الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

٢

الوجه العقلى

٤١
٤٢

ومن الغريب تمسّك التفتازاني بوجه عقلي نقلي لعدالة جميع الصحابة ؛ وهو أنّهم نقلة الدين! ، ومراده أنّه لو لا ذلك لبطل نقل الشريعة ، وهذا غير لازم لنفيها عن المبطل خاصّة دون المحقّ. هذا مع أنّ التفتازاني نفسه ذكر حديث الثقلين آخذا به ، قال : «أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرنهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقذا من الضلالة ، ولا معنى للتمسك بالكتاب إلّا الأخذ بما فيه من العلم والهداية ، فكذا في العترة» (١) ، فإذا كانت العترة عدل الكتاب في التمسّك بهما كشرط للنجاة من الضلالة فأي انبطال للشريعة وراء ذلك ، وهل يخلط الحابل بالنابل وتؤخذ الشريعة عن من لا حظّ له في الإيمان والعلم. بل الاعتماد في الدين على كلّ من هبّ ودبّ اعتماد على غير ركن وثيق.

هذا ومن المسائل التي تصبّ في هذا البحث وترتبط به بنحو ما هو إصدار أكثر العامّة على مشروعية إمامة المتغلب بالقهر والبغي على رءوس المسلمين ، وأنّه لا مانع من إمامة الفاسق والجاهل ، ويتردد الناظر الباحث هل لهذا القول في الإمامة صلة بإمامة الأوائل من الصحابة وقول الثاني :

إن كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنّها كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها ... من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٣٣.

٤٣

بايعه تغرة أن يقتلا ... فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتّى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ... خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعه أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا نخالفهم فيكون فسادا ، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. هكذا نصّ عبارته في صحيح البخاري (١).

وصدر الحديث الذي رواه عن ابن عباس ، قال : كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله عنى وهو عند عمر بن الخطاب ان آخر حجّة حجّها إذ رجع إلى عبد الرحمن فقال : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ، فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة تمّت ، فغضب عمر ، ثمّ قال : إنّي إن شاء الله لقائم للعشية في الناس فمعذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، قال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإنّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ... قال ابن عباس : فقدمنا المدينة ... فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلمّا رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف ... فجلس عمر على المنبر ، وقال : ... ثمّ أنّه بلغني أنّ قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أنّ يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر ... الخ.

فإنّ مسلسل الرواية أن قائلا قال بعزمه على بيعة الفلتة وأنّ الثاني غضب لأنّ هذه البيعة بيعة الفلتة ـ البغتة والفجأة والنهزة والخلسة والاغترار والمبادرة ـ غضب

__________________

(١). باب رجم الحبلى من الزنا اذا احصنت ، كتاب الحدود ، باب ٣١.

٤٤

لأمور المسلمين وأنّه يريد تحذيرهم من هؤلاء الغاصبين وأنّ ما وقع من بيعة الأوّل ألا وإنها كانت كذلك ، وكانت ذات شرّ وقى الله المسلمين شرّها وأنّها من غير مشورة من المسلمين إذ كان لغطا واختلافا في الآراء عند مداولة الإمامة والخلافة والبيعة بينهم ، وأنّ المرتكب لها يستحق القتل ، وأنّ مباغتته ببيعة الأوّل مدافعة للآخرين ، هكذا يرسم لنا الخليفة الثاني إمامة الأوّل. وعلى أيّة حال فإنّ مثل هذه الإمامة على تقدير مشروعيتها ـ بمنطق العسكر والقوة لا بمنطق الدين والعقل ـ فإنّها لا توجب كون صاحبها لا يزلّ ولا يخطأ وتتبع سنته قائمة إلى يوم القيامة ويكون له حظّ المشرّع في الدين.

والحاصل أنّ تحرير العامّة لمسألة عدالة الصحابة ومسألة حرمة الخوض في الفتن التي جرت بينهم ومسألة الإمامة وما يرتبط بها من مسائل أخرى ، يجدها الباحث الناظر مضطربة الوجوه ، مترددة بين الإمامة كعهد من الله ورسوله لا يزلّ ولا يخطأ ، وبين كونه مجتهدا كبقية المجتهدين ، أو أنّ حجيّة قوله وفعله كراوي من رواة الأخبار ، وأنّ إقامة البحث عن مسألة عدالة الصحابة ليست كما يفيده عنوان البحث بل هو حول فئة خاصّة من الصحابة الذين عقدوا البيعة لأبي بكر وأنّ البحث هو لضرب سياج وحواجز عن التنقيب والبحث عن أحوال وصفات وممارسات تلك الفئة وأن ما عقدوا من مباحث مسائل الإمامة هو الآخر في هذا الاتجاه.

