الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

أحدهما : صون الأذهان السليمة عن التدنّس بالعقائد الرديّة التي توقعها حكايات بعض الروافض ورواياتهم.

ثانيها : ابتناء بعض الأحكام الفقهية في باب البغاة عليها ، إذ ليس في ذلك نصوص يرجع إليها.

وقال في شرح المتن ـ من توقّف عليّ عليه‌السلام عن نصرة عثمان ـ :

وكذا طلحة والزبير ؛ إلّا أنّ من حضر من وجوه المهاجرين والأنصار أقسموا عليه وناشدوه الله في حفظ بقيّة الأمّة وصيانة دار الهجرة ، إذ قتلة عثمان قصدوا الاستيلاء على المدينة ، والفتك بأهلها ، وكانوا جهلة لا سابقة لهم في الإسلام ، ولا علم لهم بأمر الدين ، ولا صحبة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقبل البيعة.

وقال :

إنّ امتناع جماعة من الصحابة ، كسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد ابن زيد ، وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهم ، عن نصرة عليّ رضى الله عنه والخروج معه إلى الحروب لم يكن عن نزاع منهم في إمامته ، ولا عن إباء عمّا وجب عليهم من طاعته ؛ بل لأنّه تركهم واختيارهم من غير إلزام على الخروج إلى الحروب ، فاختاروا ذلك بناء على أحاديث رووها ...

وأمّا في حرب الجمل وحرب صفّين وحرب الخوارج ، فالمصيب عليّ ، لما ثبت له من الإمامة وظهر من التفاوت ، لا كلتا الطائفتين على ما هو رأي المصوّبة ، ولا إحداهما من غير تعيين على ما هو رأي بعض المعتزلة ، والمخالفون بغاة لخروجهم على الإمام الحقّ لشبهة ؛ لا فسقة أو كفرة على ما يزعم الشيعة جهلا بالفرق بين المخالفة والمحاربة بالتأويل وبدونه ؛ ولهذا نهى عليّ عن لعن أهل الشام وقال : إخواننا بغوا علينا. وقد صحّ رجوع أصحاب الجمل. على أنّ منّا من يقول : إنّ الحرب لم تقع عن عزيمة ، وإنّ قصد عائشة لم يكن إلّا إصلاح ذات البين.

٢١

وقال :

قاتل عليّ رضى الله عنه ثلاث فرق من المسلمين على ما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين :

فالناكثون : هم الّذين نكثوا العهد والبيعة ، وخرجوا إلى البصرة ، مقدّمهم طلحة والزبير ، وقاتلوا عليّا رضى الله عنه بعسكر مقدّمهم عائشة في هودج على جمل ، أخذ بخطامه كعب بن مسعود ، فسمّي ذلك الحرب حرب الجمل.

والمارقون : هم الّذين نزعوا اليد عن طاعة عليّ رضى الله عنه بعد ما بايعوه ...

والقاسطون : معاوية وأتباعه الّذين اجتمعوا عليه ، وعدلوا عن طريق الحقّ الذي هو بيعة عليّ رضى الله عنه والدخول تحت طاعته ، ذهابا إلى أنّه مالا على قتل عثمان حيث ترك معاونته ، وجعل قتلته خواصّه وبطانته ...

والذي اتّفق عليه أهل الحقّ أنّ المصيب في جميع ذلك عليّ رضى الله عنه لما ثبت من إمامته ببيعة أهل الحلّ والعقد ، وظهر من تفاوت إمّا بينه وبين المخالفين ، سيّما معاوية وأحزابه ، وتكاثر من الأخبار في كون الحقّ معه ، وما وقع عليه الاتّفاق ـ حتّى من الأعداء ـ إلى أنّه أفضل زمانه ، وأنّه لا أحقّ بالإمامة منه. والمخالفون بغاة ؛ لخروجهم على الإمام الحقّ بشبهة ، هي تركه القصاص من قتلة عثمان ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية» وقد قتل يوم صفّين على يد أهل الشام ، ولقول عليّ رضى الله عنه : إخواننا بغوا علينا ؛ وليسوا كفّارا ولا فسقة ولا ظلمة ؛ لما لهم من التأويل. وإن كان باطلا ، فغاية الأمر أنّهم أخطئوا في الاجتهاد ؛ وذلك لا يوجب التفسيق ، فضلا عن التكفير ؛ ولهذا منع عليّ رضى الله عنه أصحابه من لعن أهل الشام ، وقال : إخواننا بغوا علينا.

كيف؟! وقد صحّ ندم طلحة والزبير ، وانصراف الزبير عن الحرب ، واشتهر ندم عائشة. والمحقّون من أصحابنا على أنّ حرب الجمل كانت فلتة من غير قصد من الفريقين ، بل كانت تهييجا من قتلة عثمان ، حيث صاروا فرقتين ،

٢٢

واختلطوا بالعسكرين ، وأقاموا الحرب خوفا من القصاص ؛ وقصد عائشة لم يكن إلّا إصلاح الطائفتين ، وتسكين الفتنة ، فوقعت في الحرب.

