الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

المهاجرين والأنصار في الخروج إلى الشام ، فأشار عليه عثمان بعدم الخروج. فقال عمر : هل عند أحد منكم غير هذا الرأي؟!

فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : نعم ، عندي من الرأي : إنّ القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذلّ والصغار ، ونزولهم على حكمك عزّ لك وفتح للمسلمين ... فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح إن شاء الله.

وأخرى فإنّي لست آمن الروم إن هم آيسوا من قبولك الصلح وقدومك عليهم أن يتمسّكوا بحصنهم ويلتئم إليهم إخوانهم من أهل دينهم فتشتدّ شوكتهم ويدخل على المسلمين من ذلك البلاء ، ويطول أمرهم وحربهم ، ويصيبهم الجهد والجوع ، ولعلّ المسلمين إن اقتربوا من الحصن فيرشقونهم بالنشاب أو يقذفونهم بالحجارة ، فإن أصيب بعض المسلمين تمنّيت أن تكون قد افتديت قتل رجل مسلم من المسلمين بكلّ مشرك إلى منقطع التراب. فهذا ما عندي ، والسلام.

فقال عمر : أمّا أنت يا أبا عمرو ـ أي عثمان ـ فقد أحسنت النظر في مكيدة العدو ، وأمّا أنت يا أبا الحسن! فقد أحسنت النظر لأهل الإسلام ، وأنا سائر إلى الشام(١).

وعند فتح المسلمين لمدينة السوس ـ بلدة بخوزستان (٢) جنوب إيران ـ وجدوا جثمان النبيّ دانيال ولم يكونوا يعرفوه ورأوا أهل السوس يتبرّكون ويستسقون به ، وجسده لم يبلى ، فكتب أبو موسى إلى عمر بذلك ، فسأل عمر أكابر الصحابة عن ذلك فلم يجد عندهم فيه خبرا ، وأنّى لهم بالخبر؟! وهل يوجد الخبر إلّا عند من عنده ودائع النبوّة ، وهو السبب المتّصل بين الأرض والسماء ، ومن عنده علم الكتاب؟!

فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «بلى هذا دانيال الحكيم ، وهو نبيّ غير مرسل ، غير أنّه في قديم الزمان مع بختنصر ومن كان بعده من الملوك ... قال : وجعل عليّ يحدّث عمر بقصّة دانيال من أوّلها إلى آخرها إلى وقت وفاته ، ثمّ قال عليّ : اكتب إلى

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٢٤٤.

(٢). هي مدينة «الشوش» حاليا.

٣٨١

صاحبك أن يصلّي عليه ويدفنه في موضع لا يقدر أهل السوس على قبره ، قال : فكتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعري بذلك (١)».

دوره عليه‌السلام في معركة نهاوند

وذكر أهل التواريخ ـ والنصّ لابن أعثم ـ : «إنّ المسلمين لمّا فتحوا خوزستان تحرّكت الفرس بأرض نهاوند ، وكتب بعضهم إلى بعض أن يكون اجتماعهم بها ، فاجتمعوا من مدن شتّى فكانوا خمسون ألفا ومائة ألفا مع نيف وسبعين فيلا تهويلا على خيول المسلمين ، وقالوا : إنّ ملك العرب الذي جاءهم بهذا الكتاب وأقام لهم هذا الدين قد هلك ـ يعنون بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ .. فتعالوا بنا حتّى ننفي من بقربنا من جيوش العرب ، ثمّ إنّا نسير إليهم في ديارهم فنستأصلهم عن جديد الأرض ...

فبلغ الخبر المسلمين فكتبوا بذلك إلى عمر ، وأنّ الفرس قد قصدوهم ثمّ يأتون بعدها إلى المدينة ، وهم جمع عتيد ، وبأس شديد ، ودوابّ فره ، وسلاح شاك ، وقد هالهم ذلك وما أتاهم من أمرهم وخبرهم.

قال ـ الراوي الذي يروي عنه ابن أعثم ـ : فلمّا ورد الكتاب على عمر بن الخطّاب وقرأه وفهم ما فيه وقعت عليه الرعدة والنفضة حتّى سمع المسلمون أطيط أضراسه ، ثمّ قام عن موضعه حتّى دخل المسجد وجعل ينادي : أين المهاجرون والأنصار؟ ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله.

قال : فأقبل إليه الناس من كلّ جانب حتّى إذا علم أنّ الناس قد اجتمعوا وتكاملوا في المسجد وثب إلى منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستوى عليه قائما وإنّه ليرعد من شدّة غضبه على الفرس ، فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال : أيّها الناس! هذا يوم غمّ وحزن ، فاستمعوا ما ورد إليّ من العراق ـ ثمّ قرأ عليهم ما

__________________

(١). كتاب الفتوح ٢ / ٢٧٤.

٣٨٢

وصله من الكتاب ـ وقال : وليست لهم ـ أي الفرس ـ همّة إلّا المدائن والكوفة ، ولئن وصلوا إلى ذلك فإنّها بليّة على الإسلام وثلمة لا تسدّ أبدا ، وهذا يوم له ما بعده من الأيام ، فالله الله يا معشر المسلمين! أشيروا عليّ رحمكم الله ...

