمهريرية ، فإن كثر صار (٥) ضبابا ، وإن قل وتكاثف ببرد الليل ،

__________________

ـ فحصل بينه وبين السحابة التي كانت إزاءه ما يحصل عادة بين سحابتين أو سحابة وجسم مرتفع من التجاذب ، وانتهى الأمر باتحاد كهربائية البالون بكهربائية السحابة ، وحدث من ذلك الاتحاد شرارة كهربائية هي الصاعقة فنزلت بجواره وكادت تصيبه ، وسمع لها صوت شديد هو الرعد.

راجع دائرة معارف القرن العشرين ٤ : ٢٦١

(١) في (أ) تخ بدلا من (تخلو) وهو تحريف

(٢) في (ب) فيصير بدلا من (فيجتمع)

(٣) سقط من (ب) جملة (بشكل القطرات)

(٤) في (ب) لكثرة بدلا من (لفرط)

(٥) ف (أ) اصبح بدلا من (صار)

١٨٩

فإن انجمد نزل صقيعا ، وإلا فطلا ، فنسبة الصقيع إلى الطل ، نسبة الثلج إلى المطر ، وقد يكون السحاب الماطر من بخار كثير يتكاثف بالبرد من غير أن يتصعد إلى الزمهريرية ، لمانع مثل هبوب الرياح المانعة للأبخرة من التصاعد ، أو الضاغطة إياها إلى الاجتماع ، بسبب وقوف (١) جبال قدام الرياح ، ومثل ثقل الجزء المتقدم وبطء حركته ، وقد يكون مع البخار المتصاعد دخان ، فإذا ارتفعا معا إلى الهواء البارد ، وانعقد البخار سحابا ، واحتبس الدخان فيه ، فإن بقي الدخان على حرارته قصد الصعود ، وإن برد قصد النزول. وكيف (٢) كان فإنه يمزق السحاب تمزيقا (٣) عنيفا ، فيحدث من تمزيقه ومصاكته صوت هو الرعد ، ونارية لطيفة(٤) هي البرق ، أو كثيفة هي الصاعقة ، وقد يشتعل الدخان الغليظ بالوصول إلى كرة النار ، كما يشاهد عند وصول دخان سراج منطفئ إلى سراج مشتعل فيسري فيه الاشتعال ، فيرى كأنه كوكب انقض (٥) وهو الشهاب ، وقد يكون الدخان لغلظه لا يشتعل ، بل يحترق ويدوم فيه الاحتراق ، فيبقى على صورة ذؤابة أو ذنب أو حية أو حيوان (٦) له قرون ، وربما يقف تحت كوكب ، ويدور مع النار بدوران الفلك إياها (٧) ، وربما تظهر فيه علامات هائلة حمر وسود بحسب زيادة غلظ (٨) الدخان ، وإذا لم ينقطع اتصال الدخان من الأرض ، ونزل اشتعاله إلى الأرض يرى كأن تنينا ينزل من السماء إلى الأرض وهو الحريق.

[قال (وقد تتكاثف الأدخنة)

المتصاعدة بالبرد ، فتنزل بطبعها ، وبرد حركة الفلك إياها عند وصولها إلى كرة

__________________

(١) في (أ) وجود بدلا من (وقوف)

(٢) في (أ) وايما كان بدلا من (وكيف كان)

(٣) في (ب) سقط لفظ (تمزيقا)

(٤) سقط من (ب) لفظ (لطيفة)

(٥) في (أ) سقط بدلا من (انقض)

(٦) سقط من (ب) لفظ (أو حيوان)

(٧) في (ب) اياما بدلا من (إياها)

(٨) في (أ) كثرة بدلا من (غلظ)

١٩٠

النار ، فيتموج الهواء وهو الريح (١) ، وقد يلتقي ريحان من جهتين ، فيستديران ، فتحدث الزوابع ، وأما في الرياح من اختلاف الأحوال ، واشتداد الأهوال ، بحيث يقلع الأشجار ، ويختطف (٢) السفن (٣) من البحار ، مع أن رجوع الدخان ينبغي أن يكون على استقامة (٤) كالبخار ، فلم يتكلموا فيه بشيء يعول عليه ، ولم يتشرفوا من مرسل الرياح بنفحات الرجوع].