وما ذهب إليه الشيعة من أنّ محاربي عليّ كفرة ، ومخالفوه فسقة ، تمسّكا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حربك يا عليّ حربي» ، وبأنّ الطاعة واجبة ، وترك الواجب فسق ، فمن اجتراءاتهم وجهالتهم ، حيث لم يفرّقوا بين ما يكون بتأويل واجتهاد ، وبين ما لا يكون. نعم ، لو قلنا بكفر الخوارج بناء على تكفيرهم عليّا رضى الله عنه لم يبعد ، لكنّه بحث آخر.

فإن قيل : لا كلام في أنّ عليّا أعلم وأفضل ، وفي باب الاجتهاد أكمل. لكن من أين لكم أنّ اجتهاده في هذه المسألة ، وحكمه بعدم القصاص على الباغي ، أو باشتراط زوال المنعة ، صواب ؛ واجتهاد القائلين بالوجوب خطأ ؛ ليصحّ له مقاتلتهم؟! وهل هذا إلّا كما إذا خرج طائفة على الإمام ، وطلبوا منه الاقتصاص ممّن قتل مسلما بالمثقل؟!

قلنا : ليس قطعنا بخطئهم في الاجتهاد عائدا إلى حكم المسألة نفسه ، بل إلى اعتقادهم أنّ عليّا رضى الله عنه يعرف القتلة بأعيانهم ، ويقدر على الاقتصاص منهم ... وبهذا يظهر فساد ما ذهب إليه عمرو بن عبيدة وواصل بن عطاء ، من أنّ المصيب إحدى الطائفتين ولا نعلمه على التعيين. وكذا ما ذهب إليه البعض ، من أنّ كلتا الطائفتين على الصواب بناء على تصويب كلّ مجتهد ؛ وذلك لأنّ الخلاف إنّما هو فيما إذا كان كلّ منهما مجتهدا في الدين على الشرائط المذكورة في الاجتهاد ، لا في كلّ من يتخيّل شبهة واهية ، ويتأوّل تأويلا فاسدا. ولهذا ذهب الأكثرون إلى أنّ أوّل من بغى في الإسلام معاوية ؛ لأنّ قتلة عثمان لم يكونوا بغاة ، بل ظلمة وعتاة ؛ لعدم الاعتداد بشبهتهم ، ولأنّهم

٢٣

بعد كشف الشبهة أصرّوا إصرارا واستكبروا استكبارا (١).

فإن قيل : يزعمون أنّ الوقيعة في الصحابة بالطعن واللعن والتفسيق والتضليل بدعة وضلالة ، وخروج عن مذهب الحقّ ؛ والصحابة أنفسهم كانوا يتقاتلون بالسنان ، ويتقاولون باللسان بما يكره ، وذلك وقيعة.

قلنا : مقاولتهم ومخاشنتهم في الكلام كانت محض نسبة إلى الخطأ ، وتقرير على قلّة التأمّل ، وقصد إلى الرجوع إلى الحقّ ؛ ومقاتلتهم كانت لارتفاع التباين ، والعود إلى الألفة والاجتماع بعد ما لم يكن طريق سواه. وبالجملة : فلم يقصدوا إلّا الخير والصلاح في الدين. وأمّا اليوم ، فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلّا التهاون بنقلة الدين ، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته.

وأمّا بعدهم فقد جلّ المصاب ، وعظم الواقع ، واتسع الخرق على الراقع ، الّا أنّ السلف بالغوا في مجانبة طريق الضلال خوفا من العاقبة ، ونظرا للمآل. يعني أنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات ، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ؛ وكان الباعث له الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذّات والشهوات ؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوما ، ولا كلّ من لقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخير موسوما. إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة ، سيّما المهاجرين منهم والأنصار ، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن الظهور

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٣٠٤ ـ ٣٠٩.

٢٤

بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهدّ منه الجبال وتنشقّ الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور ، فلعنة الله على من باشر ، أو رضي ، أو سعى ، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

فإن قيل : فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد ، مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد.

قلنا : تحاميا عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى ، كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ، ويجري في أنديتهم. فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوامّ بالكلّية طريقا إلى الاقتصاد في الاعتقاد ، وبحيث لا تزلّ الأقدام عن السواء ، ولا تضلّ الأفهام بالأهواء ؛ وإلّا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟! وكيف لا يقع عليهما الاتّفاق؟! وهذا هو السرّ في ما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال ، وسدّ طريق لا يؤمن أن يجرّ إلى الغواية في المآل ، مع علمهم بحقيقة الحال وجليّة المقال ؛ وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال ، واشرأبّت الأهوال (١).

تحليل مفاد هذه المقولة والمسألة

لقد أطلنا في نقل عيّنتين ممّا ذكره ابن السبكي في كتابه في أصول الفقه ، والتفتازاني في شرح المقاصد في علم الكلام ؛ لأنّهما نموذجان لكلمات أكثرهم في كتب أصول الفقه وعلم الكلام والحديث ، كالذي ذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم في باب فضائل الصحابة ، أو ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري في تلك الأبواب ، أو الإيجي والجرجاني في شرح المواقف ، وما يذكروه في كتب الرجال والتراجم والتواريخ ،

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٣١٠ ـ ٣١١.

٢٥

وكتب التفسير.