فقام طلحة والزبير وأشاروا عليه أن يعمل برأيه وما يراه ، وقام عبد الرحمن بن عوف وأشار عليه بأن يخرج بنفسه ويخرجوا معه ، وقام عثمان بن عفّان وأشار عليه بما أشار ابن عوف ، وأن يأتيه أهل الشام من شامهم ، وأهل اليمن من يمنهم ، وأهل الحرمين ، وأهل المصرين : البصرة والكوفة ، فقال عمر : هذا أيضا رأي يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي. قال : فسكت الناس ، والتفت عمر إلى عليّ عليه‌السلام فقال : يا أبا الحسن! لم لا تشير بشيء كما أشار غيرك؟!

قال : فقال عليّ : يا أمير المؤمنين! إنّك قد علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس معه ثان ، ولا له في الأرض من ناصر ، ولا له من عدوه مانع ، ثمّ لطف تبارك وتعالى بحوله وقوّته وطوله فجعل له أعوانا أعزّ بهم دينه ، وشدّ بهم أمره ، وقصم بهم كلّ جبّار عنيد ، وشيطان مريد ، وأرى مؤازريه وناصريه من الفتوح والظهور على الأعداء ما دام به سرورهم ، وقرّت به أعينهم ، وقد تكفّل الله تبارك وتعالى لأهل هذا الدين بالنصر والظفر والإعزاز ، والذي نصرهم مع نبيّهم وهم قليلون هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون ، وبعد .. فأبشر بنصر الله عزوجل الذي وعدك ، وكن على ثقة من ربّك ؛ فإنّه لا يخلف الميعاد ، وبعد .. فقد رأيت قوما أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شيء ممّا أشاروا به عليك ، لأنّ كلّ مشير إنّما يشير بما يدركه عقله.

وأعلمك يا أمير المؤمنين إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم لم تأمن من أن يأتي هرقل في جميع النصرانية فيغير على بلادهم ، ويهدم مساجدهم ، ويقتل رجالهم ، ويأخذ أموالهم ، ويسبي نساءهم وذرّيّتهم. وإن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم أغارت الحبشة أيضا على ديارهم ونسائهم وأموالهم وأولادهم ..

٣٨٣

وإن سرت بنفسك مع أهل مكّة والمدينة إلى أهل البصرة والكوفة ثمّ قصدت بهم عدوّك انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأطرافها ، حتّى أنّك تريد بأن يكون من خلّفته وراءك أهمّ إليك ممّا تريد أن تقصده ولا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ، ولا كهف يلجئون إليه ، وليس بعدك مرجع ولا موئل ؛ إذ كنت أنت الغاية والمفزع والملجأ ، فأقم بالمدينة ولا تبرحها ؛ فإنّه أهيب لك في عدوّك وأرعب لقلوبهم ، فإنّك متى غزوت الأعاجم يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلّة أتباعه وأنصاره. فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وعلى المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه وابعث من يكفيك هذا الأمر ، والسلام.

قال : فقال عمر : يا أبا الحسن! فما الحيلة في ذلك وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين ومائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين؟!

قال : فقال له عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : الحيلة أن تبعث إليهم رجلا مجرّبا ، قد عرفته بالبأس والشدّة ؛ فإنّك أبصر بجندك وأعرف برجالك ، واستعن بالله وتوكّل عليه واستنصره للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدّهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحبّ وتريد ، وإن يكن الأخرى وأعوذ بالله من ذلك أن تكون ردءا للمسلمين ، وكهفا لهم يلجئون إليه ، وفئة ينحازون إليها.

قال : فقال له عمر : نعم ما قلت يا أبا الحسن! ولكنّي أحببت أن يكون أهل البصرة وأهل الكوفة هم الّذين يتولّون هؤلاء الأعاجم ؛ فإنّهم ذاقوا حربهم وجرّبوهم ومارسوهم في غير موطن.

قال : فقال له عليّ عليه‌السلام : إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في ديارهم يكونوا حرسا لهم يدفعون عن حريمهم ، والفرقة الثانية في المساجد يعمرونها بالأذان والصلاة ؛ لكي لا تعطّل الصلاة ، ويأخذون الجزية من أهل العهد؛ لكي لا ينتقضوا عليك ، والفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة ، ويصنع أهل الكوفة كصنع أهل البصرة ، ثمّ يجتمعون ويسيرون إلى عدوّهم فإنّ الله عزّ

٣٨٤

وجلّ ناصرهم عليهم ومظفرهم بهم ، فثق بالله ولا تيأس من روح الله ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (١).

قال : فلمّا سمع عمر مقالة عليّ كرّم الله وجهه ومشورته أقبل على الناس وقال : ويحكم! أعجزتم كلّكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ، والله! لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي!!! ثمّ أقبل عليه عمر فقال : يا أبا الحسن! فأشر عليّ الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون أجعله أمير وأستكفيه من هؤلاء الفرس. فقال عليّ عليه‌السلام : قد أصبته. قال عمر : ومن هو؟ قال : النعمان بن مقرن المزني. فقال عمر وجميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن! وما لها من سواه» (٢).

