الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

الذي جعل في هذه الأمّة من إذا اعوججنا أقام أودنا (١).

والحاصل : إنّ أمثلة هذا العامل كثيرة جدّا يجدها الباحث بمجرّد رجوعه إلى ذاكرته في أحداث العقود الهجرية الأولى التي تلت العهد النبوي الأوّل. نعم ، ليس المراد من وجود هذا العامل أنّه لم تكن للتكتّلات السياسية في صفوف الصحابة ـ من المهاجرين والأنصار ، وائتلاف السقيفة ، والبيت الهاشمي وأنصاره ـ أيّ دور ، إمّا في تغيير وتبديل الخطّة المرسومة من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإمّا في المحافظة على بقائها ؛ إذ الأمور نسبية ، وإنّما الغرض بيان الجانب الغالب.

* وأمّا تعيين وظيفة المسلمين والدولة من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الفتوحات ؛ فقد كان إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح المسلمين لفارس والروم وسقوط ملك كسرى وقيصر على أيديهم ، إخبارا ملأ آذان المسلمين في مواقع عديدة أنبأ فيها بذلك ، كما في حفر الخندق في غزوة الأحزاب (٢) وغيره ، وقد كان وعدا قطعيا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك للمسلمين ، وهذا الوعد الصادق استيقن به المسلمون ، كما رأوا صدق الوعود منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وكان هذا باعثا للأمل ولقوّة الروح فيهم التي لا تستجيب لليأس أو الخوف.

كما إنّ تعيين القرآن الكريم والنبيّ الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الوظيفة للمسلمين كان بيانا لمشروعية الجهاد في نفسه لدى العديد ممّن لم ير مشروعية لما نتج عن بيعة السقيفة. ولقد كان في أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في أيّامه الأخيرة ـ بتجهيز جيش أسامة ، وحثّه على إنفاذه ، ولعنه من تخلّف عنه ، دلالة على مدى العناية الشديدة التي كان يوليها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر الجهاد.

* وأمّا روح الفداء وطلب الشهادة والتضحية ، والتعطّش لدرجات الآخرة والرضوان ؛ فقد كانت ما تزال ملتهبة بفضل أنوار النبوّة وقرب العهد من الوحي ، ومشاهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحيّة في أذهانهم ، ووقائع الغزوات الكبرى في الإسلام ، التي

__________________

(١). مناقب الإمام عليّ عليه‌السلام ـ للخوارزمي ـ : ٩٨ ح ١٠٠.

(٢). انظر : تاريخ الطبري ٢ / ٩٢.

٤٢١

خلّدت أسماء نجوم الشهادة ، فلم تكن هناك تعبئة من القيادة السياسية أو العسكرية للجهاد بقدر ما كانت محاولة تدبير للحالة الاندفاعية الموجودة والحماس الملتهب.

سبب إخفاق الفتوح عن الوصول إلى الوعود الإلهيّة

إنّ المحاولة في التدبير هي التي أضفت لونا على الجهاد والفتوح ، وغيّرت من خلق وغايات هذا الباب ، وساهمت في تقليل حيوية عوامله ومعدّاته ، على نحو تدريجي ، بسبب الممارسات التي ارتكبت ، سواء بالإضافة إلى البلدان المفتوحة وأهاليها ، أو بالإضافة إلى الرموز الخاصّة من القيادات العسكرية وغيرها ، ممّن كانت تربطه بالسلطة علائق معينة ، وسواء على صعيد المال أو الأعراض أو النفوس ..

مضافا إلى إنّ الانفتاح على الأقوام الأخرى كان يتطلّب كفالة شرعية من مختلف الجوانب الروحية والعلمية والتربوية والقانونية والسياسية ، وغيرها من الجوانب التي لم تكن القيادة المركزية مؤهّلة لتلك المهمّة في ظلّ التحديد والحصار لدور الإمام عليّ عليه‌السلام ، حامل علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقيّم الثاني المبيّن للدين ، والوزير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تأسيس الدعوة وتشييدها حتّى آخر لحظات حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

بسبب كلّ هذا لم يكتب للوعد الإلهي في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١) ، الذي تكرّر في ثلاث سور ـ وغيره من الوعود الإلهيّة ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢) ، ووعده تعالى في قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٣) ، وقوله سبحانه : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٤) ـ التحقّق في العاجل.

__________________

(١). التوبة / ٣٢ ، والفتح / ٢٨ ، والصفّ / ٩.

(٢). الأنبياء / ١٠٥.

(٣). القصص / ٥.

(٤). النمل / ٦٢.

