شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

الآية : على أن المراد أحداث النفس أو أحداث تعلقها بالبدن.

وأما الفلاسفة : فمنهم من جعلها قديمة لوجهين :

أحدهما : أنها لو كانت حادثة لم تكن أبدية ، واللازم باطل بالاتفاق على ما سيجيء ، وجه اللزوم ، أن كل حادث فاسد ، أي قابل للعدم ضرورة كونه مسبوقا بعدم ، وقبول العدم ينافي الأبدية ، لأن معناها. دوام الوجود فيما يستقبل.

وردّ : بأنه إن أريد أنه قابل للعدم اللاحق ، فنفس المدعي ، وإن أريد الاعم ، فلا ينافي دوام وجوده لدوام علته.

وثانيهما : أنها لو كانت حادثة لم تكن مجردة ، بل مادية لما مرّ من أن كل حادث مسبوق بالمادة والمدة.

وردّ بمنع الملازمة. فإن ما مرّ على تقدير تمامه ، لا يفيد (١) لزوم مادة يحلها الحادث ، بل يحلها (٢) ، أو يتعلق بها ، وهذا لا ينافي كونه مجردا في ذاته ، وذهب أرسطو وشيعته إلى أنها حادثة لوجوه :

الأول : أنها لو كانت قديمة لكانت قبل التعلق بالبدن معطلة ، ولا معطل في الطبيعة ، وجه اللزوم على (٣) ما سيجيء في إبطال التناسخ ، ولا يلزم ذلك فيما بعد المفارقة عن البدن ، لأنها تكون ملتذة بكمالاتها ، أو متألمة برذائلها ، وجهالاتها ، فتكون في شغل شاغل.

وردّ. بعد تسليم أن لا تعطيل في الطبيعة ، وأن ليس للنفس قبل البدن إدراكات وكمالات ، ولا تعلق لجسم آخر ، بأن الترصد لاكتساب الكمال شغل ، فلا تكون معطلة.

الثاني : أنها مشروطة بمزاج خاص في البدن يناسبه نفس خاص يفيض عليه ،

__________________

(١) في (ب) لا يقبل بدلا من (لا يفيد)

(٢) في (ب) بها بدلا من (يحلها).

(٣) سقط من (أ) حرف الجر (على).

٣٢١

لتمام الاستعداد في القابل ، وعموم الفيض من الفاعل ، والمشروط بالحادث حادث بالضرورة.

فإن قيل : فيلزم أن ينعدم عند انعدام المزاج ضرورة انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط.

قلنا : يجوز أن يكون المزاج شرطا لحدوثها لا لبقائها كما في كثير من المعدات. وردّ بمنع الصغرى ، لجواز أن يكون المشروط بالمزاج تعلقها بالبدن لا وجودها.

الثالث : وهو العمدة في إثبات المطلوب. أن النفوس لو كانت قديمة ، فإما أن تكون في الأزل واحدة أو متعددة ، لا سبيل إلى الأول لأنها بعد التعلق بالبدن. إما أن تبقى على وحدتها وهو باطل بالاتفاق والضرورة. للقطع باختلاف الأشخاص في العلوم والجهالات ، وإما أن تتكثر بالانقسام والتجزي ، وهو على المجرد محال ، أو بزوال الواحد ، وحصول الكثير ، وهو قول بالحدوث ولا إلى الثاني لأن تمايزها إما بذواتها فينحصر كل في شخص ، ولا يوجد نفسان متماثلان ، والخصم يوافقنا على بطلانه ، وإما بالعوارض وهو أيضا باطل ، لأن اختلاف العوارض ، إنما يكون عند تغاير المواد ، ومادة النفس هي البدن ، ولا بدن في الأزل. لأن المركبات العنصرية حادثة وفاقا.

ولو سلم ، فالكلام في النفوس المتعلقة بالأبدان الحادثة الهالكة ، فتمايزها في الأزل بأبدان قديمة ، لا يتصور إلا بالانتقال عنها إلى هذه الأبدان. وهو تناسخ ، وقد ثبت بطلانه على ما سنشير إليه.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون تمايزها بما يحل فيها كالشعور بهوياتها مثلا.

قلنا : لأن هذا إنما يتصور بعد التمايز ليكون الحال في هذه (١) مغايرا للحال في تلك. فتعليل التمايز بذلك دور.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (هذه)

٣٢٢

فإن قيل : لو صح ما ذكر ، ثم لزم عدم تمايزها بعد مفارقة الأبدان ، واضمحلالها ، لانتفاء العوارض المادية.

قلنا : ممنوع لجواز أن يبقى تمايزها بما حصل لكل من خواصها التي لا توجد في الأخرى ، وأقلها الشعور بهويتها.

واعترض بوجهين :

أحدهما : أنا لا نسلم بطلان كون كل فرد من أفراد النفوس نوعا منحصرا في الشخص ، إذ لم تقم حجة على أنه يجب أن توجد نفسان متحدتان في الماهية.

وثانيهما : أنا لا نسلم امتناع أن يوجد جسم قديم ، تتعلق به النفس في الأزل ، ثم تنتقل منه إلى آخر ، وآخر على سبيل التناسخ.

كيف : وعمدتهم الوثقى في إبطال التناسخ مبنية على حدوث النفس كما سيجيء(١).

فلو بني إثبات الحدوث على بطلان التناسخ كان دورا.