ومعركة نهاوند تعدّ المعركة المصيرية في مواجهة المسلمين مع دولة كسرى ؛ ففي فتوح البلدان للبلاذري : «إنّ ذلك الفتح هو فتح الفتوح» (٣). وفي المصادر التاريخية الأخرى : إنّ بعد نهاوند لم تقم لدولة الفرس قائمة بعدها ، وتتالت الفتوح للمدن الأخرى بكلّ سهولة.

فالباحث يرى مدى خطورة هذه المواجهة على كلّ من دولة كسرى ودولة المسلمين ؛ إذ لو قدّر النصر في هذه المعركة للأكاسرة لربّما قضوا على المسلمين حتّى ألجئوهم إلى المدينة ، كما ذكر ذلك كتاب أهل الكوفة إلى عمر.

وكذلك يرى الباحث مدى خوف وذعر واضطراب الخليفة عمر في تدبير الأمر ، حتّى أنّ أسنانه أخذت تصطكّ فسمع المسلمون أطيط أضراسه وأخذته الرعدة والنفضة!! فبالله عليك هل يصلح لقيادة المسلمين رجل بهذه الأوصاف ، معروف بالفرار إذا اشتدّ البأس في الحروب ، تختلط عليه الأمور إذا حمى الوطيس؟!

وهذه اللقطة التاريخية العظيمة كافية لوقوف الباحث على كون عليّ عليه‌السلام قطب

__________________

(١). يوسف / ٨٧.

(٢). كتاب الفتوح ٢ / ٢٩٥.

(٣). فتوح البلدان ٢ / ٣٧٤.

٣٨٥

الرحى في تدبير أمور المسلمين والفتوح التي تتالت عليهم ، وتالله لو لا رأيه الثاقب في الأمور، المسدّد بالعصمة ، لانتقض نظام المسلمين ولأكلتهم الدول المحيطة بهم. ونظير هذه الحادثة حوادث أخرى ، استعرضنا في ما سبق بعضها.

وقفة مع أصحاب كتب التاريخ

إنّ الباحث في تاريخ المسلمين يلاحظ مدى التعتيم والتضليل لحقائق الأحداث الذي مارسه كثير من مؤرّخيهم ، مثل ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه‍) في تاريخه ، والبلاذري (ت ٢٧٩ ه‍) في فتوح البلدان ، وابن الأثير (ت ٦٣٠ ه‍) في الكامل في التاريخ ، وأمثالهم ، عند ما يقارن ما أرّخوه بأقلامهم بما كتبه ابن أعثم الكوفي (ت ٣١٤ ه‍) في الفتوح ، وإن كانت هناك قصاصات كثيرة متناثرة تسرّبت في ما كتبوه رغم ما مارسوه من حذف وتعتيم ..

ففي وقعة نهاوند ـ مثلا ـ ترى الطبري يحذف مقدّمة أحداث المعركة بجملتها ، واقتصر على خصوص إجمال المعركة من دون تفصيل هولها وشدّة العناء الذي لاقاه المسلمون ، حتّى كادوا أن ينهزموا في كلّ وقعات المعركة حتّى جاء الظفر ، وما عرض على الخليفة عمر من أحوال وغير ذلك ممّا مرّ ، كما لم يذكر اسم من أشار عليه بالمكث ، كما هي عادته في موارد عديدة يتابعها الباحث ، ومشورة عليّ عليه‌السلام على أبي بكر وعمر ؛ فإنّه لا يأتي بالاسم ولا ينوّه بالقائل ، بل قد لا يتعرّض لحصول المشورة ويسند الرأي إلى أبي بكر وعمر ، كما أنّه لم يذكر ما جرى من مقالات بين أبي بكر ورؤساء القبائل المتمرّدة على استخلافه ، كلّ ذلك لتغطية الحقائق وحقيقة الأمور في الأحداث.

وأمّا البلاذري فقد ذكر مسلسل الأحداث في ما يخص معركة نهاوند موجزا (١) ، ناسبا ذلك كلّه إلى عمر دون أن يفصح بالمشير على عمر ولا حال اضطراب عمر ، مع أنّه

__________________

(١). فتوح البلدان ٢ / ٣٧١.

٣٨٦

يصرّح بوجود الروايات المفصّلة للأحداث (١) ، ولكنّه لم يأت بمتنها بل بشيء من ألفاظ صدرها وذيلها باقتضاب شديد ، مع أنّه روى أنّ الفتح فيها هو : فتح الفتوح ، ورغم ذلك فهو يوجز الحديث عنها ويعرض عن ذكر ما ورد من روايات بشأنها ..

ولكن من بعض قصاصات فتوح البلدان للبلاذري ، وأخرى من كتاب أخبار أصبهان(٢) للحافظ الأصبهاني (ت ٤٣٠ ه‍) ، وثالثة من كتاب الكامل (٣) لابن الأثير ، وغيرها من المصادر ، ومن مجموع كلّ تلك القصاصات يقف الباحث على صدق الحقيقة عند ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح ، وأنّ كلّ ما ذكره له جذور في ما كتبوه ، واعترفوا ببعض خيوط الحدث.

