الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

نظير في الآيات ، وعلى كلّ حال ، فالآية تقيّد بعدّة قيود ، فلا مسرح لتوهّم الإطلاق.

الموالاة والبراءة

وأمّا قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١)

فالآية تقيّد الاستغفار لمن سبق بالإيمان ، لا لمن سبق بظاهر الإسلام ، وتنفي الغلّ عن الّذين آمنوا. أمّا قوله تعالى :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٢) ، فقد علّل النهي عن الاستغفار لمن يكون من أصحاب الجحيم عدوّا لله العزيز.

وقد بيّنت سور القرآن العديدة المتقدّمة أنّ العديد ممّن صحب النبيّ الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقيه كان من فئات المنافقين ، أو الّذين في قلوبهم مرض ، أو الماردين على النفاق ، أو الّذين يلمزون المؤمنين ، أو الّذين يؤذون النبيّ ، أو المعوّقين عن القتال ، أو المتخلّفين ، أو غيرهم من النماذج السيّئة ، وتوعّدهم الله تعالى بالعذاب واللعن ، وأنّ الكافرين سواء في العاقبة.

فمع كون الاستغفار من المؤمنين محرّم لهذه الفئات التي صحبت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يتوهّم شمول الاستغفار والحبّ لكلّ مكّي ونحوه أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ولكلّ مدنيّ أسلم في الظاهر؟! وقد عرفت أنّ سورة المدّثّر ـ رابع سورة نزلت ـ وسورتي العنكبوت والنحل المكّيّات ، قد تتبّعت وجود فئة محترفة للنفاق منذ أوائل البعثة ،

__________________

(١). الحشر / ١٠.

(٢). التوبة / ١١٣ و ١١٤.

٨١

وأطلقت عليها عنوان : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، ولاحق القرآن الكريم خطواتهم في العديد من السور تحت هذا العنوان وبيّن أهدافهم من إظهار الإسلام والالتحاق بركب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد النهي في العديد من الآيات عن موادّة من حادّ الله ورسوله ، قال تعالى :

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

وقد وصف القرآن العديد من الفئات التي كانت تصحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمحادّة لله ولرسوله ، قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ* لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ* اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (٢).

فترى أنّ القرآن ما يفتأ يلاحق النماذج العديدة من ألوان الّذين في قلوبهم مرض

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

(٢). المجادلة / ٥ و ٨ و ١٤ ـ ٢٠.

٨٢

والمنافقين وأنشطتهم المضادّة لمحور المسيرة الإلهية وهو المسير النبوي.

وفي سورة التوبة المتقدّمة ، المستعرضة لنماذج منهم ـ بعد قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ ... وَمِنْهُمُ ...) ـ : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (١) ومنهم من آذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ابنته فاطمة عليها‌السلام (٢).

فمع هذا كلّه كيف لا يتحرّج المؤمن المتديّن في محبّة كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة ، وكلّ مدنيّ أسلم؟! وقد تقدّم حديث حذيفة الذي رواه مسلم في كتاب المنافقين أنّ أصحاب مؤامرة العقبة ـ بعد غزوة تبوك ـ اثنا عشر هم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

أليس من حادّ الله ورسوله ، وجعل نفسه ندّا لهما ، منافق ذو شقاق لله ورسوله ، فكيف يتّخذونه وليّا ومحبوبا وقد قال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (٣)؟!

فمع كلّ هذا النكير والتحذير القرآني من اتّباع وموادّة من حادّ الله تعالى ورسوله ، من النماذج الطالحة التي كانت تعايش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، أو في ركبه في القتال ، كما

__________________

(١). التوبة / ٦١ ـ ٦٣.

(٢). انظر : مسند أحمد ١ / ٤ و ٦.

(٣). البقرة / ١٦٥ ـ ١٦٧.

