الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقديسه ، بأداء أجرها وقيمتها وهو مودّة القربى ، فالاستخفاف بمودّة القربى استخفاف بأجر الرسالة والنبوّة ، واستحلال عداوة العترة استحلال لحرمة الرسالة.

وقال ابن حجر في ترجمة لمازة بن زبّار ـ أبو لبيد البصري ـ :

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال : سمع من علي وكان ثقة وله أحاديث ، وقال حرب عن أبيه : كان أبو لبيد صالح الحديث ، وأثنى عليه ثناء حسنا ، وقال موسى بن إسماعيل ، عن مطر بن حمران : كنّا عند أبي لبيد فقيل له : أتحبّ عليّا؟ فقال : أحبّ عليا وقد قتل من قومي في غداة ستة آلاف ، وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : حدّثنا وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن أبي لبيد وكان شتاما ، قلت : زاد العقيلي ، قال وهب : قلت لأبي : من كان يشتم؟ قال : كان يشتم علي بن أبي طالب ، وأخرجه الطبري من طريق عبد الله بن المبارك عن جرير بن حازم ، حدّثني الزبير بن خريت ، عن أبي لبيد ، قال : قلت له : لم تسبّ عليّا؟ قال : ألا أسبّ رجلا قتل منّا خمسمائة وألفين والشمس هاهنا ..

ثمّ قال ابن حجر ـ وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالبا ، وتوهينهم الشيعة مطلقا ، لا سيّما أنّ عليّا ورد في حقّه : «لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق». ثمّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البغض هاهنا مقيّد بسبب وهو كونه نصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن من الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض ، والحبّ بعكسه ؛ وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالبا ، والخبر في حبّ علي وبغضه ليس على العموم ، فقد أحبّه من أفرط فيه حتّى ادعى أنّه نبيّ ، أو أنّه إله تعالى الله عن إفكهم ، والذي ورد في حقّ علي من ذلك قد ورد مثله في حقّ الأنصار ، وأجاب عنه العلماء أن بغضهم لأجل النصر كان

٢٠١

ذلك علامة نفاقه وبالعكس ، فكذا يقال في حقّ علي ، وأيضا فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهورا بصدق اللهجة والتمسّك بأمور الديانة بخلاف من يوصف بالرفض فإنّ غالبهم كاذب ، ولا يتورّع في الأخبار ، والأصل فيه أنّ الناصبة اعتقدوا أنّ عليّا رضي الله عنه قتل عثمان ، أو كان أعان عليه فكان بغضهم له ديانة بزعمهم ، ثمّ انضاف إلى ذلك أنّ منهم من قتلت أقاربه في حروب علي (١). انتهى كلامه.

وقال الذهبي في ترجمة لمازة بن زبّار :

بصري حضر وقعة الجمل ، وكان ناصبيا ينال من علي رضي الله عنه ، ويمدح يزيد (٢). انتهى.

أقول : دفاع ابن حجر عن الناصبة وإن كان استحلالا منه لعداوة علي عليه‌السلام بتسويل واهي إلّا أننا نوضّح لوازم كلامه ونسجّل نقاط اعترافه :

الأولى : إقراره بتوثيق أهل سنّة الجماعة غالب الناصبة المعادين لعترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعتمادهم في الرواية عليهم وأخذ أحكام الدّين عنهم ، ولا غرابة في ذلك لأنّ مآل من يترك العترة النبويّة التي أمر الله بمودّتها ـ وهو ترك لأعظم فريضة ـ الركون إلى العصاة البغاة أهل النفاق والشقاق.

الثانية : إقراره بتوهين أهل سنّة الجماعة كافة الشيعة ممّن يميل إلى عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويواليهم ، وهذا يعزز ما ذكرناه من أنّ مرادهم من السنّة هو سنّة العداء وقطعية عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالثة : دعواه : أنّ حرمة بغض علي عليه‌السلام وكون البغض نفاقا مقيّدا بسبب نصرة

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٨ / ٤١٠ ـ ٤١١ رقم ٨٣١.