فعلى الأمّة الإسلامية السلام إن كان باحثوها ينساقون وراء ظاهر ما كتبه هؤلاء المؤرّخون ممّن كانت له نزعات أموية أو عبّاسية أو سقيفية ؛ إذ لا تجري على لسانه ولا على قلمه أي حقيقة تاريخية تتّصل بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولا يقرّ بحقيقة ما كان عليه الشيخان من تشتّت الأمر في التدبير ، إلّا ما تداركه عليّ عليه‌السلام بالمشورة عليهما ، واشتداد الفتن بسبب استخلاف أبي بكر ، ونشوب الظواهر المنتكسة عن هدي الدين الحنيف ، التي زرعت في المسلمين ثمّ تورّمت وانفجرت في عهد عثمان ، فجاء عليّ عليه‌السلام إلى سدّة الحكم والقيح والقروح منتشرة في جسم الأمّة.

الملاحم التي أنبأ عليه‌السلام بها ودورها في الفتوح

وذكر ابن أعثم في الفتوح : إنّ أبا موسى أراد التقدّم إلى بلاد خراسان بعد فتح المسلمين بلدان فارس وكرمان ، فنهاه عمر عن ذلك وقال : ما لنا ولخراسان وما لخراسان ولنا ، ولوددت أنّ بيننا وبين خراسان جبالا من حديد وبحارا وألف سدّ ، كلّ سدّ مثل

__________________

(١). فتوح البلدان ٢ / ٣٧٣.

(٢). أخبار أصبهان ١ / ١٩ ـ ٢٠.

(٣). الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ ٣ / ٨.

٣٨٧

سدّ يأجوج ومأجوج.

قال : فقال له عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : ولم ذلك يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر : لأنّها أرض بعدت عنّا جدّا ، ولا حاجة لنا بها (١). قال : فقال عليّ كرّم الله وجهه : فإن كنت قد بعدك عنك خراسان فإنّ لله عزوجل مدينة بخراسان يقال لها : مرو ، أسّسها ذو القرنين ، وصلّى بها عزير ... ثمّ ذكر عليه‌السلام أسماء عدّة مدن ، والملاحم التي تقع في كلّ مدينة منها ، فذكر مدن : خوارزم ، بخارا ، سمرقند ، الشاش ، فرغانة ، أبيجاب ، بلخ ، طالقان ـ وذكر أنّ لله عزوجل فيها كنوز لا من ذهب ولا من فضّة ، يكونون أنصارا للمهدي عليه‌السلام في آخر الزمان ـ الترمذ ، واشجردة ، سرخس ، سجستان ، ياسوج ، نيسابور ، جرجان ، قومس ، الدامغان ، سمنان ، الري ، والديلم. ثمّ سكت عليه‌السلام ولم ينطق بشيء.

فقال عمر : يا أبا الحسن! لقد رغّبتني في فتح خراسان. قال عليّ عليه‌السلام : قد ذكرت لك ما علمت منها ممّا لا شكّ فيه ، فاله عنها وعليك بغيرها ؛ فإنّ أوّل فتحها لبني أمية وآخر أمرها لبني هاشم ، وما لم أذكر منها لك هو أكثر ممّا ذكرته ، والسلام (٢). ولم يقدم عمر على فتحها.

وهذا النصّ التاريخي وأمثاله ممّا تقدّم وممّا هو منتشر في كتب السير والتواريخ دالّ بوضوح على أنّ مخطّط الفتوح في تفاصيله المهمّة المحورية عهد معهود من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّ عليه‌السلام ، فضلا عن الخطوط العامّة الكلّية التي أخبر عامّة أصحابه والمسلمين بها.

وقد وقعت وصدقت جملة ممّا أخبر به عليه‌السلام من الملاحم بعده ، بل وبعض منها بعد عصر مؤلّف كتاب الفتوح ، أي ما بعد القرن الرابع ، وبعضها يقارب ظهور المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام. وقد رصدت كثير من الكتب الملاحم التي أخبر بها عليّ عليه‌السلام ، ككتاب شرح

__________________

(١). لاحظ : تاريخ الطبري ٤ / ٢٦٤ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٩٩ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٧ / ١٤٣.

(٢). كتاب الفتوح ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢١.

٣٨٨

نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ، والفتوح لابن أعثم الكوفي ، وغيرها من الكتب.

دوره عليه‌السلام في النظام الاقتصادي للفتوح

وقد شاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة فقال له بعضهم : تقسمها بيننا.

فشاور عليّا فقال : إنّ قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء ، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال : وفّقك الله! هذا الرأي (١).

وأنت ترى هذه السنّة من عليّ عليه‌السلام ، لولاها لضاع نظام التوزيع والتقسيم في الفيء والأراضي.

أخلاقيات الفتوحات وانتشار الدين

ومع كلّ ما تقدّم من كون الفتوح الإسلامية عهد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه حملها المسلمون ، وأنّ تفاصيلها الخطيرة المؤثّرة في الظفر والنصر كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أودعها عليّا عليه‌السلام بتوسّط العلوم اللدنية التي ورّثها إيّاه : «علّمني رسول الله ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب» ..

ومع كون أصل الفتوح انتشارا لصورة الدين في أرجاء المعمورة إلى الحدود الجغرافية التي انتهت إليها الفتوح ، إلّا أنّ الممارسات التي اعتمدتها خلافة الشيخين ـ فضلا عن العيث والعبث والخضم الذي مارسه الثالث ، وفضلا عمّا فعله بني أمية وبني العبّاس ـ في كيفية فتوح البلدان ، وما تلاها من كيفية إقامة نظام الحكم فيها ، حالت دون مواصلة انتشار الإسلام إلى غيرها من البلدان ، وإلى باقي أرجاء المعمورة.