فإن قيل : نحن نبين امتناع تعين النفس بالعوارض البدنية بوجه لا يتوقف على بطلان التناسخ. بأن نقول : لو كان تعين هذه النفس بالعوارض المتعلقة بهذا البدن ، لما كانت متعينة قبله ، فلم تكن موجودة ، سواء كان التناسخ حقا أو باطلا.

قلنا : الملازمة ممنوعة لجواز أن تكون قبل هذا البدن متعينة ببدن آخر معين وقبله بآخر ، وآخر لا إلى بداية ، فتكون موجودة بتعينات متعاقبة ، فلا بد من إبطال ذلك.

وقد يجاب عن الاعتراضين : بأن الكلام إلى (٢) إلزامي على من سلم تماثل النفوس وبطلان التناسخ.

[قال (ثم النفس ناطقة) (٣)

__________________

(١) سقط من (ب) جملة (كما سيجيء)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (إلى)

(٣) في (ب) قاطعة بدلا من (ناطقة)

٣٢٣

بأن ليس معها في هذا البدن تدبر آخر ، ولا لها تدبير في بدن آخر. فهما على التعادل (١) ليس لبدن نفسان ، ولا لنفس بدنان لا معا ، ولا على البدل وإلا لزم أن تتذكر شيئا من أحوال البدن الأول أن ينطبق عدد الكائنات على الفاسدات ، وأن يجامعها نفس أخرى حادثة بتمام الاستعداد ، وعموم الفيض.

واعترض بأنها بعد التسليم ، إنما يبقى الانتقال إلى بدن آخر إنسان ، لا حيوان أو نبات ، أو جماد ، على اختلاف آراء المتناسخة (٢) أو جرم سماوي].

يعني أن كل نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى ، تدبر أمره ، وأن ليس لها تدبير وتصرف في بدن آخر ، فالنفس مع البدن على التساوي ، ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ، ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد ، إما على سبيل الاجتماع فظاهر ، وإما على سبيل التبادل والانتقال من بدن إلى آخر فلوجوه :

الأول : أن النفس المتعلقة بهذا البدن ، لو كانت منتقلة إليه من بدن آخر ، لزم أن تتذكر شيئا من أحوال ذلك البدن (٣) ، لأن العلم والحفظ والتذكر من الصفات القائمة بجوهرها الذي لا يختلف باختلاف أحوال البدن واللازم باطل قطعا (٤).

الثاني : أنها لو تعلقت بعد مفارقة هذا البدن ببدن آخر لزم أن يكون عدد الأبدان الهالكة مساويا لعدد الأبدان الحادثة ، لئلا يلزم تعطل بعض النفوس ، أو اجتماع عدة منها على التعلق ببدن واحد ، أو تعلق واحدة منها بأبدان كثيرة معا ، لكنا نعلم قطعا بأنه قد يهلك في مثل الطوفان (٥) العام أبدان كثيرة ، لا يحدث مثلها إلا في أعصار متطاولة.

__________________

(١) في (ب) التبادل بدلا من (التعادل)

(٢) في (ب) آراءكم بدلا من (آراء).

(٣) سقط من (أ) لفظ (البدن).

(٤) سقط من (ب) لفظ (قطعا).

(٥) الطوفان : المطر الغالب ، والماء الغالب يغشى كل شيء قال الله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) قال الأخفش : واحدها في القياس : طوفانة وانشد :

٣٢٤

الثالث : أنه لو انتقل نفس إلى بدن لزم أن تجتمع فيه نفسا منتقلة (١) وحادثة ، لأن حدوث النفس عن العلة القديمة يتوقف على حصول الاستعداد في القابل. أعني البدن. وذلك بحصول المزاج الصالح ، وعند حصول الاستعداد في القابل (٢) ، يجب حدوث النفس، لما تقرر من لزوم وجود المعلول عند تمام العلة ، لا يقال : لا بد مع ذلك من عدم المانع ، ولعل تعلق المنتقلة مانع ، ويكون لها الأولوية في المنع بما لها من الكمال.

لأنا نقول : لا دخل للكمال في اقتضاء التعلق ، بل ربما يكون الأمر بالعكس ، فإذن ليس منع الانتقال للحدوث ، أولى من منع الحدوث للانتقال.

واعترض على الوجوه الثلاثة بعد تسليم مقدماتها ، بأنها إنما تدل على أن النفس بعد مفارقة البدن ، لا تنتقل إلى بدن آخر إنساني. ولا يدل على أنها لا تنتقل إلى حيوان آخر من البهائم والسباع وغيرهما ، على ما جوزه بعض التناسخية ، وسماه مسخا ، ولا إلى نبات على ما جوزه بعضهم وسماه فسخا ، ولا إلى جماد على ما جوزه آخر ، وسماه رسخا ، ولا إلى جرم سماوي على ما يراه بعض الفلاسفة.

وإنما قلنا : بعد تسليم المقدمات ، لأنه ربما يعترض على الوجه الأول ، بمنع لزوم التذكر ، وإنما يلزم لو لم يكن التعلق بذلك البدن شرطا (٣) ، أو الاستغراق في تدبير البدن الاخر ، مانعا. أو طول العهد منسيا.