(٢). ميزان الاعتدال ٣ / ٤١٩ رقم ٦٩٨٩.

٢٠٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستدل على التقييد بأنّ من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض يبغضه بحكم الطبع البشري.

ويندفع : مع ذيل كلامه من أنّ الناصبة يبغضون عليّا لمخالفته لعثمان ، وليس كلّ الناصبة ممّن كان في عصر علي عليه‌السلام ، ولا كلّ الناصبة هم ممّن قتل علي آباءهم في بدر وأحد وحنين والأحزاب وخيبر والجمل وصفين ، كما أن قتل علي لآباء الناصبة وأجدادهم في حروب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في سبيل الله واعلاء كلمة الإسلام وإرغام كلمة الكفر ، وكذلك في حرب الجمل وصفين والنهروان كان قتالا للناكثين للبيعة والقاسطين الظلمة والمارقين من الإسلام ، كما يمرق السهم من القوس ، كما أمره بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاءت به الأحاديث النبويّة ، وكما في أحاديث قتل عمار بن ياسر وغيرها ، وكيف يطلق ابن حجر على ذلك الجهاد في سبيل الله أنّه إساءة لآباء الناصبة وفعل سوء ـ ربنا نعوذ بك من استحلال حرمات دينك ـ

ولعمري إنّ دفاع ابن حجر بمثل ذلك أعظم فدحا في الدّين من نصب الناصبة ، لأن ذلك يفتح الباب للآخرين ببغض العترة بذلك التسويل ، ثمّ ما ذا يصنع ابن حجر مع آية المودّة فهل يؤوّلها أيضا؟ وإذا ساغ مثل هذا العبث بمحكمات وبيّنات الدّين فليعذر عندهم إبليس في معاداته لخليفة الله آدم عليه‌السلام ؛ لأنّه تأوّل فأخطأ لا سيّما وأن خلقة إبليس من نار فطبعه الخلقي الحمية والعصبية.

ثمّ إن حديث «علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار» ، أو مثل حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرها من الأحاديث دالّ على أنّ بغض علي عليه‌السلام في أيّ موقف مخالفة للحقّ وهلاك وضلال ؛ لأنّ عليّا عليه‌السلام في كلّ سيرته وفعله مع الحقّ ونصرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بعد وفاته.

الرابعة : إنّ إفراط بعض من أحبّ عليّا وغلوه لا يسوّغ بغض وعداوة علي عليه‌السلام ، وإلّا لجاز بغض ومعاداة النبيّ عيسى عليه‌السلام ، وكيف يتعذّر ابن حجر بمثل ذلك في مخالفة آية

٢٠٣

المودّة التي تنادي بعظم فريضة المودّة في القربى؟! وما وزر من أحبّ عليّا ولم يغل فيه؟!

وأمّا قياس ما ورد في علي عليه‌السلام بما ورد في حقّ الأنصار ، فهو قياس مع الفرق والبون الشاسع ، فإنّ ما ورد في علي عليه‌السلام لا يحصى من أحاديث الفضائل والمناقب ، وأين ذلك ممّا ورد في الأنصار ، مضافا إلى أنّ الحكم في علي عليه‌السلام قد رتّب على ذاته الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس بنصّ آية التطهير.

وأمّا الحكم في الأنصار فقد رتّب على عنوان نصرتهم ، والوصف مشعر بعلّة الحكم ، بخلاف عنوان الذات في علي عليه‌السلام فإنّه يعطي ملازمة ذاته الطاهرة للحقّ ونصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدّين في كلّ المواطن.

ثمّ ما يصنع ابن حجر في الحديث الآخر : «لا يبغضك يا علي إلّا منافق أو ابن زنا أو ابن حيضة» ، أو ما في حديث جابر : «كنّا نباري أولادنا بحبّ علي عليه‌السلام ، فمن كان يحبّه علموا أنّه طاهر الولادة ، ومن كان يبغضه علموا أنّه لغير أبيه» ، وغير ذلك من الأحاديث التي تهيّج ثائرة أهل النصب.