إشارة إلى أسباب الرياح ، وذلك أن الأدخنة الكثيرة المتصاعدة قد تتكاثف بالبرد ، وينكسر حرها بالطبقة الزمهريرية ، فتثقل وترجع بطبعها ، فيتموج الهواء ، فتحدث الريح الباردة ، وقد لا ينكسر حرها ، فتتصاعد إلى كرة النار ، ثم ترجع بحركتها التابعة بحركة الفلك، فتحدث الريح الحارة ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في المواقف من أنها تصادم الفلك. أي تقارنه ، بحيث يصل إليها أثر حركته ، وإلا فلا يتصور أن يقطع الدخان مع ما فيه من الأجزاء الأرضية الثقيلة كرة النار مع شدة إحالتها لما يجاورها حتى يصادم الفلك حقيقة ، وقد يكون تموج الهواء لتخلخل يقع في جانب منه ، فيدفع ما يجاوره ، وهكذا إلى أن يفترق بالجملة ، فالتموج من الهواء هو الريح بأي سبب يقع ، وأما الزوبعة والإعصار ، أعني الريح المستديرة الصاعدة أو الهابطة ، فسبب الصاعدة (أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها عنيفا ثم رجعت فلقيتها ريح أخرى من جهتها وكونها حدثت الحالة المذكورة وقد تحدث من) (٥) تلاقي الريحين من جهتين متقابلتين ، وسبب الهابطة أن ينفصل ريح من سحابة ، فيقصد النزول فيعارضها في الطريق سحابة صاعدة (٦) ، فتدافعها الأجزاء الريحية إلى تحت ، فيقع جزء من الريح بين دافع إلى تحت ، ودافع إلى فوق ، فيستدير وتنضغط الأجزاء الأرضية بينها ، فتهبط ملتوية ، والحق أن ما شوهد من أحوال الرياح القالعة للأشجار ، والمختطفة للسفن

__________________

(١) سقط من (ب) جملة (وهو الريح)

(٢) في (أ) ويفرق بدلا من (ويختطف)

(٣) في (أ) في بدلا من (من)

(٤) في (ب) بزيادة لفظ (واحدة)

(٥) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٦) سقط من (ب) لفظ (صاعدة)

١٩١

من البحار ، وما تواتر (١) من تخريبها للمدن ، وما ورد من النصوص القاطعة في ذلك يشهد شهادة صادقة بوجوب الرجوع إلى القادر المختار سبحانه وتعالى (٢) وغاية ما ذكروه لو ثبت بيان الأسباب المادية.

[قال (وقد يحول)

إليه بين القمر والبصر غيم رطب رقيق أبيض متصغر الأجزاء ، تتفق أجزاء أوضاعها ، فينعكس ضوء البصر من أجزاء ذلك الغيم إلى جرم القمر ، فيؤدي كل جزء ضوء القمر ، فيرى دائرة بيضاء تامة أو ناقصة ، وتسمى الهالة (٣). وقد تتضاعف وقد يحدث مثلها للشمس وتسمى الطغاوة ، وإذا وقع مثل تلك الأجزاء في خلاف جهة الشمس حصل فيه من انعكاس شعاع البصر قوس ، جانبها الأعلى أحمر ناصع ، والأسفل أرجواني ، والأوسط كرّاثي ويسمى قوس قزح] (٤).