وعلى الثاني. بمنع لزوم التساوي ، وإنما يلزم لو كان التعلق ببدن آخر لازما

__________________

غيّر الجدة من آياتها

خرق الريح وطوفان المطر

قال الخليل بن أحمد ، وقد شبه العجاج ظلام الليل بذلك فقال :

حتى إذا ما يومها تعبعبا

وعم طوفان الظلام الأثأبا

والطوف : قرب ينفخ فيها ثم يشد بعضها الى بعض فتجعل كهيئة السطح يركب عليها في الماء ويحمل عليها وهو الرمث ، وربما كان من خشب.

(١) في (ب) نفسا مستقلة بدلا من (منتقلة).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (القابل)

(٣) في (ب) مشروطا بدلا من (شرطا).

٣٢٥

البتة ، وعلى الفور ، وأما إذا كان جائزا أو لازما ، ولو بعد حين فلا لجواز أن لا تنتقل نفوس الهالكين الكثيرين ، أو تنتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة. وما توهم من التعطل ، مع أنه لا حجة على بطلانه ، فليس بلازم ، لأن الابتهاج بالكمالات ، أو التألم بالجهالات شغل.

وعلى الثالث : بأنه مبني على حدوث النفس ، وكون فاعلها قديما (١) موجبا لا حادثا ، أو قديما مختارا ، وكون الشرط هو المزاج الصالح دون غيره من الأحوال والأوضاع الحادثة ، وكون المزاج مع الفاعل تمام العلة بحيث لا مانع أصلا ، والكل في حيز المنع.

[قال (وغاية متشبثهم) :

في إثبات التناسخ أنه لا معطل في الوجود ، وأن النفوس جبلت على الاستكمال ، وذلك في التعلق ، وأنها قديمة ، فتكون متناهية ، لاستنادها إلى علل وحيثيات متناهية ، لامتناع وجود ما لا يتناهى ، والأبدان غير متناهية ، والكل ضعيف].

يعني ليس للتناسخية دليل يعتد به ، وغاية ما تمسكوا به في إثبات التناسخ على الإطلاق. أن (٢) النفس بعد المفارقة إلى جسم آخر إنساني أو غيره (٣) ، وجوه.

الأول : أنها لو لم تتعلق لكانت معطلة ، ولا معطل في الوجود ، وكلتا المقدمتين ممنوعة.

الثاني : أنها مجبولة على الاستكمال ، والاستكمال لا يكون إلا بالتعلق ، لأن ذلك شأن النفس ، وإلا كانت عقلا لا نفسا.

__________________

(١) يعني بالفاعل : الخالق المدبر ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.

قال تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقال أيضا (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) سورة فاطر آية رقم ٣.

وقال تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سورة الحشر آية رقم ٢٤.

(٢) في (ب) أي انتقال بدلا من (أن النفس بعد المفارقة).

(٣) في (ب) بزيادة (من الحيوان أو النبات أو الجماد).

٣٢٦

ورد : بأنه ربما كان الشيء طالبا لكماله ، ولا يحصل (١) لزوال الأسباب والآلات ، بحيث لا يحصل لها البدل.

الثالث : أنها قديمة لما سبق من الأدلة ، فتكون متناهية العدد لامتناع وجود ما لا يتناهى بالفعل ، بخلاف ما لا يتناهى من الحوادث كالحركات والأوضاع ، وما يستند إليها فإنها إنما تكون على سبيل التعاقب دون الاجتماع ، والأبدان مطلقا ، بل الأبدان الإنسانية خاصة غير متناهية ، لأنها من الحوادث المتعاقبة المستندة إلى ما لا يتناهى من الأدوار الفلكية وأوضاعها ، فلو لم تتعلق كل نفس إلا ببدن واحد ، لزم توزع ما يتناهى على ما لا يتناهى ، وهو محال بالضرورة.

وردّ بمنع قدم النفوس ، ومنع لزوم تناهي القدماء لو ثبت فإن الأدلة إنما تمت فيما له وضع ، وترتيب وضع لا بتناهي الأبدان وعللها ، ومنه لزوم أن يتعلق بكل بدن نفس ، وإن أريد الأبدان التي صارت إنسانا بالفعل اقتصر على منع لا تناهيها.

[قال (والذي ثبت) :

من مسخ بعض الكفرة قردة وخنازير ، ومن رد النفوس إلى الأبدان المحشورة فليس من المتنازع في شيء].

قد يتوهم أن من شريعتنا القول بالتناسخ ، فإن مسخ أهل مائدة (٢) قردة وخنازير (٣) يرد لنفوسهم إلى أبدان حيوانات أخر ، والمعاد الجسماني. رد لنفوس الكل إلى أبدان أخر إنسانية للقطع بأن الأبدان المحشورة لا تكون الأبدان الهالكة بعينها لتبدل الصور والأشكال بلا نزاع.

والجواب : أن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان ، تتعلق في الدنيا

__________________

(١) في (ب) ولا يحصل الكمال لزوال.

(٢) في (ب) بعض الكفرة بدلا من (أهل مائدة).

(٣) لعله يقصد قول الله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) سورة الأعراف الآيات ١٦٥ ، ١٦٦.

٣٢٧

بأبدان آخر للتدبير والتصرف والاكتساب ، لا أن تتبدل صور الأبدان ، كما في المسخ أو أن تجمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق ، فترد إليها النفوس كما في المعاد على الإطلاق ، وكما في إحياء عيسى عليه‌السلام بعض الأشخاص (١).