٨٣

تذكر ذلك سورة التوبة وغيرها ، وبعضهم ـ كما عرفت من سورة المدّثّر ـ قد التحقوا بالإسلام ظاهريا منذ أوائل البعثة النبوية ، فكيف يستحلّ القائل بالتعميم الموالاة للجميع؟!

* وأمّا الآية الثالثة : فهي قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١)

وقوله تعالى في السورة نفسها :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢).

ولأجل تحصيل مفاد هذه الآيات بدقّة لا بدّ من الالتفات إلى الأمور التالية :

* الأمر الأوّل : إنّه تمّ في صدر السورة الكريمة تقسيم من كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مؤمن ومنافق ، قال تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً* لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً* وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ

__________________

(١). الفتح / ١٨.

(٢). الفتح / ٢٩.

٨٤

مَصِيراً) (١).

فهذه السورة شأنها شأن بقية السور القرآنية تقسّم وتميّز من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صالح وطالح ، ولا تجعلهم فئة واحدة ، كما إنّها تبيّن أنّ السكينة تنزل على المؤمنين دون المنافقين ممّن صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثمّ يتبيّن أنّ الرضا والسكينة في الآية ١٨ منها خاصّة بالمؤمنين الّذين بايعوا تحت الشجرة لا غيرهم ، أي ليس كلّ من بايع فهو مؤمن وقد رضي الله عنه ، فالرضا كفعل أسند وتعلّق بالمؤمنين الّذين وضعوا في صدر السورة في قبال المنافقين ، فهؤلاء الّذين تميّزوا عن أولئك رضي الله عنهم حال مبايعتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وستأتي شواهد أخرى على تخصيص الرضا بهم لا بكلّ من بايع ، إذ ليس لفظ الآية هكذا : «لقد رضي الله عن الّذين يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم» ، أي ليس الرضا لمطلق الّذين بايعوا بل مقيّد ، وقد خصّص الله تعالى ذلك أيضا في قوله :

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢).

بينما لم تعمّ السكينة من كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار كما في قوله تعالى :

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

* الأمر الثاني : إنّ قوله تعالى في سورة الفتح :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى

__________________

(١). الفتح / ٤ ـ ٦.

(٢). الفتح / ٢٦.

(٣). التوبة / ٤٠.

٨٥

نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١)

ترى فيه أنّ الحكم لم يخصّص بإسناد المبايعة إلى خصوص المؤمنين ، بل إلى عموم الّذين بايعوا ، أي الّذين كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحينئذ اشترط عليهم الوفاء بالبيعة وعدم النكث ، وفي الآية إشعار بوجود كلا الفئتين ، ومن ثمّ عرف بين الصحابة اصطلاح «بدّل» و «نكث» في الطعن الذي يوجّهونه على بعض منهم.

ومنه يظهر أنّ الرضا ـ حتّى الذي أسند إلى المؤمنين منهم خاصة ـ مشروط بالوفاء بما عاهدوا الله عليه ، وأنّ الرضا هو لأجل تسليمهم ومبايعتهم لا مطلقا ، و (إِذْ) من قبيل التعليل.

* الأمر الثالث : وهو متّفق مع سابقيه ، وهو أنّ قوله تعالى في آخر السورة :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢)

يصف الّذين معه بالشدّة على الكفّار والرحمة فيما بينهم ، وقد انبأتنا سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسورة الأحزاب وسورة التوبة وغيرها من السور ـ كما تقدّمت الإشارة إلى بعضها ـ إلى وجود فئات من المنافقين والّذين في قلوبهم مرض مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جاء الخوف تدور أعينهم كالمغشيّ عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد ، وإذا جاءت الأحزاب يودّون لو أنّهم بادون في الأعراب ، يقولون بيوتنا عورة ، وإن تولّى أحدهم الأمور العامّة أفسد في الأرض وقطّع الأرحام (٣) ، وأغلظ وكان فظّا مع المؤمنين والمسلمين.