وكلماتهم كما ترى تتراوح بين البحث في عدالة الصحابي ، وبين عصمته عن الخطأ والباطل والضلال ، وإن كانت العصمة عند العامّة ـ في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء ـ هي في حدود تبليغ الأحكام والدين ، لا مطلقا ، فكذلك ما يثبتوه للصحابة!

كما إنّ البحث عن دائرة الصحابة تتراوح بين أقوال لديهم ، من كون الصحابي كلّ من أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن ، أو حدّث عنه ، أو نصره وآزره وبقي معه مدّة طويلة ، أو الثلّة التي أعدّت لبيعة السقيفة ، لا مطلق المهاجرين والأنصار ، أو هم خصوص الثلاثة أو الأربعة من الخلفاء.

والظاهر أنّ محور الدائرة هم الثلاثة ، وأمّا الدوائر الأوسع المحيطة فالحديث عنها يتبع الثلاثة ، كي لا يتصاعد الحديث والطعن عليهم إلى الطعن على الثلاثة ؛ كما أنّ الغاية من البحث ـ أي المفردة الثالثة المقدّرة في هذا البحث ـ هي حجّية أقوالهم وأفعالهم وسيرتهم وسنّتهم ، فقد يتراءى أنّه من باب كاشفيّته عن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن من تجويزهم لاجتهاد الصحابي في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قبال النصّ القرآني أو النبوي بالتأوّل ، أو أنّ قول أو فعل الصحابي يخصّص إطلاق الكتاب وإطلاق السنّة ، أو أنّ للصحابي الاجتهاد إن لم يكن نصّ يقتضي أنّ حجّيّته ليست من باب الرواية ، بل من باب من له التشريع المفوّض له.

وأظهر ممّا تقدّم في ذلك ، تعليلهم لحجّية سنّة خصوص الشيخين بالحديث الذي نسبوه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١) ، وما ينسبونه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «خير أمّتي أبو بكر ، ثمّ عمر» و «ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدّم عليه عنده» (٢) وما ينسبونه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر» فإنّ هذا النمط من

__________________

(١). رواه الترمذي في المناقب ، وابن ماجة في المقدّمة ، وابن حنبل في مسنده.

(٢). ويشهد لوضع هذه الأحاديث تأمير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند وفاته لأسامة بن زيد على الجيش الذي فيه أبو بكر

٢٦

الاستدلال يعطي تفويض التشريع لهما وإمامتهما في الدين ـ كما أسموا الثلاثة أئمّة الدين ـ لا لصحبتهما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرواية عنه كراوين ، ولا كمجتهدين كبقية المجتهدين في الفتيا ، بل كإمامين يسنّان ويشرّعان في الدين ، ويحتذى بهما إلى يوم القيامة. فحجّية قولهما وفعلهما وسيرتهما ـ على ذلك ـ ليس من باب حجّية الإخبار كما في الرواة ، ولا من باب حجّية فتوى المفتي أو المجتهد غير الملزمة لبقية المجتهدين ، بل اجتهادهما ـ على ذلك ـ كاجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي قالوا بتجويزه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ اللازم اتّباعه على كلّ الأمّة ، المجتهدين منهم والعوّام.

ولذلك يستدلّ علماء العامّة كما قال التفتازاني وغيره : «وأمّا السنّة فقوله عليه‌السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» دخل في الخطاب عليّ رضى الله عنه فيكون مأمورا بالاقتداء ، ولا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء ، سيّما عند الشيعة» (١) مع أنّهم يختلفون في حجّية اجتهاد صحابي على صحابي آخر ، ولذلك يعدّونهما وعثمان أئمّة في الدين ، لا صحابة كبقية الصحابة.

وبعبارة أخرى : إنّ حيثية وجهة الصحبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية ما توجب ـ على تقدير عدم الموانع المضادّة ـ الشرف والفضيلة والرواية عنه ، وكذلك البيعة والشورى ـ على ما يقرّر في قول العامّة ـ غاية ما توجب : تولّي الأمر وولاية الأمور التنفيذية ، لا التفويض في التشريع ، ولا العصمة من الزلل والخطل ، ولا صلاحية السنّ في الدين سننا تخلد إلى يوم القيامة.

فهذا النمط من الدعوى في الشيخين ، أو في الثلاثة ، هو صياغة للإمامة بالنصّ ، ولكون الإمامة عهد من الله ورسوله ، فسيتبيّن أنّ العامّة ملجئون فطريا ، وباضطرار الحجّة المنطقية العقلية ، إلى تنظير الإمامة المنصوصة ، وإنّها عهد إلهي ونبويّ ، غاية الأمر أنّهم يطبّقونه على الثلاثة ، ومنضمّا إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كإمام رابع ، وبعضهم يضيف

__________________

وعمر ، وغير ذلك من الوقائع.

(١). شرح المقاصد ٥ / ٢٩٢.

٢٧

الحسن ابن عليّ عليه‌السلام ، وبعضهم يوسّع الدائرة إلى روّاد العلماء في علم وعلوم الدين ، وإنّ اجتهاداتهم لا تردّ!