[قال (وما يحكيه بعضهم)

من أن النفوس الكاملة تتصل بعالم العقول ، والمتوسطة بأجرام سماوية أو أشباح مثالية وستعرفها ، والناقصة بأبدان حيوانات تناسبها ، فيما اكتسبت من الأخلاق ، وتمكنت فيها من الهيئات مندرجة في ذلك إلى أن تتخلص من الظلمات بما لقيت من أنواع العذاب والسكرات. فالنصوص القاطعة في باب المعاد قاطعة بكذبه ، ولا ريب فيها ، ثم إنهم يصرفون إليه بعض الآيات الواردة في أصحاب النار افتراء على الله تعالى علوا كبيرا].

يعني أن القول بالتناسخ في الجملة ، أي تعلق بعض النفوس بأبدان أخر في الدنيا ، محكى عن كثير من الفلاسفة ، إلا أنه حكاية لا تعضدها شبهة ، فضلا عن حجة ، ومع ذلك فالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة ناطقة بخلافها ، وذلك أنهم ينكرون المعاد الجسماني. أعني حشر الأجساد ، وكون الجنة والنار داري ثواب وعقاب ، ولذات وآلام حسية ، ويجعلون المعاد عبارة عن مفارقة النفوس الأبدان ،

__________________

(١) قال تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) سورة المائدة آية رقم ١١٠.

قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة يعني ابن مصرف عن أبي بشر عن أبي الهزيل قال : كان عيسى عليه‌السلام إذا أراد أن يحيى الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وفي الثانية (الم تَنْزِيلُ) السجدة فإذا فرغ منهما مدح الله واثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد.

وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر. يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن يا يا ذا الجلال والإكرام يا نور السموات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم يا رب.

٣٢٨

والجنة عن ابتهاجها بكمالاتها ، والنار عن تعلقها بأبدان حيوانات أخر تناسبها فيما اكتسبت من الأخلاق ، وتمكنت فيها الهيئات معذبة بما يلقى فيها من الذل والهوان (١) مثلا تتعلق نفس الحريص بالخنزير ، والسارق بالفأر ، والمعجب بالطاووس ، والشرير بالكلب ، ويكون لها تدرج في ذلك ، بحسب الأنواع والأشخاص ، أي تنزل من بدن إلى بدن ، هو أدنى في تلك الهيئة المناسبة ، مثلا تبتدي نفس الحريص من التعلق ببدن الخنزير ، ثم إلى ما دونه في ذلك ، حتى تنتهي إلى النمل (٢) ، ثم تتصل بعالم العقول عند زوال تلك الهيئة بالكلية.

ثم إن من المنتمين من التناسخية إلى دين يروجون هذا الرأي بالعبارات المهذبة ، والاستعارات المستعذبة ، ويصرفون إليه بعض الآيات الواردة في أصحاب النار ، اجتراء على الله ، وافتراء على ما هو دأب الملاحدة والزنادقة ، ومن يجري مجراهم من الغاوين المغوين ، الذين هم شياطين الإنس ، الذين يوحون إلى العوام والقاصرين من المحصلين زخرف القول غرورا (٣).

فمن جملة ذلك ما قالوا في قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) (٤) أي بالفساد بدلناهم جلودا غيرها ، أي بالكون ، وفي قوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) (٥) أي من دركات جهنم التي هي أبدان الحيوانات ، وكذا في قوله تعالى (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (٦) وقوله تعالى (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (٧) وفي قوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (٨) الآية معناه أنهم كانوا مثلكم في الخلق والمعايش والعلوم والصناعات ، فانتقلوا إلى أبدان هذه

__________________

(١) في (ب) الهواء بدلا من (الهوان).

(٢) في (ب) النحل بدلا من (النمل)

(٣) الآية (يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا) الأنعام ١١٢.

(٤) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٥) سورة السجدة آية رقم ٢.

(٦) سورة غافر آية رقم ١١.

(٧) سورة المؤمنون آية رقم ١٠٧.

(٨) سورة هود آية رقم ٦.

٣٢٩

الحيوانات ، وفي قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) أي بعد المفارقة. وفي قوله تعالى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (٢) أي على صور الحيوانات المنتكسة الرءوس إلى غير ذلك من الآيات. ومن نظر في كتب التفسير ، بل في سياق الآيات ، لا يخفي عليه فساد هذه الهذيانات ، وجوز بعض الفلاسفة ، فعلق النفوس المفارقة ببعض الأجرام السماوية للاستكمال ، وبعضهم على أن نفوس الكاملين تتصل بعالم المجردات ، ونفوس المتوسطين تتلخص إلى عالم المثل المعلقة في مظاهر الأجرام العلوية على خلاف مراتبهم في ذلك ، ونفوس الأشقياء إلى هذا العالم في ظاهر الظلمانيات والصور المستكرهة ، بحسب اختلاف مراتبهم في الشقاوة ، فيبقى بعضهم في تلك الظلمات أبدا ، لكون الشقاوة في الغاية ، وبعضهم ينتقل بالتدريج إلى عالم الأنوار المجردة ، وستعرف معنى المثل المعلقة.

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٦٦.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٢٧ قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نفيع. قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟

قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. وأخرجاه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا الوليد بن جميع القرشي عن أبي عن أبي الفضل عامر بن وائلة عن حذيفة بن أسيد قال : قام أبو ذر فقال : يا بني غفار قولوا ولا تحلفوا فإن الصادق المصدوق حدثني ان الناس يحشرون على ثلاثة أفواج. فوج راكبين طاعمين كاسين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم الى النار فقال قائل منهم هذان قد عرفناهما فما بال الذين يمشون ويسعون؟ قال : يلقى الله عزوجل الآفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر.