وممّا يشهد بتدافع تحرير المسائل عندهم هو أنّهم يستدلّون على الإمامة بأدلّة مفادها لزوم عصمة الإمام ، مع أنّهم يجيرونها للامامة العقدية بالبيعة السياسية ، ومثال ذلك الحديث النبوي «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» فإنّ مفاد الحديث وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان وواضح أنّه واجب اعتقادي كوجوب معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإذعان برسالته ، ويزيد ذلك وضوحا أنّه جعل فاقد تلك المعرفة ميتته ميتة كفر ، وفي الحديث عناية ولطيفة وهو أنّه جعل كفره عند موته كفر من لم يدخل الإسلام ، لا كفر من دخل الإسلام وارتدّ عنه ، ومن البيّن في بداهة الشرع والعقل أنّ من

٤٥

تجعل معرفته بهذا الشأن لا يمكن أن يكون من يزلّ ويخطل أو يجهل ويضلّ ، بل لا بدّ أن يكون مقامه في الدين يتلو مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوما مطهّرا أذهب عنه الرجس وطهّره تطهيرا ، وغير ذلك من الأمثلة.

كما أنّه يلاحظ في نظم الأدلة والوجوه في تلك المسائل عندهم ، التكديس الركامي من دون تمحيص مؤدى كلّ دليل أو وجه ، ومن دون مقايسته بأدلّة الطرف الآخر ، فتراهم مثلا يتمسكون بحجيّة سنّة الشيخين بأحاديث آحاد قد تكون حسنة الاسناد عندهم ، بينما لا يقابلونها مع الأحاديث المتواترة بطرقهم كحديث الثقلين ، وحديث المنزلة ، والغدير وغيرها ، فانظر مثلا إلى التفتازاني في شرح المقاصد عند ما يستعرض وجوه وأدلّة إمامة عليّعليه‌السلام يقرّ بجملة فضائله إلّا أنّه يحكم ويكيل عشوائيّا بأنّ فضائل الشيخين أولى ، مع أنّه هو نفسه حكى عن إمام الحرمين أنّ روايات الفضائل في الأربعة متعارضة والترجيح ظنّي ، مع أنّه لو تعمّق في موازنة كلّ وجه من الوجوه ومدى مؤداه ومقابلته مع الوجه في الطرف الآخر سواء من حيث قوّة السند والدلالة وعلوّ وشموخ المعنى ومسلّمية المصداق المراد بين الفريقين عن غيره ، والأهمّ هو تحليل الفضيلة التي هي عبارة عن كمال ما ؛ فإنّه عنوان مجمل عامّ لا بدّ من تقرير حدّه هل ينطبق على العصمة أو على عمل خاصّ معيّن دون أن يحدث صفة كمالية دائمة في الشخص أو على غير ذلك ممّا يتناسب مع صفات الراوي ونحوه ، والغريب من التفتازاني في الكتاب المزبور مع أنّه يتذمّر من معاوية ويزيد وبني أميّة وما فعلوه من ظلم بذريّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه يقرر إمامة المتغلّب الباغي القاهر للمسلمين بسيفه وسطوته ، ولا تنقضي الغرائب بسبب تدافع المباني وتردد تحرير المسائل لديهم بنحو مجمل لا توزن فيه مرتبة الحجّة وسنخها ونوعها ومداها.

٤٦

٣

الوجه النقلى

٤٧
٤٨

ثمّ إنّا قد تعرّضنا في تضاعيف تصوير فرض مسألة عدالة الصحابة لأدلّة العامّة من السنّة أو الوجوه الأخرى والردود عليها إجمالا ، والمهمّ بعد ذلك هو التعرّض لما استدلّوا به على ذلك من الآيات القرآنية :

الآية الأولى : قوله تعالى :

(السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

الآية الثانية : قوله تعالى :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

__________________

(١). التوبة / ١٠٠.

(٢). الحشر / ٨ ـ ١٠.

