الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

إلى أن قال : ـ فذكر ثلاثة أصناف للنساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح ، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزبة التي لا وصلة بينها وبين أحد ، فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها ، والثانية لا تضرّها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرّها عدم الصلة شيئا.

ثمّ في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ؛ فإنّها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم والتحذير من تظاهرهنّ عليه ، وأنّهن إن لم يطعن الله ورسوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتّصالهن برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتّصالهما بهما ، ولهذا ضرب لهما في هذه السورة مثل اتّصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأوّل يحذّر عائشة وحفصة ، ثمّ ضرب لهما المثل الثاني يحرّضهما على التمسّك بالطاعة (١).

وقال : في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ـ أي عائشة ـ ولحفصة ممّا اعتمدتاه في حقّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فتضمّنت هذه الأمثال التحذير لهنّ والتخويف والتحريض لهنّ على الطاعة والتوحيد ... وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه ، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلّا العالمون (٢).

وقال ابن كثير في ذيل السورة :

ثمّ قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم ، إنّ ذلك لا يجدي عنهم شيئا ، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن

__________________

(١). الأمثال في القرآن ـ لابن قيّم الجوزية ـ ٥٤ ـ ٥٧.

(٢). الأمثال في القرآن : ٥٨.

٢٦١

الإيمان حاصلا في قلوبهم.

ثمّ ذكر المثل فقال : (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) ، أي : نبيّين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا ، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشر انهما أشدّ العشرة والاختلاط ، (فَخانَتاهُما) أي : في الإيمان ، لم توافقاهما على الإيمان ولا صدّقتاهما في الرسالة ، فلم يجد ذلك كلّه شيئا ، ولا دفع عنهما محذورا ، ولهذا قال : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لكفرهما ، وقيل للمرأتين : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) ، وليس المراد بقوله : (فَخانَتاهُما) في فاحشة بل في الدين (١).

وقال الشوكاني ـ بعد ما حكى قول يحيى بن سلام ، المتقدّم في حكاية القرطبي ـ :

وما أحسن من قال : فإنّ ذكر امرأتي النبيّين بعد ذكر قصّتهما ـ أي عائشة وحفصة ـ ومظاهرتهما على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يرشد أتمّ إرشاد ويلوّح أبلغ تلويح إلى أنّ المراد تخويفهما مع سائر أمّهات المؤمنين ، وبيان أنّهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله ، فإنّ ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا (٢).

ثمّ ذكر حديث أنّ أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية. وحكى في مجمع البيان عن مقاتل ، في ذيل السورة :

يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية(٣).

وغير ذلك من كلمات المفسّرين التي توضّح شدّة لحن الخطاب القرآني في هذه السورة الموجّه لحفصة وعائشة ، وأنّ غائلة تظاهرهما هي خيانة دينية ، ونفاق معادي

__________________

(١). تفسير ابن كثير ٤ / ٤١٩.

(٢). فتح القدير ـ للشوكاني ـ ٥ / ٢٥٦.

(٣). مجمع البيان ـ المجلّد ٥ / ٣١٩.

٢٦٢

خطير ، ومكيدة عظيمة ، استدعت هذا التصعيد الشامل في النفير والتعبئة الإلهية في صدر السورة ، والتعريض بأقصى الحدّة في ذيل السورة.

ثمّ إنّ لفظ (ظَهِيرٌ) بمعنى العون والحماية يعطي أنّ المكيدة متّصلة بمسألة تتعلّق بالحياة الأمنية لوجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبضميمة كون سبب المكيدة هي أمر الخلافة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر أبي بكر وعمر الذي أفشته حفصة أو عائشة إلى الأخرى ـ كما مرّ ـ ومن ثمّ إلى أبويهما ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك ـ.

وبلحاظ كون الحماية الإلهية المستنفرة بالغة القوّة يقتضي أنّ المكيدة لم يكن المتورّط فيها هاتين المرأتين بمفردهما بمجرّد حولهما وقوّتهما ، بل كان ذلك على اتّصال وارتباط بأطراف القضية ، ومن يعنيه شأن الحدث ، ومن له علاقة ماسّة بالخبر المفشى ؛ والذي قد تقدّم أنّ صدر السورة يعطي كون الخبر والحديث يحمل في طيّاته إنذارا وتحذيرا ، لا بشارة واستهلالا ، وإلّا لما اقتضت طبيعة الخبر تولّد المكيدة الخطيرة والتسبّب لذلك.