وكان هذان البعدان وهاتان السياستان حائلا أمام وصول الإسلام لشعوب الأرض كافّة وتحقّق الوعد الإلهي : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وسدّا كثيفا مانعا من نفوذ شعاع

__________________

(١). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢.

٣٨٩

نوره إلى نفوس البشرية ، فكانت الكيفيّتان سدودا اقترنت بالفتوحات. فهنا محطّات لا بدّ من الوقوف عندها ؛ كي يستوفى الإمعان والتدبّر في تحليل هذه الحقبة وما عليه المسلمون حاليا من أوضاع.

المحطّة الأولى

أسباب وعوامل الظفر في الفتوحات

فإنّ جمهرة من محقّقي الأديان والتاريخ قد عزوها إلى أمور :

الأوّل : انجذاب أهل البلدان إلى مبادئ الدين الإسلامي العالية

فالعدل والقسط الذي نادى به القرآن الكريم والنبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمساواة بين البشر ، وكرامة الإنسان ، والكمالات الروحية والنفسية من المعرفة والعلم ، التي يسعى الدين لإيصال الإنسان إليها ، وتأمين الحياة الأخروية الخالدة ؛ ممّا يستحسنه الإنسان ويميل إليه بفطرته.

لا سيّما وأنّ أهداف الجهاد قد حدّدها الخالق جلّ وعلا ، بقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً* الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (١).

فأهداف الجهاد والقتال من أجلها هي رسالات الله تعالى وما تسعى لتحقيقه ، من إقامة العدل في الأرض ، ورفع الظلم عن الناس ، واستتباب الأمن بإقامة حكم الله تعالى ، لا القتال من أجل السيطرة الاستعلائية لتلبية الغرائز الشهوية للحاكم من العلوّ

__________________

(١). النساء / ٧٥ ـ ٧٦.

٣٩٠

والاستكبار ، أو الإفساد بالقوة الفاشية من الحكّام بتوسّط القتال.

فالغاية من الجهاد هي إقامة حكم الله في الأرض ، والحقّ والعدل ، وهدم الباطل والظلم ، لا أن يستبدل باطل بلون آخر من الباطل ، والظلم بنمط آخر من الظلم ؛ بأن يخرج المستضعفين في العقيدة أو المستضعفين في الحقوق المدنية والسياسية من كفر إلى قسم آخر من الكفر ، أو من الاضطهاد الحقوقي المدني والسياسي إلى اضطهاد من شكل آخر ؛ إذ للكفر أبواب وأقسام ، كما أنّ للظلم أنواع وألوان ، بل يتحرّر الضعيف في المعرفة إلى قوي في الإيمان والبصيرة ، والضعيف في المعيشة إلى قوي في أسباب المعاش ..

فالخطاب للمؤمنين بأن يقوموا بمسئولية النصرة والتولّي للضعفاء ؛ لتحلّيهم بالقوّة والإيمان والعدالة ، فالقتال والجهاد ليس هويته في الدين هو العنف والبطش الغاشم ، بل هو العنف الهادم للظلم والاستبداد ؛ محبّة ورحمة بالضعفاء ، لا ما يعود إلى الوازع الشخصي للمقاتل ، والنوازع الشهوية والغضبية والطغيان لبناء طواغيت بشرية جديدة ، أو لإقامة شريعة محرّفة وسنن باطلة وأهواء ضالّة ، بل الخلوص من كلّ الدواعي الضيّقة إلى الداعي الوسيع ، وهو سبيل الله ، الذي يعمّ خيره الجميع ؛ فلا بدّ في حال القتال والجهاد في سبيل الله من تحديد : ما هو المطلوب إقامته بعد هدم أركان الباطل؟!

ففي صحيحة يونس بن عبد الرحمن ، قال : «سأل أبا الحسن عليه‌السلام رجل ـ وأنا حاضر ـ فقال له : جعلت فداك! إنّ رجلا من مواليك بلغه أنّ رجلا يعطي سيفا وفرسا في سبيل الله ، فأتاه فأخذهما منه [وهو جاهل بوجه السبيل] ، ثمّ لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع هؤلاء ـ أي بني العبّاس ـ لا يجوز ، وأمروه بردّهما؟!

قال : فليفعل. قال : قد طلب الرجل فلم يجده ، وقيل له : قد قضى [مضى] الرجل.

قال : فليرابط ولا يقاتل. قلت : في مثل قزوين وعسقلان والديلم ، وما أشبه هذه الثغور؟! فقال : نعم. قال : فإن جاء العدوّ إلى الموضع الذي هو فيه مرابط ، كيف يصنع؟ قال : يقاتل عن بيضة الإسلام [لا عن هؤلاء]. قال : يجاهد؟ قال : لا ، إلّا أن يخاف على دار المسلمين. قلت : أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ [يسع] لهم أن

٣٩١

يمنعوهم؟ قال : يرابط ولا يقاتل ، فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل لنفسه لا للسلطان ؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وفي رواية طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الّذين دخل عليهم قوم آخرون؟ قال : على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل عن حكم الله وحكم رسوله ، وأمّا أن يقاتل الكفّار على الجور وسنّتهم فلا يحلّ له ذلك» (٢).