٣٣٠

المبحث الثالث

[قال (المبحث الثالث) :

اتفق القائلون بمغايرة النفس للبدن ، على أنها لا تفني بفنائه ، لظهور أن علاقة التدبير لا تقتضي ذلك ، إلا أن دليل بقائها عندنا السمع ، وعند الفلاسفة امتناع فنائها ، لاستنادها إلى القديم استقلالا أو بشرط في الحدوث دون البقاء ، وهو ضعيف ، ولأنها لو فنيت لكانت في مادة كالصور والأعراض ، لأن قوة الفناء وقبوله ، بمعنى إمكانه الاستعدادي ، لا الذاتي الاعتباري يفتقر إلى محل يبقى عند حصول المقبول ، ويقوم به ما هو من صفات النفس. وردّ بمنع ذلك في المقبول العدمي].

يعني أن فناء البدن ، لا يوجب فناء النفس المغايرة له مجردة كانت أو مادية أي جسما حالا فيه ، لأن كونها مدبرة له ، متصرفة فيه ، لا يقتضي فناءها بفنائه ، لكن مجرد ذلك لا يدل على كونها باقية البتة. فلهذا احتيج في ذلك إلى دليل ، وهو عندنا النصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وهي من الكثرة والظهور بحيث لا تفتقر إلى الذكر ، وقد أورد الإمام في المطالب العالية من الشواهد العقلية والنقلية في هذا الباب ما يفضي ذكره إلى الاطناب. وأما الفلاسفة فزعموا أنه يمتنع فناء النفس بوجهين :

أحدهما : أنها مستندة إلى علة قديمة ، إما بالاستقلال فتكون أزلية أبدية ، وإما بشرط حادث هو المزاج الصالح ، فلا تكون أزلية ، لكنها أبدية لأن ذلك شرط للحدوث دون البقاء ، وعليه منع ظاهر (١).

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (ظاهر).

٣٣١

وثانيهما : أنها لو كانت قابلة للفناء والفساد وهي باقية بالفعل ، لكان فيها فعل البقاء ، وقوة الفساد ، وهما متغايران ضرورة ، ويمتنع أن يكون محليهما واحدا ، لأن محل قبول الشيء يكون باقيا معه موصوفا به (١) ، ومحال أن يكون الباقي بالفعل ، باقيا مع الفناء والفساد ، والنفس جوهر بسيط محل للبقاء بالفعل ، فيمتنع أن يكون بعينها محلا لقوة الفساد ، أو مشتملة عليه ، فلا تكون هي ، ولا شيء من المجردات قابلة للفناء والفساد ، وإنما يكون ذلك للصور (٢) والأعراض ، ويكون القابل هو المادة الباقية.

فإن قيل : قوة الفناء هي إمكان العدم ، وهو أمر اعتباري لا يقتضي وجود محل.

أجيب : بأن المراد الإمكان الاستعدادي الذي يجتمع (٣) مع وجود الشيء لا الامكان الذاتي الاعتباري.

ورد هذا الدليل : بأنا لا نسلم أن قوة قبول الأمر (٤) العدمي ، كالفناء مثلا ، يقتضي وجود محل لها يجتمع مع المقبول. ولو سلم ، فقد سبق أن الحدوث أيضا يقتضي مادة ، ويكفي المادة التي تتعلق بها النفس من غير حلول ، فلم لا يكفي مثلها في قوة الفناء. قد يجاب : بأن القوة الاستعدادية عرض ، فلا بدّ له من محل سواء كان استعدادا لقبول أمر وجودي أو عدمي ، ثم استعداد بدن الجنين (٥) ، بما له من اعتدال المزاج ، لأن يفيض عليه من المبدأ نفس تدبره معنى معقول (٦) ، وأما استعداده ببطلان ذلك المزاج ، لأن ينعدم ذلك المدبر (٧) فغير معقول ، بل غايته أن ينعدم ما بينهما من العلاقة وهو لا يقتضي الفناء.

__________________

(١) في (ب) معروفا به بدلا من (موصوفا به).

(٢) سقط من (أ) لفظ (للصور).

(٣) في (ب) يمتنع بدلا من (يجتمع).

(٤) في (ب) الأثر بدلا من (الأمر).

(٥) في (ب) قوة بدلا من (بدن).

(٦) في (ب) معين بدلا من (معنى).

(٧) في (أ) المدير بدلا من (المدبر) وهو تحريف.

٣٣٢

المبحث الرابع

[قال (المبحث الرابع) :

مدرك الجزئيات عندنا النفس ، لأنها تحكم بالكلي على الجزئي ، وبتغاير الجزئيين ، ولأن الأفعال الجزئية تتوقف على إدراكات جزئية ، إذ الرأي الكلى نسبته إلى الجزئيات على السواء ، ولأن كل أحد يقطع بأن الذي يبصر ويسمع. وعند الفلاسفة الحواس ، وإلا لم يحصل الجزم ، بأن الابصار للباصرة ، والسماع للسامعة. ولم توجب آفة العضو آفة فعله ، ولم يتوقف الإحساس على الحضور ، إذ لا يتفاوت حال النفس ، ولم تتخيل ذوات الأوضاع والمقادير لامتناع ارتسامها في المجرد ، ولم يحصل الامتياز من المتيامن والمتياسر ، فيما إذا تخيلنا مربعا مجنحا بمربعين متساويين ، إذ لا امتياز إلا بالمحل. وحمل كلامهم على أنها لا تدرك الجزئيات بالذات ، بل بالآلات يرفع النزاع ، ويجمع بين أدلة الفريقين ، ولا يشكل بإحساس البهائم مع عدم النفس.