٤٢٢

ثمّ انّ الاهتداء الداخلي الذي بدأ عدّه العكسي وأخذ يدبّ في جسد الأمّة ووحدة المسلمين ؛ وقد حذّر منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طوائف من الحديث ، نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما أشرف على أطم من آطام المدينة :

هل ترون ما أرى؟!». قالوا : لا. قال : «فإنّي لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما استيقظ من النوم محمرّا وجهه :

لا إله إلّا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هلكة أمّتي على يدي غلمة من قريش.

فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة ؛ رواه البخاري ، عن ابن سعيد ، عن جدّه ، وقال : فكنت أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا : عسى أن يكونوا منهم (٣).

وقال ابن حجر في فتح الباري ـ بعد نقل الحديث ؛ إذ ذكر البخاري تتمّة له من لعن مروان لأولئك الغلمة ـ :

تنبيه : يتعجّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع إنّ الظاهر أنّهم من ولده ، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون ، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد ، أخرجها الطبراني (٤)

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ٨٦ ح ١١ كتاب الفتن ب ٤ ، ورواه مسلم أيضا في صحيحه ٨ / ١٦٨.

(٢). صحيح البخاري ٩ / ٨٦ ح ١٠ كتاب الفتن ب ٤.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ٨٥ ح ٩ كتاب الفتن ب ٣.

(٤). فتح الباري ١٣ / ١٣ ذ ح ٧٠٥٨.

٤٢٣

وقد رواه مسلم في صحيحه ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

يهلك أمّتي هذا الحيّ من قريش. قالوا : فما ذا تأمرنا؟ قال : لو أنّ الناس اعتزلوهم(١).

قال النووي ـ في شرحه بعد مطابقته بين الروايتين ـ :

إنّ المراد برواية مسلم طائفة من قريش ، وهذا الحديث من المعجزات ، وقد وقع ما أخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقد تقدّم أنّ أبا بكر ابتدأ بتولية ابن أبي سفيان ، وقد أمن بذلك من مواجهة أبي سفيان لتنصيبه في السقيفة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أنا فرطكم على الحوض ، ليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أيّ ربّ أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أنا فرطكم على الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم ، أقول :

إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدّل بعدي (٤).

قال ابن حجر في فتح الباري :

إن كانوا ممّن لم يرتدّ لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٨٦ كتاب الفتن.

(٢). صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ / ٣٥ ح ٢٩١٧.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ٨٣ ح ٢ كتاب الفتن ب ١.

(٤). صحيح البخاري ٩ / ٨٣ ح ٣ كتاب الفتن ب ١.

٤٢٤

اعتقاد القلب ؛ فقد أجاب بعضهم بأنّه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتّباعا لأمر الله فيهم حتّى يعاقبهم على جنايتهم ، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمّته فيخرجون عند إخراج الموحّدين من النار ، والله أعلم (١).

وقد تواصل هذا الاهتداء في نظام الحكم إلى أن وصل إلى الحالة التي أشرنا إليها في عهد عثمان ، فقد أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ـ أخاه من الرضاعة ـ الخمس من غنائم إفريقية في غزوها الأوّل (٢).

قال البلاذري في الأنساب :

لمّا قدم الوليد ـ ابن عقبة بن أبي معيط ابن أبي عمر وبن أميّة ، الذي نزلت فيه آية : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) (٣) ـ الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال ، فاستقرضه مالا ، وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردّ ما تأخذ ، فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثمّ إنّه اقتضاه إيّاه ، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : إنّما أنت خازن لنا ، فلا تعرض للوليد في ما أخذ من المال ، فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذ كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال (٤).

حتّى آل الأمر إلى ليالي بني أميّة وبني العبّاس ونظام حكمهم ، وعن

__________________

(١). فتح الباري ١٣ / ٥ ذ ح ٧٠٥٠ و ٧٠٥١.

(٢). تاريخ ابن كثير ٧ / ١٥٢ ، أنساب الأشراف ٥ / ٢٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٦٧.

(٣). الحجرات / ٦.

(٤). أنساب الأشراف ٥ / ٣٠ ، ولاحظ : العقد الفريد ٢ / ٢٧٢ ؛ وغيرها من الأرقام التي سطّرتها الكتب والسير من هذا القبيل.

٤٢٥

عائشة :

إنّ الخلافة سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر (١).

وروى البخاري ، عن أيّوب ، عن نافع ، قال :

لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إنّي سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة ، وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإنّي لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثمّ ينصب له القتال ، وإنّي لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلّا كانت الفيصل بيني وبينه(٢).

وقد قتل يزيد في العام الأوّل من خلافته سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي العام الثاني استباح المدينة المنوّرة وأهلها ونساءها وفي العام الثالث رجم الكعبة ، بل إنّه أمر بأخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء ؛ مع إنّ البخاري روى في صحيحه ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ... (٣).