الخامسة : وصفه أكثر الناصبة بالتمسّك بأمور الديانة والصدق ، ومن تلك الديانة قطع ما أمر الله به أن يوصل ، ومنع أجرة النبوّة العائد نفعها لا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف لا يكون إبليس أعبد العباد على هذا المنطق ؛ لأنّه أبى أن يسجد لآدم وأصرّ أن يكون خضوعه لله خالصا من طاعة ولي الله ، فلقد اقترح إبليس على الله أن اعفني من السجود لآدم ولأعبدنّك عبادة لم يعبدك أحد مثلها ، فأجابه تعالى : «إنّي أحبّ أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد» ، ثمّ إنّ ممّن وثّقوه من الناصبة خالد بن سلمة بن العاص الذي تقدّم أنّه ينشد بني مروان أشعاره التي يهجو بها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا عمر بن سعد قاتل الحسين عليه‌السلام ، ونظائرهم فبخ بخ له بهذه الديانة.

السادسة : دعواه كذب أكثر الرافضة يناقضه ما تقدّم من إقرار الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب : «فهذا كثير في التّابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو ردّ حديث

٢٠٤

هؤلاء لذهبت جملة من الآثار النبويّة وهذه مفسدة بيّنة» (١). هذا مع أنّ تأوّل ابن حجر في جرح أهل سنّة الجماعة في الرواة الشيعة يدفعه تنصيصهم على أنّ منشأ الطعن هو الميل إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، أو حبّ علي عليه‌السلام ، فكلماتهم تنادي بابتداع المودّة في القربى التي أمر الله تعالى بها.

السابعة : أنّ الناصبة يعذرون في بغضهم لعلي عليه‌السلام ، مع افتراض مودّته بنصّ الكتاب ومع ذلك يوصفون بالديانة ، فلم لا يعذر من ينسب إليهم بغض الشيخين وأصحاب السقيفة؟!

العداوة مرض في قلوب الناصبة

إنّ القرآن الكريم كما أمر وفرض مودّة أهل البيت وأمر بصلتهم وعظّم من هذه الفريضة حتّى جعل خطبها في مصافّ أصول الاعتقاد والإيمان بجعلها أجرا لكلّ الرسالة المشتملة على العقيدة والمعرفة ، وهذا البيان شاف لإقامة الحجّة البالغة على العباد وقطع العذر وإنارة سبيل النجاة.

كذلك القرآن حذّر ونهى عن البغض والعداوة لهم ، حيث تعرّضت كثير من الآيات للنهي عن قطع ما أمر الله به أن يوصل ، كما حذّر من الضغينة التي هي ضد المودّة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٢).

__________________

(١). ميزان الاعتدال ١ / ٥.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٥ ـ ٣٠.

٢٠٥

فقد سلّطت الضوء هذه الآيات الشريفة على تعريف الضغينة بأنّها مرض في قلوب ثلّة ، ولا نجد في القرآن الكريم أنّ الله تعالى افترض المحبّة والمودّة ـ التي هي من أفعال القلب ـ ، ومن ثمّ تظهر على أفعال الجوارح إلّا في المحبّة لله تعالى وللرسول ولذي القربى ، فالضغينة المحرّمة لا تكون إلّا في موارد عصيان فريضة المحبّة والمودّة ؛ فالقرآن قد حرّم المودّة والمحبّة لآخرين في موارد أخرى ، كما في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١) ، وقد أطلق القرآن على موادّة من حادّ الله ورسوله أنّها موالاة في السورة نفسها في الآيات الكريمة التى تحكي عن طائفة ممّن هم حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ...)(٢).

ولك أن تقول أطلق على الموالاة أنّها موادّة.

