الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

فذكر تعالى أنّ للقرآن وجودا علويا غيبيا غير ما تنزّل منه ، لا يصل إلى حقيقته وحقائق ذلك الوجود غير المطهّرين ـ بصيغة الجمع ـ من هذه الأمّة ، وهم الموصوفون بالطهارة في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١).

وكذلك قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٢).

وقد اعترف الفخر الرازي ـ وإن لم تكن أهمّية لاعترافه فأهمّية القرآن ذاتية ـ أنّ الآية دالّة على وجود شخص في زمن لا يزل ولا يخطأ يكون شاهدا على أمّة كلّ قرن (٣) ، وإلّا فكيف يكون شاهدا وهو مشهود عليه بالذنب أو الضلالة ؛ كما تبيّن الآية من سورة العنكبوت : (بَلْ هُوَ) ـ أي الكتاب أو القرآن ـ (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤) ومثله قوله تعالى في سورة الرعد : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٥) وغيرها من آيات الثقلين وأنّهما مقترنان معا لا يفترقان.

والحاصل أنّ آية الاعتصام تنبّأ بملحمة مهمّة ، وهي : أنّ ضعف وذلّ هذه الأمّة لفرقتها لا يزول بغير الاعتصام بحبل الله ، وهما الثقلان : الكتاب والعترة ، وبذلك تتحقّق الوحدة. وقد أشارت الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بنت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الملحمة القرآنية في خطبتها :

فجعل الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ... وطاعتنا نظاما للملّة وإمامتنا أمانا

__________________

(١). الأحزاب / ٣٣.

(٢). النحل / ٨٩.

(٣). انظر : التفسير الكبير ـ ذيل الآية ٨٩ من سورة النحل.

(٤). العنكبوت / ٤٩.

(٥). الرعد / ٤٣.

٢٨١

من الفرقة (١).

والمرتضى عليه‌السلام وصيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته القاصعة ـ وهي من أعظم خطبه صلوات الله عليه ؛ إذ يصف فيها ولاية أهل البيت عليهم‌السلام أنّها توحيد لله تعالى في الطاعة ـ يقول :

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا ؛ فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ...

وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت ، فهم حكّام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأمور على من يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم ...

ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية ، فإنّ الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ؛ لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر.

واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه ، تقولون : النار ولا العار! كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه ، ونقضا لميثاقه الذي وضعه الله لكم ، حرما في أرضه ، وأمنا بين خلقه ، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم إلّا المقارعة بالسيف حتّى يحكم الله

__________________

(١). الاحتجاج ـ للطبرسي ـ ١ / ٢٥٨ ضمن ح ٤٩ ، كشف الغمّة ـ للإربلي ـ ١ / ٤٨٣.

٢٨٢

بينكم (١).

فقوله عليه‌السلام : «فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفتهم ... قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم ...» إنّ منّة الله على جماعة ووحدة الأمّة هو بتوسّط ذلك الحبل ، حبل الطاعة ، وهو حبل الألفة ، وإنّ في مقابل الموالاة الأحزاب ، أيّ التفرّق والفرقة ؛ فلا نصرة لهم من الله تعالى وملائكته والمؤمنين ، كما أنّهعليه‌السلام أخبر الأمّة بملحمة مستقبلية ، هي الملحمة القرآنية في آية الاعتصام ، أنّهم سيتفرّقون ويضعفون أمام الكفر وتكالب الأعداء وكثرة الحروب حتّى يقدّر الله تعالى النهاية ، ولعلّه إشارة إلى عصر الظهور.

ولا يخفى الاقتباس في تعبيره عليه‌السلام بالحبل وإنّه الطاعة ؛ إذ تضمّن الإشارة إلى آية الاعتصام من الفرقة بحبل الله ، وأنّه طاعتهم وولايتهم. فلا يأمل ولا يحلم المسلمون بتحقّق الألفة والوحدة والقدرة لهم على أعدائهم من دون التمسّك بحبل الله ، المتمثّل بولاية وطاعة أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ إنشاد الوحدة من دون ذلك ممتنع.

وهذا الإخبار من القرآن ومن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام إخبار إعجاز وتحدّ للمسلمين ؛ يعضد ذلك العقل والمشاهدة العيانية الاستقرائية لأوضاع المسلمين ...

أمّا العقل : فإنّ المسلمين إن لم يرجعوا في عقائدهم ، ومن ثمّ في أحكامهم وقوانينهم إلى مصدر واحد ، فكيف يتمّ لهم الاتّفاق في نظامهم السياسي والاجتماعي والمذهبي؟!