من كلّ ما سبق يتّضح جليّا سرّ تركيز عليّ عليه‌السلام في عهده الذي تسلّم فيه مقاليد الأمور على إصلاح الداخل والبناء الذاتي ؛ إذ كيف يدعو الآخرين من الملل الأخرى إلى الدين ، وأبناء الدين الإسلامي أنفسهم لا يعملون به؟! وعطّلوه ومحوا رسومه التي كانت على عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنطق القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ*

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ١٩.

(٢). صحيح البخاري ٩ / ١٠٣ ح ٥٥ كتاب الفتن ب ٢١.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ١١٣ ح ٨ كتاب الأحكام / باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية / باب ٤.

٤٢٦

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (١) و (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢) وقال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

وذكر ابن حجر في فتح الباري في شرح كتاب الفتن ، الذي صدّره البخاري بالآية ، قال : أخرج الطبري من طريق الحسن البصري ، قال : قال الزبير : لقد خوّفنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ظننّا أنّا خصصنا بها ، وقال : عند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ، قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم ؛ فيعمّهم العذاب.

ولهذا الأثر شاهد من حديث عديّ بن عميرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

إنّ الله عزوجل لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة والعامّة (٤).

فإذا لم يحكم العدل في ما بين المسلمين فكيف يطالب غيرهم به؟! وقد روي ـ ما مضمونه ـ :

إنّ قائلا قال للإمام السجّاد عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : أتركت الجهاد في الثغور وخشونته وأقبلت على الحجّ ونعومته؟! وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١). الصفّ / ٢ و ٣.

(٢). البقرة / ٤٤.

(٣). الأنفال / ٢٥ ـ ٢٨.

(٤). فتح الباري ١٣ / ٤ ح ٧٠٤٨.

٤٢٧

فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١) الآية. فقال له زين العابدينعليه‌السلام : أكمل الآية. فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) فقال له زين العابدين عليه‌السلام : إذا وجدت من هم بهذا الوصف فنحن نجاهد معهم (٣)

ويا له من شرط صعب! الحفظ لحدود الله!

ولقد خطب الإمام عليّ عليه‌السلام في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة ، فقال :

ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ؛ فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوّج به النساء ، وفرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق (٤).

فسيف عليّ عليه‌السلام الذي أقيم به صرح الإسلام ، وشيّد به دعائم الدولة الإسلاميّة ، عاد مرّة أخرى لإزالة الأود والعوج الذي حصل في نظام المسلمين السياسي والاجتماعي ، وبناء النموذج الداخلي المثالي للدعوة إلى الإسلام ؛ بل إنّ عليّا عليه‌السلام أقام ـ قبل تسلّمه مقاليد الأمور ـ مرابطا في الخندق العلمي لوجه الدين الإسلامي ، أمام تحدّيات المسائل الحرجة التي ابتليت بها الأمّة ولم يكن لها من يطّلع على حكم الشريعة فيها ، وقد ذكرت المصادر التاريخية الكثير من الموارد لذلك ، وكذا أمام تحدّي الملل والنحل الأخرى (٥).

__________________

(١). التوبة / ١١١.

(٢). التوبة / ١١٢.

(٣). وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد العدو ب ١٢ / ح ٦.

(٤). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٩٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ٨٧.

(٥). لاحظ : ما أخرجه الحافظ العاصمي في كتابه : زين الفتى في شرح سورة (هَلْ أَتى) ، في وفد النصارى ـ

٤٢٨

وننتهي في الفتوحات إلى هذه النقطة : وهي أنّ عقدة الملل الأخرى ـ لا سيّما الغربيّين ـ النفسية والذهنية تجاه الدين الإسلامي ، وعدم إقبالهم عليه ، وعدم البحث عن حلّ لمشاكلهم من منظار ديننا ـ وإن كان له أسباب متعدّدة صاغها أعداء الإسلام والمسلمين ـ مضافا إلى النفسية العدوانية ، والعقلية الاستعلائية التي تصعّر بخدّهم ؛ إلّا إنّ شطرا مهمّا من تلك الأسباب هي ممارسات المسلمين أنفسهم ، وبالخصوص والتحديد هي رواسب الممارسات التي وقعت في فتوحات البلدان ..

فإنّ سلبيّات كيفية الأداء في هذه الفتوحات وما رافقها من تجاوز للموازين الدينية المقرّرة ، التي تحافظ على روح خلق الشريعة ، فإنّ الحفظ لحدود الله تعالى في باب الجهاد وغيره هو الكفيل الأمثل لدخول الناس أفواجا في دين الله تعالى ، والموجب لتحقّق الوعد الإلهي ـ الذي تأخّر إلى هذا اليوم ـ بإظهار الإسلام في كافّة أرجاء المعمورة.