وفي رواية الحسن بن محبوب ، عن بعض أصحابه ، قال : «كتب أبو جعفر عليه‌السلام في رسالته إلى بعض خلفاء بني أميّة : ومن ذلك : ما ضيّع الجهاد الذي فضّله الله عزوجل على الأعمال ... اشترط عليهم فيه حفظ الحدود ، وأوّل ذلك : الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد ، وإلى عبادة الله من عبادة العباد ، وإلى ولاية الله من ولاية العباد ... وليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله» الحديث (٣).

وفي رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون ، قال : «والجهاد واجب مع الإمام العادل [العدل]» (٤).

وفي صحيح علي بن مهزيار ، قال : «كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثانيعليه‌السلام : إنّي كنت نذرت نذرا منذ سنين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا ممّا يرابط فيه المتطوّعة ، نحو مرابطتهم بجدّة وغيرها من سواحل البحر ؛ أفترى جعلت فداك! أنّه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني ، أو أفتدي الخروج إلى ذلك بشيء من أبواب البرّ لأصير إليه إن شاء الله؟

__________________

(١). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٦ ح ٢ ، التهذيب ٦ / ١٢٥ ح ٢١٩.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٦ ح ٣.

(٣). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٨.

(٤). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٢٤.

٣٩٢

فكتب إليه بخطّه وقرأته : إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته ، وإلّا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البرّ ، وفّقنا الله وإيّاك لما يحبّ ويرضى» (١).

وفي رواية أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قلت له : أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله ، أهو لقوم لا يحلّ إلّا لهم ، ولا يقوم به إلّا من كان منهم ، أم هو مباح لكلّ من وحّد الله عزوجل وآمن برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عزوجل وإلى طاعته ، وأن يجاهد في سبيل الله؟

فقال : ذلك لقوم لا يحلّ إلّا لهم ، ولا يقوم به إلّا من كان منهم. فقلت : من أولئك؟ فقال : من قام بشرائط الله عزوجل في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عزوجل ، ومن لم يكن قائما بشرائط الله عزوجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد والدعاء إلى الله حتّى يحكم في نفسه بما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد.

قلت : بيّن لي يرحمك الله. فقال : إنّ الله عزوجل أخبر في كتابه الدعاء إليه ، ووصف الدعاة إليه ، فجعل ذلك لهم درجات يعرّف بعضها بعضا ، ويستدلّ ببعضها على بعض ؛ فأخبر أنّه تبارك وتعالى أوّل من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتّباع أمره ، فبدأ بنفسه ؛ فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

ثمّ ثنّى برسوله ؛ فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣) ـ يعني : القرآن ـ ولم يكن داعيا إلى الله عزوجل من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر في كتابه الذي أمر أن لا يدعى إلّا به ، وقال في نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي

__________________

(١). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٧ ح ١.

(٢). يونس / ٢٥.

(٣). النحل / ١٢٥.

٣٩٣

إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ـ يقول : تدعو ـ

ثمّ ثلّث بالدعاء إليه بكتابه أيضا ؛ فقال تبارك وتعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ـ أي : يدعو ـ (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

ثمّ ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه ، فقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣).

ثمّ أخبر عن هذه الأمّة وممّن هي ، وأنّها من ذرّيّة إبراهيم عليه‌السلام وذرّيّة إسماعيلعليه‌السلام من سكّان الحرم ، ممّن لم يعبدوا غير الله قطّ ، الّذين وجبت لهم الدعوة ـ دعوة إبراهيم وإسماعيل ـ من أهل المسجد ، الّذين أخبر عنهم في كتابه أنّه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، الّذين وصفناهم قبل هذه في صفة أمّة إبراهيم ، الّذين عناهم الله تبارك وتعالى في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (٤).

يعني : أوّل من اتّبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء من عند الله عزوجل من الأمّة التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ، ممّن لم يشرك بالله قط ولم يلبس إيمانه بظلم ، وهو الشرك.

ثمّ ذكر أتباع نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتباع هذه الأمّة التي وصفها في كتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلها داعية إليه ، وأذن له في الدعاء إليه ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥).

ثمّ وصف أتباع نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين ؛ فقال عزوجل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) (٦). الآية. وقال : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ

__________________

(١). الشورى / ٥٢.

(٢). الإسراء / ٩.

(٣). آل عمران / ١٠٤.

(٤). يوسف / ١٠٨.

(٥). الأنفال / ٦٤.

(٦). الفتح / ٢٩.

٣٩٤

النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١) ـ يعني : أولئك المؤمنين ـ وقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، ثمّ حلّاهم ووصفهم كيلا يطمع في اللحاق بهم إلّا من كان منهم ؛ فقال ـ في ما حلّاهم به ووصفهم ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* ... أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢).

