الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

ما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

مع أنّ بعض المهاجرين ارتاب في دينه في صلح الحديبية. فعدم الارتياب قيد في بقاء الإيمان. وهذه نماذج من القيود وعليك بتقصيها في السور القرآنية ممّا يعلم فقدان جماعة من الصحابة المهاجرين والأنصار لها.

النقطة الرابعة : أنّ ممّا قد ثبت مقطوعا به للمتتبّع في الآيات القرآنية وكتب الأحاديث والسير والتواريخ أنّ العديد من الصحابة من المهاجرين والأنصار قد وقعت وصدرت منهم مخالفات للشرع المبين من الكبائر وبعضها من العظائم سواء في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند التنازع والفتن التي انتهت إلى حرب الجمل وصفين فقد وقع منهم الفرار من الزحف في مواطن كوقعة أحد وحنين ولم يبق إلّا ثلّة من بني هاشم مع أنّ الفرار من الزحف من الكبائر السبع المغلظة وكذا ما أتاه الصحابة في صلح الحديبية وفي مقدّمتهم بعض المهاجرين من الاعتراض على صلح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنكير لذلك حتّى أنّهم أبوا أن يحلقوا رءوسهم والتحلل من الإحرام وأبدوا العصيان الجماعي حتى اضطر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يجدّد أخذ البيعة منهم بعد ذلك بعد ما ارعووا وعادوا ويستوثق منهم المواثيق.

وما أتاه عدّة من الصحابة من المهاجرين من التخلّف عن جيش أسامة الذي جهّزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتال الروم مع انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعن من تخلّف عن جيش أسامة وقال نفّذوا جيش اسامة. وقد نزلت الآية كما قيل (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) في اقتتال الأوس والخزرج بالأحذية والعصي. وبعضهم ردّ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما طلب دواة وكتاب يكتب فيه ما إن تمسكوا به فلن يضلّوا أبدا ، وقال أنّه غلب عليه المرض وهي عظيمة.

__________________

(١). الحجرات / ١٥ ـ ١٦.

٦١

مفاد الآيات القرآنيّة

هذا وأما الآيات فمفادها بعيد تمام البعد عن تقديس جميع الصحابة أو ثلّة جماعة بيعة السقيفة ، بل أن كلّا منها بنفسه دليل على عدم التعميم في عدالة الصحابة ، سواء فسرّت الصحبة بمعنى كل من رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو نقل الحديث عنه أو لازمه مدّة مديدة.

* أمّا الآية الأولى : فهى قوله تعالى :

(السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

فنرى أنّ الآية قد قيّدت المرضيّ عنهم من المهاجرين والأنصار بقيدين : السبق والأولية في السبق ، أى كونه أول السابقين ومن المقرّر في موضعه تاريخيا ـ برغم الدعاوي الاخرى ـ أن أول السابقين إلى الإسلام هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن ثم حاولت الدعاوي الاخرى الاستعاضة لتطبيق الآية بأن عليا أوّل من أسلم من الاحداث وأن خديجة أول من أسلم من النساء.

__________________

(١). التوبة / ١٠٠.

٦٢

ولكن السبق والأولية في الآية غير مقيدتين بحيثية السن أو الجنس ، هذا من جانب ومن جانب آخر نرى ان استعمال القرآن الكريم للسبق هو بمعنى خاص كما تطالعنا به سورة الواقعة وهذا كديدن الاستعمال القرآني في العديد من عناوين الالفاظ كالصديقين والاصطفاء والتطهير. فالمعنى الذي في سورة الواقعة (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١) هو خصوص المقرّب وقد أكدت الآية على عنوان «السبق» بالتكرار للإشارة به ، و «المقرّب» قد أريد به معنى خاص في سورة المطففين (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) ، فعرّف المقرّب بأنه الذي يشهد كتاب الأبرار وشهادة الاعمال من خصائص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكرت ذلك الآيات كما في سورة التوبة.