سياسات الخلفاء في بلدان الفتوح

أمّا الثالث فلا نجد حاجة للإشارة إلى عبثه ولعبه (١). وأمّا الثاني فقد كان جملة من ولاته من هم من الطلقاء ، كما تقدّم ، ومن ولاته أيضا : عتبة بن أبي سفيان على الطائف ، وأبو هريرة على البحرين ، وعمرو بن العاص على مصر ، ومعاوية بن أبي سفيان على الشام. وكان من جملة ولاته أيضا من هم من أصحاب السقيفة ، كسعد بن أبي وقّاص على الكوفة ، وأبو موسى الأشعري على البصرة ، وأبو عبيدة بن الجرّاح على موضع من الشام ، وخالد بن الوليد على موضع آخر لفترة.

ولمّا رأى عمر استثراء ولاته قام بمشاطرة أموالهم ، فأخذ منهم النصف وأبقى لهم النصف ، فاعترض عليه أبو بكرة ـ وكان أحد ولاته ـ قال له : والله لإن كان هذا المال لله

__________________

ـ وأسئلتهم لأبي بكر ، وغير ذلك من الوقائع.

(١). لاحظ : الغدير ٨ / ٩٧ ـ ٣٠٠.

٤٢٩

فما يحلّ لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضا ، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر : إمّا أن تكون مؤمنا لا تغلّ ، أو منافقا أفك. فقال له : بل مؤمن لا أغلّ (١). وقد تقدّم دفع عمر الحدّ عن المغيرة بن شعبة لمّا زنى بأمّ جميل.

وقام الشيخان بمنع تدوين الأحاديث النبوية وإحراق الكتب التي جمعت فيها ، والمعاقبة على ذلك بشدّة ، والمنع من نشر وانتشار أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصحابة إلى سائر الأمصار والتابعين (٢) ؛ كما أحرق عمرو بن العاص أكبر مكتبة في الاسكندرية بأمر عمر ؛ ذكر ذلك جرجي زيدان ، واستشهد بقول عبد اللطيف البغدادي والمقريزي والحاج خليفة (٣).

ولقد صدق قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكعب بن عجزة : «أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء. قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال : أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ، ولا يستنّون بسنّتي ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي ولست منهم». الحديث (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه سيكون بعدي أمراء ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منّي ولست منه وليس بوارد حوضي» (٥).

وقد روى الشافعي من طريق وهب بن كيسان ، عن ابن الزبير ، قوله : «كلّ سنن

__________________

(١). شيخ المضيرة : ٨٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٧ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ٢١٨ ، الطبقات ٣ / ٢٢١ ، تاريخ الخلفاء : ٢٤١.

(٢). تاريخ المدينة المنوّرة ٣ / ٨٠٠ ، كنز العمّال ٢ / ٢٨٥ ، تذكرة الحفّاظ ١ / ٧ ، سنن ابن ماجة ١ / ١٢ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ١٢٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٢ ، الطبقات ٦ / ٢ وج ٥ / ١٨١.

(٣). تاريخ التمدّن الإسلامي : ٤٦ ، نقلا عن كتاب مختصر الدول ـ لأبي الفرج الملطي ـ : ١٨ ـ ط بوك أكسفورد.

(٤). المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ٤ / ٤٢٢.

(٥). تاريخ بغداد ٢ / ١٠٧ وج ٥ / ٣٦٢ ، مسند أحمد ٤ / ٢٦٧.

٤٣٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غيّرت ، حتّى الصلاة» (١).

وقد اعترض الصحابة على عمر فعله وسنّته بتقديم بعض الناس على بعض في الأموال بمزية ، كتقديم : زوجات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّهات المؤمنين على غيرهنّ ، والبدري على من سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والعرب على الموالي (٢). وقد كانت سياسة وسنّة عمر بن الخطّاب في الحكم مبنية على التفريق بين العرب والعجم في عدّة أحكام ،

منها : ما تقدّم في العطاء من بيت المال.

ومنها : ما رواه مالك بسنده : أبى عمر بن الخطّاب أن يورّث أحدا من الأعاجم إلّا أحدا ولد في العرب (٣). وهذه العصبية تجلّت في غير هذين الموردين أيضا. وقد ذكر في تقسيم غنائم الفتوح أنّه كان يعطي للهجين سهما وللعربي سهمين ، مع أنّهم أبلوا بلاء حسنا كالعرب (٤).

ومنها : منعه الموالي من دخول المدينة ، ولم يكن دخول أبي لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة إلّا بالتماس من المغيرة ، وكذا آحاد من الموالي.