وهذا تعريف آخر يطلعنا ويوقفنا عليه القرآن الكريم وهو كون المودّة موالاة ، غاية الأمر أنّ المودّة ـ والتي هي موالاة ـ على نحوين :

منها : واجبة مفترضة ، وهي المحبّة والمودّة والموالاة لله ولرسوله ولذي القربى.

ومنها : محرّمة ، وهي المودّة والموالاة لمن حادّ وشاقق الله ورسوله.

كما أنّ الضغينة المحرّمة هي التي يؤتى بها وترتكب في موارد الفريضة الواجبة مخالفة ، فبتوسط آية المودّة في سورة الشورى وهذه الآيات من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجادلة يتبيّن أنّ المودّة والموالاة والنصرة هي لله ولرسوله ولذي القربى ـ علي وفاطمة وابناهما ـ ، وهو الإيمان الذي يكتبه الله تعالى في القلوب ، فالإيمان في القلب هو المودّة والموالاة لله ولرسوله ولذي القربى والمرض في القلوب هو العداوة والضغينة لله ولرسوله ولذي القربى.

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

(٢). المجادلة / ١٤.

٢٠٦

ويتّضح من هذه الآيات : إنّ الإيمان يقابل المرض في القلوب ، وإنّ الّذين في قلوبهم مرض من أوائل عهد الإسلام ـ كما تشير إليه سورة المدّثر ـ أولئك لم يكتب في قلوبهم الإيمان من البدء وبقوا على تلك الصفة.

ومن ذلك يعلم أنّ من الهدى الذي نزّل الله تعالى ـ وكرهه جماعة وتابعهم جماعة أخرى طواعية للجماعة الأولى إسرارا بين الجماعتين ـ هو افتراض مودّة ذي القربى في آية المودّة كما أنّ ممّا نزّل الله تعالى من الهدى ـ والذي كرهه جماعة أيضا وأبطلوا العمل به ـ هو افتراض الخمس والفيء لذي القربى في سورة الأنفال والحشر ، ولا ريب أنّ أداء الخمس لذي القربى وتمكينهم من الفيء الذي افترضه الله لهم هو من أبرز مصاديق الموالاة والمودّة لذي القربى.

وقد مرّ بنا في ما تقدّم أنّ الّذين في قلوبهم مرض هم ثلّة نشأت في أوائل الدعوة وبداية الإسلام ، حيث ورد ذكرهم في سورة المدثّر وهي رابع سورة نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في أوائل عهد البعثة الشريفة ، وقد جعلت سورة المدثّر الّذين في قلوبهم مرض فئة في قبال فئة الّذين آمنوا وفئة الّذين أوتوا الكتاب وفي مصافّ فئة رابعة هي فئة الّذين كفروا ، لكنّها ميّزتهم عنوانا واسما عن الذين كفروا وإن كانوا في موقف واحد بحسب الحقيقة والواقع لا بحسب الظاهر ؛ لأنّ الّذين في قلوبهم مرض يبطنون هذا المرض وهو الضغينة المحرّمة بحسب تعريف آيات سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الضغينة تجاه من أمر تعالى بمحبّتهم ومودّتهم وموالاتهم ، وهذه السور تلاحق هذه الفئة والثلّة التي نشأت في صفوف من أسلم في أوائل البعثة.

وتبيّن أن مخططهم مبني على الضغينة لذي القربى وكراهة ما نزّل الله في حقّهم من المودّة والموالاة والخمس والفيء ، كما تبيّن الآيات السابقة في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تتحدّث في وصف الّذين في قلوبهم مرض : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ

٢٠٧

عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (١).