وقال في صفتهم وحليتهم أيضا : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٣) ـ وذكر الآيتين ـ ، ثمّ أخبر أنّه اشترى من هؤلاء المؤمنين ومن كان على مثل صفتهم (أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ؛ قام رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أرأيتك يا نبيّ الله! الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتّى يقتل إلّا أنّه يقترف من هذه المحارم ، أشهيد هو؟

فأنزل الله عزوجل على رسوله : (التَّائِبُونَ) ـ من الذنوب ـ (الْعابِدُونَ) ـ الّذين لا يعبدون إلّا الله ولا يشركون به شيئا ـ (الْحامِدُونَ) ـ الّذين يحمدون الله على كلّ حال في الشدّة والرخاء ـ (السَّائِحُونَ) ـ وهم الصائمون ـ (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) ـ وهم الّذين يواظبون على الصلوات الخمس والحافظون لها والمحافظون عليها في ركوعها وسجودها وفي الخشوع فيها وفي أوقاتها ـ (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ـ بعد ذلك والعاملون به ـ (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ـ والمنتهون عنه ـ (٤).

قال : فبشّر من قتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنّة. ثمّ أخبر تبارك وتعالى أنّه لم يأمر بالقتال إلّا أصحاب هذه الشروط ؛ فقال عزوجل : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ ...) (٥) ، وإنّما أذن للمؤمنين الّذين قاموا بشرائط الإيمان التي وصفناها ، وذلك أنّه لا يكون مأذونا في القتال حتّى يكون مظلوما ، ولا يكون مظلوما حتّى يكون مؤمنا ، ولا يكون مؤمنا حتّى يكون قائما بشرائط الإيمان

__________________

(١). التحريم / ٨.

(٢). المؤمنون / ١ ـ ١١.

(٣). الفرقان / ٦٨.

(٤). التوبة / ١١٢.

(٥). الحجّ / ٣٩.

٣٩٥

التي اشترط الله عزوجل على المؤمنين والمجاهدين.

فإذا تكاملت شرائط الله عزوجل كان مؤمنا ، وإذا كان مؤمنا كان مظلوما ، وإذا كان مظلوما كان مأذونا له في الجهاد ؛ لقول الله عزوجل : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وإن لم يكن مستكملا لشرائط الإيمان فهو ظالم ممّن ينبغي ويجب جهاده حتّى يتوب ، وليس مثله مأذونا له في الجهاد والدعاء إلى الله عزوجل ؛ لأنّه ليس من المؤمنين المظلومين الّذين أذن لهم في القرآن في القتال ... ومن كان على خلاف ذلك فهو ظالم ...

ولا يكون مجاهدا من قد أمر المؤمنون بجهاده وحظر الجهاد عليه ومنعه منه ، ولا يكون داعيا إلى الله عزوجل من أمر بدعائه مثله إلى التوبة والحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به ، ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه ...

ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط الله عزوجل على المؤمنين والمجاهدين : لا تجاهدوا. ولكن نقول : قد علّمناكم ما شرط الله عزوجل على أهل الجهاد ... فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك ، وليعرضها على شرائط اللهعزوجل ...» (١).

وفي صحيح عبد الكريم بن عتبة الهاشمي ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام : «... أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف» (٢).

وفي موثّق سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لقى عبّاد البصري عليّ بن الحسين عليه‌السلام في طريق مكّة فقال له : يا عليّ بن الحسين! تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت

__________________

(١). انظر : وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٩ ح ١.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٩ ح ٢.

٣٩٦

على الحجّ ولينه ، إنّ الله عزوجل يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١). الآية. فقال عليّ بن الحسين صلوات الله عليه : أتمّ الآية. فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...). الآية. فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ» (٢).

وفي رواية أخرى : إنّ السائل قرأ الآية إلى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ). قال : فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئا» (٣).

وفي رواية أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفّذ في الفيء أمر الله عزوجل ، فإنّه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا ، والإشاطة بدمائنا ، وميتته ميتة جاهلية» (٤).

وروى الطوسي والمفيد بسند إلى عليّ عليه‌السلام ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «يا عليّ! إنّ الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي. فقلت : يا رسول الله! وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟

قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله وهم مخالفون لسنّتي ، وطاعنون في ديني. فقلت : فعلام نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله؟ فقال : على إحداثهم في دينهم ، وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دماء عترتي». الحديث (٥).

وفي رواية الهيثم الرمّاني عن الرضا عليه‌السلام : إنّ عليّا عليه‌السلام ترك جهاد أعدائه خمسا

__________________

(١). التوبة / ١١١.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١٢ ح ٣.

(٣). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١٢ ح ٦.

(٤). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٦ ح ٨.

(٥). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٢٦ ح ٧.

٣٩٧

وعشرين سنة لقلّة أعوانه عليهم ، مقتديا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ ترك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهاد المشركين ثلاث عشرة سنة في مكّة ، وتسعة عشر شهرا في المدينة لقلّة أعوانه عليهم (١).

ومن كلّ ذلك يتبيّن أنّ تحديد القيادة التي تقود وتحكم أمر مصيري في البديل الذي يراد بناؤه ، وبالتالي الأهداف المراد إقامتها ، فليس الجهاد من أجل جمع الثروات والأموال وتوسيع السلطة ، بل هو لإقامة العدل والفضيلة والإيمان ، وهذا يتوقّف على القائد والوليّ المتّصف بذلك كي تتحقّق هذه الأهداف.