وأمّا المشاهدة العيانية الاستقرائية : فهي حاصلة بأنّ مذاهب العامّة لا تكاد تنحصر في عدد معيّن ، وحصرها في أربعة ما هو إلّا من فعل الخلافة العبّاسية في القرن الرابع الهجري ، وإلّا فمذاهب فقهائهم كثيرة كاثرة ، وهي لا تزال في تشعّب مذهبي ـ أي في أصول القواعد ـ وفقهي واعتقادي ، ولم يبق من الأربعة إلّا العدد فقط ، فهناك ـ الآن ـ

__________________

(١). نهج البلاغة : خطبة ١٩٢ ـ القاصعة.

٢٨٣

مذاهب الوهّابيّة والظاهرية والأباضية والتكفير والهجرة ، وهلمّ جرّا ؛ فكيف يرجى خلاص الأمّة وهم يتّبعون مذاهب فقهية واعتقادية هي في الأصل من وضع الأمويّين والعبّاسيّين ، أي فقه السلاطين واعتقاداتهم؟!

ففقهاؤهم قاطبة ـ إلّا ما شذّ وندر ـ يحرّمون الخروج على سلطان الجور ، بلغ ما بلغ غيّه وفساده وجوره ، ما لم يكن كفرا بواحا ، وإن كان وصوله إلى السلطة بالتغلّب والقهر والسيف ؛ فهل ترى للأمّة الإسلامية من خلاص ونصرة على عدوّها والحال أنّ على رقاب ورءوس المسلمين حكّاما خونة؟!

قال المزّي :

وقال أبو العبّاس ابن عقدة ـ وذكر المزّي السند إلى حسن بن زياد ، يقول : سمعت أبا حنيفة وسأله : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمّد. لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيّئ له من مسائلك الصعاب. قال : فهيأت له أربعين مسألة.

ثمّ بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة ، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر. فسلّمت ، وأذن لي ، فجلست. ثمّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبد الله! تعرف هذا؟ قال : نعم ، هذا أبو حنيفة. ثمّ أتبعها : قد أتانا (١). ثمّ قال : يا أبا حنيفة! هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله.

وابتدأت أسأله ، وكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن نقول كذا وكذا ، فربّما تابعنا ، وربّما تابع أهل المدينة ، وربّما خالفنا جميعا ، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أحزم منها

__________________

(١). الظاهر أنّ المراد : تتلمذ عندنا ، كما ذكر ذلك المزّي أيضا في تهذيب الكمال : أنّ أبا حنيفة تتلمذ عندهعليه‌السلام.

٢٨٤

مسألة. ثمّ قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(١).

فها أنّك ترى أنّ أبا حنيفة يستخدمه الخليفة العبّاسي آلة طيّعة ليقابل تنامي نفوذ الإمام الصادق عليه‌السلام في المسلمين ، ومثله الحال في بقية فقهائهم. قال الحافظ ابن عبد البرّ : إنّ محمّد بن سعد قال : سمعت مالك ابن أنس يقول : لمّا حجّ أبو جعفر المنصور دعاني ، فدخلت عليه فحادثته ، وسألني فأجبته ، فقال : إنّي عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت (يعني الموطّأ) فتنسخ نسخا ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها! فإنّي رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم (٢).

وقد ذكر هذه الحادثة ابن قتيبة الدينوري ، وذكر دخول أكثر فقهاء العامّة على المنصور ، كسفيان الثوري ، وابن ابي ذؤيب ، وابن سمعان ، وأنّ المنصور خطب فيهم ثمّ قسّم عليهم أموالا ، وأنّ بعضهم أخذها ، ومنهم مالك ، وأنّ المهدي العبّاسي أمر لمالك بأربعة آلاف دينار مكافأة على كتابه الموطّأ ، ولابنه بألف دينار ، وأنّ هارون بالغ في الحفاوة به أيضا (٣).

فبدون ولاية وطاعة المعصوم لا سبيل للنجاة من الفرقة ؛ إذ الأهواء المتّبعة مدعاة للفرقة ، والجهل والجهالات المتفشّية هي الأخرى موجبة لاختلاف القول والرأي ، وبالتالي اختلاف الكلمة.

وتوحيد الكلمة الذي هو مظهر التوحيد الإلهي لا يتحقّق إلّا بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ وذلك لأنّ توحيد الله تعالى على مقامات ومواطن ، فمنه توحيد الذات والصفات والأفعال ، والتوحيد في العبادة بالإخلاص ، والتوحيد في التشريع وهو النبوّة ، و

__________________

(١). تهذيب الكمال ٥ / ٧٩.

(٢). كتاب الانتقاء : ٤١.

(٣). انظر : الإمامة والسياسة : ١٩٣ ، ١٩٥ ، ٢٠٣ ، ٢٠٨.

٢٨٥

التوحيد في الغاية وهي المعاد ، والتوحيد في الطاعة والولاية وهي الإمامة ؛ إذ أنّ الأئمّة المعصومين هم أوعية مشيئة وإرادة الله تعالى ، فقيادتهم هي حاكمية لمشيئة الله تعالى وإرادته.