وهذا يعطينا مؤدى ان «المقرّب» ليس من درجة الأبرار من أنماط المؤمنين ، بل فوقهم شاهد لما يعملونه وشهادة الأعمال لا ريب أنّها نحو من الغيب الذي لا يطلعه الله إلّا لمن ارتضى من رسول ، فهى نحو من العلم اللدني الالهي المخصص بالمقربين ، فهم نحو من الذين اوتوا مناصب إلهية غيبية جعلها لهم. ويعطي ذلك التقسيم في سورة الواقعة لمن يحشر من البشر إلى ثلاثة أقسام : السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ، ولا ريب في دخول الأنبياء والرسل والأوصياء في القسم الأول وهو يقتضي عدم مشاركة غيرهم لهم في الدرجة ، فالباقون هم في القسمين الأخيرين ، فالسبق في الاستعمال القرآني هو في من حاز العصمة والطهارة الذاتية من الذنوب ، فالسبق هاهنا هو في الدرجات لا السبق الزمني ، مع أن أول السابقين زمنا في المهاجرين هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ومن ذلك يظهر المراد من أوّل السابقين من الأنصار ، فإن المطهّر من الذنب من الأنصار ـ أي الذي لم يهاجر ـ هما الحسنان عليهما‌السلام فانهما اللذان نزلت فيهما وفي أبويهما

__________________

(١). الواقعة / ١٠ ـ ١١.

(٢). المطففين / ١٨ ـ ٢١.

٦٣

آية التطهير ، كما هو مقرّر في موضعه من سبب نزول الآية في أخبار الفريقين. وكذلك يظهر المراد من الذين اتبعوهم بإحسان ، إنهم المطهّرون من الذنب من الذرية النبوية ، ويطالعك بهذا المعنى ـ مضافا إلى أنّه مقتضى معنى السبق في الاستعمال القرآني ـ أنّ مقام الإحسان في القرآن لا ينطبق على غير المعصوم من الزلل والخطاء ، إذ لم يسند الإحسان إلى فعل مخصوص ، بل جعل وصفا لكل معصوم من الذنب ، لاحظ قوله تعالى :

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٣).

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤).

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٥).

(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٦).

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٧).

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨).

فترى ان الذي يوصف بالاحسان ـ من غير تقييد في فعل خاص كأداء دية أو مهر أو تسريح بإحسان للمطلقة ، بل بالإحسان في كل أفعاله ـ قد ادّخر تعالى له جزاء دنيويا واخرويا من سنخ الذي ذكرته الآيات السابقة من جعل النبوة في الذريّة وإتيان الحكم والعلم اللدني الإلهي وتقدير السلامة والأمن في النشآت المختلفة. وقد وصف المحسن و

__________________

(١). الانعام / ٨٤.

(٢). يوسف / ٢٢.

(٣). القصص / ١٤.

(٤). الصافات / ٨٠.

(٥). الصافات / ١٠٥.

(٦). الصافات / ١١٠.

(٧). الصافات / ١٢١.

(٨). الصافات / ١٣١.

٦٤

المحسنون بأنّ رحمة الله قريب منهم وأنّ الله يحبهم وأنّ الله لمعهم معيّة خاصة عن معيّته القيوميّة على كل مخلوق (١) ، فالآية لم تكتف بوصف القسم الثالث بأنّهم تابعون للأولين السابقين ، بل ضيقت الدائرة إلى كون تبعيتهم بإحسان ، والإحسان والمحسن مقام فوق مقام العدل والعدالة.

وكذلك الحال في القسمين الأوّل والثاني ، فإنّه لم يبق على دائرته الوسيعة ، فضيق بحدود «السابقين» وهذه الدائرة لم تبق على حالها ، بل ضيقت إلى دائرة «أول السابقين» فلا بد ـ والحال هذه ـ من تمحيص وفهم دلالة الكلام ، ألا ترى في سورة المدثر ـ وهى رابع سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة ـ انّها تقسم الموجودين حينذاك إلى أربعة أقسام؛ هى «المؤمنون» و «أهل الكتاب» و «المشركون» و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، فلو كان المراد هو من سبق بإظهار الإسلام من المهاجرين فأين هم الذين في قلوبهم مرض ويستترون بالاسلام عن إظهاره. فبكلّ ذلك ، مع ما ذكرنا من النقاط العامة يقع القاري على المراد في الآية الكريمة.