يشير إلى سبب الهالة وقوس قزح. أما الهالة فسببها إحاطة أجزاء رشية صقيلة كأنها مرايا متراصة بغيم رقيق لطيف لا يستر ما وراءه واقع في مقابلة القمر ، فيرى في ذلك الغيم نفس القمر ، لأن الشيء إنما يرى على الاستقامة نفسه لا شبحه ، ويرى في كل واحد من تلك الأجزاء الرشية شبحه لانعكاس ضوء البصر منها إلى القمر ، لأن الضوء إذا وقع على صقيل انعكس إلى الجسم الذي وضعه من ذلك الصقيل ، كوضع المضيء منه إذا لم تكن جهته مخالفة لجهة المضيء ، فيرى ضوء القمر ، ولا يرى شكله (٥) ، لأن المرآة إذا كانت صغيرة لا تؤدي شكل المرئي ، بل ضوءه

__________________

(١) في (ب) وما تعارف بدلا من (تواتر)

(٢) سقط من (أ) لفظ (سبحانه وتعالى)

(٣) أوضح المؤلف ما يقصده بالهالة فأغنى بذلك عن الحديث عنه

(٤) قوس قزح : ينشأ في السماء أو على مقربة من مسقط الماء من الشلال ونحوه ، ويكون من ناحية الأفق المقابلة للشمس وترى فيه ألوان الطيف متتابعة ، وسببه انعكاس أشعة الشمس من رذاذ الماء المتطاير من ماء المطر ، أو من مياه الشلالات وغيرها من مساقط الماء المرتفعة وقوس النصر ، عقد من خشب أو نحوه يقام فوق الطريق العام في شكل قوس.

(٥) في (ب) حجمه بدلا من (شكله).

١٩٢

ولونه إن كان (١) ملونا ، فيؤدي كل واحد من تلك الأجزاء ضوء القمر ، فيرى دائرة مضيئة لكون الهيئة الحاصلة بين تلك الأجزاء ، وبين المرئي واحدة ، وإنما لا يرى السحاب الذي يقابل القمر لقوة شعاع القمر (٢) ، فإن الرقيق اللطيف لا يرى في ضوء القوي كأجزاء الهباء المتفرقة في الصحراء ، وأكثر ما تحدث الهالة عند عدم الريح ، فيستدل بتخرقها من جميع الجهات على الصحو ، ومن جهة على ريح تأتي من تلك الجهة ، وببطلانها يثخن السحاب على المطر لتكثر الأجزاء المائية ، وقد تتضاعف الهالة ، بأن توجد سحابتان بالصفة المذكورة ، إحداهما تحت الأخرى ، ولا محالة تكون التحتانية أعظم لكونها أقرب. وذكر بعضهم أنه رأى سبع هالات معا ، وأما هالة الشمس وتسمى (٣) بالطغاوة ، فنادرة جدا. لأن الشمس في الأكثر تحلل السحب الرقيقة ، وأما قوس قزح فسببه. أنه إذا كان في خلاف جهة الشمس أجزاء مائية شفافة (٤) صافية ، وكان وراءها جسم كثيف مثل جبل أو سحاب مظلم(٥) حتى يكون كحال البلور الذي وراءه (٦) شيء ملون لينعكس منه الشعاع ، وكانت الشمس قريبة من الأفق ، فإذا واجهنا تلك الأجزاء المائية انعكس شعاع البصر من تلك (٧) الأجزاء الصقيلة إلى الشمس ، فأدى كل واحد منها ـ لكونه صغيرا (٨) ـ ضوء الشمس دون شكلها ، وكان مستديرا على شكل قوس ، لأن الشمس لو جعلت بمركز دائرة لكان القدر الذي يقع من تلك الدائرة فوق الأرض يمر على تلك الأجزاء ، ولو تمت الدائرة لكان تمامها تحت الأرض ، وكلما كان ارتفاع الشمس أكثر ، كان القوس أصغر ، ولهذا لم يحدث إذا كانت الشمس في وسط السماء ، وأما اختلاف ألوانها. فقيل : لأن الناحية العليا تكون أقرب إلى الشمس فيكون انعكاس

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (إن كان).

(٢) في (ب) شعاعه ، بدلا من (شعاع القمر)

(٣) في (ب) جملة (وتسمى بالطفارة).

(٤) سقط من (أ) لفظ (شفافة).

(٥) سقط من (ب) لفظ (مظلم).

(٦) في (أ) خلفه بدلا من (وراءه).

(٧) سقط من (ب) لفظ (تلك).

(٨) سقط من (أ) جملة (لكونه صغيرا).