ولن يستكمل التوحيد حتّى يعمّ قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (١) كلّ المواطن ، وإلّا فعزل الباري عن مسرح الحياة البشرية وقصر التوحيد على الذات والصفات ـ كما يصنع العلمانيون ـ ليس إلّا توحيد أجوف صوري ، كما أنّ التوحيد في التشريع ـ النبوّة ـ دون التوحيد في التطبيق هو الآخر توحيد نظري بدون تطبيق ، كما قال الإمام عليّ عليه‌السلام : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (٢) ، أي ثمرة النبوّة وهي الولاية لأهل البيت عليهم‌السلام ، فولايتهم وإمامتهم نهاية معاقل التوحيد وزبدة مواطنه ، وهو الامتحان الذي فشل فيه إبليس الرجيم ؛ إذ لم يكفر بتوحيد الذات ولا الصفات بحسب الظاهر ولا بالمعاد ، بل كفر بولاية آدم وخلافته ، أي بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية ، فنجم عن ذلك كفره وحبط عمله ، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته القاصعة الطويلة ، وسنشير إلى مقطعين منها.

الأوّل : «الحمد لله الذي ليس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده.

ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ؛ فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ) (٣) اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ الله

__________________

(١). الأنعام / ٥٧ ، يوسف / ٤٠ و ٦٧.

(٢). نهج البلاغة / الخطبة القاصعة.

(٣). ص / ٧١ ـ ٧٤.

٢٨٦

إمام المتعصّبين ، وسلف المتكبّرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل.

ألا ترون كيف صغّره الله بتكبيره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعدّ له في الآخرة سعيرا ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ؛ إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ...».

الثاني : «فاحذروا عباد الله! أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ... ألا وقد أمعنتم في البغي ، وأفسدتم في الأرض ، مصارحة لله بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة ، فالله الله في كبر الحمية ، وفخر الجاهلية ... ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم!الّذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربّهم ـ أي قبحوا فعل ربّهم ـ وجاحدوا الله على ما صنع بهم ؛ مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه ، فإنّهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف عنزاء الجاهلية ، فاتقوا الله ...

ولا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم ، وأدخلتم في حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم ، استراقا لعقولكم ، ودخولا في عيونكم ، ونفثا في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، وموطئ قدمه ، ومأخذ يده».

ثمّ بيّن عليه‌السلام في آخر الخطبة خصائصه الموجبة لوصايته بعد النبوّة. فبيّن عليه‌السلام أنّ الخضوع لآدم وطاعته وولايته بأمر من الله تعالى هي تواضع لله ، ونفي للكبر ، أي نفي المخلوق استقلاليّته أمام استقلالية الذات الأزلية ؛ فولاية خليفة الله توحيد لله تعالى في آخر المعاقل التي يطرد منها الكفر ويقام فيها التوحيد ، وذلك المعقل هو ذات الإنسان

٢٨٧

نفسه ، فهدم كبر الأنانية وإقامة فقر العبد لله بتولّي الإمام المنصوب من قبل الله ، إقامة للتوحيد في صقع الذات الإنسانية ، وإن إبليس قد فشل في هذا الامتحان للتوحيد ، فلم تنفعه دعواه التوحيد في سائر المقامات ، هذا في المقطع الأوّل.

وأمّا المقطع الثاني فهو عليه‌السلام يبيّن فيه أنّ من تقحّموا الخلافة من قبله قد ردّوا على الله تعالى أمره ، وقبّحوا نصبه تعالى وجعله عليّا عليه‌السلام خليفة ووصيّا ؛ فنهجوا نهج إبليس في الاستكبار ، وأنّهم قواعد أساس العصبية ودعائم أركان الفتنة ، وهذا الحكم منه عليه‌السلام أشدّ ممّا ورد في الخطبة الشقشقية وأصرح في بيان حالهم ..

ثمّ إنّه عليه‌السلام بيّن أنّ الإفساد في الأرض هو لكون الناس أحزابا متفرّقين غير مجتمعين على وحدة الطاعة والولاية لخليفة الله في الأرض ، وهذا التفرّق عن الطاعة والولاية يعني مناصبة العداء لله تعالى ، وبالتالي فلا يقبل تعالى على البشر بالبركات والنعم ، مضافا إلى تأدية الخلاف إلى الخراب بدل الإعمار ؛ لتخالف الهوى والمصلحة ، فتصبح البشرية في حرمان من البركات الإلهية المقدّرة لها.

