الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

وشنئتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحا لفلول الحدّ ، وخور القناة ، وخطل الرأي ، و (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) (١) ، لا جرم لقد قلّدتهم ريقتها ، وشنت عليهم عارها ، فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين.

ويحهم! أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوّة ، ومهبط الوحي الأمين ، والطبين بأمر الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزوجل.

والله لو تكافئوا عن زمام نبذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه لاعتلقه ، ولسار بهم سيرا سجحا ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا ، تطفح ضفتاه ، ولأصدرهم بطانا ، قد تحرّى بهم الريّ غير متحلّ منه بطائل إلّا بغمر الماء وردعه شررة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٢).

ألا هلمّ فاستمع! وما عشت أراك الدهر عجبا! وإن تعجب فعجب قولهم! ليت شعري إلى أيّ سناد استندوا؟! وعلى أيّ عماد اعتمدوا؟! وبأيّة عروة تمسّكوا؟! وعلى أيّة ذرّيّة أقدموا واحتنكوا؟! لبئس المولى ولبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغما لمعاطس قوم (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣) ، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (٤) ويحهم! (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا

__________________

(١). المائدة / ٨٠.

(٢). الزمر / ٥١.

(٣). الكهف / ١٠٤.

(٤). البقرة / ١٢.

١٤١

يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١) أما لعمري لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القعب دما عبيطا وزعافا مبيدا ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفسا ، واطمئنّوا للفتنة جأشا ، وأبشروا بسيف صارم ، وسطوة معتد غاشم ، وبهرج شامل ، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم ، وأنّى بكم وقد عمّيت عليكم؟! (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢)؟! (٣)

فتحصّل أنّها عليها‌السلام لا ترى مجرّد الهجرة والنصرة دليلا على الاستقامة والصلاح وحسن العاقبة والخاتمة ، بل لا بدّ من الإقامة على شروط العهد والمواثيق التي أخذها عليهم الله تعالى ورسوله ، من الإقرار بالتوحيد والرسالة والولاية لأهل بيته ومودّتهم ونصرتهم. وهذا عين ما تقدّم استفادته من الآيات العديدة ، والروايات النبويّة التي رواها أهل سنّة الجماعة ، نظير روايات العرض على الحوض من أنّ بعض الصحابة يزوون عنه إلى جهنّم فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ربّ أصحابي! فيجاب : إنّهم بدّلوا بعدك وأحدثوا ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعدا بعدا سحقا سحقا.

وروى ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة والسياسة : أنّ عليّا عليه‌السلام خرج يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابّة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : أفكنت أدع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). يونس / ٣٥.

(٢). هود / ٢٨.

(٣). معاني الأخبار / ٣٥٤ ـ ٣٥٦ ، الأمالي ـ للطوسي ـ ٣٧٤ مج ١٣ ح ٥٥ ، الاحتجاج ١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٢ ، بحار الأنوار ٤٣ / ١٥٨ ـ ١٦٠.

١٤٢

في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟! فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

وروى ـ بعد ما ذكر هجوم عمر وجماعته على بيت فاطمة لإخراج عليّ عليه‌السلام للبيعة ـ أنّ عمر قال لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعا فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّا فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها ، فلم تردّ عليهما‌السلام.

فتكلّم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله! والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله؟! إلّا أنّي سمعت أباك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا نورث ما تركناه ، فهو صدقة.

فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرفانه وتفعلان به؟! ؛ قالا : نعم.

فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟! قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالت : فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه. فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة.

ثمّ انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة أصليها. ثمّ خرج باكيا ، فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كلّ رجل منكم معانقا حليلته ، مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي» (١).

__________________

(١). الإمامة والسياسة / ١٣ و ١٤.

١٤٣
١٤٤

٦

موقف امير المؤمنين عليه‌السلام

تجاه الصحابة

١٤٥
١٤٦

ورد في كتاب للإمام عليّ عليه‌السلام إلى معاوية ـ جوابا على كتاب له ـ ما نصّه :

كان أشدّ الناس عليه [على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] تأليبا وتحريضا هم أسرته ، والأدنى فالأدنى من قومه إلّا قليلا ممّن عصمه الله منهم. وأنّ الله اجتبى لرسول الله من المسلمين أعوانا أيّده بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم في الإسلام ـ كما زعمت ـ وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصدّيق ، ومن بعده خليفة الخليفة الفاروق.

