الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا حذيفة! كأنّك شاكّ في بعض من سمّيت لك؟! ارفع رأسك إليهم. فرفعت طرفي إلى القوم وهم وقوف على الثنية ، فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا وثبتت البرقة حتّى خلتها شمسا طالعة ، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلا رجلا ، وإذا هم كما قال رسول الله ، وعدد القوم أربعة عشر رجلا ، تسعة من قريش وخمسة من سائر الناس ...»(١)

وقد ذكرنا في ما سبق ما رواه مسلم في صحيحه عن قيس بن عبّاد قال : «قلت لعمّار : أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر عليّ ، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، منهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط» (٢).

ومن الواضح أنّ حكاية عمّار عن حذيفة حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاثني عشر منافقا ـ عدد أصحاب العقبة الّذين نفروا دابّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ذلك الوقت ، تعريض بأنّ بعض الصحابة كانوا من جملة الاثني عشر ، لا سيّما وأنّ عمّار وحذيفة هما اللّذان كانا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينها ، وأنّ تعبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان : «في أصحابي» ، الذي يعطي اختصاصهم القريب بالصحبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى مسلم في صحيحه أيضا في كتاب صفات المنافقين روايات أخرى فيهم نقلناها سابقا ، فلتلحظ. وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن زيد بن وهب الجهني ، يحدّث عن حذيفة :

قال : مرّ بي عمر بن الخطّاب وأنا جالس في المسجد فقال : يا حذيفة! إنّ فلانا قد مات فاشهده. قال : ثمّ مضى حتّى إذا كاد أن يخرج من المسجد

__________________

(١). راجع تفاصيل الحادثة والأسماء في : إرشاد القلوب : ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

(٢). صحيح مسلم ٤ / ٢١٤٣ ح ٩ ، كتاب صفات المنافقين.

٢٤١

التفت إليّ فرآني وأنا جالس فعرف ، فرجع إليّ فقال : يا حذيفة! أنشدك الله أمن القوم أنا؟ قال : قلت : اللهمّ لا ، ولن أبرّئ أحدا بعدك ، قال : فرأيت عيني عمر جاءتا»(١).

وروى هذه الرواية ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب بسنده (٢). وجواب حذيفة في هذه الرواية يتضمّن التعريض الشديد ، كما هو طافح من ألفاظه ؛ إذ ما معنى : «ولن أبرّئ أحدا بعدك»؟! فإنّ أيّ فرد من الناس إذا لم يكن من المنافقة أصحاب العقبة فلا معنى لامتناع حذيفة من الجواب ، والتعبير ب : «لن أبرّئ أحدا بعدك» يعطي : لن أبرئ أحدا من الجماعة الخاصّة التي هي أصحاب العقبة ؛ فالتعبير «أبرّئ» أي : أثبت له البراءة مع كونه متورّطا في عملية الاغتيال المدبّر في العقبة ؛ ولذلك قال بعد ذلك : «فرأيت عيني عمر جاءتا» أي : وقع في دهشة وهلع شديد ، وذلك لكون جواب حذيفة صريح بالتخلّص الذكي ؛ وهو لا يعني تبرئة صافية عن شوب التعريض بالنفي.

مضافا إلى أنّ الرجل الميت الذي كنّى عنه حذيفة ب : «فلان» لا بدّ أن يكون من رجالات الدولة البارزين ؛ حتّى سبّب حصول التساؤل لدى عمر عن حاله عند حذيفة ، وعن مدى معرفة حذيفة بجميع أصحاب العقبة ، وإلّا فكيف لا يعرف ـ و (الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٣) ـ أنّه كان منهم أم لم يكن؟!! فلا بدّ وأن يكون مصبّ السؤال هو عن مدى معرفة حذيفة بتمام المجموعة.

ومثل هذا التساؤل قد يوحي ويقضي بتورّط السائل ؛ لأنّ البريء لا يحصل لديه الشكّ في كونه من مجموعة العقبة. والسبب في الشكّ بمعرفة حذيفة بالمجموعة هو أنّ وقت تنفيذ العملية في العقبة كان ليلا مظلما ، وكانت الجماعة ملثّمة ، وعند ما تصدّى لهم حذيفة وعمّار ورجعوا واختفوا في الناس ظنّوا وحسبوا أنّ حذيفة وعمّار لم يعرفوهم ،

__________________

(١). تاريخ مدينة دمشق ١٢ / ٢٧٦.