وتتّضح جليّا الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (١) ؛ فلازم كونها أمّة واحدة توحيدية بتمام التوحيد هو الربوبية لله وحده من دون وجود طاغوت استكباري على أوامره تعالى ، وإلّا فالأمّة الإسلامية ستكون أمما كثيرة ، كلّ مجموعة تتّبع هوى ما ، وطاغوتا ما ؛ إذ الأمّة في اللغة والاشتقاق من : أمّ يؤمّ ، أي : قصد واتّبع ، فإذا كانت المقاصد والمناهج الأصلية مختلفة فسيكون المجموع أمما لا أمّة واحدة.

والإشارة إلى ذلك أيضا في قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٢).

__________________

(١). الأنبياء / ٩٢.

(٢). آل عمران / ٦٤.

٢٨٨

فإن توحّد الربوبية لله تعالى يقضي بتوحيد المنهاج والشريعة والطاعة والولاية ، نعم من أبجديات فقه أهل البيت عليهم‌السلام أنّ أهل الكتاب في ظلّ الحكم الشرعي لهم حقّ التعايش السلمي بضريبة الجزية ، بدلا عن ضريبة الزكاة والخمس الموضوعة على المسلمين ، وأنّ من خصوصيات عقيدة الإمامة أنّ الحاكم الأوّل في النظام الاجتماعي السياسي هو الله تعالى ، سواء في السلطة التنفيذية أو القضائية أو التشريعية ، وسواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو المالي أو التقنيني ، وهذه الحقيقة تتحقّق لكون الإمام وعاء مشيئة الله وإرادته ، كما هو الحال في حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي يستعرض سيرتها القرآن الكريم في السور المدنية ..

فإنّ المشاهد في الآيات أنّه عند المنعطفات الحادّة الصعبة سياسيا ، أو عسكريا من الحرب أو السلم ، أو قضائيا أو ماليا يكون التدبير الجزئي والحكم صادر منه تعالى ، فالحاكم السياسي الأوّل في حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الله تعالى ، وحاكميّته تعالى لا تقتصر على التشريعات الكلية فحسب ، كما هو المزعوم في معتقد المذاهب الإسلامية الأخرى ، وكما هو الحال في الديانة المسيحية واليهودية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (١) ، بل تشمل جميع نواحي الحياة ..

ولن تجد ـ إذا فتّشت ـ عقيدة تتبنّى حاكمية الله تعالى السياسية والعسكرية و ... وباقي نواحي الحياة فضلا عن حاكميّته في مجال التشريع غير عقيدة الإمامة الإلهية ؛ وهذا معنى أنّ الإمامة والولاية باب من أبواب التوحيد ومن أبواب ربوبية الله تعالى وحده في النظام الاجتماعي السياسي.

__________________

(١). المائدة / ٦٤.

٢٨٩

النبيّ هارون عليه‌السلام ونموذج الوحدة

وقوله تعالى حكاية عن هارون بعد عبادة بني إسرائيل العجل : (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (١) ملحمة قرآنية يسطرها لنا القرآن الكريم تبيانا لموقف هارون وصيّ موسى عليه‌السلام بعد ما ضلّ كثير من بني إسرائيل عن الهدى إلى عبادة العجل واتّباع السامري. ففي الوقت الذي راعى فيه هارون وحدة بني إسرائيل وحافظ عليها ، إلّا أنّه لم يتّبع ضلال أكثرية بني إسرائيل والسامري في عبادة العجل لتحقيق الوحدة ، بل قال لهم : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٢) ؛ فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وكان الأسلوب الذي اتّخذه لا بنحو يؤدّي إلى فرقة بني إسرائيل ولا بنحو ذوبانه هو في الانحراف وترك طريق الإصلاح ، لا سيّما وأنّه لم تكن لديه القدرة على الالتجاء إلى القوّة في الإصلاح ، كما قال : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (٣) وهو يدلّ على مدى رفض هارون عليه‌السلام للانحراف الحاصل لدى بني إسرائيل ومقاومته السلمية الثابتة لهم بلا مهادنة حتّى كادوا أن يقتلوه.

والذي قام به هارون عليه‌السلام هو الذي أوصاه به موسى عليه‌السلام : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) ، فأمره بالإصلاح ونهاه عن اتّباع سبيل المفسدين ، ومن ثمّ لمّا رجع موسى إلى قومه وقال : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ ...) (٥).

وكانت مساءلة موسى عليه‌السلام عن عدم اتّباع هارون عليه‌السلام له ، أي عن عدم مفارقة هارون لبني إسرائيل ولحوقه بموسى كي يحلّ عليهم العذاب ، أو عن عدم مقاتلته لتيّار الانحراف

__________________

(١). طه / ٩٤.

(٢). طه / ٩٠.

(٣). الأعراف / ١٥٠.

(٤). الأعراف / ١٤٢.

(٥). طه / ٩٢ ـ ٩٤.

٢٩٠

والضلال في بني إسرائيل ، فأجابه بتحرّيه طريق الإصلاح من الاهتمام بمصير بني إسرائيل ، وإرشادهم إلى الصواب ، ونهيهم عن الضلال ، ومقاطعته وتبرّيه عن سبيل المفسدين ، ورضى موسى عليه‌السلام بفعله.