١٩٣

الضوء أقوى ، فيرى حمرة ناصعة ، والسفلى أبعد منها ، وأقل إشراقا (١) ، فترى حمرة في سواد وهو الأرجواني ، ويتولد بينهما كرّاثي مركب من إشراق الحمرة وكدر الظلمة.

ورد بأن ذلك يقتضي أن يتدرج من نصوع الحمرة إلى الأرجوانية من غير انفصال الألوان بعضها عن بعض ، على أن تولد الكرائي إنما هو من الأصفر والأسود ، فليس له مع الأحمر والأرجواني كثير مناسبة.

واعترف ابن سينا بعدم الاطلاع على سبب اختلاف هذه الألوان.

[قال (وقد شاهدت)

مثل ذلك للقمر (٢) في ليلة رشية الجو ، إلا أنه كان أصغر كثيف الألوان قريبا من تمام دائرة].

ذكروا أن القمر قد يحدث على الندرة قوسا خيالية ، لا يكون لها ألوان ، لكني قد شاهدت بتركستان (٣) في سنة ثلاث وستين وسبعمائة في خلاف جهة القمر قوسا على ألوان قوس قزح إلا أنها كانت أصغر منها كثيرا ، وكانت بحيث تكاد تتم دائرة ، ولم تكن ألوانها في ضياء صفاء الألوان الشمسية ، وإشراقها. بل أكثف ، وكان ذلك في ليلة ، رشية الجو رقيقة السحاب ، والقمر على قرب من الأفق.

__________________

(١) سقط من (ب) جملة (وأقل إشراقا).

(٢) في (ب) للغيم بدلا من (للقمر).

(٣) التركستان : من آسيا الوسطى ، هي الجزء المعروف بالجنس التركي وهو مكون من أقطار مختلف بعضها تابع لروسيا وبعضها تابع للصين فالتركستان التابعة لروسيا وتسمى أيضا طوران تحدها غربا جبال الأورال وبحر قزوين ، وجنوبا هضبة إيران وشرقا جبال تيان شان وشمالا أكمات قليلة الارتفاع تبلغ مساحتها ١١٩ ، ٦٦٦ ، ١ كيلومترا مربعا وهي عبارة عن سهول متسعة وفي جزئها الغربي منخفض من الأرض يجاور بحر قزوين شمالا وغربا يظهر أنه قاع بحر قديم كان متصلا ببحر (أزوف) أما أواسط هذه الأراضي وشمالها فأريضات لا تقل عن أريضات سيبيريا ، وهي تمتاز بصحاريها الرملية بين رمال سوداء وبيضاء وحمراء.

أما جنوبها فيحتوي على وديان خصبة ترويها أنهار غزيرة المياه.

١٩٤

[قال (النوع الثاني ما يحدث على الأرض)

مثل الأحجار والجبال ، والسبب قد يصادف الحر العظيم طبعا كثير الرخاء ، فينعقد حجرا وتحفر الرياح والمياه أجزاءه الرخوة! فتبقى الصلبة مرتفعة هي الجبال ، وقد يتكون من تراكم عمارات تخربت ومن غير ذلك ، ثم لصلابتها تبقى فيها الأبخرة ، ولقلة تسخنها بانعكاس الشعاع تبقى عليها الثلوج والأنداء (١) ، فتكون المعادن والسحب والعيون.