٤٩

الآية الثالثة : قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).

وقوله تعالى في السورة نفسها الآية الأخيرة :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢).

الآية الرابعة : قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣).

وقوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

الآية الخامسة : قوله تعالى :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٥).

__________________

(١). الفتح / ١٨.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). النحل / ٤١ ـ ٤٢.

(٤). النحل / ١١٠.

(٥). التوبة / ١١٧.

٥٠

الآية السادسة : قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ...) (١).

الآية السابعة : قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢)

وقوله تعالى :

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣)

وقوله تعالى :

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤).

وللتنبيه على وهم القائل في مفاد الآيات أنّها دالّة على مدح جميع الصحابة أو جميع من هاجر من مكّة ، وجميع من ناصر في المدينة أو أنّ هذا المديح دالّ على حجيّة أقوال كلّ صحابي مهاجري أو أنصاري ، لأجل ذلك لا بدّ من التعرّض إلى نقاط عامّة مشتركة ثمّ التعرّض تفصيلا لمفاد كلّ آية على حدة وبيان البدن بينه وبين مدّعى المتوهم. أمّا النقاط العامّة :

النقطة الأولى : ما أفاده بعض الأفاضل المعاصرين (٥) من أنّ القرآن الكريم يشير وينبّه إلى ظهور حركة محترفي النفاق من بدايات تكوّن المسلمين في مكّة ويعنونهم

__________________

(١). الانفال / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢). البقرة / ١٤٣.

(٣). آل عمران / ١١٠.

(٤). النساء / ١١٥.

(٥). في كتابه اسلام شناسى تاريخي.

٥١

باسم (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وذلك في رابع سورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة قبل الهجرة وهي سورة المدثّر ، وكذلك سورة العنكبوت المكّية نزولا قبل الهجرة في قول الأكثر أيضا فالسورة الأولى وهي قوله تعالى :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (١).

قد قابلت بين فئات أربعة ؛ فئتين من جهة وهما (الْمُؤْمِنُونَ) و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والفئتين من الجهة الأخرى (الْكافِرُونَ) و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، ومن الواضح أنّ (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بحسب الآية ليسوا من الفئات الثلاث (الْمُؤْمِنُونَ)، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) و (الْكافِرُونَ) فيقتضي كونهم من المسلمين غير المؤمنين قلبا ، ويعطي هذا المعنى نفس عنوان (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فان دلّ على أنّ مرضهم مستبطن في قلوبهم غير ظاهر أي أنّ ظاهرهم يبدو عليه‌السلامة ، أي للاسلام.

ويدلّل على ذلك أيضا بأنّ هذه الفئة يلاحقها القرآن الكريم بعد ذلك في أغلب السور المدنية نزولا ، وفي الوقائع الخطيرة التي حدثت للمسلمين في المدينة حتّى آخر حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويخصّهم القرآن الكريم بهذا العنوان مائزا بينهم وبين عنوان المنافقين ، حيث يسند لهم أدوارا أكثر خطورة وضررا على الدين من المنافقين أي أنّ المراد بالعنوان الثاني في القرآن عموم أهل النفاق ممّن قد ظهر التواءه بنحو أو بآخر بخلاف أصحاب العنوان الأوّل فإنّهم محترفو النفاق قد احترفوا عملية التسلل والنفود في جسم المسلمين منذ أوائل الدعوة للاسلام حتى آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما سنشير إلى ذلك

__________________

(١). المدثّر / ٣١.

٥٢

في الجملة في السور بعد ذلك ، ولك أن تجرد وتسرد مواقعهم ومواضعهم وأدوارهم بالاستعانة بكشف المعجم المفهرس للقرآن الكريم باستخراج مواضع عنوان (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في السور القرآنية والأحداث التي تضمّنتها.

وعلى أيّة تقدير ففي أوائل الدعوة للإسلام يشير القرآن الكريم إلى تسلل عناصر بشرية في صفوف من سبق إلى الاسلام واعتنقه في الظاهر وأن تلك العناصر كان لها أدوار قبل الهجرة وبعد الهجرة في المدينة وأنّها كانت ذات علاقات متميزة مع كفار قريش ومع اليهود ومع أهل النفاق ذوي النفاق العامّ غير المحترف كلّ ذلك من خلال الخريطة المسلسلة للأحداث السياسية وغيرها التي يرسمها لنا القرآن الكريم في سورة المكّية والمدنية عن هذه الفئة وهي (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

والسورة الثانية المكية قبل الهجرة هي قوله تعالى :

(الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ* مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ* وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ* وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ

٥٣

وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١).