أخلاقيات السقيفة في الفتوح والحكم

علامات أوقفت انتشار الإسلام

الأولى : ما تقدّم مفصّلا من ريبة القبائل العربية في الجزيرة في الدين بسبب استخلاف أبي بكر وإزواء الخلافة عن أهل بيت النبوة عليهم‌السلام ، وتمرّدهم على أبي بكر ، ووصول الأمر إلى ردّة بعضهم.

__________________

(١). كتاب الأمّ ١ / ٢٠٨.

(٢). الأموال ـ لأبي عبيدة ـ : ٢٢٤ ـ ٢٢٧ ، سنن البيهقي ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، تاريخ عمر بن الخطّاب ـ لابن الجوزي ـ : ٧٩ ـ ٨٣.

(٣). الموطّأ ٢ / ١٢.

(٤). كتاب الفتوح ـ لابن أعثم ـ ١ / ٢١٠ ـ غنائم اليرموك.

٤٣١

الثانية : عصيان أهل البلاد المفتوحة ؛ وتجلّى ذلك في قيام الموالي بقتل الخليفة الثاني بعد أن رأوا أنّهم قد خدعوا بأمل المساواة والعدالة في ظلّ دين الإسلام ؛ إذ وجدوا أنّ نظام السقيفة يستحقرهم ويعدّهم مواطنون في الدين من الدرجات الدانية ، ومن ثمّ بدأت تظهر الحركات والمسارات الشعوبية منادية بإحياء النزعة القومية والعرف العرقي مقابل العرق العربي، فكأنّهم انطبع لديهم أنّ الدين الإسلامي وسيلة اتّخذها العرب للسيادة على الشعوب والقوميات الأخرى ، وهذا الملف الشعوبي طويل الذيل لا يكاد يخلو منه كتاب تاريخ أو كتاب تراجم رجال.

وهكذا الحال بالنسبة لأهل مصر والعراق ؛ إذ ثاروا على الخليفة الثالث فقتلوه عند ما شاهدوا استئثار عشيرته بالمال ، وعيثهم بمقدّسات الدين. بينما نرى أنّ من اغتال عليّعليه‌السلام ليس من أهل البلاد المفتوحة ، بل هو من أصحاب الانحراف الفكري الشذوذي من المسلمين ، وهم الخوارج ، أي أصحاب نظرية فكرية ممسوخة عن ثوابت الدين الحنيف. أمّا الأوّل فذكر أنّه سمّ ، وقيل : لعلّه لتقاطع المصالح بين جماعة السقيفة بين بعضهم البعض ، ولا مجال لذكر مؤشّرات ذلك في المقام.

الثالثة : دخول الروم وأوربا عموما في الدين المسيحي بعد أن كانوا وثنيّين في القرن الثاني الهجري ، كما تذكر المصادر التاريخية وهذه حادثة مرّة على كلّ مسلم ومؤمن.

فأين ذهب نور الدين القويم ، وأين ذهبت جاذبية مباديه العالية؟! وأين هو نور جاذبية سيرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وأين هي ظاهرة : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (١)؟! وأين هو الوعد الإلهي : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٢)؟!

والغريب أنّ الجانب والعامل المؤثّر لدخول البلدان الأوروبية في الديانة

__________________

(١). النصر / ٢.

(٢). الصفّ / ٩.

٤٣٢

المسيحية هو شعار الرحمة والعطف واللين والسماحة ، الذي رفعه القساوسة والأساقفة من رجال المسيحية ، بينما تسامع أهل الروم ومن والاهم من جيوش الفتوح سواء داخل الجزيرة أو في بلاد العراق وفارس ومصر والشام عن سياسات نظام السقيفة في تلك البلدان ، إلى أن بلغت ذروتها في عهد الأمويّين ، التي مرّ علينا بعضا منها في كيفية الممارسات في كلا البعدين في خصوص عهد الشيخين.

والغريب ممّن يبصر الفساد والانحراف في النظام السياسي والديني في عصر الأمويّين والعبّاسيّين ويتعامى عن جذوره في نظام السقيفة!!

الرابعة : بقاء الصورة المظلمة في أذهان كثير من شعوب دول العالم عن دين الإسلام نتيجة الممارسات القديمة على الصعيدين الداخلي والخارجي ، وكذلك الممارسات الحديثة الداخلية في البلدان الإسلامية ؛ فإنّ الملاحظ أنّ عوامل ضعف المسلمين وتضعضعهم واستشراء الفساد في النظام الاجتماعي ترجع بالأساس إلى نوعية الطبقة السياسية الحاكمة ، وهي وليدة عوامل عدّة تتناهى إلى عامل أخير ، هو : المذاهب الدينية المبرّرة لمشروعية الحاكم مهما كانت أوصافه وأحواله ما لم يظهر منه كفرا بواحا ؛ كما روى ذلك البخاري في صحيحه في كتاب الفتن : «والخارج على جماعة المسلمين ونظامهم مهما بلغ في الفساد مهدور الدم» ، إلى غير ذلك من ثوابت مذاهب السقيفة.