ولعظم الخطب في هذه الحادثة نرى الآيات الأخرى المتوسّطة في هذه السورة ، قد حملت الشدّة نفسها في الخطاب والتعريض ، ولم يحاول المفسّرون من أهل سنّة الجماعة الإلفات إليه ، وتغاضوا عن مدلوله ، وهي قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) ، فإنّ ذكر هذه الصفات تعريض بفقدها فيهما.

قيل : المراد ب (مُسْلِماتٍ) : مطيعات ومنقادات لأمر الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : مخلصات ؛ والمراد ب (مُؤْمِناتٍ) : أي : المعتقدات بحقيقة الإيمان ؛ والتعريض بهذا الوصف يماثل التعريض بما في ذيل السورة : (فَخانَتاهُما) بمعنى نافقتاهما وحاددتاهما في الدين.

وب (قانِتاتٍ) : المطيعات الخاضعات المتذلّلات لأمر الله تعالى ورسوله ؛ إذ القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع ، وقد ذكر هذا في ذيل السورة في توصيف مريم بنت عمران ،

٢٦٣

وهو تأكيد للتعريض بالصفة المقابلة فيهما.

وب (تائِباتٍ) : نادمات ، وهو تعريض بعنادهما وإصرارهما.

وب (عابِداتٍ) : الطاعة في العبادة ، وهو التعريض بطغيان الطرف المقابل.

وب (سائِحاتٍ) : قيل : الصيام ، وقيل : الهجرة ؛ وعلى الثاني يكون التعريض بهجرة جماعة النفاق والعداء لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وب (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) : فقد أكثر المفسّرون من الروايات في ذيلها أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعد بالزواج من آسية وهي الثيّب ، ومريم وهي البكر في الآخرة ، وكذلك رووا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى خديجة عليها‌السلام عند موتها بالتسليم على أظآرها آسية ومريم وكلثم ، فأجابت: بالرفاه والبنين ، وفي ذلك تعريض بأنّهما ليستا زوجتاه في الآخرة.

والحال نفسه في الآيات اللاحقة ؛ إذ التهديد بالنار المتوقّدة والملائكة الغلاظ الشداد ، ثمّ قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (١) ترغيب في الانتهاء عن الكيد والمواطأة على الدين والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الشوكاني في ذيل الآية :

وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ... الآية ، قال : ليس أحد من الموحّدين إلّا يعطى نورا يوم القيامة ، فأمّا المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق ممّا رأى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٢).

وفي الدرّ المنثور عن مجاهد :

قال : قول المؤمنين حين يطفأ نور المنافقين (٣).

__________________

(١). التحريم / ٨.

(٢). فتح القدير ٥ / ٢٥٥.

(٣). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٥.

٢٦٤

وأعظم بها من سورة قد اشتملت على العديد من الدلالات والتلويحات ؛ تعريضا بأطراف الحادثة ، وبالسنن الإلهية في مثل هذا النمط من الفتن ، التي تحاك كيدا من الوسط الداخلي في المسلمين.

وقد أفصح بذلك الزمخشري في ما مرّ من مقاله :

... وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدقّ عن تفطّن العالم ويزلّ عن تبصّره.

ومثله قال الرازي :

وأمّا ضرب المثل بامرأة نوح المسمّاة بواعلة ، وامرأة لوط المسمّاة بواهلة ، فمشتمل على فوائد متعدّدة لا يعرفها بتمامها إلّا الله تعالى. إلى أن قال : ـ ومنها التنبيه على أنّ التضرّع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب (١).

وكذلك مقولة ابن القيّم التي تقدّمت ، قال ـ بعد أن ذكر التعريض بهما وتحذيرهما وتخويفهما ـ :

وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه ، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلّا العالمون.