ثمّ قال : وما أنت والصدّيق؟! فالصدّيق من صدّق بحقّنا وأبطل باطل عدوّنا ، وما أنت والفاروق؟! فالفاروق من فرّق بيننا وبين عدوّنا. وذكرت أنّ عثمان بن عفّان كان في الفضل ثالثا ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره. ولعمر الله ، إنّي لأرجو إذا أعطى الله المؤمنين على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا أهل البيت في ذلك الأوفر.

إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له كنّا أهل البيت أوّل من آمن به وصدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا كاملة مجرّمة تامّة وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب أحد غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبيّنا ، واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا الميرة ، وأمسكوا عنّا العذب ،

١٤٧

وأحلسونا الخوف ، واضطرّونا إلى جبل وعر ، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا علينا بينهم كتابا : لا يؤاكلوننا ، ولا يشاربوننا ، ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ، ولا يكلّموننا ، ولا نأمن فيهم حتّى ندفع إليهم نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقتلوه ويمثّلوا به ؛ فلم نكن نأمن فيهم إلّا من موسم إلى موسم. فعزم الله لنا على منعه ، والذبّ عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف ، وبالليل والنهار ؛ فمؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل.

وأمّا من أسلم من قريش بعد ، فإنّه خلوّ ممّا نحن فيه بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهو من القتل بمكان نجوة وأمن ؛ فكان ذلك ما شاء الله أن يكون. ثمّ أمر الله تعالى رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا احمرّ البأس ، ودعيت نزال ، وأحجم الناس قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرّ السيوف والأسنّة ، فقتل عبيدة ابن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر وزيد يوم مؤتة ، وأسلم الناس نبيّهم يوم حنين غير العبّاس عمّه وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ابن عمّه ، وأراد من لو شئت يا معاوية ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مرّة ، ولكنّ آجالهم عجّلت ومنيّته أجّلت ، والله وليّ الإحسان إليهم ، والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات.

وأيم الله ما سمعت بأحد ولا رأيت من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه ، ولا أصبر على اللأواء والضرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هؤلاء النفر من أهل بيته الّذين سمّيت لك ، وفي المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم الله خيرا بأحسن أعمالهم.

وذكرت حسدي على الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ؛ فأمّا الحسد

١٤٨

والبغي عليهم ، فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته ، بل أنا المحسود المبغي عليه ؛ وأمّا الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم ، فإنّي لست أعتذر منه إليك ولا إلى الناس ؛ وذلك لأنّ الله جلّ ذكره لمّا قبض نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلف الناس ، فقالت قريش : منّا الأمير ، وقالت الأنصار : منّا الأمير ؛ فقالت قريش : منّا محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنحن أحقّ بالأمر منكم ؛ فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لقريش الولاية والسلطان ؛ فإذا استحقّوها بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الأنصار ، فإنّ أولى الناس بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ بها منهم ، وإلّا فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا. فلا أدري أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقّي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا؟! بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ. (١)

ويتّضح من كلامه عليه‌السلام إنّ الصدق والصدّيقية في الصحبة والصحابة إنّما هي بالإقامة على العدل والوفاء بمواثيق الله ورسوله التي أخذت في الكتاب والسنّة عليهم ، وهي التسليم لأهل البيت بالولاية والمودّة ، وإنّهم ولاة الفيء والأنفال والخمس ، وإنّهم الثقل الثاني الواجب التمسّك بهم أعدال الكتاب ، فيتولّى أهل البيت ويبرأ من أعدائهم ، والفاروق من يميّز بين الحقّ الثابت لأهل البيت وبين الباطل الذي عند عدوّهم.

وإنّ أشدّ الناس عناء وبلاء وجهدا في الجهاد والذبّ عن حوزة وحومة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم أهل بيته ، وإنّهم أوّل الناس إيمانا به قبل أن يؤمن به أصحابه من قريش أو الأنصار ، فقد سبق أهل البيت جميع الصحابة سنينا وأعواما ، وهم الّذين تحمّلوا أعباء الرسالة في المرتبة الأولى ، وهم الّذين قدّموا الشهداء في الصفوف الأولى ، فلا تشهد الحروب لأبي

__________________

(١). نهج البلاغة : كتاب ٤٩. ط مؤسّسة الإمام صاحب الزمان عليه‌السلام ـ تحقيق السيّد الموسوي ـ ، وهي الطبعة المعتمدة في التخريجات اللاحقة ؛ وقد ذكر للكتاب ولبعض ما ورد فيه مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين. وانظر : شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٤ ـ ٧٨ آخر شرح الكتاب ٩ ، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ / ١٧٢ ـ ١٨٦ الكتاب ٧٠.