٤٣٣
٤٣٤

بین عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدالة الصحابة

هناك جملة من الموارد قد شاقق فيها الثاني النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخالفه ، ويدور الاعتراض والخلاف بين كونه قدحاً; لأنّه ردّ على الله ورسوله ، وبين كونه إنكاراً لعصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ للمحافظة على دفع الطعن على الثاني تحت شعار عدالة الصحابة ، فترتقي العدالة إلى مدافعة عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهي إذاً عصمة باسم العدالة ، بل جعلت تلك الموارد مقاماً وفضيلة للثاني ، وأنّه قد نزل الوحي الإلهي بذلك ـ والعياذ بالله تعالى ـ.

وهذا الزعم ينطوي على تصوّرات ومعتقدات ومزاعم أُخرى :

الأوّل : إنكار عصمة النبيّ (ص) في التدبير التشريعي والسياسي للأُمّة ، وأنّه يتكلّف الرأي!!

الثاني : إنّ للأُمّة الردّ والمخالفة لأحكامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجال التدبير، بعد رفع شعار الفتنة : "إنّها اجتهادات وظنون" ، وأنّ للآخرين الاجتهاد فيها ، وبالتالي فهم قد يصلون إلى ظنون أقوى أو أصوب!!

الثالث : إنّ للمجتهد التمسّك باجتهاداته في الأُصول التشريعية في كتاب الله ، والاقتصار عليها ، ونبذ الأحكام التشريعية النبوية ; ما دامت محتملة لكونها اجتهادات ، ومعرضاً للظنون ، لا الوحي الإلهي!! وهذه الموارد ، مع الطعن عليها بالوضع ; لكذب مواقيت الأحداث المستعرضَة في رواياتها ، وتناقضها مع مسلّمات السيرة ، ومفاد الآيات ، كما سيأتي بيان نبذة من ذلك ; تنطوي وتبتني ـ كما أسلفنا ـ على مذاهب اعتقادية في عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحجّية قول وفعل الأوّل والثاني في عرض حجّية قول وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في دائرة التشريع وسنن الأحكام.

فالحريّ بالبحث هو التعرّض لزيغ تلك المتبنّيات أوّلاً ، ثمّ بيان زيف رسم تلك الوقائع المزعومة ..

٤٣٥

إحداث سُنّة جماعة الخلافة لمقولة اجتهاده :

لقد عنون الجصّاص (ت ٣٧٠ ه‍ ـ) في كتابه الفصول باباً ب‍ ـ : "القول في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هل كان يسنّ من طريق الاجتهاد؟ " ، وهذا العنوان بنفسه يحمل في مضمونه باب جواز الردّ والمخالفة لسنن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إنكار هداية الوحي فيها ..

قال : اختلف الناس في ذلك ; فقال قائلون : لم يكن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يحكم في شيء من أمر الدين إلاّ من طريق الوحي; لقوله تعالى : (وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) (١)

وقال آخرون : جائز أن يكون النبيّ (عليه‌السلام) قد جُعل له أن يقول من طريق الاجتهاد في ما لا نصّ فيه.

وقال آخرون : جائز أن يكون بعض سُنّته وحياً ، وبعضها إلهاماً ، وشيء يُلقى في روعه ، كما قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إن ّ الروح الأمين نفث في روعي : أنّ نفساً لن تموت حتّى تستوفي رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب)).

ويجوز أن يكون بعض ما يقوله نظراً واستدلالا ، وتردّ الحوادث التي لا نصّ فيها إلى نظائرها من النصوص باجتهاد الرأي ..

وهذا هو الصحيح عندنا.

والدليل على أنّه قد كان جُعل له أن يقول من طريق الاجتهاد : قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٢) ، عمومه يقتضي جواز الاستنباط‍ من جماعة المردود إليهم ، وفيهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويدلّ عليه أيضاً : قوله تعالى :(فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ) (٣) والنبيّ من أجلّهم.

ويدلّ عليه : ما حكى الله تعالى من قصّة داود وسليمان (عليهما السلام ، ثمّ قال : (فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً) (٤) ، وظاهره يدلّ على أنّ حكمهما كان

__________________

(١) سورة النجم ٣ : ٥٣ ، ٤.

(٢) سورة النساء ٨٣ : ٤.

(٣) سورة الحشر ٢ : ٥٩.