لأنه لو سلم ، فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزوم ، ولا بإدراك النفس هويتها ، لأنه لا يفتقر إلى ارتسام (١) الصورة على أن الكلام في الجزئيات المادية التي يمتنع ارتسام صورها ، ولا بأن تعلقها بهذا البدن يقتضي تصوره ، والقصد إليه ، إذ لا يكفي تصور بدن ما لاستواء نسبته ، لأن ذلك التعلق شوقي طبيعي ، بمقتضى المناسبة ، لا إرادي ليتوقف على تصوره بعينه ، ولا بإدراكها الآلات عند قصد (٢) استعمالها ، لجواز أن يكون تخيلا ، أو تكون الخصوصيات بحسب

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (ارتسام).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (قصد).

٣٣٣

الإضافة من غير أن تنتهي إلى حد (١) الجزئية. بأن تدرك مثلا سابقة لنا في هذا البدن المحسوس. نعم يتوجه أن في إدراك المحسوس ، إن ارتسمت الصورة في النفس أيضا ، عاد المحذور ، وإن لم ترتسم ، فأي حالة تحصل للنفس عند ارتسام الصورة في الآلة ، نسميها إدراكا ، وحضورا للشيء عند النفس ، ولم لا يكفي مثلها في إدراك الكلى من غير صورة في النفس].

لا نزاع في أن مدرك الكليات من الإنسان هو النفس ، وأما مدرك الجزئيات على وجه كونها جزئيات فعندنا النفس (٢). وعند الفلاسفة الحواس لنا وجوه :

الاول : أن ما يشير إليه كل أحد بقوله أنا وهو معنى النفس ، يحكم بأن هذا الشخص من أفراد الإنسان الكلي ، وأنه ليس هذا الفرس ، وأن هذا اللون غير هذا الطعم ، وأن هذه الصورة الخيالية صورة زيد المحسوس إلى غير ذلك من الحكم بين الكلي والجزئي أو بين الجزئيات ، والحاكم بين الشيئين لا بد أن يدركهما ، فالمدرك من الإنسان لجميع الإدراكات شيء واحد (٣).

الثاني : إن نفس كل أحد تتصرف في بدنه الجزئي ، وتباشر أفعاله الجزئية. وذلك يتوقف على إدراك تلك الجزئيات ، لأن الرأي الكلي نسبته إلى جميع الجزئيات ، على السواء ، ولأن كل عاقل يجد من نفسه ، أنه لا يحاول تدبير بدن كلي ، بل مقصوده تدبير بدنه الخاص (٤).

الثالث : أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه واحد بالعدد يسمع ويبصر ، ويدرك المعقولات ، وإن كان يتوقف بعض هذه الإدراكات على استعمال الآلات ، وليست النفس سوى ذلك الواحد الذي يشير إليه كل أحد بقوله : أنا أحج الخصم بوجوه :

__________________

(١) في (ب) الحزينة بدون لفظ (حد).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (أيضا).

(٣) في (ب) النفس بدلا من (شيء واحد).

(٤) وذلك برعايته من الافات والسموم وحرارة الشمس ، وقساوة البرد وتعهده بالطعام والشراب ، وعدم إجهاده وغير ذلك من الأشياء التي تعد في العادة من الوقاية لبدن الإنسان.

٣٣٤

الأول : إنا قاطعون بأن الإبصار للباصرة ، والسمع للسامعة ، وليسا فعلى قوة واحدة ، هذا وفي التحقيق دعوى كون المطلوب ضروريا.

الثاني : لو لم يكن الإبصار للباصرة ، والسمع للسامعة ، والذوق للذائقة ، وكذا جميع الحواس الظاهرة والباطنة ، لما كانت الآفة في محال هذه القوى ، توجب الآفة في هذه الأفعال ، كما لا توجبها الآفة في الأعضاء الآخر واللازم باطل بالتجربة.

الثالث : أن إدراك المحسوسات الظاهرة ، لو كان للنفس لا للحواس ، لما توقف على حضور المحسوس عند الحاسة ، لأن حال النفس وإدراكاته لا يتفاوت بالغيبة والحضور نحو لو كان التخيل للنفس ، لا لقوة جسمانية ، لما أمكن تخيل ذوات الأوضاع والمقادير لامتناع ارتسامها في المجرد. وقد سبق أنه لا بد في الإدراك من الارتسام (١).

الرابع : لو لم يكن التخيل للقوة الجسمانية لم يحصل الامتياز بين المتيامن والمتياسر فيما إذا تخيلنا لا من الخارج (٢) ، مربعا مجنحا بمربعين متساويين في جميع الوجوه إلا في أن أحدهما على يمين المربع ، والاخر على يساره هكذا. إذ ليس امتيازها بالماهية ولوازمها وعوارضها كالمقدار والشكل والسواد والبياض ، وغير ذلك لغرض التساوي فيها ، بل المحل ، وليس المحل الخارجي لأن المفروض أنه لم يؤخذ من الخارج ، فتعين المحل الإدراكي ،

__________________

(١) الرسم : الأثر ، ورسم الدار ما كان من آثارها لاصقا بالأرض وترسمت الدار : تأملت رسمها وقال : ذو الرمة:

أإن ترسمت من خرفاء منزلة

ماء الصبابة من عينيك مسجوم

والثوب : المرسم بالتشديد : المخطط.