وبهذا يتبيّن أنّ هذه الآية في سورة الفتح تشير إلى مديح فئة خاصّة ، ومعنى خاصّ من «المعية» بمعنى النصرة الصادقة ، ويدلّ على ذلك أيضا تقييد الآية الوعد الإلهي

__________________

(١). الفتح / ١٠.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). لاحظ سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٤٧ : ٢٠ ـ ٢٤ ، وما ذكرناه سابقا.

٨٦

بالمغفرة والأجر العظيم بخصوص المؤمنين العاملين للصالحات ، أي أنّ الآية جاءت بلفظ (مِنْهُمْ) الدالّ على التبعيض وعدم العموم. وهذا ما نطقت به السور جميعها ، فهي تؤكّد على تبعيض المجموع الذي صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سواء في القتال ، أو في السلم حضرا أو سفرا ـ إلى صالح وطالح ، كما إنّ السورة تشترط لحصول المغفرة والأجر العظيم الإيمان والعمل الصالح ، أي الوفاء بالشرط.

* الأمر الرابع : إنّ شأن وقوع بيعة الشجرة ونزول آياتها ـ كما ذكر ذلك في كتب الرواية والتفسير والسير ـ هو ما وقع في صلح الحديبية من عصيان أكثر من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاهم بالحلق والإحلال من الإحرام بعد ما صدّوا عن الاعتمار إلى بيت الله الحرام ، وصار الأمر إلى عقد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلح مع قريش ، والذي كان فيه انتصار كبير لرسول الله وللمسلمين على قريش ـ كما وعد الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلّا أنّ الّذين كانوا في ركبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى أنّهم لم يدركوا الحكمة من ذلك ، لم يسلّموا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، وفي مقدّمتهم أحد الصحابة ممّن يحسب من الخاصة ، فقد ذكرت كتب الصحاح والتواريخ شدّة اعتراضه وردّه لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إنّه ارتاب في دينه ، وقد قال تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١)

وقال :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٢).

ولذلك قدّمنا في بيان آيات سورة الحشر أنّ اصطلاحات (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) ... و

__________________

(١). الحجرات / ١٥ و ١٦.

(٢). الأحزاب / ٣٦.

٨٧

(الصَّادِقُونَ) لا تعمّ كلّ من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان من الكثير ممّن في ركبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حالة عدم انصياع وعدم استجابة وعدم ائتمار ، حتّى دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيمته مغضبا فاستخبرته الحال أمّ سلمة ، فأشارت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبتدر ويحلق فسيضطرّون إلى متابعته ، فلمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم مثل ذلك استوثق منهم بالبيعة تحت الشجرة كي لا يصدر منهم نكول مرّة أخرى ، فالبيعة أخذت لإنشاء التعهّد والوفاء والالتزام بمقتضى الشهادتين التي أقرّوا بها.

ومن ذلك كلّه يفهم أنّ «الرضا» في الآية كان بعد اعتراض كثير من الصحابة ـ ممّن بايع بعد ذلك ـ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحصول حالة من عدم التسليم والنكول بينهم ، وما يوجب السخط الإلهي عليهم ، ومع ذلك فإنّ هذا «الرضا» خصّص بالمؤمنين لمّا بايعوا ، ولم يسند إلى عموم الّذين بايعوا كما عرفت. ومع ذلك أيضا اشترط الوفاء بالبيعة وعدم النكث ، أي الوفاء بالعهد الإلهي حتّى حلول الأجل ، ومع كلّ ذلك ، فقد دلّت السورة الكريمة على مديح بعض من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظة «منهم» في آخر آية منها.

* أمّا الآيتان الرابعة والخامسة : فهي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١).

وقوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).

وقوله تعالى :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ

__________________

(١). النحل / ٤١ و ٤٢.

(٢). النحل / ١١٠.