وهذه الآيات تؤكّد أنّ بين صفوف من أسلم قبل الهجرة فئة منافقة غرضها من اعتناق الإسلام هو الوصول إلى المشاركة في المكاسب السياسية التي سيحققها المسلمون ، كما أنّ من تخصيص السورة خطاب الإغراء من الكفار للمؤمنين خاصّة أن جهد الكفّار كان منصبا لثني المؤمنين دون المنافقين ممّا يدلّ على وجود علاقة وتوافق موطّد بينهم.

وهذا جرد كشفي لمواطن تتبع القرآن لهذه الفئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بحسب ترتيب النزول.

١. سورة المدثر الآية ٣١ ، مكيّة (٤).

٢. سورة العنكبوت الآية ١٠ ـ ١١ ، مكّية (٨٥).

٣. سورة البقرة الآية ١٠ ، مدنية (٨٧).

٤. سورة الأنفال الآية ٤٩ ، مدنية (٨٨).

٥. سورة الأحزاب الآية ١٢ ـ ٣٢ ـ ٦٠ ، مدنية (٩٠).

٦. سورة محمّد الآية ٢٠ ـ ٢٩ ، مدنية (٩٥).

٧. سورة النور الآية ٥٠ ، مدنية (١٠٣).

٨. سورة الحج الآية ٥٣ ، مدنية (١٠٤).

٩. سورة المائدة الآية ٥٢ ، مدنية (١١٣).

١٠. سورة التوبة الآية ١٢٥ ، مدنية (١١٤).

ومن كلّ ذلك ننتهي إلى أن عموم المديح للمهاجرين وللأنصار لا يتناول فئة الذين في قلوبهم مرض والمنافقين ممّن أسلم قبل الهجرة طمعا في المكاسب السياسية التي تحدثت عنه كهنة العرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانبأت به اليهود قبل ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهم

__________________

(١). العنكبوت / ١ ـ ١٣.

٥٤

قطنوا الجزيرة العربية لأجل ذلك استعدادا لظهوره كما ذكر ذلك القرآن :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

فكانوا يتوعدون الكفّار بالنصر عليهم بالنبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يملك العرب ، فمعالم ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلطته على الجزيرة منتشرة الآفاق قبل أن يبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّ المديح خاصّ بالمؤمنين قلبا حقّا منهم خاصّة ويشهد لذلك النقطة الثانية الآتية.

ثمّ أن هناك سورة مكيّة أخرى وسورة النحل (٧٠ نزولا) فيها إشارة إلى ظهور النفاق قبل الهجرة أيضا :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢).

فالاستثناء جملة معترضة وسياق الآية هكذا (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) وجيء ب : «لكن» للاستدراك من المستثنى وأنّ المراد بالكفر هو من شرح بالكفر صدرا.

وقيل : أنّ من شرح بالكفر صدرا نزلت في عبد الله بن سعد ابن أبي سرح من بني عامر بن لؤي وظاهر لفظ الجمع في الآيات يعطي أنّها فئة ومجموعة وأنّ سبب كفرهم بعد إيمانهم ليس إكراه المشركين لهم على ذلك بل هو استحباب الحياة الدنيا فطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

النقطة الثانية : أنّ آيات الهجرة الكثير منها يقيّد الهجرة بكونها لله تعالى وبنيّة

__________________

(١). البقرة / ٨٩.

(٢). النحل / ١٠٦ ـ ١٠٩.

٥٥

أنّها في سبيل الله ، كما في قوله تعالى (الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ...) (١) وهي الآية الرابعة من التي تقدّمت في مديح المهاجرين ، وكذا قوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) (٢) وقيّدت بقيّة الآيات الهجرة بقيد في سبيل الله ، كما قيّد الجهاد أنّه في سبيل الله مع الهجرة ، ومن ثمّ تظافرت الأحاديث النبويّة في بيان أنّ الهجرة حكمها تابع لنيّة المهاجر فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فله الحسنى في العقبى ، ومن كان هجرته إلى حطام الدنيا من مال يصيبه أو امرأة ينكحها أو ولاية يصيبها فله ما هاجر إليه وخسر حظّه في الآخرة ، وكذلك وردت الأحاديث في الجهاد كذلك. وعلى ذلك فليس كلّ من قام بالهجرة البدنية المكانية من مكّة إلى المدينة يكون ممّن هاجر في الله وإلى الله ورسوله والمديح مخصوص بمن هاجر في الله وإلى الله ورسوله ، لا كلّ من هاجر ولو بنيّة إصابة الدنيا.