(٢). بغية الطلب في تاريخ حلب ٥ / ٢١٦٧.

(٣). القيامة / ١٤.

٢٤٢

لا سيّما وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ الرحمة لم يفصح ولم يشهّر بهم بأمر من الله تعالى ، كما جاء في كتب حديث الفريقين وكتب السير ، قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (١) ، وقال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٢).

وروى ابن عساكر عن النزّال بن سبرة الهلالي :

قال : وقفنا من عليّ ابن أبي طالب ذات يوم طيب نفس ومراح فقلنا : يا أمير المؤمنين! حدّثنا عن أصحابك ـ إلى أن قال : ـ فحدّثنا عن حذيفة ، قال : فذاك امرؤ علم المعضلات والمفصّلات ، وعلم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالما (٣).

وقد تكرّر تسمية علم أسماء المنافقين بعلم المعضلات في الأحاديث الواردة في حذيفة ، وذلك إشارة إلى خطورة الأسماء المندرجة في تلك القائمة بحيث أنّ ذلك معضل يصعب إفشاؤه علنا أمام عامّة الناس.

وروى في بغية الطلب في تاريخ حلب بسنده عن النمري :

وكان عمر بن الخطّاب يسأله عن المنافقين ، وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول الله ، وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر (٤).

وقال :

وقتل صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصفّين ، وكانا قد بايعا عليّا بوصية أبيهما

__________________

(١). الإسراء / ٦٠.

(٢). العنكبوت / ٢ ـ ٣.

(٣). تاريخ مدينة دمشق ١٢ / ٢٧٥.

(٤). بغية الطلب في تاريخ حلب ٥ / ٢١٥٩.

٢٤٣

بذلك إياهما (١).

وروى الذهبي بسنده ، وغيره ، عن بلال بن يحيى :

إنّ حذيفة أتي وهو ثقيل بالموت فقيل له : قتل عثمان فما تأمرنا؟ فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أبو اليقظان على الفطرة ، ثلاث مرّات ، لن يدعها حتّى يموت أو يلبسه الهرم (٢).

والذيل لم يسلم من تصرّف بعض الرواة. وروي عن حذيفة بأسانيد مختلفة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر» (٣).

هذا ، والمتصفّح لترجمة حذيفة بن اليمان في كتب السير والتراجم ، ولرواياته في كتب الحديث يستشرف أنّ ولاءه وهواه مع عليّ عليه‌السلام وأصحابه كعمّار بن ياسر ، وقد آخى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبين عمّار ، وأنّه كان يتحفّظ في تعامله مع أصحاب السقيفة ، وقد مرّ لوم عثمان بن عفّان له على كلام تحدّث به فلمّا أحضره أنكر حذيفة ذلك ، كعادته في التحفّظ ، كما مرّ ذلك في كلامه المروي عنه.

وروى البخاري في التاريخ الكبير عن قيس بن رافع ، أنّه :

سمع حذيفة قال : كيف لا يضيع أمر أمّة محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إذا ملك أمرهم من لا يزن عند الله جناح بعوضة (٤).

وروى ابن عدي بسنده عن حذيفة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

«يكون لأصحابي بعدي زلّة فيغفر الله لهم بسابقتهم معي ، يعمل قوم بها بعدهم يكبّهم الله

__________________

(١). بغية الطلب في تاريخ حلب ٥ / ٢١٦٠.

(٢). سير أعلام النبلاء ١ / ٤١٧. وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٣ / ١ رقم ١٨٨ ، وذكره الهيثمي في المجمع ٩ / ٢٥٩ ؛ وقال : ورواه الطبراني والبزّار باختصار ، ورجالهما ثقات.

(٣). الكامل ـ لابن عدي ـ ٤ / ١٤٨ ، الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ ٣ / ١١١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٢.

(٤). التاريخ الكبير ٧ / ١٤٩.

٢٤٤

في النار على مناخرهم» (١).

والحديث قد اشتمل على معنى متدافع ، وهو إنّ الزلّة تغفر لجماعة وتدخل النار جماعة أخرى ، والظاهر أنّ الجملة المتوسّطة ـ وهي الغفران بسبب الصحبة السابقة ـ زيادة من يد الوضع ، كما في مقولة : «المغفرة للصحابي وإن بلغ عمله الطالح ما بلغ» ، والتي تعرّضنا لزيفها في الحلقات السابقة بدلالة آيات «الأنفال» في واقعة بدر وآيات «آل عمران» في واقعة أحد. والحديث وإن اشتمل على هذه الزيادة ، وعلى هذا المعنى المتدافع ، إلّا أنّ أصله متطابق مع الأحاديث المستفيضة الواردة وجملة من الآيات الدالّة على الإحداث والتبديل.