مثل الأحجار والجبال والسبب الأكثر لتحجر الأرض ، عمل الحرارة في الطين اللزج (٢) ، بحيث يستحكم انعقاد رطبه بيابسه ، وقد ينعقد الماء السيال (٣) حجرا ، إما لقوة معدنية محجرة أو لأرضية غالبة على ذلك الماء بالقوة لا بالمقدار كما في الملح ، فإذا صادف الحر العظيم طينا كثيرا لزجا إما دفعة وإما على مرور الأيام يتكون الحجر العظيم ، فإذا ارتفع بأن تجعل الزلزلة العظيمة طائفة من الأرض تلّا من التلال ، ثم تحجر أو بأن يكون الطين المتحجر مختلف الأجزاء في الصلابة والرخاوة ، فتحفر أجزاؤه الرخوة بالمياه والرياح ، وتغور تلك الحفر بالتدريج غورا شديدا ، وتبقى الصلبة مرتفعة ، أو بغير ذلك من الأسباب فهو الجبل ، أو يحصل من تراكم عمارات تخربت ، وقد يرى بعض الجبال منضودة سافا فسافا كأنها سافات الجدار ، فيشبه أن يكون حدوث مادة الفوقاني بعد تحجر التحتاني ، وقد سال على كل ساف من خلاف جوهره ما صار حائلا بينه وبين الآخر ، وقد يوجد في كثير من الأحجار عند كسرها أجزاء الحيوانات المائية ، فيشبه أن هذه المعمورات قد كانت في سالف الدهر ، مغمورة في البحر ، فحصل الطين اللزج الكثير ، وتحجر بعد الانكشاف. فلذلك كثر الجبال ، ويكون الحفر ما بينها بأسباب تقتضيه كالسيول والرياح ، ومن منافع الجبال (٤) حفظ الأبخرة التي هي مادة المعادن

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الأنداء).

(٢) سقط من (أ) لفظ (اللزج).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (السيال).

(٤) الجبال ورد ذكرها في القرآن على معان كثيرة.

الأول : جبال الموج للسلامة في حق نوح والهلكة في حق المشركين من قوله قال تعالى : «وهي تجري ـ

١٩٥

والسحب والعيون ، فأن الأبخرة تنفس عند الأرض الرخوة فلا يجتمع منها قدر يعتد به.

[قال (النوع الثالث ما يحدث في الأرض)

قد يحتبس (١) فيها بخار أو دخان أو نحو ذلك ، ووجه الأرض متكاثف فيتحرك ، ويحرك الأرض ، وربما يشقها ، فتحدث الزلازل (٢) ، وقد يكون معها نار محرقة وأصوات هائلة].

قد يعرض لجزء من الأرض حركة بسبب ما يتحرك تحتها ، فيحرك ما فوقه ويسمى الزلزلة ، وذلك إذا تولد تحت الأرض بخار أو دخان أو ريح أو ما يناسب ذلك ، وكان وجه الأرض متكاثف عديم المسام أو ضيقها جدا. وحاول ذلك الخروج ، ولم يتمكن لكثافة الأرض ، تحرك في ذاته وحرك الأرض ، وربما يشقها لقوته ، وقد ينفصل منه نار محرقة ، وأصوات هائلة لشدة المحاكة والمصاكة ، وقد يسمع منها دوي لشدة الريح ، ولا توجد الزلزلة في الأراضي الرخوة لسهولة خروج

__________________

ـ بهم في موج كالجبال.»

الثاني : جبال ثمود للمهارة والحذاقة (وكانوا ينحتون من الجبال؟؟؟).

الثالث : محل موسى حال الرؤية (فلما تجلى ربه للجبل).

الرابع : جبل ابراهيم لإظهار القدرة والإحياء بعد الإماتة (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا).

الخامس : جبل بني إسرائيل لقبول الأمر والشريعة (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) السادس : الجبل المذكور لتأثير المكر والحيلة من القرون الماضية (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال).

السابع : جبل النحل لتحصيل العسل للشفاء والراحة (أن اتخذي من الجبال بيوتا).

الثامن : المذكور للكن والكفاية (وجعل لكم من الجبال أكنانا).

التاسع : جبال البرد والمطر : (وينزل من السماء من جبال فيها برد).

(١) في (ب) يحتقن بدلا من (يحتبس).

(٢) الزلازل : هي من آثار التفاعلات الأرضية الحاصلة في بطن الأرض وسببها هو سبب تكون البراكين وذلك أن مياه البحر تتسرب من خلال طبقات الأرض حتى تصل إلى عمق تكون فيه درجة الحرارة شديدة فيتبخر هذا الماء فيطلب مخلصا ولا يزال يتراكم بعض على بعض حتى يهد ما يصادفه أمامه من الحواجز فترج القشرة الأرضية ارتجاجا مخيفا هو ما يسمى بالزلازل وأحيانا تنخسف قطعة كبيرة من الأرض وتغور في باطن الأرض ببيوتها ومدائنها كما حصل في اليابان آخر سنة ١٩٢٣ م إذ انخسفت مدن برمتها دفعة واحدة وهي تكثر في بعض البلاد وتكاد لا تذكر في البعض الآخر.