فهذه الآيات تنبأ عن ملحمة قرآنية عن هذه الثلّة والفئة ـ التي ترعرعت في أوائل البعثة ووصفتهم هذه السورة بأنّ وصفهم البارز هو الضغينة لمن أمر الله تعالى بمودّته وصلته وموالاته ـ وكراهة ما نزّل على رسوله من الهدى الذي منه مودّة وموالاة ذي القربى ، وتخصيص الخمس والفيء بهم أي بولايتهم ، وقد أطلقت اسم مرض القلب في قبال الإيمان المكتوب في القلب ـ حسب ما ورد في سورة المجادلة كما مرّ بنا ـ هذه الملحمة تولي هذه الفئة سدّة الحكم والتصرّف في الأمور العامّة للمسلمين ، وسيكون الطاغي على أفعال هذه الفئة ـ الّذين في قلوبهم مرض ـ عدّة أمور :

الأوّل : هو الفساد في الأرض ، وهو مخالفة الكتاب والسنّة في الأحكام والتشريعات ، ممّا يوجب استشراء الفساد في الأرض شيئا فشيئا حتّى ينتشر في بلاد المسلمين الظلم والفساد المالي والفساد الأخلاقي والحيف في القضاء والتلاعب في مقدّرات الحكم والسلطة ، وغيرها من وجوه الفساد في الأرض.

والثاني : قطع ما أمر الله به أن يوصل ، وهو معاداة من أمر الله بمودّتهم وموالاتهم وتمكينهم من حقّ الولاية لهم على الخمس والفيء ، وقد أنبأت آية أخرى من كتاب الله العزيز عن نفس هذه الملحمة المستقبلية لأوضاع المسلمين وهي (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ، حيث علل هذه في الآيات

__________________

(١). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ ـ ٢٣.

(٢). الحشر / ٦ و ٧.

٢٠٨

تخصيص ذوي القربى بالفيء ـ وهو الأموال العامّة والمنابع الطبيعة في البلاد كما هو مقرّر في الفقه ـ كي لا تكون ـ أي الأموال العامّة ـ دولة يتداولها الأغنياء خاصّة منكم يستأثرون بها دون عامّة المسلمين ، أي كي تسود العدالة المالية بين المسلمين لا بد من ولاية ذوي القربى على الفيء والأموال العامّة ومقتضى هذا التعليل أنّ مجيء غيرهم على سدّة الحكم والولاية على الأموال العامّة سوف ينجم منه الظلم والفساد المالي ، وهذا ما وقع فإنّه قد فرّق بين المسلمين في عطاء بيت المال في عهد الأوّل ، وازداد ذلك في عهد الثاني ووصل إلى ذروة الحيف ، واللامساواة في توزيع وعطاء بيت المال في عهد الثالث حتّى ثار المسلمون وحدث الذي حدث ، وكذلك استمر النهج في عهد بني أمية وبني العبّاس ، وقد أخبرت الصديقة فاطمة عليها‌السلام بذلك في خطبتها التي سبق نقلها.

وقد توعّدت آيات سورة الحشر عن مخالفة هذا الحكم والتشريع بشدّة العقاب.

فتلخّص ـ ممّا مرّ بنا ـ أنّ المودّة للقربى وعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي موالاة لهم ـ كما أوضحت ذلك سورة المجادلة التي مرّ ذكر آياتها ـ وأنّ الضغينة والعداوة لهم مرض في القلوب ـ كما أوضحت ذلك سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في قبال المودّة والموالاة لهم فإنّه إيمان.

وإلى ظاهر هذه الآيات من السور يشير الصادق عليه‌السلام فى ما رواه عنه عبد الله بن سنان أنّه عليه‌السلام قال : في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وأنّه يكون في السماء نداء «ألا أن الحقّ في علي بن أبي طالب وشيعته ، قال عليه‌السلام : ف (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) (١) على الحقّ وهو النداء الأوّل ، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض ، والمرض والله عداوتنا» (٢). الحديث.

وقد روى ابن المغازلي الشافعي في المناقب ، عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣) ، قال : ببغضهم علي بن أبي طالب (٤) ، والآية المذكورة في

__________________

(١). إبراهيم / ٢٧.

(٢). الغيبة ـ للنعماني ـ : ٢٦٠ ح ١٩ الباب ١٤.

(٣). محمّد / ٣٠.