١٤٩

بكر وعمر وعثمان وبقيّة الصحابة من قريش ممّن اجتمع في السقيفة أو الأنصار ثباتا في حرب ، كيوم حنين وغيرها ؛ فأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم أنصح وأطوع وأصبر لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم مع ذلك أقرب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحقّ الناس بخلافته.

وقال عليه‌السلام في كتاب آخر له إلى معاوية ـ جوابا على كتابه الذي ذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ـ :

فلقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا ؛ إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدّده إلى النضال .. وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه. وما أنت يا ابن هند والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء ، والأحزاب وأبناء الأحزاب ، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات ، لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها!

ألا تربع ـ أيّها الإنسان ـ على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟! فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر ، وإنّك لذهّاب في التيه ، روّاغ عن القصد. ألا ترى ـ غير مخبر لك ، ولكن بنعمة الله أحدّث ـ أنّنا قد فزنا على جميع المهاجرين كفوز نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر النبيّين؟! أو لا ترى أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ولكلّ فضل ، حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ، ووضعه بيده في قبره؟! أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل ، حتّى إذا فعل بواحد ناما فعل بواحدهم قيل : الطيّار في الجنّة وذو الجناحين؟!

أو لا ترى أنّ مسلمنا قد بان في إسلامه كما بان جاهلنا في جاهليّته ، حتّى

١٥٠

قال عمّي العبّاس بن عبد المطّلب لأبي طالب :

أبا طالب! لا تقبل النصف منهم

وإن أنصفوا حتّى نعقّ ونظلما

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

صوارم في أيماننا تقطر الدما

تركناهم لا يستحلّون بعدها

لذي حرمة في سائر الناس محرما (١)

ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السامعين.

فدع عنك يا ابن هند من قد مالت به الرميّة! فإنّا صنائع ربّنا ، والناس بعد صنائع لنا ، لم يمنعنا قديم عزّنا ، ولا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ، ولستم هناك. وأنّى يكون ذلك كذلك؟! ومنّا المشكاة الزيتونة ومنكم الشجرة الملعونة ، ومنّا النبيّ ومنكم المكذّب ، ومنّا أسد الله ومنكم طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا هاشم بن عبد مناف ومنكم أميّة كلب الأحلاف ، ومنّا الطيّار في الجنّة ومنكم عدوّ الإسلام والسنّة ، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النار ، ومنّا خير نساء العالمين بلا كذب ومنكم حمّالة الحطب ، في كثير ممّا لنا وعليكم.

فإسلامنا ما قد سمع وجاهليّتكم لا تدفع ، والقرآن يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله ـ سبحانه وتعالى ـ (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٢)

__________________

(١). أوردها ابن عساكر في تاريخه ٢٦ / ٢٨٥ وزاد عليها غيرها ، وفي تصحيفات المحدثين : ١٣٩ ذكر البيتين الأوّليين.

(٢). الأنفال / ٧٥.

١٥١

وقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (١) فنحن مرّة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة ؛ ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ، وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

وقلت : إن كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع .. ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت. وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ... (٢).

فهو عليه‌السلام يفضّل ذوي القربى الّذين آزروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفادوه بأرواحهم وبكلّهم على جميع المهاجرين والأنصار ، وذلك لكونهم أولى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحما ، وأشدّ الناس متابعة ونصحا وطاعة ونصرة له ، كما تشير إليه الآيتان اللتان استشهد عليه‌السلام بهما ، ومن ثمّ قدّم القرآن ذوي القربى مصرّحا في آية الفيء بقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَ ...).

وكذلك في آية الخمس ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى

__________________

(١). آل عمران / ٦٨.

(٢). نهج البلاغة : الكتاب ٥٩ ، وقد ذكر للكتاب ولبعض ما ورد فيه مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين. وهو برقم ٢٨ في الطبعة المعروفة.