٨٨

مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

ولأجل إدراك معنى ومفاد الآيات الشريفة لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الآية الثانية المذكورة آنفا من سورة النحل قد سبقتها الآيات التالية : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ* ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا ...) (٢).

ففي هذه الآيات المكّية دلالة على ظهور النفاق قبل الهجرة ، وأنّ هناك من المسلمين من يكفر بالله بلسانه بعد إسلامه مع انشراح صدره بذلك من دون إكراه ، بل حبّا في الحياة الدنيوية الوادعة ، وأولئك مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وهم في غفلة عن الحقّ وهم الخاسرون ، وقيل : إنّها نزلت في عبد الله بن أبي سرح (٣) ، من بني عامر بن لؤي ، لكنّ ظاهر لفظ الجمع في الآيات يعطي أنّها نزلت في مجموعة وفئة تطمع في الأغراض الدنيوية.

هذا ، مضافا إلى ما تشير إليه سورة المدّثّر ، المكّية ـ رابع سورة نزلت ـ من وجود فئة الّذين في قلوبهم مرض في أوائل البعثة في صفوف المسلمين ، وتشير بقية السور إلى ملاحقة هذه الفئة وأهدافها وارتباطاتها بكلّ من الكفّار وأهل الكتاب ، فمن البيّن أنّ (لِلَّذِينَ هاجَرُوا) في هذه السورة لا يراد به كلّ مكّي أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ؛ كيف؟! وهي تقسّم المسلمين إلى فئة صالحة ، وأخرى طالحة تنشرح بالكفر صدرا بعد الإيمان ، حبّا في الدنيا ، مطبوع على قلوبها ، وكذلك سورة المدّثّر السابقة لها نزولا.

بل إنّ في الآية الأولى المذكورة من هذه السورة تقييد الهجرة بكونها في الله ، لا

__________________

(١). التوبة / ١١٧.

(٢). النحل / ١٠٦ ـ ١١٠.

(٣). انظر مثلا : تفسير القرطبي ١٠ / ١٢٦ ، تفسير الدرّ المنثور ٥ / ١٧١.

٨٩

لأجل الأغراض والطموحات الدنيوية وتقلّد المناصب أو بعض الأمور كما هو دأب فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كما تشير إلى ذلك سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الآيات ٢٠ ـ ٢٤ ، بعد ما اطّلعوا على ظفر ونصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العرب ، اطّلعوا على ذلك من أهل الكتاب ، فقد كانوا على صلة بهم كما تشير إلى ذلك سورة المائدة ، الآية ٥٢ ، إذ كان أهل الكتاب على علم بذلك كما قال تعالى عنهم :

(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

وقد سبق أن بيّنّا مفصّلا أنّ الهجرة والمهاجر والنصرة والأنصار في القرآن ليس بمعنى كلّ مكّي ونحوه أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ، كما أنّ اللفظة الثانية ليست لكلّ مدنيّ أسلم في الظاهر وإن شاع ذلك في الأذهان غفلة وخطأ ، فراجع.

وقد تقدّم مفاد الآية الخامسة المذكورة من سورة التوبة ، عند الكلام عن السورة ، فراجع ؛ وأنّها في قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) وأنّ هذه السورة لم تترك فئة أو لونا من ألوان المنافقين إلّا وكشفتهم ، ومن ثمّ سمّيت بعشرة أسماء ، منها : الكاشفة والفاضحة للمنافقين وغير ذلك ، بل ورد فيها أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجاهدة المنافقين على حدّ مجاهدة الكفّار سواء.

عدم إيمان بعض البدريّين

* أمّا الآية السادسة :

فهي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ

__________________

(١). البقرة / ٨٩.

(٢). التوبة / ١١٧.

٩٠

الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) (١)

ويتّضح أنّ هذه السورة كبقية السور القرآنية في تقسيم وتمييز من صحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان في ركبه ، إلى صالح وطالح ، وإلى فئات متنوّعة ، ولكن ينبغي الالتفات إلى بقية آيات السورة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ* وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ* إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢).