(٤). مناقب ابن المغازلي : ٢٦٢ ح ٣٥٩.

٢٠٩

سياق وصف الّذين في قلوبهم مرض ، وغيرها من الروايات (١).

هذا ، وممّا يدلّ على كون مودّة ذوي القربى موالاتهم ، مضافا إلى ما تقدّم في سورة المجادلة ، قوله تعالى في سورة آل عمران : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) ، فإنّ في الآية تصريحا بأنّ مقتضى المحبّة الاتّباع ، كما أنّ مقتضى مفهوم الشرطية في الآية أيضا هو أنّ ترك الاتّباع كاشف مسبب عن عدم المحبّة. فيتحصّل أنّ مودّة ذوي القربى مقتضاها اتّباعهم وموالاتهم وهي التي قد جعلها أجرا لكلّ الرسالة. فمفاد الآية متطابق مع حديث الثقلين وحديث السفينة.

فتحصّل أنّ مقتضى فريضة المودّة في القربى والتي عظّم شأنها القرآن الكريم ، وكون بغضهم والعداوة لهم وجفاءهم وقطعيتهم مرض يعري القلوب ويسلبها الإيمان ، هو أن المودّة للقربى ميزان ومعيار لتعديل الصحابي ، وبغض ذوي القربى والمصادمة معهم ميزان ومعيار لجرح الصحابي ، فهذا الضابط يتطابق مع ما تقدّم من الموازين والمعايير التى مرّت بنا في ما سبق.

ومن ذلك قول الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بأن الهجرة كوصف للصحابي إنّما تنطبق عليه لا لكون معناها انتقال البدن من مكان إلى مكان كسفر جغرافي ، بل الهجرة إنّما هي بالهجرة إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، لا الابتعاد عنهم ، وأنّ المدار على الموالاة والمتابعة لرسول الله وأهل بيته ، لا المعاداة لهم والمخالفة ، والهجرة تحققت بهم ، والنصرة بنصرة الله ورسوله وذي القربى ، فلا هجرة إلّا إليهم لا إلى غيرهم ، ولا نصرة ومودّة وموالاة إلّا لهم لا عليهم ، ولا اتّباع بإحسان إلّا باتباع سبيلهم ، وما أسألكم عليه من أجر إلّا ـ وهو المودة في القربى ـ من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، كما مرّ بنا قول علي عليه‌السلام : «أنّ الصدّيق من

__________________

(١). لاحظ : ما روي عنهم عليه‌السلام في تفسير البرهان ، ونور الثقلين في ذيل آيات سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢). آل عمران / ٣١.

٢١٠

صدّق بحبهم وأبطل باطل عدوهم ، والفاروق من فرّق بينهم وبين عدوهم» (١) ، وأنّ من ترك الهجرة إليهم يتعرّب ، وأنّ من يترك المودّة والموالاة لهم يتحزّب.

فهذه وقفة يلزم إعطاءها الإمعان التّام في مبحث عدالة الصحابة.

__________________

(١). نهج البلاغة : كتاب ٤٩. ط مؤسسة الإمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ

٢١١
٢١٢

٨

العقبة والمظاهرة

٢١٣
٢١٤

يشير القرآن الكريم في سورة التوبة (براءة) وسورة التحريم إلى تصاعد حدّة العداء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى جماعة ممّن كان معه وممّن يحيط به ، وكذلك كتب الحديث والسير والتواريخ ، وقد بلغ هذا العداء ذروته بتدبيرهم محاولتين للفتك به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

* الأولى :

في رجوعه من تبوك عند العقبة ، ومدبّريها عرفوا ب : أهل العقبة. قال تعالى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (١).

وقال تعالى في السورة نفسها أيضا :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢)

قال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآيات الأولى :

__________________

(١). التوبة (براءة) / ٦٥ ـ ٦٦.

(٢). التوبة (براءة) / ٧٤.