ولنعم ما قال الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام :

إنّ العرب كرهت أمر محمّد ٩ ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتّى قذفت زوجته ، ونفرت به ناقته مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حيّا على صرف الأمر عن بيته بعد موته ، ولو لا أنّ قريشا جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة ، وسلّما إلى العزّ والإمرة لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا (٢).

__________________

(١). الكامل ـ لابن عدي ـ ٤ / ١٤٨.

(٢). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢٠ / ٢٩٨.

٢٤٥

* الثانية :

المظاهرة بالمكيدة

أمّا الواقعة الخطيرة الثانية التي وقعت من بعض خواصّ الصحابة ، فهي المظاهرة والمؤازرة على الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي أشار إليها القرآن الكريم في سورة التحريم بالخصوص ، وكذلك في بعض آيات من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآية من سورة البقرة ..

قال تعالى في سورة التحريم : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١).

__________________

(١). التحريم / ٣ ـ ١٠.

٢٤٦

والقراءة المبتدأة للسورة ، والتدبّر للوهلة الأولى في سياق آياتها وأسلوب خطابها يوقف الناظر على أنّ هناك حديثا أسرّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض أزواجه فقامت بإفشاء سرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زوجة أخرى ، أو بالإضافة إلى جماعة أخرى. واستعقب هذا الحديث مأربا لزوجتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقيام بتدبير مناهض له ، ومكيدة واحتيالا في غاية الخطورة على وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا استدعى نفيرا إلهيا عامّا ، وتعبئة شاملة لجنود الرحمن ، وأوجب تحذيرا وتهديدا معلنا من قبله تعالى لأصحاب المؤامرة.

ولا يعقل في الحكمة العقلية ، فضلا عن الحكمة الإلهية ، أن يكون كلّ هذا الاستعراض للقوّة الإلهية في قبال خلاف في الأمور الزوجية حدث بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين زوجتيه ، بل لا محالة أنّ الحدث وإن ابتدأ بذلك إلّا أنّه انتهى إلى المواطأة الدهياء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن المنطقي اتّصال هذه المواطأة بأصحاب مصلحة في إجرائها ، وأنّهم على مكمن إعداد وتهيّئ لتنفيذها ، فهي على اتّصال محتمل بقوّة مع الحادثة الخطيرة الأولى الواقعة في عقبة تبوك. وقد توصّلنا ثمّة إلى تجميع العديد من خيوط المجموعة التي قامت بارتكاب محاولة الاغتيال ، والملفت للنظر أنّ تلك المجموعة على اتّصال وثيق بزوجتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللتين نزلت السورة فيهما ، وكشفت هول ما عزمتا عليه تواطئا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا هو المتراءى البدوي من ألفاظ السورة.

ولنستعرض أقوال المفسّرين ، والروايات الواردة من الفريقين في ذيل السورة ، ثمّ نرجع إلى متن السورة ونمعن النظر في معانيها مرّة أخرى ؛ لنتعرّف على ملابسات الحدث بصورة أوضح وأشمل.

قال في الدرّ المنثور :

أخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عائشة : إنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا ، فتواصيت أنا وحفصة أن أيّتنا دخل

٢٤٧

عليها النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فلتقل : إنّي أجد منك ريح المغافير ، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له ، فقال : لا ، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود. فنزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) لعائشة وحفصة (١).

وقال أيضا :

وأخرج النسائي ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن أنس : إنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتّى جعلها على نفسه حراما ، فانزل الله هذه الآية ...

وأخرج الترمذي ، والطبراني ، بسند حسن صحيح ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) .. الآية ، في سريّته. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عبّاس (رض) ، قال : قلت لعمر بن الخطّاب (رض) : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟! قال : عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن مارية أمّ إبراهيم القبطية ، أصابها النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في بيت حفصة في يومها ، فوجدت حفصة ، فقالت : يا نبيّ الله! لقد جئت شيئا ما جئته إلى أحد من أزواجك ، في يومي وفي داري وعلى فراشي؟ فقال : ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها. قالت : بلى. فحرّمها ، وقال : لا تذكري ذلك لأحد. فذكرته لعائشة (رض) ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ، الآيات كلّها ، فبلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته (٢).

