الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

الأوّل : قوله تعالى : ...

ثمّ استدلّ بعدّة آيات قرآنية ونصوص روائية (١) ، كما أنّه في المقصد الخامس من المرصد الرابع عقد البحث في الأفضلية.

هذا ، والإمعان في كلماتهم في عدالة الصحابة وفضائلهم ، وبالخصوص أصحاب السقيفة ، وبالأخصّ الشيخين ، يدلّ بوضوح على أنّهم يستدلّون بها بنحو يوازي الاستدلال بالعصمة وامتناع ارتكاب الباطل ، إلّا أنّهم يغلّفوها بعبارات وعناوين عائمة غائمة تغطية للمعنى المستدلّ به بألفاظ أخرى كي تتم المغالطة وتنطوي.

وهذا النمط من الاستدلال من أوسع أنواع صناعة المغالطة مضافا إلى اضطراب حدود المعاني بتوسّط هذا النمط من الاستدلال ، كما أنّهم إذا ضاق بهم الخناق في الاستدلال والجواب عن دلائل إمامة عليّ عليه‌السلام تراهم يتأمّلون في كون عصمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقة ، لاحظ مثلا : ما ذكر الإيجي في المواقف عن الاستدلال ب : «فاطمة بضعة منّي»(٢).

وهذه هي عاقبة الأمر ، وقد رووا : إنّ عمر محدّث هذه الأمّة!! و : لو كان نبيّا بعدي لكان عمر!!!

الثانية عشرة

هناك طوائف عديدة من الروايات بألفاظ مختلفة تنهى عن الذوبان في المخالفين والتسيّب في مخالطتهم ، وتأمر بالتحفّظ في كيفية التعايش معهم ، وهذه الطوائف متوافقة مع الطوائف الأخرى الآمرة بالمداراة لهم والتعامل معهم بالحسن والتجمّل ؛ لأنّ الأولى تحدّد هذا التعامل بكونه سطحيّا لا في العمق ، والثانية إنّما تحثّ على حسن التعامل على صعيد السطح.

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه أتاه قوم من أهل خراسان من ما وراء النهر فقال لهم : تصافحون أهل بلادكم وتناكحونهم ، أما إنّهم إذا صافحتموهم

__________________

(١). شرح المواقف ٨ / ٣٦٣.

(٢). المواقف ٣ / ٦٠٧ ـ ٦١٠.

٣٤١

انقطعت عروة من عرى الإسلام وإذا ناكحتموهم انتهك الحجاب فيما بينكم وبين الله عزوجل» (١).

وفي موثّق زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كانت تحته امرأة من ثقيف وله منها ابن يقال له : إبراهيم ، فدخلت عليها مولاة لثقيف فقالت لها : من زوجك هذا؟ قالت : محمّد بن علي. قالت : فإنّ لذلك أصحابا بالكوفة قوم يشتمون السلف ويقولون. قال : فخلّى سبيلها ، فرأيته بعد ذلك قد استبان عليه وتضعضع من جسمه شيء». الحديث(٢).

وفي صحيح عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ : «ولا يتزوج المستضعف المؤمنة» (٣).

وفي موثّق زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تزوّجوا في الشكّاك ولا تزوّجوهم ؛ فإنّ المرأة تأخذ أدب زوجها ويقهرها على دينه» (٤) ؛ ورواها الصدوق بطريق صحيح (٥).

وهذه الروايات في مورد النكاح وإن اختلفت أقوال الفقهاء في المنع أو الكراهة أو التفصيل ، إلّا أنّ مفادها إجمالا يسوس باتّجاه التحفّظ عن الذوبان فيهم ، وإبقاء عازل في ضمن نظام التعايش معهم.

__________________

(١). الكافي ٥ / ٣٥٢ ح ١٧.

(٢). الكافي ٥ / ٣٥١ ح ١٣.

(٣). الكافي ٥ / ٣٥١ ح ٨.

(٤). الكافي ٥ / ٣٥١ ح ٥.