ثم إنّه لا يخفى على القارئ أن الآية هي من سورة التوبة وقد استعرضت السورة نماذج عديدة سيئة ممن عايش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقاه ، فمثلا فيها (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (٢) فإنّها نزلت في غزوة تبوك وبعد الغزوة وفي طريق العودة دبّرت مؤامرة لاغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العقبة ، وقد تقدم نقل حديث حذيفة ـ الذي رواه مسلم في صفات المنافقين ـ في منافقي أهل العقبة وأنهم من الصحابة الخاصة.

ونموذج ثان تفصح عنه سورة التوبة : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٣). ومن البين أن السورة تشير

__________________

(١). النحل / ١٢٨ ، آل عمران / ١٣٤ ، المائدة / ١٣ ، الاعراف / ٥٦.

(٢). التوبة / ٧٤.

(٣). التوبة / ١٠١.

٦٥

إلى نمط من المنافقين لمن يظهر نفاقهم إلى العيان ، أي كانوا في غاية التستر ، ولا ريب انّ الأباعد الذين يلقون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحتاجون إلى هذه الشدة من التستر ، كما أنّ هؤلاء كانوا من الخطورة بمكان حتّى إنّهم احتاجوا الى هذه الشدة من التستر ، كما أنّهم مردوا واحترفوا النفاق بحيث لا يمكن اصطياد حركاتهم الظاهرة.

هذا فضلا عن النماذج الاخرى التي تستعرضها سورة التوبة ، من الأعراب وممن حول المدينة وغيرهم (١) ، فإذا كانت السورة تقسّم من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن كان يتعامل معه يوميّا أو لازموه إلى فئات عديدة صالحة وطالحة ، فكيف يعمم الصلاح الى الكل؟ فلا يكون التعميم إلّا بأن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض أو يتعامى عن النظر إلى جميع آيات السورة الواحدة أو تصمّ الآذان عن سماعها جميعا.

وهذا التقسيم ـ كما نبهنا سابقا ـ دليل على عدم اطلاق المهاجر على كلّ مكي أسلم وانتقل إلى المدينة ، وعلى عدم اطلاق الانصاري على كلّ مدني أسلم ، بل يطلق كلّ منهما

__________________

(١). مثل قوله تعالى (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة / ٤٥.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) التوبة / ٦٤

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) التوبة / ٦٧

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ ...) التوبة / ١٠٦

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ...) التوبة / ٤٩

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ...) التوبة / ٧٥

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ...) التوبة / ٥٨

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) التوبة / ٧٩

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...) التوبة / ٦١

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً ...) التوبة / ١٠٢

٦٦

مع توافر قيود عديدة اخرى. ولاحظ اسلوب هذه الآيات التي تستعرض النماذج الاخرى ، فإنّه اسلوب لا يرى فيه الهوادة والمهادنة ، كقوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ* أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ* وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٢).

فترى أن في سورة التوبة نزل الأمر بجهاد المنافقين على حدّ جهاد الكفار سواء ، وأفرد الخطاب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل الأمر بمجاهدة الكفار الذين يلون المؤمنين ـ أي القريبين منهم ـ وجعلت الآيات الذين في قلوبهم مرض من الكفار ، وقد عرفت أنّ الذين في قلوبهم مرض هم من الخاصة التي أظهرت الإسلام في أوائل البعثة كما صرّحت بذلك سورة المدثر ، امّا سورة التوبة فقد نزلت في غزوة تبوك ، أي في أخريات حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نزل قبل ذلك في سورة الاحزاب التهديد بمجاهدة المنافقين والذين في قلوبهم مرض من دون الأمر به ، قال تعالى

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا

__________________

(١). التوبة / ٧٣.

(٢). التوبة / ١٢٣ ـ ١٢٧.

٦٧

تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١).

فسورة التوبة متميزة من بين السور الاخرى في ملاحقة فلول اقسام المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، إلى درجة نزول الأمر بجهاد المنافقين على حدّ جهاد الكفر سواء ، ومن ذلك يظهر ملاحقة القرآن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ممّن احترف النفاق ومرد عليه ، من أوائل البعثة حتى أواخر نزول القرآن فى المدينة. وقد تقدمت رواية البخاري في صحيحه في الباب الواحد والعشرين من كتاب الفتن ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : «ان المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون!» (٢) فعلى من ينطبق ما يصفه حذيفة؟ ولما ذا كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متسترين وبعده خرجوا من تستّرهم واصبحوا هم الظاهرين وصار الجوّ العام على مشرعتهم؟!.