كما إنّ في الآيات ٤١ ـ ٤٤ من سورة الأنفال ـ والتي سبقت هذه الآيات ـ نبأ عظيم وإفصاح خطير ، هو أنّ من كان في ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر وأثناء القتال كانوا على ثلاث فئات : فئة مؤمنة ثابتة ، وفئة منافقة ، وفئة الّذين في قلوبهم مرض ـ وهي الفئة التي أشارت إلى وجودها سورة المدّثّر المكّية ، رابع سورة نزلت في أوائل البعثة ، في صفوف المسلمين ـ وكان من الفئتين الأخيرتين ـ لمّا رأتا حشد مشركي قريش وبطرهم وخيلاءهم في غزوة بدر ـ أن قالتا عن الفئة الأولى بأنّها مغرورة بسبب دينهم وهو دين الإسلام ، فلم ينسبوا أنفسهم إلى الدين الإسلامي ، وإنّما جعلوا أنفسهم ـ بذلك ـ على دين المشركين!

والإفصاح هذا في هذه السورة عن معسكر جيش المسلمين الذي كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه منقسم إلى ثلاث فئات ، يبطل كلّ الروايات التي يرويها العامّة حول قدسية

__________________

(١). الأنفال / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢). الأنفال / ٤٥ ـ ٤٩.

٩١

البدريّين ، وأنّ الله قد غفر لهم وإن عملوا ما عملوا ـ فضلا عن كون ذلك مناقض للآيات والسور العديدة المشترطة للوفاء حتّى حلول الأجل والثبات على الإيمان والعمل الصالح ـ كما أنّه يبطل مقولة إنّ كلّ بدريّ أو أحدي فهو مؤمن وممدوح ومرضيّ حاله عند الله تعالى.

وفي الآيتين اللاحقتين المتّصلتين بالآيات التي أوردناها ، يقول تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) وهو تهديد ووعيد لهم بالعقوبة المبتدأ بها عند الموت.

ولأجل ذلك ترى أنّ الخطاب الإلهي في هذه السورة مخصّص وموجّه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذين آمنوا خاصة دون الفئتين الآخريتين ، قال تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ...) (٢) فخصّ ألفة القلوب والمساعدة على النصر والخطاب بالجهاد بالمؤمنين دون الفئتين الأخريين ، فكيف يتوهّم بأنّ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (٣) شامل للمنافقين والّذين في قلوبهم مرض ممّن كان في ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر؟!

وفي هذه السورة آيات أخرى ، وهي قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١). الأنفال / ٥٠ و ٥١.

(٢). الأنفال / ٦٢ ـ ٦٥.

(٣). الأنفال / ٧٤.

٩٢

مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

ففي تفسير ابن كثير عن السدّي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا (٢).

وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أنّ المسلمين البدريّين سيفتنون بفتنة تصيب الجميع، وأنّهم سيمتحنون بها وفيهم الظالمون ، وأنّ من يخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه فإنّ الله شديد العقاب ، وهذه الآيات الكريمة صريحة ـ كذلك ـ في تقسيم وتمييز من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدر وفي أوائل الهجرة إلى المدينة ، وأنّهم يفتنون ، ويكون بعضهم ظالما ، ويخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه.

حال المسلمين في أحد

قال تعالى في سورة آل عمران :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ* إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي

__________________

(١). الأنفال / ٢٤ ـ ٢٧.

(٢). تفسير ابن كثير ٢ / ٢٨٦.

٩٣

أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١).

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢).

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٣)

فهذه الآيات ترسم لنا وتقسّم من كان في ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّ بعضهم كان يريد الدنيا وبعضهم الآخر يريد الآخرة ، وأنّه وقع من كثير من المسلمين فرار بعد ما شاهدوا النصر باستزلال الشيطان لهم بسبب بعض الأعمال السيّئة السابقة ، وأنّ طائفة منهم يظنّون بالله ظنّ الجاهلية ويخفون ذلك في قلوبهم ، وأنّ من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القتال منهم الطيّب ومنهم الخبيث ، وأنّ وقعة أحد كانت للتمييز بينهما.