تحقيق في عنوان المهاجر والأنصاري

إنّ المتتبّع للاستعمال القرآني لمادة الهجرة والنصرة في هيئة الفاعل عند الاطلاق وعدم التقييد بقرينة معينة لا يراد به كل من انتقل ببدنه من مكة أو غيرها إلى المدينة المنورة مظهرا للإسلام ، كما أنّ الأنصاري ليس كلّ من أظهر الاسلام وكان قاطنا في المدينة وحواليها ، وإنّ إجراء الاستعمال بهذا المعنى الوسيع وحصول التوسّع عن المعنى الأوّل إنّما وقع وشاع في الألسن لتخيل تطبيق المعنى اللغوي بلحاظ مطلق الانتقال المكاني ، واستدعاء ذلك المقابلة مع من لم ينتقل من موطنه وهو الأنصاري ، مع وجود الدوافع السياسية المقتضية لهذا التعميم كي تجد مستندا للشرعية فيما تقدّم عليه.

بل المقتنص من التتبع للآي القرآني هو أنّ الهجرة والمهاجر عند الاطلاق من دون تقييد يراد به من انتقل من موطنه وبلاد المشركين إلى المدينة بقصد طاعة الله وفي سبيل

__________________

(١). النحل / ٤١.

(٢). النساء / ١٠٠.

٥٦

الله وإلى الله ورسوله كما أشارت إلى ذلك الآيات المتقدّمة وكقوله تعالى (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (١) ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) (٢) ، وقوله تعالى (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) وقد اقترن ذكر عنوان الهجرة كثيرا في الآيات (٤) مع الجهاد في سبيل الله ومع الإيمان أو مع الأذية في سبيل الله والقتل في سبيله أو مع الصبر ، وقد وردت الأحاديث النبويّة في تفسير الهجرة الشرعية بذلك.

فالهجرة عند الاطلاق بذلك المعنى كما هو الحال في مقام الثناء والمديح لها كفعل عبادي من الطاعات والقربات العظيمة ، بخلاف ما إذا قيّد الاستعمال بقيد معين ، كترتيب أحكام خاصّة من قبيل حلّ المناكحة وحرمة الدم والمال ونحوها ، ولذلك ترى في قوله تعالى (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (٥) أنّه لم يكتفى بالهجرة الظاهرية من دون التحقّق من حصول الهجرة الواقعية الحقيقية ، التي هي مقيّدة بالإيمان القلبي وكونها في الله وفي سبيل الله وإلى الله ورسوله ، وكذلك الحال في الاستعمال الآي القرآني ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (٦) ، وقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧) ، وقال (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ

__________________

(١). النساء / ١٠٠.

(٢). الحج / ٥٨.

(٣). العنكبوت / ٢٦.

(٤). البقرة / ٢١٨ ، آل عمران / ١٩٥ ، الأنفال / ٧٢ و ٧٤ و ٧٥ ، التوبة / ٢٠ ، النحل / ٤١.

(٥). الممتحنة / ١٠.

(٦). الصف / ١٤.

(٧). الأعراف / ١٥٧.

٥٧

بَعْضٍ) (١).

فيلاحظ أنّ النصرة والأنصاري ليس مطلق المعاضدة فضلا عن أنّ تكون هي كل مسلم كان موطنه المدينة فليس كلّ أوسي أو خزرجي أو غيرهما ممن حول المدينة هو أنصاري بل من آمن وآوى وعزّر ووقّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبع النّور الذي أنزل مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان ذلك كلّه في الله وإلى الله كان أنصاريا.