وها قد حان أن ننقل أسرار التنزيل ولطائفه ورموزه ، وأسرار الأمثال في هذه السورة عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلوات الله عليهم. فقد روى علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره ، بسند صحيح عن الصادق عليه‌السلام في ذيل الآية الأولى في سبب نزولها :

كان سبب نزولها ـ وذكر قصّة حلفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يطأ مارية ، ثمّ إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة باستيلاء أبيها على الأمر من بعد استيلاء أبي بكر عليه بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها : «فإن أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس

__________________

(١). التفسير الكبير ٣ / ٥١.

٢٦٥

أجمعين» ، وأنّها قالت : من أخبرك بهذا؟ قال : الله أخبرني ـ فأخبرت حفصة عائشة من يومها بذلك ، وأخبرت عائشة أبا بكر ، فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة كذا ، ولا أثق بقولها ، فسل أنت حفصة. فجاء عمر إلى حفصة فقال لها : ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة؟ فأنكرت ذلك وقالت : ما قلت لها من ذلك شيئا. فقال لها عمر : إن كان هذا حقّا؟ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه. فقالت : نعم ، قد قال ذلك رسول الله.

فاجتمع أربعة على أن يسمّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل جبرئيل بهذه السورة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ... تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، يعني قد أباح الله لك أن تكفّر عن يمينك ، (وَاللهُ مَوْلاكُمْ ... فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت به ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) يعني : أظهر الله نبيّه على ما أخبرت به وما همّوا به من قتله ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي : أخبرها وقال : «ولم أخبرت بما أخبرتك» به؟ (١).

صالح المؤمنين وأطراف المواجهة

روى محمّد بن العبّاس ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام :

قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرّف أصحابه أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّتين ، وذلك أنّه قال لهم : أتدرون من وليّكم من بعدي؟ ، قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ الله تبارك وتعالى قد قال : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو وليّكم بعدي. والمرّة الثانية يوم غدير خمّ ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه (٢).

وقد تقدّم أنّ مقتضى الحادثة وتنازع الأطراف فيها يقتض هذا التوزيع في طرفي المواجهة ، وقد مرّ جملة من روايات أهل سنّة الجماعة في كون «صالح المؤمنين» هو

__________________

(١). تفسير القمّي ٢ / ٣٦٠.

(٢). تأويل الآيات ٢ / ٦٦٩ ح ٣.

٢٦٦

عليّ عليه‌السلام. ولا يخفى سرّ التعبير بالمفرد المضاف إلى الجمع ؛ إذ أنّه يختلف عمّا لو كان : «صالح من المؤمنين» ، أو : «صالحو المؤمنين» ، فإنّه يقتضي التساوي في الصلاح والإيمان ، فإفراده من بين مجموع المؤمنين وإدراجه في سلك انتظام جبرئيل الروح الأمين والملائكة قاض بعلوّ درجته.

وروى في الدرّ المنثور ، قال :

وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، بسند ضعيف عن ابن عبّاس ، عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، قال : «السّبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليّ بن أبي طالب».

وأخرج ابن عساكر من طريق صدقة القرشي ، عن رجل ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : أبو بكر الصديق خير أهل الأرض إلّا أن يكون نبيّ ، وإلّا مؤمن آل ياسين ، وإلّا مؤمن آل فرعون. أي أنّه دون الثلاثة.

وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر : «ثلاثة ما كفروا بالله قط : مؤمن آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب ، وآسية امرأة فرعون».

وأخرج البخاري في تاريخه عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : «الصدّيقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار صاحب آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب».

وأخرج داود ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ، والديلمي ، عن ابن أبي ليلى ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل ياسين ، الذي قال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (١) ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، الذي قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (٢) ، وعليّ بن

__________________

(١). يس / ٢٠.

(٢). غافر / ٢٨.

٢٦٧

أبي طالب وهو أفضلهم» (١).

ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بعدّة طرق (٢). ورواه أحمد في فضائل عليّعليه‌السلام من فضائل الصحابة (٣). وروى ابن كثير في تفسيره :

قال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، عن ابن عبّاس : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (٤) ، قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى محمّد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم (٥).

وروى مثله السيوطي في الدرّ المنثور ، قال :

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس : ... وذكر مثله.

وقال : «وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) ، قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار الذي ذكر في يس ، وعليّ بن أبي طالب ، وكلّ رجل منهم سبق أمّته ، وعليّ أفضلهم سبقا» (٦).