وأخرج ابن سعد ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس (رض) ، قال : «كانت عائشة وحفصة متحابّتين ، فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدّث عنده ، فأرسل النبيّ

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٣٩ ، سورة التحريم.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٣٩.

٢٤٨

صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى جاريته ...» ثمّ ذكر بقية القصّة ، وفيها : «فأسرّت إليها ـ أي حفصة لعائشة ـ أن أبشري إنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قد حرّم عليه فتاته ، فلمّا أخبرت بسرّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أظهر الله النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا ...) ...» (١).

وأخرج ابن مردويه ، عن أنس : أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنزل أمّ إبراهيم منزل أبي أيوب ، قالت : عائشة (رض) : فدخل النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بيتها يوما فوجد خلوة ، فأصابها فحملت بإبراهيم. قالت عائشة : فلمّا استبان حملها فزعت من ذلك ، فمكث رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حتّى ولدت ، فلم يكن لأمّه لبن فاشترى له ضائنة يغذّي منها الصبي ، فصلح عليه جسمه وحسن لحمه وصفا لونه ، فجاء به يوما يحمله على عنقه فقال : يا عائشة! كيف تري الشبه؟!

فقلت : أنا غيرى ما أدري شبها. فقال : ولا باللحم؟! فقلت : لعمري لمن تغذّى بألبان الضان ليحسن لحمه. قال : فجزعت عائشة (رض) وحفصة من ذلك ، فعاتبته حفصة ، فحرّمها ، وأسرّ إليها سرّا فأفشته إلى عائشة (رض) ، فنزلت آية التحريم ، فاعتق رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم رقبة» (٢).

ويتبيّن من هذه الرواية الأخيرة التي أوردها السيوطي أنّ السرّ الذي أفشته حفصة لعائشة ليس هو تحريم مارية على نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو أمر آخر ، كما يتبيّن من الروايات السابقة التي أوردها أنّ هناك تحالفا شديدا بين حفصة وعائشة ، وأنّهما كانتا تغاران بشدّة من مارية ومن ولادتها إبراهيم ابنا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهما كانتا تمانعان من الشبه له بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه بصمات لحديث الإفك.

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٣٩.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٠.

٢٤٩

والعمدة : أنّ الرواية الأخيرة دالّة على أنّ السرّ وراء التحريم الذي تحلّل منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمر ما ، وأنّ تسميته في الآية والرواية ب «السرّ» يقتضي خطورة المعلومة التي ذكرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحفصة ، وأنّ هذه المعلومة لا ريب في ارتباطها الوثيق مع التظاهر الخفي المدبّر من ضدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ إنّ السيوطي روى روايات عديدة عن ابن مردويه ، وابن عساكر ، والطبراني ، وابن المنذر ، وعبد الرزّاق ، والبخاري ، وغيرهم ، عن ابن عبّاس ، وعائشة ، وغيرهما :

أنّ السرّ الذي أسرّه النبيّ إلى حفصة هو في أمر الخلافة من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ الذي سيلي الأمر بعده أبويهما ، إلّا أنّ ألفاظ الروايات مختلفة ، ففي بعضها : «قال : أسرّ إلى عائشة في أمر الخلافة بعده ، فحدّثت به حفصة». وفي بعضها : «إنّ إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) ، قال لحفصة : أبوك وأبو عائشة واليان الناس بعدي ، فإيّاك أن تخبري أحدا». وفي بعضها : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لحفصة : لا تخبري عائشة حتّى أبشّرك بشارة ، فإنّ أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ. فذهبت حفصة فأخبرت عائشة ، فقالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا)؟ قال : (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (١).

والغريب في صياغات هذه الأحاديث أنّها تعبّر عن هذا السرّ بأنّه : «بشارة» ، أو أنّه: «عهد من الباري تعالى» ، وأنّه : «من فضائل الصديق والفاروق» ؛ فإذا كان جوّ المحيط ومناخ هذه المعلومة أنّها «بشارة» و «عهد إلهي» و «فضيلة عظمى» فلم تتظاهرا وتتآزرا في تدبير أمر خفيّ خطير على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى درجة تستدعي النفير الإلهي ، والتعبئة الشديدة المحال ، والإرباك الأمني؟!! من البيّن الشاهر أنّ المناخ الذي تصوّره السورة هو جوّ ملبّد بظلمة المجابهة ، والمواجهة ، والاستعداد ، وإثم قلوبهما واستدعائه التوبة إلى الله

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤١.