وفي الحقيقة إنّ مساءلة النبيّ موسى عليه‌السلام لوصيّه النبيّ هارون عليه‌السلام عن دوره في هذا الحدث الداهية الفظيع ، وكذلك أخذه برأسه ولحيته ، ليس لإدانة أخيه ووصيّه ، أو شكّه في استقامته ، بل هي لأجل بيان مدى فظاعة الانحراف والضلال الذي ارتكب ، كما قال موسى : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) (١) ، (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٢) ، وكذلك لدفع تهمة تخاذل هارون عن الحقّ.

وهي أيضا نظير مساءلة الله تعالى للنبيّ عيسى يوم المعاد : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (٣) ؛ إذ هي لبيان العظيمة التي ارتكبها النصارى من الشرك ، لا لأجل عتاب النبيّ عيسى عليه‌السلام ؛ كيف وهو تعالى عالم ببراءة ساحته عن انحراف النصارى؟!

وكذلك لكون مساءلة ومحاسبة النبيّ عيسى عليه‌السلام تدلّ على عظم الخطب في الحدث ، الذي يستدعي مساءلة كلّ أطراف الحدث عنه ، حتّى مثل النبيّ ؛ ولتبرئة عيسى عليه‌السلام عن ضلال النصارى ، وهذا الأسلوب من فنون الكلام والبيان ، فكذلك الحال في مساءلة النبيّ موسى عليه‌السلام لوصيّه هارون عليه‌السلام.

وكذلك في مساءلة الصدّيقة الزهراء لوصيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اشتملت مشيمة

__________________

(١). الأعراف / ١٥٠.

(٢). طه / ٨٥.

(٣). المائدة / ١١٦ ـ ١١٧.

٢٩١

الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل؟!» (١) ؛ فهي لم تكن ـ كما يوهمه عمى البصيرة ـ جزعا منها عليها‌السلام أو عتابا لأمير المؤمنين ، وإنّما هيعليها‌السلام في صدد بيان انحراف القوم وشدّة ضلال ما ارتكبوه ، ولكي يتبيّن أنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن سكوته عن مقاتلتهم تخاذلا منه أو جبنا أو نكصا عن الحقّ ، بل لأنّ صدامه المسلّح معهم يوجب تزلزل عقيدة الناس بالدين ، والنزاع على السلطة في نظر وذهنية عامّة الناس من أكبر أمثلة التنازع على الدنيا وأعظمها ، وبالتالي سيسري شكّهم في دواعي الوصيّ عليه‌السلام إلى دواعي ابن عمّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ كلّ ما جرى هو تغالب على الملك ، كما قال ذلك يزيد بن معاوية :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل (٢)

وقال أبي سفيان عند فتح مكّة للعبّاس : «إنّ ملك ابن اخيك لعظيم» فأجابه العبّاس : «إنّها النبوّة» (٣). فالناس ليس لديهم الوعي والبصيرة الكافية في كون خطورة هذا الانحراف هو شبيه الانحراف الذي حصل في الديانة اليهودية والمسيحية ، وليس هو محض مسند القدرة في النظام الاجتماعي السياسي.

ثمّ إنّ من سيرة هارون عليه‌السلام تستخلص العبر ؛ إذ المحافظة على وحدة بني إسرائيل أوجبت عدم المصادمة المسلّحة بين فريقي الحقّ والباطل ، لكن الوحدة لم توجب ذوبان فريق الحقّ في فريق الباطل ، ولا تركهم للنصيحة والوعظ بأسلوب المداراة ، والوحدة التكتيكية لم توجب إيقاف الإصلاح والأمر بالحقّ والنهي عن الباطل بأسلوب الحكمة وطريق الموعظة الحسنة ، فضلا عن التنكر والريب في ثوابت الحقّ ، ولا استحسان الباطل وموادّته ، ولا كراهة الحقّ والازدراء به.

__________________

(١). الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ ٦٨٣ ح ١٤٥٥ ، المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٢ / ٥٠.

(٢). تذكرة الخواصّ : ٢٣٥ ، البداية والنهاية ٨ / ١٥٤ ، الإتحاف بحبّ الأشراف : ٥٧.

(٣). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٣٥ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٧ / ٧٦.