ومن ثمّ أطلق على النظام البديل الذي حلّ في البلدان المفتوحة : دار الإسلام ، لا دار الإيمان ، في روايات وفقه أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد مرّت بعض تلك الروايات ، وبعضها يتضمّن تسميتها ب : دار الفاسقين ؛ إذ أنّ الإسلام يجتمع مع الفسق ، والتسمية تتبع نظام الحكم وصفة الحاكم. ويطلق عليها أيضا : دار التقية ، كما في رواية الفضل عن الرضا عليه‌السلام (٢) ، ودار الهدنة ، كما في صحيح محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممّا كان في أيدي الناس ، ويستقبل بهم العدل» (٣).

والوجه في ذلك كلّه أنّ دين الإسلام ليس شعارا أجوف خال ولقلقة لسان ، بل هو نظام متكامل مجموعي موحّد.

الثاني ـ من أسباب الظفر ـ

انجذاب البلدان المجاورة إلى سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المباركة

__________________

(١). انظر : وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٣٠ ح ١.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٢٦ ح ٩.

(٣). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٢٥ ح ٢.

٣٩٨

فإنّه تسامع بها الأطراف والنواحي المختلفة من البلدان ، وطار صيتها كنموذج للحاكم المثالي هديا وزهدا وخلقا ، وأخذت القلوب تخفق لمثل هذا الحلم الذي لم تعهده البشرية من قبل ، وفي هذا المجال هناك ملف كبير جدّا من الموارد التي يقف عليها المتتبّع.

الثالث : معاناة الشعوب

مكابدة الشعوب البشرية في البلاد عبر التاريخ لأنواع الظلم والاستعباد ، وتطلّعها إلى النجاة والتحرّر من تسلّط الملوك الغاشمين ، ولتبديل نظامهم الاجتماعي والسياسي المبني على فرض الكثير من القيود والأغلال. وقد أعانوا جيوش المسلمين في اكتشاف مواقع الضعف والاختراق في جيوش كسرى وقيصر ، وهناك مسلسل للشواهد على ذلك في كتب الفتوح للبلدان.

الرابع : بشائر القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتوحات

هذه البشائر كانت عهد عهد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كوظيفة ومسئولية على المسلمين ، ممّا كان يبعث الأمل عند المسلمين ، ويرفع من هممهم.

الخامس : تدبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام

وذلك بعهده تفاصيل خطط الفتوح في المواضع الشريانية إلى عليّ عليه‌السلام ، مضافا إلى تدبير عليّ عليه‌السلام بما يشير به على الثلاثة كلّما اضطرب عليهم الأمر وتشتّت لديهم الأمور واستعصت ، كما مرّ استعراض مقتطفات من ذلك.

السادس : قوّة البناء الاجتماعي الديني

الذي بناه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنقاض المجتمع الجاهلي ، والذي حمل الكثير من عناصر

٣٩٩

الإعجاز الحضاري ، مثل : روح التضحية والفداء والشهادة ، والتشكيلة الجديدة للعلائق الاجتماعية ـ وإن كان هذا البناء هو في طوره الأوّل في النمو ، وقد اعتوره آثار وبقايا الجاهلية السابقة ، المتمثّلة بتدبير السقيفة وتغيير رأس نظام المسلمين ـ لا سيّما وأنّ المسلمين شاهدوا أيّام الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحقّق الوعد الإلهي بنصر الروم ، بل العرب ، على الفرس وكسرى ؛ فقد كانت قبائل العرب ـ وفيها الكثير ممّن أسلم ـ ترفع شعار : «يا محمّد يا محمّد» في معركة ذي قار فهزموا عدوهم ، وقال عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل معركة انتصف فيها العرب من العجم ، وبي نصروا» (١).

مضافا إلى ناموس العدالة والمساواة والسوية بين آحاد المسلمين ، الذي أصبح أصلا اجتماعيا عظيما يهدّد كلّ أمير أو خليفة يحاول أن يعتمد الإقطاع القبلي الجاهلي أساسا في سياسته وحكمه للمسلمين ، وإلى درجة يهابها ويحسب لها ألف حساب.

وهذه الظاهرة هي التي حاكمت الخليفة الثالث وقضت عليه ، وهي التي خنقت وحاصرت حزب السقيفة والحزب القرشي عن التلاعب في كلّ مقدرات المسلمين إلى حدّ ما نسبيا ، لكن هذه الظاهرة النيرة سرعان ما تضاءلت عند وصول الأمويّين إلى سدة الحكم ، وذلك لأنّ النور لا بدّ له من مدد ، وقد ضيّع المسلمون المدد ، وهو رأس السلطة الهادي إلى الحقّ ، الإمام المعصوم.

المحطّة الثانية

الممارسات المرتكبة في البلدان المفتوحة

نتعرّض ـ في هذه المحطّة ـ إلى مقتطفات من ملف هذه الممارسات ، وما ارتكب منها في أثناء الفتح وما بعده ، والتي عادت بانتكاس الخطّ البياني لانتشار الإسلام. فنذكر

__________________

(١). الأغاني ٢٠ / ١٣٢ ـ ١٣٨ ، الطبقات ـ لابن سعد ـ ٧ / ٧٧ ، الطبقات ـ لخليفة ـ : ٨٧ ، مسند أحمد : ١٢٩ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٠٦ ، معجم القبائل ـ لكحالة ـ ١ / ٩٧.

٤٠٠