٢٥٠

تعالى.

وقد روى في الدرّ المنثور عن مجاهد ، قال :

كنّا نرى أنّ (صَغَتْ قُلُوبُكُما) شيء هيّن ، حتّى سمعناه بقراءة عبد الله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). وفي التمثيل والتعريض في ذيل السورة بامرأتي نوح ولوط ، وأنّهما مثلا للّذين كفروا ، قال الرازي في تفسيره : «وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين ، وهما : حفصة وعائشة ، لما فرط منهما ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه ؛ لما في التمثيل من ذكر الكفر» (١).

وإنّ الخيانة التي ارتكبتها امرأتي نوح ولوط كانت في الدين ، وعداوتهما للنبيّين العظيمين كانت في رسالتيهما الإلهيّتين ، فكيف يكون كلّ هذا المسار الذي ترسمه الآية هو عن بشارة خلافة والدي عائشة وحفصة؟! ، بل لو كان الحال حال بشارة لاقتضى طبع الحال تعاونهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لما جبلت عليه الطباع من الميل إلى نفع الرحم ، ولو كان الحال حال عهد إلهي بخلافة أبي بكر وعمر لاقتضى انشداد الابنتين إلى ذلك ، مديحا منه تعالى وعطفا ربّانيا على ما قد أتيتاه ؛ لأنّه ذوبان في الإرادة الإلهية ومسارعة في الغاية الدينية.

وكيف يكون ما فعلتاه مضادّة لدين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حذو مضادّة امرأة نوح وامرأة لوط ، لو كان خبر خلافة أبي بكر وعمر عهد معهود من رضا الربّ المعبود؟! ثمّ كيف يتلائم كون خلافتهما عهدا في الكتاب ويصرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إخفائه وعدم تبليغه للناس ، ويكون إفشاؤه من ابنتيهما مضادّة لله ولرسوله وخيانة في الدين؟!

ولم لا ينزل الكتاب بذلك ، كما نزلت في عليّ عليه‌السلام عشرات الآيات ، كقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ*

__________________

(١). التفسير الكبير ٣٠ / ٤٩.

٢٥١

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢) ، الذي نزل في غدير خمّ.

نعم ، كون الخبر وصول أبويهما إلى سدّة الحكم هو ظاهر اتّفاق روايات الفريقين ـ كما ستأتي بقيّتها ـ لكن هل أنّه بشارة وعهد أم أنّه نذارة وتغلّب ونزاع مع الحقّ وأهله؟! فهذا ما اختلفت فيه الروايات ، وسياق السورة صدرا وذيلا يتنافى مع الأوّل ويتوافق مع الثاني ؛ وهو ما سيتبين من مواصلة البحث في بقية فقرات السورة.

روى في الدرّ المنثور ، عن الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه :

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) : يعنى عائشة ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) : أي بالقرآن ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) : عرّف حفصة ما أظهر من أمر مارية ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) : عمّا أخبرت به من أمر أبي بكر وعمر ، فلم يبده ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) إلى قوله : (الْخَبِيرُ) ، ثمّ أقبل عليهما يعاتبهما فقال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ). الحديث (٣).

وفي هذا الحديث إلفاتة حسّاسة ، هي : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينبئ حفصة أو عائشة عمّا فعلتاه من إفشاء الخبر المرتبط بأمر أبي بكر وعمر وما اتّصل من أمور أخرى بذلك الأمر ، ممّا عدّه القرآن الكريم تظاهر وتواطؤ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودين الله تعالى ، وممّا له صلة أمنية خطيرة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ الذي استدعى هذا النفير والتعبئة الإلهية الشاملة.

فهذه قصاصة وثائقية بالغة المؤدّى تقتضي أنّ التدبير الخفي الذي قامتا به هو ممّا يتّصل بأمر أبي بكر وعمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والغريب ما في جملة من تفاسير أهل سنّة الجماعة ورواياتهم من تصوير هذه التظاهرة التي قامتا بها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها شأن دارج في الحياة الزوجية ، واستدعى كلّ هذا الصخب والاهتمام منه تعالى والإنذار الشديد

__________________

(١). المائدة / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢). المائدة / ٦٧.

(٣). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٢٥٢

اللحن.