بيان تردد العامّة في معنى المسألة

فالحكم بفضائل الصحابة وفضيلة الصحبة عنوان فضفاض عائم يتردّد بين أن تعطى الحجّية له كإمام منصوص عليه بالاتّباع له ، وإنّ له تفويض التشريع فيما لا نصّ له ، أو غير ذلك ، أو الحجّية له كمجتهد يجوز عليه الخطأ ، أو كحجّية راو بجانب الحظوة بشرف الصحبة ، مع فرض الوفاء بعهدتها من دون تبديل ونكث.

قال ابن السبكي في جمع الجوامع وشارحه ابن المحلّى في مسألة الإجماع :

وهو اتّفاق مجتهدو الأمّة بعد وفاة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصر على أيّ أمر كان ، فعلم اختصاصه بالمجتهدين ... وعدم انعقاده في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ التابعي المجتهد معتبر معهم ـ فإن نشأ بعد فعلى الخلاف في انقراض العصر .. وإنّ إجماع كلّ من أهل المدينة النبوية ، وأهل البيت النبوي ، وهم : فاطمة وعليّ والحسن والحسين رضي الله عنهم ، والخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم ، والشيخين أبي بكر وعمر ، وأهل الحرمين مكّة والمدينة ... وهو الصحيح في الكلّ ... وقيل : إنّه في ما قبل الأخيرة من الستّ حجّة ..

أمّا في الأولى : فلحديث الصحيحين : «إنّما المدينة كالكير ، تنفي خبثها ، وينصع طيبها» ، والخطأ خبث ، فيكون منفيا عن أهلها. وأجيب بصدوره منهم بلا شكّ ، لانتفاء عصمتهم ، فيحمل الحديث على أنّها في نفسها فاضلة مباركة.

وأمّا في الثانية : فلقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

٢٨

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) ، والخطأ رجس ، فيكون منفيا عنهم ، وهم من تقدّم ، لما روى الترمذي عن عمر بن أبي سلمة ، أنّه لمّا نزلت هذه الآية لفّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم كساء ، وقال : «هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا». وروى مسلم عن عائشة ، قالت : خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فأدخله معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). وأجيب : بمنع أنّ الخطأ رجس ، والرجس قيل : العذاب ، وقيل : الإثم ، وقيل: كلّ مستقذر ومستنكر.

وأمّا في الثالثة : فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي ، تمسّكوا بها ، وعضّوا عليها بالنواجذ» رواه الترمذي وغيره ، وصحّحه وقال : «الخلافة من بعده ثلاثون ، ثمّ تكون ملكا» أي : تصير. أخرجه أبو حاتم وأحمد في المناقب ، وكانت مدّة الأربعة هذه المدّة إلّا ستّة أشهر مدّة الحسن بن عليّ ، فقد حثّ على اتّباعهم ، فينتفي عنهم الخط. وأجيب بمنع انتفائه.

وأمّا في الرابعة : فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، رواه الترمذي وغيره وحسّنه. أمر بالاقتداء بهما ، فينتفي عنهما الخطأ. وأجيب بمنع انتفائه (٢).

وعلّق البناني على قوله : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» :

__________________

(١). الأحزاب / ٣٣.

(٢). حاشية العلّامة البناني على شرح الجلال ـ لابن المحلّى ـ على متن جمع الجوامع ـ لابن السبكي ـ ٢ / ١٧٩ ـ ١٨٠.

٢٩

أخذ من هذا علم الخلفاء في الحديث قبله ، ففيه ما ليس في الذي قبله. واستفيد منه أيضا كون سيّدنا الحسن خليفة ، لتكميله الستّة الأشهر الباقية من الثلاثين ، ومن ثمّ قالوا : إنّه آخر الخلفاء الراشدين بنصّ جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولي الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة، فأقام فيها ستّة أشهر وأيّاما ثمّ خلع نفسه رضى الله عنه وسلّم الأمر لسيّدنا معاوية صونا لدماء المسلمين ، وذلك مصداق قول جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ابني هذا سيّد ، ولعلّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

قال الشهاب : «وقضية اعتبار موافقة سيّدنا الحسن للأربعة» ، وعلّق البناني على قوله : «الثالثة والرابعة» : وأجيب بمنع انتفائه. لقائل أن يقول : لو اقتصر في الاستدلال في الأولى على قوله : «فقد حثّ على اتّباعهم» وذلك يستلزم أنّ قولهم حجّة ، وإلّا لم يصحّ اتّباعهم ، وفي الثانية على قوله : «أمر بالاقتداء بهما» فدلّ على أنّ قوله حجّة ، وإلّا لم يصحّ الاقتداء بهما ؛ لتمّ الاستدلال ولم يلاقه هذا الجواب ، فأيّ حاجة إلى اعتبار انتفاء الخطأ في الاستدلال حتّى توجّه هذا الجواب؟! (١).

وعلّق الشربيني على قول ابن المحلّى ـ الذي تقدّم التعليق السابق عليه ـ :

أي : لأنّ الحثّ على اتّباعهم لا يستلزم أنّ قولهم حجّة ؛ لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم بسنّتي ... ، و : اقتدوا باللذين ... إنّما يدلّان على أهليّة الأربعة والاثنين لتقليد المقلّد لهم ، لا على حجّية قولهم على المجتهد ... ولأنّه لو كان قولهم حجّة لما جاز الأخذ بقول كلّ صحابي خالفهم ، وإنّه جائز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم ؛ ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا شطر دينكم

__________________

(١). حاشية العلّامة البناني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١.