ولذلك سميت سورة التوبة «بالفاضحة» كما عن سعيد بن جبير ، قال : «قلت لابن عباس : سورة التوبة؟ فقال : التوبة؟ بل هى الفاضحة ، ما زالت تنزل «ومنهم ...» حتى ظننّا أن لا يبقى منّا أحد إلّا ذكر فيها». (٣) وسميت بذلك لأنّها فضحت المنافقين باظهار نفاقهم (٤) ، ومنهم أهل العقبة الذين همّوا بما لم ينالوا وقالوا كلمة الكفر ، وعرفهم حذيفة وعمار في الواقعة المعروفة في كتب السير والتفاسير. وتسمى «بالمبعثرة» ، فعن ابن عباس ، لانّها تبعثر عن أسرار المنافقين ، أى تبحث عنها. (٥) وتسمى «البحوث» ، فعن أبي أيوب الانصاري انّه سمّاها بذلك ، لانّها تتضمن ذكر المنافقين والبحث عن سرائرهم. (٦) وتسمى «بالحافرة» ، فعن الحسن ، لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا

__________________

(١). الاحزاب / ٦٠ ـ ٦٢.

(٢). صحيح البخارى ٩ / ١٠٤ ح ٥٧.

(٣). در المنثور ٤ / ١٢٠.

(٤). مجمع البيان ٥ / ٥.

(٥). مجمع البيان ٥ / ٥.

(٦). مجمع البيان ٥ / ٦.

٦٨

يسترونه. (١)

ومن الواضح إنه لم تكن هذه الفئة وغيرها من المنافقين من قبيل عبد الله بن أبي سلول وجماعته ممّن كان ظاهر النفاق والشقاق وشاهر بهما وانّما فضحت سورة التوبة المتسترين الذين كانوا في شدة خفاء ولا ريب أنّهم كانوا ذوي خطب ووقع في مجريات الأمور ويرون أنّ حجر العثرة الأساس أمام مخططاتهم هو وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك شدّد على أهمية ملاحقتهم ، وتسمى «المثيرة» ؛ لأنها أثارت مخازيهم ومقابحهم. (٢) فلها عشرة اسماء كما ذكر المفسرون. (٣)

ومع كل ما تضمنته سورة التوبة وما كان سبب النزول الرئيسى لها ومع ما تبين من دلالة (الأوّلين السابقين والاتّباع بالإحسان) بتحديدها لدائرة خاصة جدا ، كيف يتجرأ على نسبة التعميم في مفاد الآية المتقدمة؟!

ومن ما ذكرنا يظهر الحال في مفاد الآية الخامسة من تعداد الآيات التي يستدل بها وهي قوله تعالى في سورة التوبة (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤) فإن المهاجر ـ كما تقدم ـ لا يطلق على كل مكي أسلم وانتقل الى المدينة وكان في ركاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما دلّت على ذلك سورة التوبة بتقسيمها من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فئات عديدة صالحة وطالحة وكذا الحال في عنوان الأنصاري ، فهو ليس كل مدني أسلم وكان في ركاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ الآية المذكورة فى تفسيرها الوارد عن أهل البيت عليهم‌السلام دالّة على تكفير من ذنب وخطيئة صدرت منهم وأنّ التوبة على الله تعالى بلحاظ ذلك. (٥)

__________________

(١). مجمع البيان ٥ / ٦.

(٢). مجمع البيان ٥ / ٦.

(٣). انظر : مجمع البيان ٥ / ٥ ـ ٦.

(٤). التوبة / ١١٧.

(٥). مجمع البيان ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

٦٩

* وأمّا الآية الثانية : فهى قوله تعالى

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ* وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١)

وروى السيوطي وغيره عن جمع انهم يحتجّون بهذه الآيات على عدم جواز تناول الصحابة بقصّ ما وقع منهم ، وأنّ من يتناولهم بسوء ما صدر من أفعال بعضهم ففى قلبه غلّ ، وأنّ من يقتصّ ما جرى بينهم لا يدخل في مدلول (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا). (٢)

ولأجل تحصيل المفاد الصحيح للآيات ينبغي ذكر الآيتين اللاحقتين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٣) فترى أنّ سورة الحشر كسورة التوبة المتقدمة لا تقتصر في تقسيم من كان مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الفئة الصالحة فسب ، بل تنبّه على ذكر الجماعة الطالحة وهم المنافقون وهو إبطال لدعوى

__________________

(١). الحشر / ٨ ـ ١٠.