١٩٦

الأبخرة. وقلما يكون في الصيف لقلة تكاثف وجه الأرض ، والبلاد التي يكثر فيها الزلزلة إذا حفرت فيها آبار كثيرة حتى كثرت مخالص الأبخرة ، قلت الزلزلة بها ، وقد يصير الكسوف سببا للزلزلة لفقد الحرارة الكائنة عن الشعاع دفعة ، وحصول البرد الحاقن للرياح في تجاويف الأرض بالتحصيف بغتة ، ولا شك أن البرد الذي يعرض بغتة يفعل ما لا يفعله العارض بالتدريج.

[قال (وربما ينقلب البخار)

ماء فتنشق الأرض عيونا جارية ، إن كان لها مدد ، وإلا فراكدة ، وربما يفتقر إلى أن ينكشف عنه ثقل التراب ، فيظهر آبارا وقنوات جارية ، وللثلوج والأمطار أثر ظاهر في ذلك].

إشارة إلى أسباب العيون (١) والآبار والقنوات ، وذلك أن الأبخرة التي تحدث تحت الأرض ، إن كانت كثيرة ، وانقلبت مياها ، انشق منها الأرض ، فإن كان لها مدد حدث منها العيون الجارية ، وتجري على الولاء لضرورة عدم الخلاء ، فإنه كلما جرت تلك المياه ، انجذب إلى مواضعها هواء أو بخار آخر يتبرد بالبرد الحاصل هناك ، فينقلب ماء أيضا وهكذا ، إلا أنه يمنع مانع يحدث دفعة أو على التدريج ، وإن لم يكن لتلك الأبخرة مدد حدثت العيون الراكدة ، وإن لم تكن الأبخرة كثيرة بحيث تنشق الأرض ، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب ، وصادفت منفذا ، واندفعت إليه ، حدث منها القنوات الجارية والآبار بحسب مصادفة المدد وفقدانه ، وقد يكون سبب العيون والقنوات والآبار مياه الأمطار والثلوج. لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها.

[قال (ثم إنهم يعترفون) (٢)

بأن ما ذكروا في الآثار العلوية والسفلية ظنون مبنية على حدس وتجربة ،

__________________

(١) قال تعالى : (وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) سورة القمر آية ١٢ وقال تعالى : (وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون) ٣٤ سورة يس وقال تعالى : (وفجرنا خلالهما نهرا) ٢٣ سورة الكهف.

(٢) في (ب) يصرحون بدلا من (يعترفون)

١٩٧

وربما يصير يقينا بالنسبة إلى بعض الأذهان لمعونة (١) القرائن ، وأنه لا يمتنع تكونها بأسباب أخر ، وإن بعض ما ذكروا من الأسباب ناقص يفتقر إلى تأثير من القوى الروحانية ، وفيما يشاهد في بلاد الترك من خواص النباتات والأحجار في أمر الرياح والأمطار ما يشهد بأن لا مؤثر إلا الله ولا خالق سواه].