٢٩٢

الوحدة وعناوين مختلطة

ثمّ إنّه في بحث الوحدة هناك محور آخر يثار دائما ويحصل الخلط المتعمّد فيه. عناوين: السبّ ، اللعن ، التولّي ، التبرّي ، المداراة ، الموادّة ، الاحترام ، التعظيم ، الخلق الحسن ، المحبّة ، الأدب ، تحرّي وكشف الحقيقة في الأحداث التاريخية للمسلمين ، الطعن على الآخرين ، وغيرها من العناوين التي تتداول ، هي موضوعات وأفعال مختلفة ، لكن يتوسّل بمفردات ألفاظ بعضها لإرادة بعضها الآخر تمويها ، ولكلّ منها حكم شرعي وعقلي وأخلاقي يختلف عن الآخر ، فترى بعضهم يدافع ـ بذريعة قبح السبّ ـ حتّى عمّن انحرف عن منهاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتولّاه ، ويعظّمه ، ويتوادده عند ذكره ، ويجعل منه قدوة تحتذى.

فاللازم تحرير معاني هذه العناوين ، ثمّ بيان أحكامها :

أمّا السبّ فهو ـ لغة ـ الشتم وذكر الشخص بعار ونقيصة ، وهو ـ عرفا ـ ذكر الشخص بالألفاظ المستقبحة والشنيعة والمستهجنة والقذرة.

وأمّا اللعن فهو : الطرد عن الرحمة ؛ وقد سمّى الله تعالى ابليس بذلك لأنّه أبلس من رحمة الله ، أي يئس وطرد من رحمته.

وأمّا التبرّي فهو : النفرة ، والقطيعة ، والتباعد ، والتجافي.

وأمّا المداراة فهي : المجاملة ، وإظهار حسن العشرة واللين ، ونحو ذلك على صعيد التعامل. ونحوه الخلق الحسن في العريكة والمعشر. وكذلك الأدب في المعاملة والمخالطة.

وأمّا المحبّة فهي : ميل قلبي وانعطاف نفساني تجاه المحبوب ، والموادّة : بروز المحبّة أو اشتدادها.

والاحترام والتعظيم : إبداء حرمة وعظمة الشيء ـ أو الشخص ـ ووضعه في مكانة ومنزلة مرموقة.

٢٩٣

أمّا كشف الحقائق فإنّه ضروري لتكوين رؤية واقعية صادقة ، ولاستخلاص العبر والمنهاج وإلّا كانت البصيرة زائفة ، وفي هذا المجال لا معنى لطمس ورقة من الحقيقة بذريعة تحاشي الطعن على الآخرين.

أمّا الطعن على الآخرين : فهو إمّا أن يكون كاذبا غير مطابق للواقع ، أو مطابقا إلّا أنّه غير هادف وناشئ عن دواعي متدنّية.

إذا اتّضحت مفاهيم جملة من العناوين المتداولة في البحث فاللازم بيان حكم كلّ منها.

الوحدة والتولّي والتبرّي

أمّا فريضة التبرّي من أهل الباطل والضلال من ذوي العناد فيدلّ عليه قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (٢).

وقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ... لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٣).

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

(٢). الممتحنة / ١.

(٣). الممتحنة / ٤ ـ ٦.

٢٩٤

وفي هذه الآيات يلاحظ الحثّ على إبراز وإظهار البراءة القلبية والنفسية على مستوى العلاقة الخارجية ، نعم في الآية اللاحقة : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (١) ، وهذا ليس تفصيل في المودّة بل في تجويز البرّ والمعاملة الحسنة مع غير المعادين منهم ، وإلّا فالموادّة لا استثناء فيها ، بخلاف المعادين منهم فاللازم إظهار الشدّة معهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(٢).

وقال تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٣).

وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٤) ، والولجة ـ بالتحريك ـ هي المكان الذي يستتر فيه المار عن المطر وغيره ، والولوج هو دخول شيء في شيء باستتار الأوّل في الثاني ، فالوليجة هي : الجماعة التي يحتمي بها الشخص وينضمّ إليها ويتحالف معها.

ولا يخفى تعدّد ألسن البراءة والتبرّي : الأوّل : تحريم الموادّة ، والثاني : تحريم وليجة غير المؤمنين مطلقا ، والثالث : وجوب التبرّي من الأعداء في الدين ، والرابع : حرمة الاستغفار لهم وهو نحو من طلب الرحمة الإلهية لهم.

وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ

__________________

(١). الممتحنة / ٨.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). التوبة (البراءة) / ١١٤.

(٤). التوبة (البراءة) / ١٦.

٢٩٥

أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١).

ويلاحظ في هذه الآيات تقنين المحبّة ـ التولّي والبراءة ـ بتحريم محبّة الأنداد ، والندّ : كلّ من يدعى لغير طاعة الله تعالى ، كما جاء في الروايات ، ويطابق المعنى اللغوي بقرينة السياق ، وأنّ التبرّي من أهل العصيان والطغيان فريضة ، وأنّ هذا العصيان في التولّي والتبرّي يوجب الخلود في النار ؛ وفي ذلك تعظيم لفريضة التولّي والتبرّي ، وأنّها بمثابة الأصول الاعتقادية الموجبة للنجاة مع الطاعة ، وللخلود في النار مع المعصية.