٣٠

عن الحميراء (١) ، فوجب الحمل على تقليد المقلّد جمعا بين الأدلّة. كذا في العضد وحاشيته السعدية ، فاندفع ما في الحاشية هنا (٢).

أقول : من البيّن الجلي أنّ حجّية قول الأوّل والثاني ، أو بضميمة الثالث عندهم ـ بحسب هذه المداولة ـ مردّدة في كلماتهم على الاحتمالات الثلاثة السابقة ، وأنّ ما ذكره البناني من عدم الحاجة في الحجّية لاعتبار انتفاء الخطأ ناشئ من الغفلة عن اختلاف سنخ الحجّية بين الإمام المنصوص عليه ، المعصوم من الخطأ ، وأنّ إمامته كعهد من الله ورسوله المشار إليه في قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣) ، وبين الحجّية لفتوى المجتهد ، التي هي على نمطين عندهم أيضا ... فتارة لا يخطئ وإن كان مدركه ظنّيا ، كما تقدّم نقله قولهم بذلك الذي ذهبوا إليه في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ وأخرى أنّ المجتهد يخطئ ، وبناء على التخطئة فلا يلزم حجّية قوله مطلقا ، كما أنّها لا تشمل المجتهد الآخر. وإذا انفتح باب الخطأ على الثلاثة فلا عصمة في البين ، ويمكن تطرّق المخالفة العلمية أو العملية للأحكام الواقعية.

كما إنّه على فرض كون أقوالهم من باب الاجتهاد ، فلا بدّ من أن تنضبط بموازين الاجتهاد ، لا أن يكون مطلق إبداء الرأي أمام النصّ اجتهادا بذريعة باب التأويل والتأوّل ، فهناك حدّ فاصل بين الاجتهاد وبين مخالفة الكتاب والسنّة ؛ وبين إبداء الرأي وبين الردّ على الرسول ؛ وبين الاجتهاد على الموازين وإن أخطأ وبين الشقاق مع الله ورسوله.

ثمّ إنّه يعزّز هذا الترديد عند العامّة ما اشترطه عبد الرحمن بن عوف على الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يوم الشورى ، قال التفتازاني :

ثمّ جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيد عليّ رضى الله عنه وقال :

__________________

(١). مع أن تحريضها على قتل عثمان وخروجها على عليّ عليه‌السلام ثابت ومقرّر عندهم.

(٢). تعليق (تقرير) الشربيني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ١٨٠.

(٣). البقرة ١٢٤.

٣١

تبايعني على كتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين ، فقال : على كتاب الله وسنّة رسول الله وأجتهد برأيي. ثمّ قال مثل ذلك لعثمان فأجابه إلى ما دعاه ، وكرّر عليهما ثلاث مرّات ، فأجابها بالجواب الأوّل ، فبايع عثمان ... وقول عليّ رضى الله عنه : (وأجتهد برأيي) ليس خلافا منه في إمامة الشيخين ، بل ذهابا إلى أنّه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر ، بل عليه اتّباع اجتهاده ، وكان من مذهب عثمان وعبد الرحمن أنّه يجوز إذا كان الآخر أعلم وأبصر بوجوه المقاييس. (١)

لو سلم تأويل التفتازاني لإباء عليّ عليه‌السلام لسيرة الشيخين ، وأنّه من باب عدم حجّية اجتهادهما ، إلّا أنّه أسقط حجّية سيرتهما مطلقا ، ولم يحتمل فيها أنّها من باب الرواية لاحتمال اطّلاعهما على قول أو فعل للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يطّلع عليه غيرهما.

وبعبارة أخرى : مدّعى العامّة في حجّية قولهما وسيرتهما يتردّد لديهم كما قدّمنا بين ذلك ، فالإعراض عن سيرتهما يعني إسقاط لكلّ وجوه الحجّية المدّعاة في سيرة الشيخين ، ولا يفوت الباحث تذكّر امتناع عليّ عليه‌السلام عن بيعة أبي بكر مع موقفه يوم الشورى هذا. ثمّ إنّ هذا التوجيه من التفتازاني يناقض ما قدّمنا نقله عنه ، من دخول عليّ عليه‌السلام في الخطاب المنسوب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، وأنّه مأمور بالاقتداء بهما (٢) ؛ فإذا كان حجّية قولهما من باب الاجتهاد ، فكيف يجعل الأمر بالاقتداء بهما دالّ على إمامتهما للناس؟! بل اللازم أن يكون الأمر المزبور ـ على تقدير صدق النسبة ـ محمول على حجّية فتوى المجتهد ، لا على كونه عهد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامتهما ؛ وإذا حمله على الإمامة ، فكيف يخالف عليّ عليه‌السلام ذلك؟! فيدلّ إسقاطه لحجّية قولهما على وضع هذا الحديث ، وتدليس نسبته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحو هذا الحديث بقية الأحاديث المدّعاة من هذا النمط.

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٢٨٨.