وهذا خلاف رأي من يدّعي التعميم والمساواة في من صحب ولازم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ التمييز وقع في من كان من المسلمين أحديّ! ومن ذلك يتبيّن أنّ التوصيف بكون الشخص بدريا أو أحديا إنّما يكون منقبة إذا كان من الفئة المؤمنة ، لا ما إذا كان من الفئات الأخرى ، فليس كلّ بدري أو أحدي هو من الفئة المؤمنة الممدوحة ، بل بعضهم من الفئات المذمومة في سورتي الأنفال وآل عمران.

__________________

(١). آل عمران / ١٥٢ ـ ١٥٥.

(٢). آل عمران / ١٧٩.

(٣). آل عمران / ١٤٤.

٩٤

ثمّ إنّ السورة تحذّر ـ أيضا ـ من وقوع انقلاب من المسلمين على الأعقاب برحيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كتب السير أنّ جماعة من المسلمين لمّا شاهدوا الهزيمة وظنّوا أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل ، لاذوا بالفرار وصعدوا الجبل ، واجتمعوا حول صخرة ـ عرفوا بعد ذلك بجماعة الصخرة ـ وقالوا : إنّا على دين الآباء (١) ؛ كي يكون ذلك شافعا لهم عند قريش ، وفي ما سطر في السير ما يلوح أنّهم ممّن يعدّون من أعيان القوم ووجوههم.

والمتأمّل للسور الحاكية للغزوات ـ كما تقدّم في سورة الأحزاب عن غزوة الخندق ، وسورة التوبة عن غزوة تبوك وحنين وغيرهما ـ يجدها ناطقة بلسان التمييز والتقسيم والتصنيف لمن صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشارك في القتال ، وأنّ هناك الفئة الصالحة الثابتة المؤمنة ، وهناك الطالحة وأصناف أهل النفاق ومحترفيه الّذين في قلوبهم مرض.

* أمّا الآية السابعة : فهي قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢)

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤).

وهذه الآيات ـ وما هو من قبيلها ـ يستدلّ بها عندهم على حجّيّة إجماع الأمّة ، أو حجّيّة إجماع الصحابة ، بتقريب أنّهم أوّل المصاديق لهذا العنوان ، ونحو ذلك ، وللوصول إلى المعنى ومفاده في حدود ظهور ألفاظ الآيات لا بدّ من الالتفات إلى النقاط التالية :

__________________

(١). انظر مثلا : السيرة الحلبية ٢ / ٥٠٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٤٤.

(٢). البقرة / ١٤٣.

(٣). آل عمران / ١١٠.

(٤). النساء / ١١٥.

٩٥

الأولى : إنّ الآية الثانية المذكورة آنفا قد ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ أحد وجوه قراءتها أنّها بلفظ (أئمّة) (١) ـ جمع إمام ـ لا (أمّة) ؛ ويعضد هذه القراءة النقاط اللاحقة.

الثانية : إنّ لفظة (أمّة) هي من الألفاظ التي تستعمل في الجماعة كما تستعمل في المجموع ، بل تستعمل في الفرد ، كقوله تعالى :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) (٢)

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣)

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٤)

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٥)

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ ...) (٦)

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧)

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) (٨).

والذي يظهر أنّ المعنى المستعمل فيه للّفظة هاهنا هو بمعنى الجماعة لا المجموع ، وهو أنّ هذه الأمّة الوسط تكون شاهدة على جميع الناس ، والرسول شاهد عليها. ومن البيّن أنّ هذا المقام لا يتشرّف به مجموع الأمّة أو جميع أهل القبلة من الموحّدين ، فهل يجوز أن تقبل شهادة من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر أو على صرّة من بقل ، فيطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟!! كما أشار

__________________

(١). انظر : تفسير القمّي ١ / ١١٨ ، تفسير العيّاشي ١ / ٢١٩ ح ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١ ح ١١٠.