يعني أن ما ذكر في الآثار العلوية (٢). أي التي فوق الأرض والسفلية أي التي على وجهها وتحتها (٣) ، إنما هو رأي الفلاسفة لا المتكلمين القائلين باستناد جميع ذلك إلى إرادة القادر المختار. ومع ذلك. فالفلاسفة معترفون بأنها ظنون مبنية على حدس (٤) وتجربة ، يشاهد أمثالها كما يرى في الحمام من تصاعد الأبخرة وانعقادها ، وتقاطرها (٥) ، وفي البرد الشديد من تكاثف ما يخرج بالأنفاس كالثلج ، وفي المرايا من اختلاف الصور والألوان ، وانعكاس الأضواء على الأنحاء المختلفة ، إلى غير ذلك ، فهذا وأمثاله من التجارب والمشاهدات ما يفيد ظن استناد تلك الآثار إلى ما ذكروا من الأسباب ، وقد ينضم إليها من قرائن الأحوال ، ما يفيد اليقين الحدسي (٦) ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص فيحصل اليقين للبعض دون البعض. واعترفوا أيضا بأنه لا يمتنع استنادها إلى أسباب أخر ، لجواز أن يكون للواحد ، بالنوع علل متعددة ، وأن يكون صدوره عن البعض أقليا ، وعن البعض أكثريا. وبأن في جملة ما ذكر من الأسباب ما يحكم الحدس ، بأنه غير تام السببية ، بل يفتقر إلى انضمام قوى روحانية لولاها لما كانت كافية في إيجاب ما هي أسبابه ، فإن من الرياح ما يقلع الأشجار العظيمة ، ويختطف المراكب من البحار ، وإن من الصواعق ما يقع على الجبل فيدكه ، وعلى البحر فيغوص فيه ،

__________________

(١) في (أ) لوجود بدلا من (لمعونة).

(٢) كالسماء التي رفعت بغير عمد ، وما فيها من نجوم وكواكب وغير ذلك من أشياء تدل دلالة قاطعة على الصانع الحكيم.

(٣) على وجهها من النبات والأشجار وما تخرجه من أثمار وأزهار تسقى بماء واحد وتختلف في الشكل والطعم.

(٤) سبق الحديث عن الحدس في كلمة وافية.

(٥) هناك نظرية علمية تقول : إذا التقى بخار ساخن بجسم صلب بارد تحول إلى ماء.

(٦) سقط من (ب) لفظ (الحدسي).

١٩٨

ويحرق بعض حيواناته ، وما ينفذ في المتخلخل فلا يحرقه ، ويذيب ما يصادفه من الأجسام الكثيفة الصلبة ، حتى يذيب الذهب في الكيس ، ولا يحرق الكيس إلا ما يحرق عن الذوب، ويذيب ضبة الترس ، ولا يحرق الترس ، وإن من الكواكب ذوات الأذناب ما يبقى عدة شهور ، ويكون لها حركات طولية وعرضية إلى غير ذلك من الأمور الغريبة التي لا يكفي فيها ما ذكر من الأسباب المادية والفاعلية ، بل لا بد من تأثير من القوى الروحانية. وقد تواتر في بلاد الترك ، ونواحي أرس (١) وبلغار (٢) من خواص النباتات والأحجار في شأن السحب والرياح والأمطار وغير ذلك ما يجزم العقل بأنه ليس صادرا عن النبات والحجر (٣) ، بل عن خالق القوى والقدر ، وسمعت غير واحد من الثقات ، أنهم إذا سافروا في الصيف ، اصطحبوا واحدا من الكفرة يقوم باستعمال بعض تلك الأحجار مبتهلا متضرعا في أثناء ذلك إلى الخالق سبحانه وتعالى على طريقتهم ، وله رياضة عظيمة ، وترك للشهوات ، ونسب في جماعة مخصوصة مشهورة باستنزال المطر ، فيحدث سحابة قدر ما يظل أولئك السفر (٤) ، فيها ريح تدفع عنهم البعوض ، تسير معهم إذا ساروا ، وتقف إذا وقفوا ،

__________________

(١) لا توجد أرس وإنما توجد أوراس : بالسين المهملة : جبل بأرض إفريقية فيه عدة قبائل من البربر وبعض البلاد ، وتوجد أرس بالفتح ثم الضم والسين المهملة مشددة موضع في قول مطير بن الأشيم :

تطاول ليلي بالأرس فلم أنم

كأني أسوم العين نوما محرّما.