١٥٢

عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فخصّ تعالى ذوي القربى بالمقام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرنهم به وبذاته المقدّسة دلالة على تشريفهم ولزوم طاعتهم وأحقّيّتهم بالأمر دون غيرهم ، فكرّر اللام التي للاختصاص وملكية التصرّف لذاته تعالى ولرسوله ولذي القربى دون غيرهم ، دلالة على منصب ذوي القربى الخاص في الولاية على الأموال والأمور العامّة.

وقال تعالى مخاطبا نبيّه : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) كما خصّهم بالذكر في الأمر بالمودّة ، وجعله أجرا لكلّ الرسالة والدين وعدلا لمجموع الإسلام الحنيف حين قال تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وقال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١) وقال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) (٢) ، فبيّن تعالى أنّ مودّة وولاية ذوي القربى هي السبيل إليه تعالى ، وهي لنفع جميع المسلمين وصلاحهم وكمالهم. فلم يدرجهم تعالى مع سائر المهاجرين والأنصار مع إنّ ذوي القربى هم أوّل الناس هجرة إلى الله ورسوله وأوّلهم نصرة وطاعة ونصحا وصبرا.

وقال عليه‌السلام في الخطبة المعروفة بعد النهروان :

أمّا بعد. أيّها الناس! أنا الذي فقأت عين الفتنة ، شرقيّها وغربيّها ، ومنافقها ومارقها ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها ، واشتدّ كلبها ، وأيم الله ، لو لم أك فيكم لما قوتل أصحاب الجمل الناكثون ، ولا أهل صفّين القاسطون ، ولا أهل النهروان المارقون ... إنّ قريشا طلبت السعادة فشقيت ، وطلبت النجاة فهلكت ، وطلبت الهداية فضلّت. إنّ قريشا قد أضلّت أهل دهرها ومن يأتي من بعدها من القرون ؛ ألم يسمعوا ـ ويحهم ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(٣)؟! فأين المعدل والمنزع عن ذرّيّة الرسول ، الّذين شيّد الله بنيانهم فوق بنيانهم ، وأعلى رءوسهم

__________________

(١). الفرقان / ٥٧.

(٢). سبأ / ٤٧.

(٣). الطور / ٢١.

١٥٣

فوق رءوسهم ، واختارهم عليهم؟!

أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا وحسدا لنا أن رفعنا الله سبحانه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم؟! بنا يستعطى الهدى لا بهم ، وبنا يستجلى العمى لا بهم. إنّ الأئمّة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ... والهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة ومعلنها ، ولا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجّة في الأرض ؛ فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه ...

ثمّ ذكر عليه‌السلام ضلال الخوارج والثواب الخاصّ في مقاتلتهم ، وقال :

أتراني أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! والله لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه. وأنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر ، وصلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يصلّي معه أحد من الناس.

أنا صفيّ رسول الله وصاحبه ، وأنا وصيّه وخليفته من بعده.

أنا ابن عمّ رسول الله ، وزوج ابنته ، وأبو ولده.

أنا الحجّة العظمى ، والآية الكبرى ، والمثل الأعلى ، وباب النبيّ المصطفى.

أنا وارث علم الأوّلين ، وحجّة الله على العالمين بعد الأنبياء ومحمّد خاتم النبيّين ، أهل موالاتي مرحومون ، وأهل عداوتي ملعونون ..

لقد كان حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا ما يقول : يا عليّ! حبّك تقوى وإيمان ، وبغضك كفر ونفاق ، وأنا بيت الحكمة وأنت مفتاحه ، كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ... (١)

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٢١ ، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين.

١٥٤

فها هو عليه‌السلام بعد أن بيّن أفضلية أهل البيت عليهم‌السلام على سائر قريش يذكر ضابطة الهجرة والمهاجر ، وهي معرفة الشخص الذي هو حجّة الله في أرضه ، وهي الضابطة نفسها المتقدّمة في كلام الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بأنّ الهجرة إنّما هي بالهجرة إليهم ، إلى أهل البيتعليهم‌السلام ، لا الابتعاد عنهم ، فالهجرة إلى المدينة ـ إضافة لكونها مقام النبيّ وآله صلوات الله عليهم ـ هي هجرة إلى نور الله تعالى ومصابيح هدايته ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته من بعده ، وإنّ الهجرة تكليف شرعي باق ببقاء الشريعة ؛ لأنّ معرفة حجّة الله تعالى في أرضه مفتاح أبواب الشريعة.