(٢). الدر المنثور ٨ / ١٠٥ ـ ١٠٦ و ١١٣ ـ ١١٤ ، تفسير الطبرى ١٢ / ٤٣ ح ٣٣٨٨٨ ، تفسير فخر رازى ٢٩ / ٢٨٩ ، تفسير البغوى ٤ / ٢٩٢

(٣). الحشر / ١١ ـ ١٢.

٧٠

التعميم في كل من صحب ولقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أن السورة في الآيات المذكورة تحدّد وتفسر «المهاجر» بأنّه من توافر على قيود أربعة وهي :

الأوّل : الذي اخرج من دياره وأمواله.

الثاني : كون خروجه ابتغاء فضل الله ورضوانه ، كما قدمناه مرارا من أن الهجرة في الاستعمال القرآني هي في المعنى الخاص من الفعل العبادي في سبيل الله ، لا قصد الحطام الدنيوي.

الثالث : نصرة الله ورسوله وقدمنا أنّ كتب السير ملاء بمن كان يجبن في الحروب ومنازلة الأبطال فى ساعة العسرة والشدائد ممن يقال عنهم إنهم من الخاصة الذين صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الرابع : الصدق وهو ـ كما تقدمت الإشارة المختصرة إليه ـ قد شرح في آيات عديدة ، كقوله تعالى

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١).

فالاستقامة حتى آخر العمر وعدم التبديل من مقدّمات الصدق ، ولذلك اشتهر بين الصحابة في طعنهم على بعضهم بأنه بدّل وأحدث ، كما درج هذا الاستعمال بكثرة عندهم في فتنة قتل عثمان وبقية الفتن التي دارت بينهم ، فدلّت الآية على اشتراط والوفاء بالعهد وعدم التبديل في وصف المؤمنين بالصدق.

وكقوله تعالى في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ

__________________

(١). الاحزاب / ٢٣ و ٢٤.

٧١

* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها* إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى* الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (١).

فنرى في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها تشترط في عنوان الصدق الثبات عند الزحف وعدم الفرار والجبن بينما المنافق الخفي جبان في الحروب والنزال كانّه يغشى عليه من الموت لشدّة خوفه وجبنه ، فإذا قاد جيشا ليفتح حصنا عاد يجبّن الناس والناس يجبّنونه ، بخلاف الصادق ، فإنّه كرار غير فرار ، يفتح الله على يديه ، والمنافق الخفي المحترف للنفاق يحزن من هو الكفار والقتال ، ويقول مثلا يا رسول الله أنّها قريش وخيلاؤها ما هزمت قطّ. فليس ذلك علامة الصدق فى ما يدّعيه من الإيمان فهذا الصحابى الّذي أشارت إلى فئته سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنافق المحترف وصفتهم عكس ما اشير إليه فى سورة الفتح بقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٢) وأنّ صحابى هذه الفئة عظّ فظّ مع المؤمنين في السلم ، هجين ذعر جبان في الحرب مع الكفار.

ثمّ إنّ السورة تلاحق وجود فئة محترفة للنفاق وهي (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٣) وهي الفئة التي أشارت إليها سورة المدثر المكيّة (٤) رابع سورة أنزلت في بداية البعثة ، و

__________________

(١). محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ ـ ٣٠.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). محمّد / ٢٠ و ٢٩.

(٤). المدّثّر / ٣١.

٧٢

كشفت عن وجودها في صفوف المسلمين الأوائل ، وهذه السورة تنبئ عن غرض هذه الفئة من إسلامها منذ البدء ، إنّه تولّي الامور ، وعرّضت بتولّيهم للامور ومقدرات الحكم وإفسادهم في الأرض ، وسيرتهم على غير سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسننه وتقطيعهم للرحم التي امروا بوصلها ، وان إسلامهم في بدء الدعوة ـ كما في سورة المدثر ـ هو لذلك الغرض ، لما اشتهر من الأنباء من الكهنة واليهود عن ظفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعرب والبلدان كما تشير إليه الآية عن اليهود قبل الاسلام (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١).