(٢). شرح المقاصد ٥ / ٢٩٢.

٣٢

الخدشة في أدلة المسألة عند العامّة

ويشهد للوضع ـ لجملة هذه الأحاديث ـ أنّه لو قدّر صدورها فكيف لم يحتجّ بها أصحاب بيعة السقيفة على عليّ عليه‌السلام وجماعته الّذين امتنعوا من البيعة؟! كما لم يحتجّ بها عبد الرحمن بن عوف على عليّ عليه‌السلام يوم الشورى عند ما أبى عليّ عليه‌السلام من اتّباع سيرة الشيخين ، وأبى مشارطة عبد الرحمن ابن عوف على ذلك؟! وأحسب أنّ سبب وقوع التفتازاني وأمثاله في مثل هذه التوجيهات المتدافعة ، إمّا إلى إبهام تباين معاني الحجّية لديهم وعدم تفرقتهم بين الإمامة في الدين كعهد من الله ورسوله ، وبين حجّية فتوى المجتهد ، وبين حجّية إخبار الراوي ..

ويومئ إلى هذا الاحتمال ذهابهم إلى اجتهاد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدين والحكم ـ مع أنّه سيأتي بطلان هذه المزعمة بشهادة الآيات القرآنية ـ ، فإنّه ـ كما سيتّضح ـ يؤول إلى نقص في معرفة حقيقة النبوّة والرسالة ؛ وإمّا إلى تورّطهم في شباك مثل هذه الأحاديث الآحاد في قبال الشواهد التاريخية القطعية والأحاديث المتواترة الأخرى ، مضافا إلى الدأب على الجري على معتقد الآباء!

والمهم : التنبيه على عدم تلاؤم تعليلاتهم المختلفة لحجّية قول الشيخين ، أو الثلاثة ، ولا تفسيراتهم ، لمخالفاتهم لأوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سواء في حياته أو بعدها ، إذ كونهما ذوا امتيازات للإمامة العهدية الإلهيّة ، لا يلتئم مع تعليلهم أنّهما مجتهدان بحسب ما توصّل إليه ، وأنّ لهما التأوّل في خطابات القرآن والسنّة ، وأنّ فعلهما وقولهما حجّة لأنّه يكشف عن اطّلاعهم على قول أو فعل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم نطّلع عليه ولم يصل إلينا.

ثمّ إنّه كيف يجمعون بين مسألة حجّية قول الصحابة وفعلهم ، وبين مسألة حرمة التفتيش عن أحوال الصحابة والفتن التي وقعت بينهم والمقاتلة وترك الخوض فيها؟! فإنّ هذه الحرمة وهذا المنع يتدافع مع الحجّية من جهات عديدة ، ويتناقض ويتقاطع معها بأيّ

٣٣

معنى كان من معاني الحجّية بني عليه!

ولتبيين هذا التدافع ، تأمّل الاعتقاد برسالة النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (١) فإنّه قد جهد المسلمون جهدهم في استقصاء أفعاله وأقواله ، وسيرته وغزواته ، وحركاته وسكناته ، وصلحه وحربه ، ومودّته مع من ، وعدائه مع من ، ورحمه وأهله وعشيرته وولده وزوجاته ، واحتجاجاته ، وصفاته ، وكلّ صغيرة وكبيرة مرتبطة بوجوده الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كلّ ذلك لتقام الحجّة في أقواله وأفعاله ، وتبلغ مسامع المكلّفين ، ويأخذوا بهدي شريعته ، وإلّا فكيف تبلغ الحجّة مع انقطاع الخبر وإبهام الحال؟!

فالحال في حجّية أقوال وأفعال الصحابة وسيرتهم لا بدّ في تحقّقها من دراسة سيرتهم وحياتهم وأقوالهم ، لا سيّما وأنّ ما جرى من الفتن بينهم واقع في المسائل الدينية وما يرتبط بالشرع ، سواء في المسائل الفرعية أو الأصولية المرتبطة بالإمامة والحكم وحفظ الدين وإحراز السنّة النبويّة وتفسير الكتاب ، وبدعية بعض الأفعال من رأس أو ركنيّتها في الدين ، والإقامة على العديد من السنن المقترحة وجعلها معالما للدين.

ولقد كان الاختلاف بينهم والتضليل إلى حدّ المقاتلة ، وهي تعني استباحة كلّ طرف دم الطرف الآخر ، فكلّ طرف يرى الطرف الآخر مقيم على أمر وحال يبيح معه دمه ، فإذا كان زعم العامّة أنّه لا بدّ من ترك الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة ، حفظا لحرمة الصحابة وتعظيما وتجليلا لصحبتهم ، فهذا الخطب أولى الناس بمراعاته ـ في ما بينهم ـ الصحابة أنفسهم ، لا الانتهاء إلى نقيض ذلك من استباحة دم الطرف الآخر ؛ فليس إلّا أنّ الخطب جليل ، أحبط في نظر الطرف الأوّل ما للطرف الآخر من أعمال وسابقة ، وانتفت حرمته إلى استباحة دمه!

فمع كلّ ذلك ، كيف يسوغ لنا الاحتجاج بأقوال وأفعال كلّ من المصيب والخاطئ ،

__________________

(١). الأحزاب / ٢١.