وهذا لسان خامس في هذه الفريضة ؛ قال تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (٢) ، وكان طالوت إماما لبني إسرائيل وجعل متابعته وعدمها مرتبطة بالتولّي والتبرّي.

وكذا قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣) ؛ إذ جعلت المودّة التي هي عماد التولّي لأهل البيت في مصاف أصول الدين بمقتضى تعادل الأجر مع العمل في ماهية المؤاجرة والمعاوضة ، والعمل هو تبليغ الدين ، وهذه الآية جعلت مدار التولّي في الدين والإسلام والإيمان هو موالاة أهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وهو ممّا يقتضي عصمتهم.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ* وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ

__________________

(١). البقرة / ١٦٥ ـ ١٦٧.

(٢). البقرة / ٢٤٩.

(٣). الشورى / ٢٣.

٢٩٦

مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ... إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

وهذه الآيات كآية مودّة القربى حاصرة للتولّي في الدين بالله والرسول والأئمّة أوصياء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اتّفق الفريقان على نزولها في عليّ عليه‌السلام وتصدّقه وهو راكع في الصلاة ، كما تدلّ هذه الآيات على كون التولّي لأئمة الهدى من أهل البيت والتبرّي من الأعداء هو من أصول الإيمان ..

وتدلّ على أنّ فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ـ وهي الفئة التي نشأت في صفوف المسلمين في أوائل البعثة النبوية في مكّة ، كما تشير إلى ذلك سورة المدّثر ، رابع سورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تتولّى أهل الكتاب والكفّار لخوفهم من انقلاب الكفّة لصالحهم على المسلمين ..

كما أنّ الآية تدلّ على أنّ النصرة لهذا الدين ووليّه منحصرة بعليّ عليه‌السلام وولدهعليهم‌السلام بتولّيهم ، وأنّهم حزب الله الغالبون ، وأنّ من يرتدّ عن الدين بترك فريضة التولّي لهم عليهم‌السلام والتبرّي من الكفّار وبقية أعدائهم فسوف يأتي الله بقوم يقومون بفريضة التولّي والتبرّي.

وقد روت العامّة بطرق مستفيضة حديثا بمضمون الآية نفسه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ الإسلام لا يزال عزيزا ما مضى فيهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٢). وفي رواية مسلم : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ... كلّهم من قريش» (٣) ، وفي لفظ آخر في صحيح مسلم : «لا يزال هذا الدين عزيزا متبعا إلى اثني

__________________

(١). المائدة / ٥١ ـ ٥٧.

(٢). جامع الأصول ٤ / ٤٤٠.

(٣). صحيح مسلم ٣ / ١٤٥٢ ح ٦.

٢٩٧

عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (١). وفي رواية أبي داود السجستاني : «لا يزال هذا الدين قائما حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ... كلّهم من قريش» (٢). وفي أخرى : «لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، قال : فكبّر الناس وضجّوا ... كلّهم من قريش»(٣) ، وفي بعضها : «لا يزال أمر أمّتي صالحا حتّى يمضي اثنا عشر خليفة ... كلّهم من قريش» ؛ رواه الطبراني في الأوسط (٤) والكبير ، والبزّار (٥) ، ورجال الطبراني رجال الصحيح ..

وفي الكبير : «لا يزال الإسلام ظاهرا حتّى يكون اثنا عشر أميرا أو خليفة ، كلّهم من قريش» (٦). وفي لفظ آخر : «لا يزال أمر هذه الأمّة هاديا على من ناواها حتّى يكون عليكم اثني عشر أميرا ... كلّهم من قريش» (٧). وفي رواية أخرى : «لا يزال أمر هذه الأمّة ظاهرا ...» (٨). وفي لفظ آخر : «لا يضرّ هذا الدين من ناواه حتّى يقوم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٩). وفي لفظ : «لا تزال أمّتي على الحقّ ظاهرين حتّى يكون عليهم اثني عشر أميرا ، كلّهم من قريش» (١٠). وفي لفظ : «لا تبرحون بخير ما قام عليكم اثني عشر أميرا ... كلّهم من قريش» (١١). وفي لفظ : «لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر ...». وفي لفظ : «لن يزال هذا الدين عزيزا منيعا على من

__________________

(١). صحيح مسلم ٣ / ١٤٥٣ ، ح ٩.

(٢). سنن أبي داود ٤ / ١٠٦ ح ٤٢٧٩.

(٣). سنن أبي داود ٤ / ١٠٦ ح ٤٢٨٠ ، مفتاح المسند عن المسند ٥ / ٨٦ ، ٨٧ ، ١٠٧ ، و ٧ / ٣٩٩ ، و ٥ / ٣٣ ـ طبعة مصر القديمة ، وقد ذكر لها اثنا عشر سندا ؛ نقلا عن شرح إحقاق الحقّ ـ للسيّد المرعشي ـ ٢ / ٣٥٤ ، ولاحظ : ١٣ / ٤٦ فإنّه نقل مصادر أخرى عن فتح الباري وإرشاد الساري.