(٥). من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٠٨ ح ٤٤٢٦.

٣٤٢

١٠

محطّة الفتوحات

٣٤٣
٣٤٤

إنّ من الأمور التي تسترعي اهتمام كلّ مؤمن ومسلم هو حال الدين الإسلامي من حيث الانتشار في بلاد الأرض من جهة ، وحاله من حيث إقامة أحكامه ومعالمه في البلدان الإسلامية نفسها من جهة أخرى ، فلما ذا لم ينتشر في كلّ أو سائر أرجاء الكرة الأرضية؟! ولما ذا لا يقام الحكم العادل القويم للدين الإسلامي بتمام أركانه وأصوله وسائر جوانبه؟! إذ لم يقم حكم العدل منذ عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الآن ، سوى خمس سنين ، هي مدّة حكومة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، مع مواجهته للعديد من الموانع التي خلّفتها السنن الجائرة التي شيّدها من سبقه في الخلافة.

فهذان السؤالان يتحرّى كلّ طالب للحقيقة ، وكلّ ذي وجدان وضمير ديني الجواب عنهما ، فلما ذا لا تنعم البشرية جمعا بربيع الإسلام؟! ولما ذا لا ينعم المسلمون بجميع ثمار الدين؟! وتقف بنت المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما ـ مجيبة الأجيال عن السبب في ذلك ، وترسم لنا موطن العجز الذي أصاب المسلمين وبسببه لم يتمكّنوا من نيل هذه المنى.

هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدين قد بدأ وتولّد في المشيئة الإلهية برعاية سيّد النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهود عليّ عليه‌السلام ، وببركتهما ترعرع وبني صرح نظام المسلمين ، ملّة ومجتمعا ودولة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «إنّي وأنت أبوا هذه الأمّة ، فمن عقّنا فلعنه الله عليه ، ألا وإنّي وأنت موليا هذه الأمّة ، فعلى من أبق عنّا لعنة الله ، ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه

٣٤٥

الأمّة ، فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة ، ولحقّنا عليهم أعظم من حقّ أبوي ولادتهم ؛ فإنّا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار ، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار» (٢).

وقالت فاطمة عليها‌السلام : «أبوا هذه الأمّة : محمّد وعليّ ، يقيمان أودهم وينقذانهم من العذاب الدائم إن اطاعوهما ، ويبيعانهم النعيم الدائم إن وافقوهما» (٣).

كما يؤخذ بعين الاعتبار أيضا الوعد الإلهي : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٤).

وقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٥). وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٦).

هذا الوعد الإلهي الذي روى الفريقان متواترا أنّه سينجزه الباري تعالى على يد المهدي من ولد فاطمة عليها‌السلام ، وهو من أهل البيت عليهم‌السلام ، فالدين قد بدأ بهم ، وآخره مآلا يطبق على الأرجاء بهم أيضا ، إلّا أنّ السؤالين المتقدّمين يطرحان بشأن الحقب المتوسطة بين البداية والنهاية.

ونكاد نلمس الإجابة في قول فاطمة عليها‌السلام في خطبتها على رءوس المسلمين أيام السقيفة : «وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ... فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمّد ، بعد اللتيا واللتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (٧) ، أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة

__________________

(١). بحار الأنوار ٤٠ / ٤٥ ، عن روضة الكافي والفضائل ـ لابن شاذان ـ

(٢). بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥٩ ح ٢٣.

(٣). بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥٩ ح ٢٣.

(٤). الصفّ / ٩.

(٥). النمل / ٦٢.

(٦). القصص / ٦.

(٧). المائدة / ٦٤.

٣٤٦

من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيّدا في أولياء الله، مشمّرا ، ناصحا ، مجدّا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.

فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر ... هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة؟! (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١) ...

حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم بعد البيان؟! وأسررتم بعد الإعلان؟! وأشركتم بعد الإيمان؟! بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ...

ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ... ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ...» (٢).