(٢) بلغار : بالضم والغين معجمة : مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال شديدة البرد لا يكاد الثلج يقلع عن أرضها صيفا ولا شتاء ، وقلّ ما يرى أهلها أرضا ناشفة ، وبناؤهم بالخشب وحده ، وهو أن يركبوا عودا فوق عود ويسمروها بأوتاد من خشب أيضا محكمة ، والفواكه والخيرات بأرضهم لا تنضب ، وبين إتل مدينة الخزر وبلغار على طريق المفاوز نحو شهر ، ويصعد إليها في نهر إتل نحو شهرين وفي الحدود نحو عشرين يوما ، ومن بلغار إلى أول حد الروم نحو عشر مراحل ومنها إلى كوبابة مدينة الروس عشرين يوما ، ومن بلغار إلى بشجرد خمس وعشرون مرحلة ، وكان ملك بلغار وأهلها قد أسلموا في أيام المقتدر بالله وأرسلوا إلى بغداد رسولا يعرفون المقتدر ذلك ويسألونه إنفاذ من يعلمهم الصلوات والشرائع. الخ ..

راجع معجم البلدان ح ١ صفحة ٤٨٥ وما بعدها

(٣) إن النبات لا يملك من أمر نفسه شيئا وكذلك الحجر لأن الله سبحانه وتعالى يقول : «أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون» وكذلك الحجر فالله سبحانه وتعالى هو الخالق والمبدع ، وإذا كان قال في حق الخلق جميعا «والله خلقكم وما تعملون» فكيف بالجماد ..؟

(٤) في (أ) السفر بدلا من (النفر) وهو تحريف.

١٩٩

وترجع إذا رجعوا ، وربما تستقبلهم فرقة أخرى معهم سحابة تكفيهم وريح إلى خلاف جهة هذه الريح ، وإنكار هذا عندهم من قبيل إنكار المحسوسات ، وأما حديث النبات الذي ينفتح به القيد من الحديد على قوائم الفرس عند إصابته فمشهور. ولعمري إن النصوص الواردة في استناد أمثال هذه الآثار إلى القادر المختار قاطعة ، وطرق الهدى إلى ذلك واضحة ، لكن من لم يجعل الله له نورا. فما له من نور.

[قال (القسم الرابع)

في المركبات التي لها مزاج : وفيه مقدمة ومباحث.

أما المقدمة ففي المزاج (١) إذا اجتمعت العناصر المتصغرة الأجزاء جدا ، فتفاعلت بقواها ، فانكسرت سورة كل من الكيفيات الأربع ، حدثت كيفية متوسطة متشابهة في الكل هي المزاج ، واعتبر تصغر الأجزاء ، لأن تأثير الجسم وإن أمكن بدون المماسة ، إلا أنه في الامتزاج بالمماسة ، وهي تتكثر بتكثر السطوح التابع لتكثر الأجزاء ، والمراد بالعناصر أربعتها ، إذ لا مزاج عن البعض عند الجمهور ، فلا بد من الكون والفساد ليحصل النار ، وبالقوى الكيفيات عند الأطباء ، والصور النوعية عند الفلاسفة حيث أثبتوها ، وجعلوا الكيفيات واسطة في فعلها ، لا فاعلة. لأن تفاعل الكيفيتين إن كان معا كان الشيء مغلوبا عن شيء غالبا عليه ، وإن كان على التعاقب كان المغلوب عن الشيء غالبا عليه ، وبالعكس ، وأرود مثله (٢) على توسط الكيفية.

فإن أجيب. بأن المراد أن هذه معدات ، والمؤثر أمر مفارق موجبا كان (٣) ليكون

__________________

(١) المزاج : هو ما أسس عليه البدن من الطبائع وهي الاختلافات التي توجد بين أفراد الناس ناشئة عن استيلاء مجموع من المجاميع أو جهاز من الأجهزة وغلبته على غيره في البنية.

فإن استولت مثلا أعضاء الدورة على غيرها وتسبب عن استيلائها كثرة الدم سمي المزاج دمويا ، وإن استولت الأعصاب سمي عصبيا وإن استولت الصفراء سمي صفراويا وإن استولت اللمفا سمي لمفاويا.

(٢) في (ب) وأورده بدلا من (وأورد مثله)

(٣) سقط من (ب) لفظ (كان)

٢٠٠