فقد روى السيوطي عن عبد بن حميد ، ومسلم ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس :

قال : حدّثني عمر بن الخطّاب ، قال : ... فقلت : يا رسول الله! ما يشقّ عليك من شأن النساء ، فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله تعالى معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلّما تكلّمت وأحمد الله بكلام إلّا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقوله. ونزلت هذه الآية : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) ، وكانت عائشة (رض) بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. الحديث (١).

وآثار الوضع لائحة بيّنة على هذا الحديث ؛ إذ يتضمّن المتناقضات ، فإنّ المنازعة الزوجية الاعتيادية إذا استلزمت هذه النصرة المهيبة فتكون أشبه بالهزل البارد منها بالحدث الجدّي الخطير ، وحاشاه تعالى عن الباطل ، كما تضمّن أنّ تظاهرهما هو على بقية أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو مخالف لصريح القرآن الكريم من أنّ المجابهة في تدبيرهما الخفي كانت قبال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تضمّن أنّ «صالح المؤمنين» هو : أبو بكر وعمر ، فكيف يكونا في طرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحادثة الواقعة ، والحال أنّ ابنتيهما بشّرتاهما بأمرهما بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه عهد معهود مرضي من ربّ العزّة؟!!

وكيف يكونا في الطرف المقابل لابنتيهما ولم تقوما بإفشاء السرّ إلّا بما هو بشارة لهما؟! وبطبيعة الحال إنّ مثل هذا السرّ لم تكن حفصة وعائشة لتخبر إحداهما الأخرى به دون أن تطلعا أبويهما عليه ؛ كما هو مقتضى جبلّة الطبع ، فإنّهما إذا كانتا متحابّتين فإنّ تحابّهما مع أبويهما أشدّ ، وإذا كان هذا الخبر بشارة لهما فإنّ استبشارهما سيكون

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

٢٥٣

بسبب النفع العائد لوالديهما ، فكيف لا تخبرانهما بذلك؟! وما الذي بنى عليه الأربعة وأطلق القرآن عليه : «تظاهر منهما» على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

والأظرف ذكر هذه النبوءة لعمر : «قلّما تكلّمت وأحمد الله بكلام إلّا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقوله ...» .. وإن كانت الموارد التي نزل الوحي فيها مطابقا لكلامه جميعها تحتاج إلى بحث مبسوط ؛ كي يتبيّن النسيج المحبوك لهذه الموضوعات. وروى ابن كثير في تفسيره ، عن مجاهد : إنّ «صالح المؤمنين» هو الإمام عليّ عليه‌السلام ، ورواه أيضا بطريق آخر (١). وروى في الدرّ المنثور روايات متعدّدة في «صالح المؤمنين» : فتارة أنّه : أبو بكر وعمر ، وأخرى : عمر ، وثالثة : قال :

وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان (رض) في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : أبو بكر وعمر وعليّ (رض) ، ورابعة : أنّه : الأنبياء ، وخامسة : قال : «وأخرج ابن أبي حاتم ... قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : هو عليّ بن أبي طالب. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس : سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : عليّ بن أبي طالب ، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : هو عليّ بن أبي طالب (٢).

وقال القرطبي ـ بعد ما نقل الأقوال في «صالح المؤمنين» أنّه : أبو بكر أو عمر ـ :

وقيل : هو عليّ ؛ عن أسماء بنت عميس ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) : عليّ بن أبي طالب (٣).

وروى مثل ذلك الثعلبي في تفسيره (٤). وحكى ابن الجوزي في زاد المسير أنّه :

__________________

(١). تفسير ابن كثير ٤ / ٤١٥.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٣). الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٢.

(٤). تفسير الثعلبي ٩ / ٣٤٨.

٢٥٤

عليّ عليه‌السلام ، حكاه الماوردي ؛ قاله الفرّاء (١).

وفي كون «صالح المؤمنين» عليّا عليه‌السلام بالغ المعنى ؛ فإنّ أبا بكر وعمر ـ كما مرّ ـ هما من الطرف الآخر في الحادثة ، لأنّهما ممّن أفشي لهما الخبر الذي نجم عنه التظاهر والتواطؤ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ففي الآية مقابلة بين تلك المجموعة المتواطئة على دين الله ونبيّه وبين معسكر الدين والتوحيد بقيادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ «صالح المؤمنين» وليّه وحاميه بعد الله تعالى وجبرئيل ، وهي لا تخلو من دلالة على التخالف والتقابل بين الولايتين ، بين ولاية أبي بكر وعمر ـ التي كانت السرّ الذي أفشي وتسبّب منه حصول المظاهرة والمواطئة الأمنية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبين ولاية «صالح المؤمنين» المنشعبة ولايته من ولاية الله ورسوله.