٢١٥

قيل : نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من تبوك ، فأخبر جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذيفة يسوقها ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه فلان وفلان. حتّى عدّهم كلّهم. فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟! فقال : أكره أن تقول العرب لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام مثله ، إلّا أنّه قال : ائتمروا بينهم ليقتلوه ، وقال بعضهم لبعض : إن فطن نقول : إنّا كنّا نخوض ونلعب ، وإن لم يفطن نقتله.

وفي ذيل الآيات اللاحقة قال :

وقيل : نزلت في أهل العقبة ؛ فإنّهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقبة عند مرجعهم من تبوك وأرادوا أن يقطعوا انساع راحلته ، ثمّ ينخسوا به ، فأطلعه الله تعالى على ذلك ، وكان من جملة معجزاته ؛ لأنّه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلّا بوحي من الله تعالى.

فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة وعمّار وحذيفة معه ، أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها ، وأمر الناس كلّهم بسلوك بطن الوادي ، وكان الّذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه ، عرفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاهم بأسمائهم واحدا واحدا. عن الزجّاج والواقدي والكلبي ، والقصّة مشروحة في كتاب الواقدي. وقال الباقرعليه‌السلام : كانت ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب (١).

وقال الزمخشري في ذيل الآية ٧٤ :

أقام رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه

__________________

(١). مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٥ / ٧٠ ـ ٧٨.

٢١٦

القرآن ، ويعيب المنافقين فيسمع من معه منهم ، منهم الجلاس بن سويد ... ـ

إلى أن قال : ـ فتاب الجلاس وحسنت توبته.

(وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) : وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام. (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) : وهو الفتك برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وذلك : عند مرجعه من تبوك تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل ، فأخذ عمّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثّمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا (١).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف في ذيل كلام الزمخشري المتقدّم :

أخرجه أحمد من حديث أبي الطفيل ، قال : لمّا قفل رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من غزوة تبوك أمر مناديا ينادي لا يأخذنّ العقبة أحد ، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يسير وحده ، فكان النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يسير وحذيفة رضى الله عنه يقود به ، وعمّار رضى الله عنه يسوق به ، فأقبل رهط متلثّمين على الرواحل حتّى غشوا النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فرجع عمّار فضرب وجوه الرواحل ، فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لحذيفة : قد قد. فلحقه عمّار فقال : سق سق. حتّى أناخ ، فقال لعمّار : هل تعرف القوم؟!

فقال : لا ، كانوا متلثّمين ، وقد عرفت عامّة الرواحل.

فقال : أتدري ما أرادوا برسول الله؟!

__________________

(١). الكشّاف ـ للزمخشري ـ ٢ / ٢٩١.

٢١٧

قلت : الله ورسوله أعلم.

فقال : أرادوا أن يمكروا برسول الله فيطرحوه من العقبة.

فلمّا كان بعد ذلك وقع بين عمّار رضى الله عنه وبين رجل منهم شيء ممّا يكون بين الناس ، فقال : أنشدكم الله ، كم أصحاب العقبة الّذين أرادوا أن يمكروا برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم؟!

فقال : ترى أنّهم أربعة عشر ، فإن عشر ، كنت فيهم فهم خمسة عشر ..

ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزّار ، وقال : روي من طريق عن حذيفة ، وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البختري ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أقود به ، وعمّار رضى الله عنه يسوق الناقة حتّى إذا كنّا بالعقبة وإذا اثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال : فانتهت إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فصرخ بهم فولّوا مدبرين (١).

وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير ـ بعد أن ذكر أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات ـ :

قال القاضي : «يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع ؛ وذلك لأنّ قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) إلى آخر الآية ، كلّها صيغ الجموع ، وحمل صيغة الجمع على الواحد ، خلاف الأصل.

فإن قيل : لعلّ ذلك الواحد قال في محفل ورضي به الباقون.

قلنا : هذا أيضا خلاف الظاهر ؛ لأنّ إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل ..