وهذه الروايات (٧) من طرقهم قاضية بأنّ : «صالح المؤمنين» هو عليّ عليه‌السلام وهو

__________________

(١). الدرّ المنثور ٥ / ٢٦٢.

(٢). شواهد التنزيل ٢ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٣). فضائل الصحابة ٢ / ٦٢٨ و ٦٥٦. ورواه ابن المغازلي في مناقبه : ٢٤٥ ، والروض النضير ٥ / ٣٦٨ عن ابن النجّار ، وأبي نعيم في المعرفة ، والسلفي في المشيخة البغدادية الورقة ٩ ب و ١٠ ب ، والدار قطني في عنوان «خربيل» من كتاب المؤتلف والمختلف ٢ / ٧٧٠. ورواه السيوطي في الجامع الصغير ٢ / ٥٠ ورمز له بالحسن ، وبطريق آخر ضعيف ، ورواه أيضا المناوي في فيض القدير ٤ / ٢٣٨ ؛ وقال : ورواه ابن مردويه والديلمي.

(٤). الواقعة / ١٠.

(٥). تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠٤.

(٦). الدرّ المنثور ٦ / ١٥٤.

(٧). وممّن روى أنّ «صالح المؤمنين» هو عليّ عليه‌السلام : الآلوسي في روح المعاني ٢٨ / ١٣٥ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٣٨٩ ، والسيوطي في الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٤ ، والشوكاني في فتح القدير ٥ / ٢٤٦ ، وابن بطريق ـ

٢٦٨

صدّيق هذه الأمّة الأكبر ، وفاروقها الأعظم بين الحقّ والباطل ، ويقتضيه ما روي مستفيضا عند الفريقين أنّه : «قسيم الجنّة والنار».

كما أنّ الأشخاص المعنيين بالخبر المفشى تقتضي السورة والآيات بتقابلهم وتباينهم مع موقع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدين وصالح المؤمنين ، وأنّ «صالح المؤمنين» مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووليّه يلي أمره في الدين ، ومن ثمّ كانت هذه الآيات في السورة معلنة لولاية «صالح المؤمنين» ، وأنّه وليّهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبال موقع الطرف الآخر صاحب المكيدة والتدبير على الدين والرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الملحمة القرآنية والإسرار النبوي

الحديث الذي أسرّ به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حفصة ـ كما تشير إليه سورة التحريم ـ قد سبق وأن أنبأ به القرآن الكريم في سورة البقرة وفي سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأولى من أوائل السور المدينة نزولا ، والثانية متقدّمة نزولا على سورة التحريم أيضا ..

ففي الأولى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١).

الملفت للانتباه أنّ في هذه الآيات جرى التقابل بين طرفين وموقعين في مجرى

__________________

ـ في العمدة عن تفسير الثعلبي : ١٥٢ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ٥٣ ، والقرطبي في جامع الأحكام ١٨ / ١٨٩ ، والأندلسي في البحر المحيط ٨ / ٢٩١ ، وابن الجوزي في التذكرة : ٢٦٧ ، وابن همام في حبيب السير ٢ / ١٢ ، والحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ٢ / ٢٥٩ ، وذكر محمّد بن العبّاس في تأويل الآيات ٢ / ٦٩٨ اثنين وخمسين حديثا من طرق الخاصّة والعامّة.

(١). البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٧.

٢٦٩

الأحداث في مسار الأمّة ، وهاهنا الطرف الثاني الذي تتعرّض له الآيات بالمديح والثناء ، وبيان أنّه المؤهّل لولاية الأمر من قبله تعالى ؛ بقرينة تقريع الآيات للطرف الأوّل ، الذي تتوقّع استيلاءه على مقاليد الأمور ، وتذكر له العديد من الصفات ، مثل : حلاوة المقال مع عداوة القلب ، وخصامه الكثير ولجاجه ، وقساوته عند تولّيه الأمور بتغريب النتاج المدني البشري ، والإبادة للطبيعة البشرية.

وهاهنا الآيات لم تصف النسل البشري بصفة خاصّة ، ممّا يعطي أنّ التقريع للإبادة موردها الطبيعة البشرية من حيث هي محترمة كخلق لله تعالى ، بغضّ النظر عن الحرمة من جهة الإيمان أو الإسلام ، وهذا مؤشّر على موارد وقوع هذه الصفة المتنبأ بها في الآيات ، وقد مرّت الإشارة إلى هذا البحث في سابق.