(٢). النحل / ١٢٠.

(٣). البقرة / ١٢٨.

(٤). المائدة / ٦٦.

(٥). الأعراف / ١٥٩.

(٦). الأعراف / ١٦٤.

(٧). الأعراف / ١٨١.

(٨). القصص / ٢٣.

٩٦

إلى ذلك الإمامان الباقر والصادق عليهما‌السلام (١).

لا ريب أنّ الله لم يعن مثل هذا ، بل المراد جماعة خاصة لهم هذا المقام والشأن ، وهم الّذين قال تعالى عنهم : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢) ، فإنّ سنخ اطّلاع هؤلاء على الأعمال وشهادتهم لها لدنّيّة من الله تعالى ، كما إنّ مقتضى ما يعطيه لفظ «الوسط» بقول مطلق هو الوسطية في الصفات والفضائل لا الإفراط ولا التفريط ، فهم النقباء.

كما إنّ الآية السابقة ـ الآية الثانية المذكورة من سورة آل عمران ـ وهي قوله تعالى :

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣) ، فهذه الأمّة الداعية إلى الخير ، والآمرة بالمعروف ، والناهية عن المنكر ، على صعيد الحكم والإمامة هي جزء من مجموع المسلمين ، لا كلّ المجموع.

كما إنّ لفظة (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) تعطي مفهوم خروجها من الأصلاب ، وفيه إشارة إلى دعوة إبراهيم عليه‌السلام حين قال : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٤) وذلك بعد ما حكى الله عنه ما قاله في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٥).

وكما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦) أي جعل التوحيد والعصمة من الشرك كلمة باقية في عقب إبراهيم من نسل إسماعيل ، فكان تقلّب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأصلاب والأجداد الطاهرين من الشرك والوثنية ، قال تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ*

__________________

(١). انظر الهامش رقم ٢ من الصفحة السابقة.

(٢). التوبة / ١٠٥.

(٣). آل عمران / ١٠٤.

(٤). البقرة / ١٢٨.

(٥). البقرة / ١٢٤.

(٦). الزخرف / ٢٦ ـ ٢٨.

٩٧

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (١).

فمن ذلك كلّه يتبيّن أنّ الأمّة المقصودة من الآيتين هي ثلّة من مجموع المسلمين لهم تلك المواصفات الخاصة التي تؤهّلهم إلى ذلك المقام. وكيف يتوهّم أنّ مجموع من أسلم بالشهادتين هو المراد؟! والحال أنّ سورة

آل عمران ـ كما قدّمنا ـ تصنّف من شهد معركة أحد ـ فضلا عن غيرهم ـ إلى فئات صالحة وطالحة ، وكذا ما في بقية السور التي استعرضناها ، وغيرها ، إذ إنّ فيها الذمّ والوعيد الشديد لألوان من الفئات الطالحة ممّن أظهرت الإسلام على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا الآية الثالثة المذكورة ، فهي تجعل الميزان طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدم مشاققته ، وعدم الردّ عليه ، كما في قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

والحال أنّ بعض وجوه من صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ردّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره ، بأنّه غلبه الوجع ، أو : إنّه ـ والعياذ بالله ـ يهجر ؛ وذلك عند ما طلب الدواة والكتف من أجل كتابة كتاب لئلّا تضلّ أمّته من بعده لو تمسّكت به ، والله تعالى يقول : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) ، وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) (٤)!

وذلك على عكس ما حدث عند موت أبي بكر ، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي ، فذكر بعض الكلمات فأغمي عليه ، فأضاف عثمان اسم عمر كخليفة لأبي بكر ، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان! فتثبيت اسم عمر لم يعدّوه هجرا من مثل أبي بكر!! كما إنّهم أخذوا بكلام عمر ـ وهو في مرض موته ـ في تسمية أعضاء الشورى!!