ثمّ قال : بلى الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي : أنّ المنافقين همّوا بقتله

__________________

(١). ذيل الكشّاف ٢ / ٢٩٢.

٢١٨

عند رجوعه من تبوك ، وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل ، وكان عمّار بن ياسر آخذا بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثّمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا.

والظاهر أنّهم لمّا اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوّته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادّعاء الرسالة ، وذلك هو قول كلمة الكفر. وهذا القول اختيار الزجّاج».

فأمّا قوله : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) ، فلقائل أن يقول : إنّهم أسلموا ، فكيف يليق بهم هذا الكلام؟! والجواب من وجهين :

الأوّل : المراد من الإسلام : الذي هو نقيض الحرب ؛ لأنّهم لمّا نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وجنحوا إليه ، فإذا جاهروا بالحرب ، وجب حربهم.

والثاني : أنّهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.

وأمّا قوله : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) ، المراد : إطباقهم على الفتك بالرسول ، والله تعالى أخبر الرسول عليه‌السلام بذلك حتّى احترز عنهم ، ولم يصلوا إلى مقصودهم. ـ إلى أن قال في ذيل الآيات الثلاث التي تتلو الآية المزبورة ـ : اعلم أنّ هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ، ولا شكّ أنّهم أقسام وأصناف ، فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل (١).

أقول : قد مرّ بنا في ما سبق أنّ سورة التوبة (البراءة) سمّيت : «الفاضحة».

فعن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عبّاس : سورة التوبة؟

فقال : التوبة؟! بل هي الفاضحة ، ما زالت تنزل : «ومنهم ...» حتّى ظننّا أن لن

__________________

(١). التفسير الكبير ـ للرازي ـ ١٦ / ١٣٦ ـ ١٣٨.

٢١٩

يبقى منّا أحد إلّا ذكر فيها ..

وكذلك سمّيت : «المبعثرة» ؛ لأنّها تبعثر عن أسرار المنافقين ..

وسمّيت : «البحوث» ؛ لأنّها تذكر المنافقين وتبحث عن سرائرهم ..

و «المدمدمة» ، أي : المهلكة ..

و «الحافرة» ؛ لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ..

و «المثيرة» ؛ لأنّها أثارت مخازيهم وقبائحهم ..

و «العذاب» ؛ روى عاصم بن زر بن حبيش ، عن حذيفة ، قال : يسمّونها سورة التوبة وهي سورة العذاب (١).

فترى أن سورة التوبة (البراءة) مليئة بالإشارة إلى أقسام المذمومين ممّن كان في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بظاهر الإسلام ، وأبرز ما فيها الكشف عن أفضع عملية حاول جماعة منهم ارتكابها ، وهي الفتك بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجدير بالانتباه أنّ هذه السورة من أواخر السور نزولا ؛ فهي نزلت قبيل عام الفتح وعند غزوة تبوك ، وقد صوّرت ـ بتفصيل ـ الأجواء التي كان يعيشها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى من حوله.

حذيفة وأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أعلم الناس بالمنافقين

فقد ورد هذا المضمون في الحديث النبوي الشريف (٢) ، وكذلك في عدّة روايات قد مرّت في ما سبق ، وهو بروز الصحابي حذيفة بن اليمان في علمه ومعرفته بالمنافقين ، والظاهر أنّ هذه الواقعة ـ وهي محاولة اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هي مربض الفرس ، والحادثة العظمى التي أطلعت حذيفة على رءوس شبكة النفاق ، ومن المهمّ أن نتتبّع خيوط وتفاصيل الحادثة ؛ لترتسم لنا منظومة هذه الشبكة والمجموعة ، وهل هي من دائرة

__________________

(١). مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٥ / ٣ ـ ٤.

(٢). تفسير البرهان ٢ / ٨١٢ سورة التوبة (براءة) ط الحديثة ـ قم ، وكذا في مصادر العامّة.

٢٢٠