والحاصل إنّ الطرف الثاني الذي تمدحه الآيات هو في مقابل الطرف الأوّل المذموم لتولّي الأمر. والممدوح هاهنا كما هو معروف من الروايات ولدى المفسّرين هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ إذ فدّى نفسه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة المبيت على فراشه.

وفي السورة الثانية قال تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (١).

هذه الآيات تشير إلى وقوع استيلاء على مقاليد الأمور من قبل فئة من المسلمين ، وهم : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، وهذا العنوان قد أشار القرآن الكريم إلى وجوده بين صفوف المسلمين منذ بداية نشأة الإسلام ، كما في سورة «المدّثر» ، رابع سورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في أوائل البعثة.

وهذا التقارن بين سورة المدّثر وسورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دالّ على أنّ هدف هذه الفئة

__________________

(١). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ ـ ٢٣.

٢٧٠

من الدخول في الإسلام منذ أوائل عهده هو الوصول إلى مسند القدرة وزمام الأمور بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو طمع وهدف أعلن على لسان كثير من القبائل التي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوها للدخول في الإسلام ؛ فقد كانت مشارطتهم للدخول في الدين استخلافهم على زمام الأمور بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفض هذا الشرط ، ويجيب بأنّ ذلك ليس له ، بل لله عزوجل ربّ العالمين.

ومع انضمام سورة التحريم إلى السور السابقة يتّضح جليّا مفاد الإشارة في السور القرآنية ، وتتبيّن أوصاف من تعرّض به الملحمة القرآنية. وقد وقع نظير هذه الأنباء من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول مجريات الاستيلاء على السلطة بعده. فقد روى البخاري ، عن عمر بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد :

قال : أخبرني جدّي ، قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ومعنا مروان ، قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدّق يقول : هلكة أمّتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان بني فلان لفعلت.

فكنت أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام ، فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا : أنت أعلم (١).

قال ابن حجر في شرحه :

قال ابن بطّال : جاء المراد بالهلاك مبيّنا في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد ، وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة ، رفعه : أعوذ بالله من إمارة الصبيان. قالوا وما إمارة الصبيان؟ قال : إن أطعتموهم هلكتم ـ أي في دينكم ـ وإن عصيتموهم أهلكوكم ، إن في دنياكم بإزهاق النفس ، أو بإذهاب المال ، أو بهما.

__________________

(١). صحيح البخاري : كتاب الفتن ب ٣ ـ فتح الباري ١٣ / ٩.

٢٧١

وفي رواية ابن أبي شيبة : (إنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللهمّ لا تدركني سنة ستّين ولا إمارة الصبيان) ، وفي هذا إشارة إلى أنّ أوّل الأغيلمة كان في سنة ستّين ، وهو كذلك ؛ فإنّ يزيد بن معاوية استخلف فيها.

إلى أن قال : ـ تنبيه : يتعجّب من لعن مروان الظلمة المذكورين مع أنّ الظاهر أنّهم من ولده ، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون. وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد ، أخرجها الطبراني وغيره ، غالبها فيه مقال ، وبعضها جيّد (١).

وكذا ما رواه البخاري في الباب الثاني من كتاب الفتن ـ وعنونه : باب قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سترون بعدي أمورا تنكرونها» ـ : «وقال عبد الله بن زيد ، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اصبروا حتّى تلقوني على الحوض»!!

ثمّ روى البخاري أحاديث في الباب تدعو إلى السكوت عن سلاطين الجور والإطاعة لهم ، وهي أشبه بنصوص السلطة من النصوص النبوية. قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢). وقال تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (٣).

وقال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (٤).

وبمثل هذه الملحمة القرآنية والإسرار النبوي ما رواه البخاري أيضا في كتاب الفتن : الباب الأوّل والرابع من اقتراب الفتن بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإحداث أصحابه بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكلّ ذلك خارج مخرج التحذير والإنذار .. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥).

__________________

(١). فتح الباري ١٣ / ١٠ ـ ١١.