فمن ثم سنرى أنّ في سورة التوبة ـ كما يأتي الحديث عنها ـ تقسم كلّ من أهل المدينة وغيرهم ممّن انتقل إلى المدينة إلى فئات صالحة ينطبق عليها هذين العنوانين الوسامين المهاجر والأنصاري ، وطالحة مردت على النفاق وكان في قلوبهم مرض أو متقاعسة عن القتال أو غيرهم من أنواع المنافقين وسنعاود التذكير على دلالة السورة المزبورة أيضا على اختصاص هذين العنوانين والصفتين كمنقبتين فضيلتين بمن توفرت فيه القيود السالفة ، فهي كبقية الآيات من السور الأخرى منبّهة على خطأ هذا الاصطلاح الشائع من إطلاق المهاجر على كلّ مكّي أسلم ونحوه انتقل إلى المدينة ، والأنصاري على كلّ خزرجي أو أوسي أسلم قطن المدينة ونحوها.

فالهجرة والنصرة منقبتين عظيمتين وطاعتان قريبتان أخذ في ماهيتهما قيود وأجزاء متعددة ومن ثمّ يترتّب على ذلك لزوم إحراز توفّر القيود في من يراد توصيفه بهما.

النقطة الثالثة : أن هناك العديد من القيود التي تستعرضها الآيات كشرط في مديح المهاجر والأنصاري مثلا.

أ ـ ما في سورة الفتح ضابطة تستعرضها الآية في المهاجرين والأنصار هي من المحكم الذي يتبيّن به بقيّة الآيات ، وهو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ

__________________

(١). الأنفال / ٧٢.

٥٨

أَجْراً عَظِيماً) (١) فتشترط الآية شرط الوفاء بالعهد وعدم النكث به شرطا لحسن العاقبة والمثوبة فالموافاة للعهد عند الموت وعدم النكث والتبديل شرط في ذلك كما هو الحال في بقيّة المؤمنين إلى يوم القيامة.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى أيضا في آخر السورة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢) فإنّ قيد المغفرة والأجر بمن آمن قلبا منهم وعمل صالحا ، بل أنّ لفظة (منهم) دالّة على التبعيض وأنّ ليس كلّ الذين معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم وعد بالحسنى بل خصوص من اتّصف بالقيد منهم ، فالتقييد والتبعيض احتراز عن إيهام العموم في صدر الآية.

ويشير إلى مثل هذا القيد في مدح المهاجر والأنصاري ، قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٣) ، حيث دلّت الآية على اشتراط عدم التبديل في المؤمنين كي ينالوا الأجر وأن الموافاة والوفاء وعدم التبديل شرط في وصف المؤمنين بالصدق. وقد اشتهر عند الصحابة أنّهم إذا أرادوا أن يقدحوا في واحد منهم أن يقولوا أنّه بدّل كما هو دائر في ألسنتهم في الفتن التي وقعت بينهم.

ب ـ وكذلك هناك قيد آخر ذكرته الآيات كشرط في المديح وهو اتصافهم بأنّهم رحماء بينهم أشداء على الكفّار أي اللين والرأفة فيما بينهم والشجاعة أمام الكفّار ، كقوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) في سورة الفتح.

وقوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ

__________________

(١). الفتح / ١٠.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). الأحزاب / ٢٣ ـ ٢٤.

٥٩

وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (١).

وقوله تعالى (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٢).

فبيّن تعالى أن الجبن والخوف والحزن من خشية الموت وإذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد على عكس صفات المؤمنين من الرحمة فيما بينهم والشجاعة أمام الكفّار ، ومن الثابت أنّ من المهاجرين من كان فظا غليظا مع بقيّة المؤمنين والمسلمين هزوما فرارا في الحروب واذا قاد جيشا ليفتح حصنا عاد يجبّن الناس والناس يجبّنونه بينما المؤمن كرار غير فرار يفتح الله على يديه.

ج ـ كذلك هناك آيات أخرى دالّة على أن هناك أعمالا سيئة موجبة لحبط الأعمال ، كقوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٣) ، وكقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٤).

ومن الثابت في كتب السير والأحاديث أنّه في العديد من الوقائع قد أبرم وقطع فيها غير واحد من الصحابة العشرة المبشرة قبل أن يحكم الله ورسوله فيها ، بل قد تقدّموا في أشياء قد تقدّم الله ورسوله فيها بحكم خلافا وردّا.

وكقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ

__________________

(١). محمّد / ٢٠ ـ ٢١.

(٢). الأحزاب / ١٨ ـ ١٩.

(٣). المائدة / ٥.

(٤). الحجرات / ١ ـ ٢.

٦٠