(٤). المعجم الأوسط ٦ / ٢٨٤ ح ٦٢١١.

(٥). المعجم الكبير ٢٢ / ١٢٠ ح ٣٠٨ ؛ ومسند البزّار ج ٥ ح ١٥٨٤ نقلا عنه.

(٦). المعجم الكبير ٢ / ٢٠٦ ح ١٨٤١.

(٧). المعجم الكبير ٢ / ١٩٧ ح ١٨٠٠.

(٨). المعجم الكبير ٢ / ١٩٦ ح ١٧٩٧.

(٩). المعجم الكبير ٢ / ٢٠٨ ح ١٨٥٢.

(١٠). المعجم الكبير ٢ / ٢٥٣ ح ٢٠٦١.

(١١). المعجم الكبير ٢ / ٢٥٣ ح ٢٠٦٠.

٢٩٨

ناوأه ، لا يضرّه من فارقه أو خالفه حتّى يملك اثنا عشر ، كلّهم من قريش» (١). وفي بعضها: «كلّهم من بني هاشم» (٢). وفي لفظ : «لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٣). وفي لفظ : «لا يزال هذا الأمر صالحا ...» (٤). و : «لا يزال هذه الأمّة مستقيما أمرها ، ظاهرة على عدوّها ، حتّى يمضي منهم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٥). و : «لا يزال هذا الدين قائما ...» (٦). ولاحظ بقية الألفاظ في إحقاق الحقّ (٧).

فتبيّن من آيات سورة المائدة والأحاديث النبوية أنّ عزّة الدين والإسلام وقوامه بالأئمّة من أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ صلاح أمر الأمّة الإسلامية ومضيّه واستقامته هو بالاثني عشر عليهم‌السلام ، وأنّ هدي أمر الأمّة بيدهم عليهم‌السلام.

كما أن غلبة الأمّة على أعدائها وعزّها وبقاءها على الحقّ هو ببركة الذي يقوم به أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، سواء الدور البارز على السطح أو الدور الخفي الذي يتّخذ أشكالا وصورا مختلفة ، وسواء العلمي أو الاجتماعي أو السياسي أو الأمني أو العسكري أو الاقتصادي أو الأخلاقي المعنوي أو باقي المجالات الأخرى ..

وسيأتي أنّ بهم عليهم‌السلام حصل انتشار الإسلام وبأعدائهم حصل توقّف انتشاره ، وبهمعليهم‌السلام تفتّقت بنية الاعتقادات والمعارف الحقّة وبأعدائهم تولّد الزيغ والضلال ، وبهم عليهم‌السلام شيّد للدين منهاجه الأخلاقي والقانوني وبأعدائهم دبّت الأهواء والميول

__________________

(١). المعجم الكبير ٢ / ١٩٦ ح ١٧٩٥ وح ١٧٩٦.

(٢). ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ ٢ / ٣١٥ ح ٩٠٨ و ٣ / ٢٩٠ ح ٤.

(٣). المعجم الكبير ٢ / ١٩٩ ح ١٨٠٩.

(٤). المعجم الأوسط ٤ / ٣٦٦ ح ٣٩٣٨.

(٥). المعجم الكبير ٢ / ٢٥٣ ح ٢٠٥٩ ، المعجم الأوسط ٦ / ٣٤٥ ح ٦٣٨٢.

(٦). المعجم الكبير ٢ / ١٩٩ ح ١٨٠٨ ، ٢٠٧ ح ١٨٤٩.

(٧). إحقاق الحقّ ١٣ / ١١ ـ ٤٩.

٢٩٩

وحصلت الفوضى ، وذلك بيّن واضح لمن أمعن قراءة التاريخ الاجتماعي طوال الأربعة عشر قرنا.

ومن الآيات الدالّة على التولّي والتبرّي قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ* وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ* لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١).

وهذه الآيات تقابل بين المودّة والعداوة ، والمودّة مقرّرة بين المؤمنين والعداوة مع الأعداء ، والولاء مع أهل الحقّ والقطيعة مع أهل الباطل ، وقد تكون الوظيفة حيثية أو نسبية بقدر ما عند الطرف الآخر من اتّباع للحقّ أو اتّباع للباطل.

ومثل هذه الآيات طائفة أخرى دالّة على اتّخاذ العداوة مع الأعداء :

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٢).

وقال تعالى على لسان إبراهيم : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٣).

وقال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤).

وقال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٥).

__________________

(١). المائدة / ٨٠ ـ ٨٢.

(٢). البقرة / ٩٨.

(٣). الشعراء / ٧٥ ـ ٧٧.

(٤). المنافقون / ٤.

(٥). فاطر / ٦.

٣٠٠