وهذا خلاف ما يزعمه أهل سنّة الجماعة من أنّ لا هجرة بعد الفتح ، وسنشير في ما يأتي إلى دلالة الآيات على بقاء الهجرة والنصرة ، وملازمة ذلك ؛ لكون مدار الهجرة والنصرة هو : الهجرة إلى أهل البيت عليهم‌السلام ومناصرتهم ، لا الهجرة إلى بقعة من الأرض معينة مقدّسة ، وهي المدينة المنوّرة ، والتي تقدّست بوجود النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم ، بخلاف الضابطة التي يذكرها أهل سنّة الجماعة من أنّها الانتقال الجسماني من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة ، كسفر بدني ، وقد انتهى ومضى.

وقال عليه‌السلام في خطبته المعروفة بالطالوتية :

ألا إنّ مثل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمثل نجوم السماء ، إذا هوى منهم نجم طلع نجم ، فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون. فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها!!! وبؤسا لهذه الأمّة الجائرة في قصدها ، الراغبة عن رشدها ، لا يقتصّون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعمل وصيّ ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها في ما يرى بعرى ثقات ، وأسباب محكمات ؛ فلا يزالون بجور ، لا يألون قصدا ،

١٥٥

ولن يزدادوا إلّا خطأ ، لا ينالون تقرّبا ، ولن يزدادوا إلّا بعدا من الله عزوجل ؛ لشدّة أنس بعضهم ببعض ، وتصديق بعضهم لبعض.

كلّ ذلك حيادا ممّا ورّث الرسول النبيّ الأمّيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونفورا عمّا أدّى إليهم من أخبار فاطر السموات والأرض العليم الخبير ، فهم أهل عشوات ، وكهوف شبهات ، وقادة حيرة وضلالة وريبة. من وكّله الله إلى نفسه ورأيه فاغرورق في الأضاليل فهو مأمون عند من يجهله ، غير متّهم عند من لا يعرفه ، فما أشبه أمّة صدّت عن ولاتها بأنعام قد غاب عنها رعاؤها.

هذا ، وقد ضمن الله قصد السبيل (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

أيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها في دينها ، التي خدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت ، واتّبعت أهواءها ، وخبطت في عشواء غوايتها ، وقد استبان لها الحقّ فصدعت عنه ، والطريق الواضح فتنكّبته.

أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو كنتم قدّمتم من قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله ، واقتبستم العلم من معدنه ، وشربتم الماء بعذوبته ، وادّخرتم الخير من موضعه ، وأخذتم الطريق من واضحه ، وسلكتم الحقّ من نهجه ؛ لنهجت بكم السبل ، وبدت لكم الأعلام ، وأضاء لكم الإسلام ، فأكلتم رغدا وما عال فيكم عائل ، ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد ، ولكنّكم سلكتم سبل الظلام ، فأظلمت عليكم دنياكم برحبها ، وسدّت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم ، واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم ، واتّبعتم الغواة فأغووكم ، وتركتم الأئمّة

__________________

(١). الأنفال / ٤٢.

١٥٦

فتركوكم ، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم ، إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر ، فإذا أفتوكم قلتم : هو العلم بعينه ، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه؟!

فذوقوا وبال أمركم ، وما فرطتم في ما قدّمت أيديكم ، وما الله بظلّام للعبيد ، رويدا عمّا قليل تحصدون جميع ما زرعتم ، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم. فو الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد علمتم أنّي صاحبكم والذي به أمرتم ، وأنّي عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصيّ نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخيرة ربّكم ، ولسان نوركم ، والعالم بما يصلحكم ، فعن قليل رويدا ينزل بكم ما وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عزوجل عن أئمّتكم ، فمعهم تحشرون ، وإلى الله عزوجل غدا تصيرون ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ... (١)

ويشير عليه‌السلام إلى ما يشير إليه قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فقد تركوا وصية القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام ـ وعترته عليهم‌السلام ـ ، من أنّه وليّ الأمور من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه مفزع الأمّة وملجأها ، وقد أشارت فاطمة الزهراء عليها‌السلام إلى ذلك أيضا كما تقدّم ، وأنّ سبب الاختلاف والفرق الحادثة في المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو تركهم التمسّك بالثقلين اللذين هما ضمان عصمتهم من الضلال.

وقال عليه‌السلام في خطبة أخرى :

فأين تذهبون؟! وأنّى تؤفكون؟! والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم؟! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم ، وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق؟! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش. ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٢٠ ، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين.

١٥٧

سفيان الأموي ، وعمرو بن العاص السهمي ، أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما!!