قال الزمخشري في ذيل الآية الكريمة : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) :

مثّل الله عزوجل حال الكفّار ـ في أنّهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم ، من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر ؛ لأنّ عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبتّ الوصل وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتّصل به الكافر نبيّا من أنبياء الله ـ بحال امرأة نوح وامرأة لوط ، لمّا نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحقّ ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله ، (وَقِيلَ) لهما عند موتهما أو يوم القيامة: (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ) سائر (الدَّاخِلِينَ) الّذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ...

__________________

(١). زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ ٨ / ٥٢.

٢٥٥

إلى أن قال : ـ وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه ؛ لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه في التغليظ قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، وإشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ـ أي : آسية ومريم ـ وأن لا تتّكلا على أنّهما زوجا رسول الله ؛ فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح ؛ لأنّ امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ، وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّ أيدقّ عن تفطّن العالم ، ويزلّ عن تبصّره ...

إلى أن قال : ـ فإن قلت : ما كانت خيانتهما؟ قلت : نفاقهما وإبطانهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ؛ فامرأة نوح قالت لقومه : إنّه مجنون ، وامرأة لوط دلّت على ضيافته ، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ؛ لأنّه سمج في الطباع ، نقيصة عند كلّ أحد ، بخلاف الكفر ، فإنّ الكفّار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمّونه حقّا ، وعن ابن عبّاس (رض) : ما بغت امرأة نبيّ قط (١).

وقد ذكر الفخر الرازي هذا التساؤل بعينه ، وقرّر أنّ الخيانة هي : النفاق وإخفاء الكفر ، والتظاهر على الرسولين. وروى السيوطي في الدرّ ، قال :

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج (رض) في قوله : (فَخانَتاهُما) ، قال : كانتا كافرتين مخالفتين ، ولا ينبغي لامرأة نبيّ أن تفجر (٢).

ولا يخفى على الناظر في ذيل السورة مقدار شدّة اللحن من التمثيل بزوجتي

__________________

(١). الكشّاف ٤ / ٥٧١ ـ ٥٧٢.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٥.

٢٥٦

النبيّين ، ممّا يتّحد مع الممثّل له والمعرّض به ، وكون جهة التمثيل والتعريض هي : العداوة الدينية والنفاق وإبطان الكفر ، ومن ثمّ التظاهر على الرسولين ؛ فأين يجد الباحث هذه الصفات في الحادثة الواقعة في أوّل السورة؟! هل هي في مجرّد الغيرة الزوجية؟! أم أنّها في السرّ المفشى من أمر أبي بكر وعمر بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما استعقبه من التدبير المبطن على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ، فما هي ملابسات الحادثة التي انطبقت عليها الخيانة الدينية العظمى؟!

كما لا يخفى أنّ ذيل السورة قد اشتمل أيضا على مقابلة بين معسكر النفاق والكفر المبطن ، وبين معسكر الصلاح والاصطفاء. روى السيوطي في الدرّ ـ في ذيل السورة ـ قال:

وأخرج أحمد ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عبّاس (رض) ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، مع ما قصّ الله علينا من خبرهما في القرآن ، (قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (١) (٢).

وروى الزمخشري في الكشّاف :

وعن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد (٣).

__________________

(١). التحريم / ١١.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٦.

(٣). الكشّاف ٤ / ٥٧٣ ؛ وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف : أخرجه الثعلبي من طريق عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، سمع مرّة عن أبي موسى بهذا.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن مرّة من هذا الوجه ؛ قال : حدّثنا سليمان بن أحمد ، حدّثنا ـ

٢٥٧

وروى القرطبي في تفسيره ، قال :

وروي من طرق صحيحة أنّه عليه‌السلام قال : ... وذكر الحديث ، ثمّ ذكر طريقا آخر بألفاظ أخرى ، وثالث بغيرها (١).

وروى قتادة ، عن أنس ، عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، قال : حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم (٢).

وروى عبد الرزّاق الصنعاني بسنده عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله(٣). ورواه الطبري في تفسيره عن أنس أيضا ، وعن أبي موسى الأشعري (٤). وبذلك تتبلور صورة المواجهة وأطرافها بشكل أوضح نساء ورجالا. وقال القرطبي في ذيل السورة :

(فَخانَتاهُما) : قال عكرمة والضحّاك : بالكفر ، وقال سليمان بن رقية ، عن ابن عبّاس : كانت امرأة نوح تقول للناس : إنّه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه ، وعنه : ما بغت امرأة نبيّ قط. وهذا إجماع من المفسّرين. فى ما ذكر القشيري : إنّما كانت خيانتاهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل : كانتا منافقتين ، وقيل : خيانتهما النميمة ؛ إذ أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين ؛ قاله الضحّاك ....