(٢). التوبة (البراءة) / ٧١.

(٣). التوبة (البراءة) / ٦٧.

(٤). هود / ١١٣.

(٥). القمر / ٥.

٢٧٢

٩

آفاق الوحدة

٢٧٣
٢٧٤

إنّ مسألة الفتوحات طرحت تارة تمهيدا لعدالة الصحابة ودليلا لها كوجه تاريخي ـ وقد مرّ البحث عنه مبسوطا ـ وأخرى تمهيدا للوحدة الإسلامية بين المذاهب والفرق. وهنا نشرع ـ بعون الله الملك العلّام ـ في هذا البحث المهم وهو :

إنّ كثيرا من الضلالات ناشئة من العمى في البصيرة ، قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١) وقال : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (٢). والعمى في البصيرة ينشأ من أسباب مختلفة ، تارة من ضحالة في العلم والفقه ، وأخرى من اتّباع الهوى والمصالح الدنيوية القصيرة المدى ، وإذا اجتمع السببان فالطامّة الدهياء بين العمى والازدواجية.

قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣).

هذه الآية الكريمة كما تعيّن مدار وحدة المسلمين فهي تنبّأ بملحمة خطيرة ، هي :

__________________

(١). الحجّ / ٤٦.

(٢). سورة الأنعام / ١٠٤.

(٣). آل عمران / ١٠٣ ـ ١٠٤.

٢٧٥

أنّ الوحدة الإسلامية لم ولن تتمّ ولا تتحقّق في هذه الأمّة وتنال تلك السعادة في ظلّ الألفة الأخوية إلّا بالاعتصام ب «حبل الله» ، أي التمسّك بحبل الله ، فيكون هذا الحبل عاصما عن الفرقة ، وعن السقوط في الهاوية ، وعن الضياع في المتاهات ؛ فما هو «حبل الله» ، وما هو سرّ التعبير ب «الحبل»؟!

ل «حبل الله» ـ كما لكلّ حبل ـ طرفان ، طرف تستمسك به الأمّة ، وطرف آخر عند الله تعالى ، أي أنّ هذا الحبل شيء رابط بين البشرية والغيب ، وسبب متّصل بين الأرض والسماء ، فلا بدّ أن يكون قطب الوحدة ومركز الاتّحاد سبب موصل مطّلع على الغيب ؛ وهذا يعطي أنّ سفينة الوحدة والاتّحاد يجب أن ترسو على ما هو حقّ وحقيقة ، لا التوافق على الهوى والهوس.

وسياق الآية الثانية المتّصلة يصرّح بأنّ الوحدة يجب أن تكون على الخير والمعروف والاجتناب عن المنكر ، بحسب الواقع والحقيقة ، فلو حصلت وحدة على المنكر واجتناب المعروف ، لكانت هذه فرقة في منطق القرآن الكريم ؛ لأنّ الناس افترقوا وابتعدوا عن الحقّ.

وهذا يدلّ على أنّ الحقّ والمعروف له وجود وحقيقة في نفس الأمر ، اتّفقت كلمة الأمّة عليه أم لم تتّفق ، وليس الحقّ ناتجا ومتولّدا من اتّفاق الأمّة كي يقال : «كلّ ما اتّفقت الأمّة عليه فهو حقّ ، وكلّ ما لم تتّفق عليه فهو باطل».

ومن ثمّ كان الحسن والقبح في الأفعال ، والصفات ، والاعتقادات ذاتي ، تكويني ، عقلي ، حقيقي ؛ إذ ليس حسن الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على مدحه ، ولا قبح الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على ذمّه ، بل الحسن والمدح والثناء ذاتي ؛ للكمال ، والقبح والذمّ والهجاء ذاتي ؛ للنقص ، ومن ذلك يعلم أنّ الثابت الديني ليس وليد الوفاق بل هو مرهون بالأدلّة والبراهين.