(٢) في (ب) لأمر خارج بدلا من (لا من الخارج).

٣٣٥

والمجرد لا يصلح محلا لذلك ، فتعين الآلة الجسمانية. ولا يخفي. أنا إذا جعلنا القوى الجسمانية آلات للأحاسيس ، وإدراك الجزئية ، والمدرك هو النفس على ما صرح به المتأخرون من الحكماء ، ارتفع نظام نزاع الفريقين ، وظهر الجواب عن أدلتهم ، إلا أنه يرد(١) إشكالات.

الأول : أن غير الإنسان (٢) من الحيوانات يدرك المحسوسات ، فلو كان المدرك هو النفس المجردة كما في الانسان لما صح ذلك إذ ليست لها نفوس ناطقة وفاقا (٣).

والجواب : أنه لو سلم ذلك يجوز أن يكون المدرك فيها هي القوى الجسمانية ، وفينا النفس بواسطة القوى ، وهذا معنى قولنا الاشتراك في اللوازم ، وهي الإحساسات ، لا يوجب الاشتراك في الملزوم وهو النفس المجردة.

الثاني : أنه لو كان إدراك النفس للجزئيات بمعونة الآلات لما أدركت النفس هويتها ، لامتناع توسط الآلة في ذلك واللازم باطل بالضرورة والاتفاق (٤).

والجواب : أن المفتقر إلى توسط الآلة ، إدراك الجزئيات التي يمتنع ارتسام صورها في النفس المجردة ، وأما ما لا يفتقر إدراكها إلى ارتسام صورة كإدراك النفس ذاتها فلا تفتقر إلى توسط آلة. (ولو توقف تصور الآلة على آلة أخرى تسلسلت الآلات) (٥).

الثالث : أنها عند تعلقها بالبدن تتصوره بعينه إذ لا يكفي في ذلك تصور بدن كلي ، لأن نسبته إلى الكل على السواء ، وكانت قبل استعمال الآلات مدركة للجزئيات.

__________________

(١) في (أ) بزيادة (على ذلك).

(٢) سقط من (ب) جملة (غير الإنسان).

(٣) في (أ) باتفاق بدلا من (وفاقا).

(٤) في (أ) بزيادة (والاتفاق).

(٥) ما بين القوسين سقط من (أ).

٣٣٦

والجواب : أن تعلقها بالبدن شوقي (١) طبيعي بمقتضى المناسبة لا إرادي ليتوقف على تصور البدن بعينه.

الرابع (٢) : فإنها عند قصد استعمال الآلات للإدراكات والتحريكات تتصورها بأعيانها من غير توسط آلة.

والجواب : أنها تتصورها من حيث هي آلات لهذه النفوس ، حاصلة في هذا البدن المحسوس ، فيحصل التخصيص بهذه الإضافة. ولا يلزم إدراكها من حيث كونها جزئيات في ذواتها ، كما إذا حاولنا سلوك طريق نعرفه بصفاته بحيث يتعين في الخارج ، وإن لم يكن (٣) نشاهده بعينه ، ويجوز أن تدركها بعينها على سبيل التخيل ، فإن التخيلات ، لا يجب أن تتأدى من طرق الحواس البتة ، بقي هنا إشكال : وهو أنه إذا كان المدرك للجزئيات هو النفس ، لكن بحصول الصورة في الآلة ، فإما أن تكون الصورة حاصلة في النفس أيضا على ما يشعر به قولهم ليس الإدراك بحصول الصورة في الآلة فقط ، بل بحصولها في النفس ، لحصولها في الآلة ، وبالحضور عند المدرك للحضور عند الحس ، من غير أن يكون هناك حضور مرتين ، وحينئذ يعود المحذور. أعني ارتسام صورة الجزئي ، والمحسوس في المجرد ، وإما ألا تكون الصورة حاصلة في النفس ، بل في الآلة فقط على ما هو الظاهر من كلامهم ، وليست الآلة إلا جزءا من جسم تدبره (٤) النفس. فلا بد من تحقيق. أن أي حالة تحصل للنفس نسميها إدراكا ، وحضورا للشيء عند النفس ، ولا يحصل بمجرد تحقق ذلك الشيء في نفسه ، وحصول صورته في مادته ، وإنها إن كانت إضافة مخصوصة ، فلم لا يكفي ذلك في إدراك

__________________

(١) في (ب) شيء بدلا من (شوقي)

(٢) سقط من (أ) لفظ (الرابع).

(٣) سقط من (أ) لفظ (يكن).

(٤) التدبير في الأمر : أن تنظر الى ما يؤول إليه عاقبته ، والتدبير التفكر فيه.

والتدبير : عتق العبد عن دبر وهو أن يعتق بعد موت صاحبه فهو مدبر.

قال الأصمعي : دبرت الحديث إذا حدثت به عن غيرك ، وهو يدبر حديث فلان أي يرويه.