والله لقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي لم أردّ على الله سبحانه ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولم أعصه في أمر قطّ ، ولقد بذلت في طاعته صلوات الله عليه جهدي ، وجاهدت أعداءه بكلّ طاقتي ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وترتعد فيها الفرائص ، وتتأخّر فيها الأقدام ، نجدة أكرمني الله بها وله الحمد.

ولقد أفضى إليّ من علمه ما لم يفض إلى أحد غيري ، فجعلت أتبع مأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج ، ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي ، ولقد وليت غسله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدي والملائكة المقرّبون أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ، ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه ، حتّى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا وميّتا؟! وأيم الله ما اختلفت أمّة قطّ بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها إلّا ما شاء الله ... (١)

ويشير عليه‌السلام إلى أنّ مدار فضيلة الصحبة ومقامها متحقّق فيه عليه‌السلام بأرفع درجاتها ، بنحو لا يدانيه بقيّة الصحابة.

وبيان ذلك : إنّه قد اشتهر عند أهل سنّة الجماعة الاستدلال لحجّيّة الصحابة وقول الصحابي وفعله ، لا سيّما من عاشر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدّة مديدة ، لا سيّما جماعة السقيفة ، الّذين وطّدوا الأرضية لبيعة أبي بكر ، ومن ناصرهم على ذلك ، ولا سيّما أبي بكر وعمر ، بأنّ الصحابة هم الّذين حملوا علم الدين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالطوه ، وهم أعلم

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ١٩ ، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين.

١٥٨

بأقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله ومراده ، وهم الّذين تربّوا بتربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهتدوا على يديه وأطاعوه وتابعوه ، فهم أقرب الخلق إليه ، فهم حملة الدين إلى الناس والقرون اللاحقة ، وحملة سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفّاظها ووعاتها والمؤدّين عنه ، وبما نقلوه كمال الدين ، وثبات حجّة اللهعزوجل على العباد ، فهم الواسطة بين النبيّ وأمّته ، فإنّ الرسول حقّ ، والقرآن حقّ ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ؛ لأنّهم الّذين ناصروا النبيّ على عدوّه وآزروه ، فهم المؤتمنين على دينه.

والناظر المتدبّر في هذه الصفات التي أوجبوا بها حجّيّة الصحابة ، أو حجّيّة الشيخين ـ على إجمال وترديد إبهام ما يرمي إليه أهل سنّة الجماعة من معنى الحجّيّة كما أشرنا إليه مرارا في هذه الحلقات من كون الحجّيّة بمعنى العصمة والإمامة الإلهيّة ، أو بمعنى العدالة وحجّيّة فتوى المجتهد والفقيه ، أو بمعنى وثاقة وحجّيّة خبر الراوي ـ يلاحظ أنّ هذه الصفات متوفّرة بدرجة رفيعة سابقة في عليّ عليه‌السلام سبقا شاسعا لا يمكن لغيره من الصحابة ـ كأبي بكر وعمر وغيرهما ـ اللحوق به ، فضلا عن مقايسته بهم.

ولا أجد نفسي بحاجة إلى تذكير القارئ بتوفّر كلّ تلك الصفات والجهات في عليّعليه‌السلام بنحو أسبق وأوفر وأوصل وأنمى وأزكى وأشدّ من بقيّة الصحابة ؛ بعد أن استعرضنا كلامه عليه‌السلام ممّا تواتر وقوع مضمونه في مواطن شهيرة في تاريخ الإسلام.

وإلى مثل ذلك يشير قوله عليه‌السلام حين سأله سليم بن قيس الهلالي بأنّه سمع من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمع منه عليه‌السلام تصديق ما سمع منهم ، ورأى في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخالفهم فيها عليه‌السلام هو والصحابة الموالين له ، ويبطلونها ؛ متعجّبا من كون الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدين ، ويفسّرون القرآن بآرائهم؟!!

فقال عليه‌السلام :

١٥٩

قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتّى قام خطيبا فقال : أيّها الناس! قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كذب عليه من بعده.

وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس : رجل منافق ، يظهر الإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوه منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزوجل : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (١) ، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئا ، لم يحمله على وجهه ، ووهم فيه ، ولم يتعمّد كذبا ، فهو في يده ، يقول به ويعمل به ، فيقول : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا أمر به ، ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ، ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه أنّه

__________________

(١). المنافقون / ٤.

١٦٠