فإذا كان الحقّ ثابت في نفسه فيجب إقامة الوحدة على أساسه ، لا أن تقام الوحدة على أساس الباطل أو الحقّ الممزوج بالباطل ، فنقيم الاتّحاد ولو على النهج السقيفي أو

٢٧٦

الأموي أو العبّاسي ، بل هذا اتّحاد على الغواية وتعاون على الإثم والعدوان ، ومن ثمّ لم يبال سيّد الشهداء عليه‌السلام أن يشقّ عصا المسلمين المتآلفين على النهج اليزيدي ، وقال :

إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

فالاصلاح والنصيحة للمسلمين ليس بإقرارهم على ما هم عليه من الفساد والغواية ، بل هو بأمرهم بالمعروف والحقيقة ونهيهم عن المنكر والباطل ، ودعوتهم للتعاون على السير على نهج الحقّ والصراط المستقيم.

وخذ مثالا لذلك : لو شاهدت مدمنا على المخدّرات وأردت أن تنصحه ، فإنّ نصيحته ليست بمدحه على فعله وتحسينه له ؛ فهو غشّ ودغل واحتيال ، بل نصيحته بتعليمه بسوء ما هو عليه وقبحه ، وإرشاده إلى الطريق السوي ..

وكما قام سيّد الشهداء بتفرقة الجماعة المتجمّعة على الباطل ، قام جدّه النبيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتفرقة المجتمع المكّي القرشي ، الذي كان متّحدا على عبادة الأوثان ، وأرشدهم بالأسلوب التدريجي ، وبالحكمة والموعظة ، وبالتي هي أحسن ، والمداراة ، إلى طريق الصواب والهداية ، ولم تكن مداراته بمعنى ذوبانه في أرجاس الجاهلية ومداهنته لزيغهم وغيّهم ، نعم لا يكون العلاج إلّا تدريجيا وبتعقّل وتروّي وتؤدة.

ولك أن تعتبر بسيرة سيّد الشهداء عليه‌السلام ، فإنّه لمّا رأى العالم الإسلامي ساكت على تولّي يزيد بن معاوية للأمور وفاقا سكوتيا أخذ في توعية الناس في المدينة المنوّرة ، ثمّ في مكّة عدّة أشهر ، يلتقي بوفود المسلمين في العمرة وموسم الحجّ ويخطب فيهم ، إلى أن أثمرت جهوده عليه‌السلام وبانت في مخالفة أهل العراق للسلطة الأموية ، فخالفوا وحدة الصفّ التي كانت في جانب يزيد ، وأخذ في توسيع القاعدة الشعبية المخالفة كي تصبح أكثرية ، ثمّ توجّه صوب العراق لإنجاز الإصلاح في الأمّة ، فلمّا رأى عودة أهل العراق عن مخالفة الصفّ اليزيدي واتّحادهم مع الوفاق الأموي ، لم يستسلم للوحدة على الباطل والغي حتّى استشهد إحياء لفريضة الإصلاح والأمر بالوحدة على المعروف والانتهاء عن المنكر.

٢٧٧

فترى أنّ سيّد الشهداء عليه‌السلام لم يقم وزنا للوحدة والاتّحاد على الخطأ والباطل ، وأشاد بالوحدة على طريق الحقّ والهداية ، وهذا هو معنى أنّ الحسن والقبح للأشياء ذاتيا واقعيا ، وليس اعتباريا خاضعا لرأي الأكثرية والمجموع وتوافقهم.

روى الصدوق في معاني الأخبار عن ابن حميد رفعه ، قال :

جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أخبرني عن السنّة والبدعة ، وعن الجماعة وعن الفرقة؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : السنّة : ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبدعة : ما أحدث من بعده ، والجماعة : أهل الحقّ وإن كانوا قليلا ، والفرقة : أهل الباطل وإن كانوا كثيرا (١).

وروى النعماني بسنده في كتاب الغيبة عن ابن نباتة ، قال :

سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام على منبر الكوفة يقول : أيّها الناس! أنا أنف الهدى وعيناه ، أيّها الناس! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة من يسلكه ، إنّ الناس اجتمعوا على مائدة قليل شبعها كثير جوعها (٢).

وفي رواية هشام المعروفة عن موسى بن جعفر عليه‌السلام :

يا هشام! ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣) ، وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤) ، وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥)

__________________

(١). معاني الأخبار : ١٥٤ ـ ١٥٥ ح ٣ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦٦ ح ٢٣.