وتدابر القوم : أي تقاطعوا وفي الحديث (لا تدابروا) والدبر الظهر قال الله تعالى : (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) والدبر بالكسر : المال الكثير ، واحده وجمعه سواء ، والدبر : جماعة النحل. قال الأصمعي لا واحد لها ويجمع على دبور.

٣٣٧

الكليات من غير افتقار إلى حصول الصورة في النفس.

وبالجملة : فقد جاز الإدراك من غير ارتسام صورة في المدرك. فلم أوجبتم ذلك في إدراك الكليات مع أنكم تقولون الإدراك معنى واحد يختلف بالإضافة إلى الحس أو العقل.

[قال (تنبيه) :

فعندهم لا يبقى إدراك الجزئيات ، عند فقد الآلات ، وعندنا يبقى ، بل الظاهر من قانون الإسلام ، الإدراكات المتجددة أيضا ، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة من نفوس الأخيار].

لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات ، فعند مفارقة النفس ، وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، وعندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات. إما لأنه ليس بحصول الصورة ، لا في النفس ، ولا في الحس. وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس ، بل الظاهر من قواعد الإسلام ، أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية ، واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء (١) ، سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا ، ولهذا ينتفع بزيارة القبور ، والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات ، واستدفاع الملمات (٢) ، فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا ما بالبدن وبالتربة التي دفنت فيها ، فإذا زار الحي تلك التربة ، وتوجهت نفسه (٣) تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات.

__________________

(١) كما روى في الصحيحين أن الميت وهو في قبره يسمع خفق نعال المشيعين. وروى البخاري بسنده في كتاب الجنائز عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ٩٠ باب كلام الميت على الجنازة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت : قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعها لصعق.

(٢) كما يحدث من الأحياء في توسلهم بالأموات وطلبهم منهم قضاء الحاجات ودفع الملمات ـ وهذا من الشرك الذي نهى الله عنه.

(٣) سقط من (أ) لفظ (نفسه)

٣٣٨

المبحث الخامس

[قال (المبحث الخامس) :

قوة النفس باعتبار تأثرها عن المبدأ للاستكمال يسمى عقلا نظريا ، وباعتبار تأثيرها في البدن للتكميل عقلا عمليا.

أما النظرى فمراتبه أربع :

لأنه : إما استعداد ضعيف هو محض قابليتها للمعقولات ويسمى عقلا هيولانيا.

أو بتوسط هو الاستعداد للنظريات بحصول الضروريات ويسمى عقلا بالملكة.

أو بقوى هو الاقتدار على استحضار النظريات بلا كسب ، لكونها مكتسبة مخزونة ويسمى عقلا بالفعل.

وإما كمال لها في ذلك وهو حضور النظريات عندها مشاهدة ويسمى العقل المستفاد.

وأيضا النفس. إما خالية ، أو متحلية بالضروريات فقط ، أو بالنظريات أيضا بدون الحضور أو معه. واختلفت العبارات (١) في أن الأربعة أسامي لهذه الحالات ، أو للنفس باعتبارها ، أو لقوى هي مباديها ، وفي أن المعتبر في المستفاد مجرد الحضور ، حتى يكون بحسب الوجود مثل العقل بالفعل ، وإن كان غاية

__________________

(١) في (أ) البيانات بدلا من (العبارات)

٣٣٩

بحسب الشرف والكمال (١) ، أو حضور الكل بحيث لا يغيب أصلا حتى يمتنع أو يستبعد جدا حصوله ، ما دامت النفس متعلقة ، والأول أشبه بحصر المراتب].

قد سبق أن لفظ القوة ، كما يطلق على مبدأ التغيير والفعل ، فكذا على مبدأ التغير والانفعال ، فقوة النفس باعتبار تأثرها عما فوقها من المبادي للاستكمال بالعلوم والإدراكات تسمى عقلا نظريا ، وباعتبار تأثيرها في البدن لتكميل جوهره ، (وإن كان ذلك أيضا عائدا إلى تكميل النفس ، من جهة أن البدن آلة لها في تحصيل العلم) (٢) والعمل ، يسمى عقلا علميا.

والمشهور أن مراتب النظري أربع :

لأنه : إما كمال. وإما استعداد نحو الكمال قوى أو متوسط أو ضعيف. فالضعيف وهو محض قابلية النفس للادراكات يسمى عقلا هيولانيا ، تشبيها بالهيولى (٣) الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها ، بمنزلة قوة الطفل للكتابة ، والمتوسط وهو استعدادها لتحصيل النظريات ، بعد حصول الضروريات يسمى عقلا بالملكة ، لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الأمي المستعد لتعلم الكتابة ، وتختلف مراتب الناس في ذلك اختلافا عظيما ، بحسب اختلاف درجات الاستعدادات والقوى ، وهو الاقتدار على استحضار النظريات ، متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد (٤) ، لكونها مكتسبة مخزونة ، تحضر بمجرد الالتفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب ، وله أن يكتب متى شاء يسمى عقلا بالفعل ، لشدة قربه من الفعل ، وأما الكمال فهو أن تحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب ، ويسمى عقلا مستفادا ، أي من خارج وهو العقل الفعال ، الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل ، فيما له من الكمالات ،

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الكمال)

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب)

(٣) سبق الكلام عن (الهيولي) في الجزء الأول من هذا الكتاب

(٤) في (ب) كسب مؤكد بدلا من (جديد)

٣٤٠