أليس ذلك ردّا ومعصية وشقاقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا

__________________

(١). الشعراء / ٢١٨ و ٢١٩.

(٢). النساء / ٦٥.

(٣). النجم / ٢ ـ ٥.

(٤). النساء / ١٠٥.

٩٨

مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (١) ، وقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢) وكذا تخلّفهم عن جيش أسامة ، وكذا في صلح الحديبية ، وغيرها من الموارد.

ثمّ إنّ الآية تقيّد بقيد آخر وهو اتّباع سبيل المؤمنين ، وقد بيّنت سورة الأنفال أنّ في البدريّين ومن شهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغزوة الأولى فئات ثلاث ، هي : فئة مؤمنة ، وفئة منافقة ، وفئة الّذين في قلوبهم مرض ، وهم محترفو النفاق! فلاحظ ما تقدّم.

وكذا بيّنت سورة آل عمران أنّ من شهد معركة أحد لم يكونوا متساوين في الصلاح ، بل إنّ بعضهم طالح يريد الدنيا ، ويظنّ بالله ظنّ الجاهلية ، لا يثبت بعد موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل ينقلب على عقبيه ؛ كما بيّنت ذلك غيرهما من السور المتعرّضة لبقية الحروب والغزوات كما قدّمنا الإشارة إلى ذلك ، فالفئة المؤمنة المخاطبة في الموارد العديدة ـ بوصف «الهجرة» و «النصرة» كمنقبتين ، وبوصف «الهداية» وغيرها من الفضائل ـ هذه الفئة هي فئة معيّنة خاصة ، لا عامة لكلّ من أسلم في الظاهر وكان في ركب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحرب أو السلم.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة التحريم :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ

__________________

(١). الأحزاب / ٣٦.

(٢). النور / ٥٢.

٩٩

وَأَبْكاراً) (١)

ثمّ قال تعالى في ذيل السورة :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُ وا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ... الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢).

فالمقارنة التي تذكرها هذه السورة بين اثنتين من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهما كانتا في معرض التظاهر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهر لحن السورة أنّ الأمر خطير استدعى هذا التهديد بالقوّة الإلهية وخصوص صالح المؤمنين لا كلّ المؤمنين ، فضلا عن كلّ المسلمين ، وعن كلّ من أسلم في الظاهر ، فما هو سبب تخصيص صالح المؤمنين بمناصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل هذه المواجهة ، وكأنّها كالحرب المعلنة التي نزل ـ في هذه السورة ـ الأمر الإلهي بها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجاهدة المنافقين كما يجاهد الكفّار سواء ، وكذا الأمر بالغلظة عليهم؟! وما هو سبب ذكر صفات من سيبدله الله بهما وتحلّان محلّهما ، وأنّهنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ؛ والتبديل تعويض عن مفقود؟!

وعلى كلّ تقدير ، فإنّ هذا التهديد بالاستنفار في الآية ، الذي هو كاستنفار الحرب والقتال ، لا ينسجم مع تفسير مورد نزول الآية بأنّه بسبب إفشاء لخبر عادي ، بل مقتضى هذه الشدّة في الوعيد أنّ الخبر بمنزلة من الخطورة إلى درجة أنّه يهدّد وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

ثمّ إنّ ذيل السورة قد أفصح فيه أنّ الزوجية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقام الأمومة للمؤمنين ، لا يغني عنهما من الله شيئا إذا لزمتا معصية وخيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائتمار عليه ، كما هو الحال في امرأتي النبيّين نوح ولوط عليهما‌السلام ، وأنّ المدار في الفضيلة هو على التصديق و

__________________

(١). التحريم / ٣ ـ ٥.

(٢). التحريم / ٩ ـ ١١.

١٠٠