٣٤

والمحقّ والمبطل ، والهادي والضالّ ، والمستقيم الموفي لما عاهد عليه الله ورسوله ، والمبدّل الناكث لما عاهد؟! وهل هذا إلّا جمع بين المتناقضين ، وقلّة الحرج في الدين ، وتهوين لأمر الدين؟! وقول التفتازاني وغيره المتقدّم : «إنّ مقاتلتهم كانت لارتفاع التباين والعود إلى الألفة والاجتماع بعد ما لم يكن طريق سواه. وبالجملة : فلم يقصدوا إلّا الخير والصلاح في الدين. وأمّا اليوم ، فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلّا التهاون بنقلة الدين ، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته». نعم ، كانت لارتفاع التباين والعود إلى ... ولكنّها تقتضي مدافعة الطرف الآخر ولو بإراقة دمه واستباحته ، لإقامته على المنكر والباطل ؛ فهذا يبرهن على المباينة في سيرتهم وأقوالهم ودعوتهم.

وعلى تقدير وجود قصد الصلاح في الدين في كلّ من الطرفين ، فهذا لا يبرّر اتّباع الطرف المقيم على المنكر والباطل ، ومجرّد حسن النية ـ على تقدير التسليم به ـ لا يدلّل على سلامة النهج ، ولا يرفع التباين بين السيرتين والقولين ـ وقد أقرّ بذلك ـ ، فكيف يتّصف بالحجّية كلا الطرفين المتباينين وهو ممتنع ؛ فلا بدّ من الفحص عن المحقّ الهادي إلى سواء السبيل ، قال تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١).

وبعبارة أخرى : إنّ حجّية أقوال وأفعال الصحابة أو الثلّة منهم ، إمّا أن تكون من باب الإمامة المنصوصة من الله ورسوله ، ومن الواضح أنّه مع التباين بينهم لا يمكن أن يكون كلا الطرفين منصوص عليه بالإمامة ؛ وإمّا من باب حجّية قول المجتهد وفتواه ، لكونه من أهل الخبرة ، فمن الواضح أيضا أنّه مع الاختلاف والتقاطع لا بدّ من اتّباع الأعلم والواجد للشرائط المؤهّلة ـ وبنحو الوفور التامّ ـ دون غيره ؛ وإمّا من باب حجّية المخبر في أخباره ، أي حجّية رواية الراوي الثقة ، وهذا أيضا يوجب علينا إحراز صفة الوثاقة والعدالة عند أحد المتنازعين ، لا سيّما وأنّ النزاع مستفحل شديد قد وصل إلى استباحة الدم.

__________________

(١). يونس / ٣٥.

٣٥

الأحاديث النافية للمسألة

ثمّ إنّه يكفي الباحث نظرة في كتاب الفتن من الصحاح لديهم ، كي يصل إلى هذه النتيجة من لزوم التمحيص والفحص عن الطرف المحقّ ـ في الصحابة ـ من الطرف المبطل.

* فقد روى البخاري في الباب الأوّل من كتاب الفتن ، عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ معي رجال منكم ، ثمّ ليختلجنّ دوني ، فأقول : يا ربّ! أصحابي؟! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١). فهذا دالّ على إحداث من بعض الصحابة بعده ، وظاهر الحديث أنّ هؤلاء الصحابة ممّن كانوا قد استمعوا خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاستعماله كاف الخطاب.

* وروى البخاري عن سهل بن سعد ، أنّه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم». وزاد أبو سعيد الخدري : «فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» (٢).

وهذا الحديث ـ أيضا ـ دالّ على تبديل بعض الصحابة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهر الحديث هو كون صحبة هؤلاء الصحابة ـ المعنيّين بالحديث ـ كانت وثيقة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعرفته وطيدة بهم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعرفهم ويعرفوني».

أقول : كيف تلتئم هذه الأحاديث مع ما يزعمونه من حديث «أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم»؟! إلّا أن يكون في الحديث سقط أسقط!!

* ويروي في الباب الثاني عن عبد الله ، قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّكم سترون

__________________

(١). صحيح البخاري ٨ / ٢١٤ ح ١٥٧ ، وانظر : فتح الباري ١١ / ٥٦٦ ح ٦٥٧٦.

(٢). صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ح ١٦٤ ، وانظر : فتح الباري ١١ / ٥٦٧ ح ٦٥٨٣.

٣٦

بعدي أثرة وأمورا تنكرونها ...» الحديث (١). وهذا الحديث يدلّ على وقوع أثرة وحرص على طلب الدنيا ، وكذا وقوع الأمور المنكرة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٢). وستأتي الإشارة في سورة الفتح إلى ذلك ، في من بايع بيعة الرضوان.

* وروى في الباب السادس ، أنّ أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : «استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل وهو يقول : لا إله إلّا الله ، ما ذا أنزل الليلة من الفتنة؟! ما ذا أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ؟! كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة!» (٣). ففي شرح ابن حجر العسقلاني على الحديث قال : قال ابن بطّال :

«قرن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنّها تسبّب عنها ، وإلى أنّ القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة ...» (٤). أي أنّ الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال ، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه ، وأن يبخل به فيمنع الحقّ ، أو يبطر صاحبه فيسرف ، فأراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحذير أزواجه من ذلك كلّه.