(٤) سورة الأنبياء ٧٩ : ٢١.

٤٣٦

من طريق الاجتهاد ; لأنّهما لو حكما من طريق النصّ لَما خصّ سليمان بالفهم فيها دون داود (عليهما السلام).

ويدلّ عليه أيضاً : أنّ درجة المستنبطين أفضل درجات العلوم ، ألاّ ترى أنّ المستنبِط‍ أعلى درجة من الحافظ‍ غير المستنبِط‍؟! فلم يكن الله ليحرم نبيّه (ع) أفضل درجات العلم ، التي هي درجة الاستنباط‍ (١).

ثمّ استدلّ أيضاً بقوله تعالى : (وَشٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (٢) وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شاور أصحابه في كثير من الأُمور التي تتعلّق بالدين ، من أمر الحروب وغيرها ;ك‍ ـ : مشورته في النزول في بدر ، ومشورته أبا بكر وعمر في أُسارى بدر ، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى أن يعطي المشركين في الخندق نصف ثمار المدينة ، فكتب الكتاب ، فلمّا أراد أن يشهد فيه وحضر الأنصار قالوا : يا رسول الله! أرأي رأيته أم وحي؟ فقال : بل رأيي. فقالوا : فإنّا لا نعطيهم شيئاً ، وكانوا لا يطمعون فيها في الجاهلية أن يأخذوا منها ثمرة إلاّ قِرىً أو مشرىً ، فكيف وقد أعزّنا الله بالإسلام؟!.

ولمّا أخبره عبد الله بن زيد بما رأى من أمر الأذان أمَر بلالاً فأذّن به من غير انتظار الوحي عليها السلام وقال : ((ولا فرق بين الاجتهاد في أمر الحروب وبينه في حوادث الأحكام)).

وبقوله تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٤) (وعَبَسَ وَتَوَلّٰى * أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ) (٥) وغير ذلك من الآي التي نبّه الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه على موضع إغفاله وعاتبه عليه.

وكذلك قصّة تبليغ (سورة براءة) مع أبي بكر ; فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : أنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك. فدفعها إلى عليّ (ع).

__________________

(١) الفصول في الأصول للجصاص ٩٣/٢.

(٢) سورة آل عمران ١٥٩ : ٣.

(٣) رواه أبو داود في سُننه : كتاب الصلاة ، باب : كيف الأذان ، ١٣٥/١ ح ٤٩٩ ؛ وابن ماجة في سُننه ١/ ٢٣٢ ح ٧٠٦.

(٤) سورة التوبة (براءة) ٤٣ : ٩.

(٥) سورة عبس ١ : ٨٠ و ٢.

٤٣٧

ولمّا رجع من الخندق ووضع السلاح ، فجاء جبرئيل فقال له : إنّ الملائكة لم تضع أسلحتها بعد. وأمره بالمضي إلى بني قريظة.

وقد قيل : إنّ خطأ آدم (عليه‌السلام) في أكل الشجرة كان من طريق الاجتهاد.

ثمّ قال : فإن قال قائل : لو جاز أن يقول النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من طريق الاجتهاد لكان لغيره من الصحابة مخالفته ; لأنّ ما كان طريقه الاجتهاد فكلّ مَن أدّاه اجتهاده إلى شيء لزمه القول به ، وجاز له مخالفة غيره فيه ، وفي اتّفاق جميع المسلمين على وجوب التسليم له في ما قاله وفعله دلالةً على أنّه لا يقول إلاّ وحياً وتنزيلاً؟!

قيل له : الجواب عن ذلك من وجهين :

أحدهما : إنّا قد علمنا أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إذا قال قولاً من طريق الاجتهاد فأغفل موضع الصواب ، نبّهه الله عليه بوحي من عنده ، وغير جائز أن يخلّيه موضع إغفاله ، كما قال تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وكقوله : (عَبَسَ وَتَوَلّٰى) فإذا كان هذا سبيله فغير جائز لأحد مخالفته.

والوجه الثاني : إنّ هذا القائل يوافقنا على أنّ الإجماع قد يكون من طريق الاجتهاد ، وقد يثبت عندنا ذلك أيضاً بالدلائل الصحيحة ، ثمّ إذا انعقد إجماع أهل العصر من طريق الاجتهاد لم يجز لمَن بعدهم أن يخالفهم ، والنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول من طريق الاجتهاد ويكون لاجتهاده مزية لا يحقّ من أجلها لغيره أن يخالفه.

فأمّا قوله تعالى : (وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) فإنّ فيه جوابين:

أحدهما : إنّه أراد القرآن نفسه ; لأنّه قال تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ) (١) قيل في التفسير : معناه : القرآن إذا نزل.