كما أن سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكشف عن وجود ارتباط بين هذه الفئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وبين الكفار الذين كرهوا ما نزّل الله وإنّهم يعدونهم بطاعتهم في بعض الأمر والشئون الخطيرة ، ويحسبون أنّ الله ليس بكاشفهم ، فالسورة تكشف عن فئة منافقة أخفت نفاقها فغدت محترفة في الاختفاء (لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٢) ، في مقابل الفئة المؤمنة أهل الصدق ، كما تكشف عن فئة مرتدّة في الباطن عن الاسلام.

والحاصل أن سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما تشير إلى شرائط عنوان الصدق ، فإنّها أيضا تشير إلى تقسيم من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن صحبه ، لا التسوية بينهم وجعلهم في كفّة واحدة ، فهل إنّ من يقسّم الصحابة إلى فئات ـ كما قسّم القرآن الكريم ـ يؤمن بالكتاب كلّه أم من يبعض الإيمان فهو يؤمن ببعض آيات السورة دون بعضها الآخر ، مع إنّه لم يصب ذلك البعض أيضا؟! وكذا يشير إلى معنى الصدق قوله تعالى في سورة الاحزاب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ

__________________

(١). البقرة / ٨٩.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٣٠.

٧٣

ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً* وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً* قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً* قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ* أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً* يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً* وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً* مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١).

ونقلنا الآيات بطولها من سورة الاحزاب ليلمس الجوّ الذي تصوّره الآيات لنا في واقعة الخندق ، كما أنّ هذه السورة أيضا تبيّن أنّ من شرائط الصدق : الثبات عند الزحف و

__________________

(١). الاحزاب / ٩ ـ ٢٤.

٧٤

الشجاعة في الحروب وعدم الفرار ؛ إلّا أنّ المنافقين والذين فى قلوبهم مرض إذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد ، فالحدة ليست في شجاعتهم وبطولتهم في النزال والشدائد ، بل في لسانهم في وقت السلم يبتذلون الفضاضة والغضاضة حتى مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتقدمون بما يرتئونه على الله ورسوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ...) (١)

فمن الغريب بعد ذلك أن يرووا في فضائل بعض الصحابة اعتراضه على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أربع موارد لفّقوها وأنّ القرآن نزل بخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاقا لرأي ذلك البعض وفي بعض الروايات إنّه أمسك بثوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجذبه وكأنّهم لم يقرءوا سورة الحجرات ولم يقرءوا قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٢). ولم يقرءوا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ* وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٣).

فالقرآن يجعل هذه الهالة المقدّسة لشخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجعل أحكاما عديدة لكيفية الارتباط بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوقير له ، وخفض الصوت ، وعدم التقدّم على أمره وحكمه ، وعدم مخالفته وعصيانه بالتسليم له ، وانّ ذلك هو الإيمان ، وهو امتحان القلب

__________________

(١). الحجرات / ١ ـ ٢.

(٢). سورة ص / ٨٦.

(٣). الحجرات / ٣ ـ ٧.

٧٥

بالتقوى ... فكيف يكون ما يذكرونه من مجابهة ذلك الصحابي لنبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقبة وفضيلة؟! وكيف يعتقد بتكلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ما شرّع وحدّد له من الله تعالى، ويجعلون ذلك الصحابي يستنكر فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويردعه عنه ـ والعياذ بالله تعالى ـ ثمّ ينزل القرآن بتقرير رأي الصحابي على قول نبيّ الله تعالى ، الذي قال الله فيه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١)؟! نعوذ ونستجير بالله من هذه الأقاويل! أليس هذا تبجيلا للصحابي وغلوّا فيه إلى حدّ جعلوه فوق مقام النبوّة والرسالة ، وردّا على قول الله تعالى في شأن رسوله في سورة الحجرات وغيرها من السور؟!