أقول : وستأتي الإشارة في سورة الأنفال وغيرها إلى أنّ غرض وغاية جمع من الصحابة في غزوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عرض الحياة الدنيا ومتاعها من الغنائم ، فضلا عن الفتوحات التي وقعت بعده ، ويكفيك لإثبات ذلك رصد ما ترك العديد من الصحابة من أموال وثروات طائلة عند موتهم.

* وروى في الباب الثامن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ٨٤ ح ٤ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٥ ح ٧٠٥٢.

(٢). آل عمران / ١٤٤.

(٣). صحيح البخاري ٧ / ٢٧٩ ح ٦٢.

(٤). فتح الباري ١٠ / ٣٧٢ ح ٥٨٤٤.

٣٧

رقاب بعض» (١).

* وروى في الباب الثامن عشر عن أبي بكرة ، قال : «لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام الجمل ، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم ، قال : لمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى ، قال : «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» (٢).

* وروى عن الأسدي ، قال : «لمّا سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث عليّ عمّار بن ياسر وحسن بن عليّ فقدما علينا الكوفة ، فصعد المنبر ، فكان الحسن بن عليّ فوق المنبر في أعلاه ، وقام عمّار أسفل من الحسن ، فاجتمعنا إليه ، فسمعت عمّارا يقول :

إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة ، وو الله إنّها لزوجة نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي؟!» (٣).

أقول : وستأتي الإشارة في سورة الأحزاب إلى أمر نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرّ في البيوت.

* وروى في الباب الواحد والعشرين عن حذيفة بن اليمان ، قال : «إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون» (٤) ؛ فيا ترى إلى من يشير حذيفة؟! وما هو السبب في حرّية الأجواء السياسية للمنافقين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى صاروا يجهرون آمنين على أنفسهم بينما كانوا في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متستّرين خائفين؟!

* وروى مسلم في صحيحه ، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، عن قيس ، قال:

__________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ١٤ ذ ح ٣٩٥ وح ٣٩٧ ، انظر : فتح الباري ٨ / ١٣٥ ح ٤٤٠٥ وج ١٢ / ٢٣٥ ح ٦٨٦٩.

(٢). صحيح البخاري ٦ / ٢٧ ح ٤١٧ ، ج ٩ / ١٠٠ ح ٤٧ ، فتح الباري ٨ / ١٦٠ ح ٤٤٢٥ وج ١٣ / ٦٧ ح ٧٠٩٩.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ١٠٠ ح ٤٨ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٦٧ ح ٧١٠٠.

(٤). صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٧ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٨٦ ح ٧١١٣.

٣٨

«قلت لعمّار : أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليّ ، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ؛ وأربعة لم أحفظ» (١).

وعمّار رضى الله عنه يشير هنا إلى أنّ النصوص من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام ليست خفيّة ، خاصّة عندنا ـ أي الصحابة ـ بل هي منتشرة عند الناس ، من حديث الغدير وغيره ، وكان سبب تولّيه لعليّ عليه‌السلام من بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من يوم السقيفة إلى يوم قتل عثمان ـ فقد صنّف عمّار في من دبّر ذلك ، كما ذكرت ذلك كتب التواريخ ـ إلى يوم الجمل وصفّين ، وصريح الحديث الذي يرويه عمّار عن حذيفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّ في خاصة الصحابة اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنّة ، وأنّ عمّارا رأى هؤلاء الاثني عشر في من ناوأ وعادى عليّا عليه‌السلام.

ثمّ إنّ هذا الحديث صريح في أنّ ما أتى به الصحابة الّذين تولّوا عليّا وناصروه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى استشهاده عليه‌السلام كان بتصريح ونصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنفاق مناوئيه وأعدائه ، ولم يكن باجتهاد رأي رأوه كما يقول بذلك علماء العامّة في حكمهم بعدالة الصحابة الّذين ناوءوا الإمام عليّا عليه‌السلام وقد روى مسلم هذا الحديث بطريق آخر فلاحظ (٢).

* وروى عن أبي الطفيل ، قال : «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك! قال : كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد،

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

٣٩

وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا علمنا بما أراد القوم ؛ وقد كان في حرّة فمشى فقال : إنّ الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ» (١).

والمراد بالعقبة عقبة على طريق تبوك التي اجتمعت تلك العدّة للغدر والفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك وقد أشار الله تعالى إليها في سورة التوبة ، ومن الملاحظ أنّ السائل من تلك العدّة التي تقطن المدينة دار الهجرة ، وأنّهم لم يكونوا ظاهري النفاق عند الجميع ، ولاحظ كتب التاريخ في معرفة السائل الذي سأل حذيفة عن تلك العدّة.

* وروى مسلم ـ بعد باب خصال المنافق ـ بابا في أنّ حبّ الأنصار وعليّ عليه‌السلام من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق ؛ فعن زرّ ، قال : قال عليّ : «والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ أن لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق» (٢).

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٢٣.

(٢). صحيح مسلم ١ / ٦١.

٤٠