والوجه الثاني : إنّ الاجتهاد لمّا كان مصدره عن الوحي ـ لأنّ الله قد أمر به ، فدلّ عليه ـ جاز أن يقال : إنّ ما أدّاه إليه اجتهاد فهو عن وحي ؛ لأنّه قد أُوحي إليه باستعمال الاجتهاد.

__________________

(١) سورة النجم ١ : ٥٣.

٤٣٨

فإن قيل : لو جاز له الاجتهاد لَما توقّف في كثير ممّا يسأل عنه ينتظر الوحي.

قيل له : هذا لا يدلّ على ما ذكرت ; لأنّه جائز أن يكون توقّفه وانتظاره للوحي من جهة أنّه لم يتوجّه له فيه رأي ، ولا غلبة ظنّ في شيء بعينه ، فتوقّف فيه ينتظر الوحي.

ويجوز أن يكون قد كان يقوى طمعه في مثله : أن ينزل عليه فيه وحي فلم يعجل بالحكم فيه.

ويجوز أيضاً أن يكون قد كان أُوحي إليه في ذلك شيء بعينه بأن لا يستعمل الاجتهاد إذا سئل وينتظر الوحي (١).

وقال في باب : القول في الاجتهاد بحضرة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، بأنّه : جائز في حالين ، وهما : عندما يبتدئهم بالمشاورة ، أو أن يجتهدوا بحضرته ، فيعرضوا عليه رأيهم وما يؤدّيهم إليه اجتهادهم مبتدئين ، فإن رضيه صحّ ، وإن ردّه بطل.

وغير جائز في حال إرادة الاستبداد بالاجتهاد لإمضاء حكم من غير أمر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; لأنّه لم يكن يأمن أن يكون هناك نصّ قد نزل ويمكن معرفته في الحال فيكون في إمضائه الحكم بالاجتهاد تقدّم بين يدي الله ورسوله (٢).

وحكى الآمدي اختلاف أهل سُنّة الخلافة أيضاً في اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما لا نصّ فيه ; فقال :

فقال أحمد بن حنبل ، والقاضي أبو يوسف : إنّه كان متعبّداً به.

وقال أبو علي الجبّائي ، وابنه أبو هاشم : إنّه لم يكن متعبّداً به.

وجوّز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع.

وبه قال بعض أصحاب الشافعي ، والقاضي عبد الجبّار ، وأبو الحسين البصري.

ومن الناس مَن قال : إنّه كان له الاجتهاد في أُمور الحروب ، دون الأحكام الشرعية.

__________________

(١) الفصول في الأصول للجصاص ٢/ ٩٤ ٩٣.

(٢) الفصول في الأصول للجصاص ٢/ ٣٧٦ ٣٧٥.

٤٣٩

والمختار : جواز ذلك عقلا ، ووقوعه سمعاً.

ثمّ ذكر الإمكان العقلي ، حسب زعمه.

ثمّ تمسّك بشمول أدلّة الاجتهاد للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والعياذ بالله تعالى.

وأنّ قوله تعالى (إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ) (١) وما أراه يعمّ : الحكم بالنصّ ، والاستنباط‍ من النصوص.

وأنّ آية : (وَشٰاوِرْهُمْ) إنّما في ما يحكم بالاجتهاد لا بالوحي.

وأنّ قوله تعالى في أُسارى بدر : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٢) عتابٌ للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)!! وأنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : ((لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلاّ عمر))!! لأنّه كان قد أشار بقتلهم ، ممّا يدلّ على أنّه كان بالاجتهاد لا بالوحي.

وكذا قوله تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)!!

وكذا غيره من الأنبياء : كقوله تعالى : (وَدٰاوُدَ وَسُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي الْحَرْثِ (٣) ، وقوله تعالى : فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً).

وما يذكر بالتفهيم إنّما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي.

وما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في مكّة : ((لا يُختلا خلاها ، ولا يُعضد شجرها)). فقال العبّاس : إلاّ الأذْخِر. فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إلاّ الأذْخِر)) ; ومعلوم أنّ الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ، فكان الاستثناء بالاجتهاد.

وما روي أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : ((العلماء ورثة الأنبياء)) ؛ ولو لم يكن الاجتهاد لديه لَما كان العلماء ورثوا عنه.

وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في القضاء : ((إنّكم لتختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض (٤).

__________________

(١) سورة النساء ١٠٥ : ٤.

(٢) سورة الانفال ٦٧ : ٨.

(٣) سورة الأنبياء ٧٨ : ٢١.

(٤) الإحكام في أُصول الأحكام للآمدي ٤٠٠/٤ ٣٩٨.

٤٤٠