وممّا يستغرب منه أنّ العديد من السور تجعل هذه الصفة ـ وهي عدم الإقدام في الحروب والشدائد ، والإقدام بحدّة اللسان والفظاظة في السلم مع المؤمنين أو مع الرسول ـ من علامات المنافقين ، أو الذين في قلوبهم مرض ـ كما في سورة الفتح وسورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسورة الحجرات وسورة الأحزاب وغيرها ـ فكيف تصاغ هذه الصفة كفضيلة من الفضائل ، وتسمّى بالشدّة والغيرة فى ذات الله وكراهة الباطل؟!!

ونعود ثانية إلى سورة الأحزاب ، فنقول : إنّها تشترط في الصدق ، الصدق عند النزال في الحروب والشدائد ، والرحمة ولين العريكة مع المؤمنين ، بل الآية تنفي الإيمان وتحبط عمل من اتّصف بالجبن في الحروب ـ كحرب الأحزاب (الخندق) ـ وبحدّة اللسان في السلم مع المؤمنين ، كما إنّ هذه السورة تقسّم من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فئات صالحة وطالحة ، وتنفي صلاح المجموع ، بل تميّزهم إلى فئة مؤمنة ثابتة في الزلازل ، وفئة المنافقين ، والّذين في قلوبهم مرض ـ وهم أكثر احترافا للنفاق من الفئة الأولى ، وأشدّ خطرا ، كما تبيّن في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسورة المدّثّر ـ وفئة المعوّقين.

كما تدعو السورة إلى التأسّي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاقتداء به ومتابعته ، لا الردّ والاعتراض

__________________

(١). سورة النجم / ٣ و ٤.

٧٦

عليه كما هو دأب المنافقين ودأب الفئة الثانية (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١) ودأب بعض القالين ، يجعل ذلك منقبة لبعض الصحابة (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢) ، فأين هي السورة القرآنية التي لا تقسّم من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تميزهم إلى فئات عديدة مختلفة؟! وكذا يشير إلى معنى «الصدق» قوله تعالى في سورة الحجرات :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٣).

فهذه السورة بآياتها هذه هي أيضا تشترط في معنى الصدق : الإيمان ، مع الاستقامة عليه بعدم الارتياب ، والمجاهدة في سبيل الله ؛ مع أنّه قد روى أكثر المفسّرين والمؤرّخين أنّ بعض من يعدّ ويحسب من خاصة الصحابة قد ارتاب في نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقّانية الدين في صلح الحديبية واعتراضه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وبعد ما تحصّل لدينا معنى الصدق والصادقين من العديد من السور ، يتبيّن بوضوح لا ريب فيه أنّ المقصود من قوله تعالى في الآية الأولى من الآيات الثلاث المتقدّمة من سورة الحشر ، وهي : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً

__________________

(١). المائدة / ٥٢ ، الأنفال / ٤٩ ، التوبة / ١٢٥ ، الأحزاب / ١٢ و ٦٠ ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ و ٢٩ ، المدّثّر / ٣١.

(٢). سورة الحجرات ٤٩ : ١٦.

(٣). سورة الحجرات ٤٩ : ١٤ ـ ١٨.

٧٧

مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١) ليس هو كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة وصحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل خصوص من توافرت فيه القيود العديدة المذكورة في الآية ، والتي منها الصدق ، والذي بيّنت السور العديدة الأخرى عدم توافره في جميع الصحابة ، بل توافر في فئة منهم دون غيرها من الفئات ، وأنّهم ضرب من الجماعات ، وكيف يحتمل وصف الآية كلّ مكّيّ ونحوه أسلم وانتقل إلى المدينة أنّه صادق ، وقد صدر من العديد منهم مخالفات ، كالفرار من الزحف الذي هو من الكبائر؟!

هذا ، وقد فرّ كلّ الصحابة يوم حنين إلّا ثلّة من بني هاشم كما في قوله تعالى :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢)

ووقعة حنين كانت بعد عام الفتح! وكذا ما أتاه الصحابة في صلح الحديبية ، وفي مقدّمتهم بعضهم من الاعتراض على صلح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) كما سيأتي تفصيله! وكذا ما أتاه عدّة من الصحابة من التخلّف عن جيش أسامة ، الذي جهّزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتال الروم ، وقد لعن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تخلّف عن جيش أسامة وقال : «نفّذوا جيش أسامة»! (٤). وقد اقتتل الأوس والخزرج بالأيدي والنعال والعصيّ (٥) فنزلت الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (٦)!

__________________

(١). الحشر / ٨.