(٢). انظر : الغيبة ـ للشيخ النعماني ـ ١٧٠ ، الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ ١ / ٢٧٦ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦٦ ح ٢٧ ، نهج البلاغة ـ لمحمّد عبده ـ ٢ / ٢٠٧ رقم ١٩٦.

(٣). الأنعام / ١١٦.

(٤). لقمان / ٢٥.

(٥). العنكبوت / ٦٣.

٢٧٨

يا هشام! ثمّ مدح القلّة فقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) ، وقال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (٢) ، وقال : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (٣) ، وقال : (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤) ، وقال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥) ، وقال : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦) ، وقال : (أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٧) .. الحديث (٨).

ولا يخفى أنّ الروايات في صدد بيان ضوابط وموازين البصيرة الحقّة وتمييزها عن الباطل ، لا في مقام ترك المسئولية تجاه الأكثرية والقيام بواجب هدايتهم وإرشادهم ، والعناية بأمورهم بالإصلاح وتقويم العوج وإزالة الفساد ، بل هي في مقام بيان أنّ الاعتداد بشأن موازين منطق التفكير التي هي موازين العلم والعقل والفطرة والسنّة غير المحرّفة لا يكون بالمنطق الأكثري بل بالقيم والمبادئ التي تتضمّن هذه الموازين.

روى في مستطرفات السرائر بسنده عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال :

قال لي : أبلغ خيرا وقل خيرا ولا تكوننّ إمّعة. قلت : وما الإمّعة؟ قال : لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ؛ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا أيّها الناس! إنّما هما نجدا : نجد الخير ، ونجد الشرّ ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير (٩).

والإمّعة : الذي لا رأي له ، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه ، والذي يقول لكلّ أحد : أنا

__________________

(١). سبأ / ١٣.

(٢). ص / ٢٤.

(٣). غافر / ٢٨.

(٤). هود / ٤٠.

(٥). الأنعام / ٣٧ ؛ وتكرّرت هذه الآية في سور عديدة أخرى.

(٦). المائدة / ١٠٣.

(٧). يونس / ٦٠ ، سورة النمل / ٧٣.

(٨). الكافي ١ / ١٢ ضمن ح ١٢.

(٩). مستطرفات السرائر (ضمن السرائر) ٣ / ٥٩٥ ، الاختصاص : ٣٤٣ ، الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ ٢١٠ ح ٤٧ ، بحار الأنوار ٢١ / ٦٢.

٢٧٩

معك ، أنا مع الناس.

وروى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لرجل من أصحابه :

لا تكون إمّعة ، تقول : أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس (١).

وهذه الأحاديث أيضا في مقام تخطئة التأثّر من رأي الأكثرية بسبب الأكثرية ، والحثّ على التمسّك بما هو مقتضى البديهة الفطرية والضرورة الدينية ، وهناك توصيات عديدة في القرآن والسنّة على طريقة التفكير والاعتقاد كمنهج منطقي ديني لا يسع المقام ذكرها.

ثمّ إنّ آية الاعتصام بحبل الله تعالى تتضمّن نبوءة بملحمة قرآنية مهمّة ، وهي : أنّ وحدة الأمّة الإسلامية لا ولن تتمّ إلّا بالتمسّك جميعا بحبل الله ، فلا تأمل هذه الأمّة يوما ما في الخلاص من ذلّ الفرقة والتشتّت والضعف أمام الأعداء بدون التمسّك بحبل الله.

والرغبة في الوحدة بأن تكون على محور الاعتصام بحبل الله كي لا يقعوا في الفرقة ؛ فحبل الله هو العاصم من الفرقة ، وبدونه سوف تكون الرغبة في الوحدة حلما وشعارا أجوف ومجرّد تشدّق باللسان.

وحبل الله الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو : الثقلان ؛ لأنّه حبل طرف منه عند الناس وطرف آخر عند الله ، وهذا القرآن الكريم قد تضمّنت عدّة سور قرآنية منه التشديد على أنّ للقرآن قرينا وملازما لا يفترق عنه ، هو ثلّة مطهّرة من هذه الأمّة ، لديها علم الكتاب ؛ فقد قال تعالى في سورة الواقعة : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٢).

__________________

(١). معاني الأخبار : ٢٢٦ ح ١ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦.

(٢). الواقعة / ٧٥ ـ ٨٢.

٢٨٠