__________________

ـ يوسف القاضي ، حدّثنا عمرو بن مرزوق بهذا.

وهو في البخاري من رواية مرّة عن أبي موسى دون ذكر خديجة وفاطمة رضي الله عنهما!!!

وفي ابن حبّان والحاكم من حديث ابن عبّاس (رض) رفعه : «أفضل نساء العالمين أربع ...» ، فذكره.

(١). الجامع لأحكام القرآن ٤ / ٨٣ ، ومثله في تفسير ابن كثير ١ / ٣٧٠ ، و ٤ / ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(٢). الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠٤.

(٣). تفسير القرآن ـ للصنعاني ـ ١ / ١٢١.

(٤). جامع البيان ٣ / ٣٥٨.

٢٥٨

وقال : قال يحيى بن سلام : قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : مثل ضربه الله يحذّر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ثمّ ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنت عمران ؛ ترغيبا في التمسّك بالطاعة والثبات على الدين (١).

وقال الشوكاني في قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) :

واخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس في قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، قال : زاغت وأثمت (٢). وأخرج البزّار والطبراني ـ قال السيوطي : بسند صحيح ـ عن ابن عبّاس ، قال : قلت لعمر بن الخطّاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال : عائشة وحفصة (٣).

وصغو القلب : ميله إلى الإثم ، وزيغه عن سبيل الاستقامة ، وعدوله عن الصواب إلى ما يوجب الإثم (٤). وحكى الطبرسي عن مقاتل ـ في ذيل السورة ـ أنّه قال :

يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية ، وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم (٥).

وروى الطبري عن الضحّاك في تفسير قوله تعالى : (فَخانَتاهُما).

قال : «في الدين فخانتاهما» ، وقال : «وقوله : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، يقول : فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما من الله ـ لمّا عاقبهما على خيانتهما أزواجهما ـ شيئا ، ولم ينفعهما أن كان أزواجهما أنبياء» ، وروى مثل ذلك

__________________

(١). الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠٢ ، وروى ذلك ابن الجوزي في زاد المسير ٨ / ٥٦.

(٢). فتح القدير ـ للشوكاني ـ ٥ / ٢٥٣.

(٣). فتح القدير ٥ / ٢٥١ ، وفي صحيح البخاري ٦ / ١٩٥ ـ ١٩٧.

(٤). مجمع البيان ـ للطبرسي ـ المجلّد ٥ / ٣١٦.

(٥). مجمع البيان ـ المجلّد ٥ / ٣١٩.

٢٥٩

عن قتادة (١).

وحكى ابن الجوزي في زاد المسير عن ابن السائب تفسير الخيانة بالنفاق ، وقال في قوله عزوجل : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) :

قال المفسّرون منهم : مقال هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنّهما إن عصيا ربّهما لم يغن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عنهما شيئا (٢).

وقال في قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا) :

وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن ، ومجاهد ، والأعمش : تظاهرا ، بتخفيف الظاء ؛ أي : تعاونا على النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بالإيذاء ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) ، أي : وليّه في العون والنصرة ، (وَجِبْرِيلُ) وليّه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وحكى أيضا عن الزجّاج في قوله تعالى : (صَغَتْ قُلُوبُكُما) : «عدلت وزاغت عن الحقّ» (٤). وقال ابن القيّم في الأمثال في القرآن ، في ذيل السورة :

فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكافر ومثلين للمؤمنين : فتضمّن مثل الكفّار أنّ الكافر يعاتب على كفره وعداوته لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من أسباب الاتّصال ؛ فإنّ الأسباب كلّها تنقطع يوم القيامة إلّا ما كان منها متّصلا بالله وحده على أيدي رسله عليهم الصلاة والسلام ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة والنكاح مع عدم الإيمان لنفعت الصلة التي كانت بين نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وامرأتيهما (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

__________________

(١). جامع البيان ٢٨ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢). زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ ٨ / ٥٥.

(٣). زاد المسير ٨ / ٥٢.

(٤). زاد المسير ٨ / ٥٢.

٢٦٠