(٢). التوبة / ٢٥ ـ ٢٦.

(٣). انظر : تاريخ الطبري ٢ / ١٢٢ حوادث سنة ٦ ه‍ ، البداية والنهاية ٤ / ١٣٦ حوادث سنة ٦ ه

(٤). انظر : الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ١٢ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ٣٧٦.

(٥). انظر : تفسير الدرّ المنثور ٧ / ٥٦٠.

(٦). الحجرات / ٩.

٧٨

ألم يمنع بعض الصحابة من كتابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا ـ في مرضه الأخير ـ لا يضلّ المسلمون بعده ما إن تمسّكوا به ، وقولة ذلك الصحابي : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع ـ أو : المرض ـ أو : إنّ الرجل ليهجر؟! (١) وقد قال تعالى :

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣)

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤).

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٥).

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) (٦)!

وكم من واقعة قد أبرم وقطع فيها غير واحد من العشرة المبشّرة قبل أن يحكم الله ورسوله فيها؟! بل تقدّموا في أشياء قد تقدّم الله ورسوله فيها بحكم خلافا وردّا لذلك الحكم ، كما في الأمثلة المتقدّمة وغيرها!

ثمّ إنّه بقرينة الآية الثالثة من آيات سورة الحشر المزبورة ، وهي : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٧) يتبيّن أنّ المراد من «الفقراء المهاجرين» هم «السابقون» وقد تقدّم في سورة التوبة المراد من «السابقين»

__________________

(١). انظر : صحيح البخاري ٤ / ٢١١ ح ١٠ وج ٦ / ٢٩ ح ٤٢٢ ، صحيح مسلم ٥ / ٧٥ ـ ٧٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٢٥ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٥ حوادث سنة ١١ ه

(٢). النجم / ٢ ـ ٤.

(٣). الحجرات / ١ و ٢.

(٤). الحشر / ٧.

(٥). الأحزاب / ٢١.

(٦). المائدة / ٩٢.

(٧). الحشر / ١٠.

٧٩

فلا تغفل ، ويعضد ذلك أيضا التوصيف ب «الصدق» كما تقدّم.

أمّا الآية الثانية من الآيات الثلاث من هذه السورة : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ، فقد قيّدت الآية المديح بعدّة قيود ، فلم تكتف بتبوّؤ الدار ، بل قيّدته بالإيمان ، والمحبّة لمن هاجر إليهم ، والإيثار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وعدم الشحّ.

ومن البيّن ضيق الدائرة بلحاظ هذه القيود ؛ لأنّه يخرج المتبوّئ للدار المنافق ، أو من انضمّ إلى فئة الّذين في قلوبهم مرض ، أو من كان من أهل المدينة من الّذين مردوا على النفاق ـ كما في سورة التوبة ـ (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٢) ، أو غيرها من النماذج التي استعرضتها سور التوبة والأحزاب ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبقرة والأنفال والمائدة ، وغيرها من السور المتعرّضة للفئات الطالحة التي صحبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ألوان المنافقين المختلفة. فلا الآية الثانية هذه من سورة الحشر مطلقة لكلّ مدنيّ أسلم ، ولا الآيات الأخرى الناصّة على أنّ بعض الفئات الطالحة السيّئة هي من أهل المدينة تبقي الإطلاق المتوهّم.

هذا ، مع أنّه قد ورد في كتب أصحابنا عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ ذيل الآية (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قد نزلت في عليّ وفاطمة عليهما‌السلام ، بل رووا ذلك أيضا عن رواة العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، نعم ، في بعض الروايات أنّ سيّد هذه الآية وأميرها عليّ عليه‌السلام ، ممّا يدلّ على عموم المعنى ، ولا غرابة في ذلك بعد كون الآيات مختلفة نزولا ، فلعلّ صدرها في مورد وذيلها في آخر ، وكم له من

__________________

(١). الحشر / ٩.

(٢). التوبة / ١٠١.

(٣). الأمالي ـ للطوسي ـ ١٨٥ ح ٣٠٩ المجلس ٧ ، مجمع البيان ٩ / ٣٨٦ ، تفسير الصافي ٥ / ١٥٧ ، وانظر : شواهد التنزيل ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ح ٩٧٠ و ٩٧١.

٨٠