وقالت في خطبتها الأخرى : «ويحهم! أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوّة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبين بأمور الدنيا والدين؟! (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (٣).

__________________

(١). التوبة / ٤٩.

(٢). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٧٨ ـ ٩٤.

(٣). الزمر / ١٥.

٣٤٧

وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة ، لردّهم إليها ، ولحملهم عليها ، ولسار بهم سيرا سجحا ، لا يكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولأوردهم منهلا نميرا صافيا رويّا فضفاضا ، تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه ، ولأصدرهم بطانا ، ونصح لهم سرّا وإعلانا ، ولم يكن يحكي من الغنى بطائل ـ أي : لا يجمع لنفسه الثروة ـ ولا يحظى من الدنيا بنائل ، غير ريّ الناهل ، وشبعة الكافل ، ولبان لهم ـ أي : لظهر لهم ـ الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) ...

استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ... وويحهم! (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢) ...»

وبعد أن أوضحت تصوير حال الفتنة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذت سلام الله عليها في تصوير المستقبل المتوقّع للأمّة الإسلامية بسبب هذا الانحراف الذي قامت به بعض رجالاتها ، فقالت :

«أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القعب دما عبيطا ، وذعافا مبيدا ، هنا لك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم نفسا ، واطمئنوا للفتنة جأشا ، وأبشروا بسيف صارم ، وسطوة معتلّ غاشم ، وبهرج شامل دائم ، واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم وأنّى بكم وقد عمّيت عليكم (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٣)» (٤).

__________________

(١). الأعراف / ٩٦.

(٢). يونس / ٣٥.

(٣). هود / ٢٨.

(٤). راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ٢٢٣.

٣٤٨

أي : لقد بدء تولّد انحراف الدين والنظام الإسلامي عن مسيره ، وسينتج ذلك تفشّي الظلم والفساد في الأمّة وهرج في مسيرها. وهو ما حصل ؛ فإنّ الخليفة الأوّل عيّن يزيد بن أبي سفيان واليا على الشام ، كما جعل الولاة وأمراء الجيش غالبهم من الحزب القرشي من مسلمة الفتح والطلقاء ، الّذين لم يفتئوا يكيدوا للإسلام عداء ، وبالتالي فهو أوّل من وطّأ وأعدّ لمجيء بني أمية إلى رأس السلطة ، والتسلّط على رقاب المسلمين والتحكّم بمصير الأمّة.

وكذلك فعل الخليفة الثاني ؛ إذ عيّن معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام ، وعثمان ـ من البطن الأموي ـ خليفة له من بعده ؛ بتوسّط معادلة شورى الستّة الّذين عيّنهم ، والتي كانت واضحة الرجحان لصالح عثمان.

هذا مضافا إلى ما قام به كلّ من الأوّل والثاني من السنن الجائرة الحائدة عن سنن الله ورسوله ، فلم يبقيا من الإسلام إلّا اسمه ومن القرآن إلّا رسمه ، كما ستأتي الإشارة إلى جملة منها. وقد طفقت ثروات الحزب القرشي ـ حزب السقيفة ـ في عهد الأوّلين ، فضلا عن الثالث ، تزيد من غنائم الفتوحات حتّى بلغت أرقاما خيالية ، كما سنوا فيك بقائمة ببعضها ، وساد التمييز الطبقي والعرقي مجتمع المسلمين ؛ فقتل الخليفة الثاني بيد أحد الموالي ، بعد أن مات الأوّل في ظروف مريبة ، بسبب الاختلاف الذي جرى بين عصابة أصحاب السقيفة ، حتّى قام أهل بلاد الفتوح ـ وهم أهل مصر والعراق ـ إضافة إلى أهل المدينة بقتل الثالث ، بسبب وصول فساد وضع المسلمين الداخلي إلى درجة المناداة بتقويم أو خلع الخليفة.

روى الطبري من طريق عبد الرحمن بن يسار أنّه قال : لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى من بالآفاق ، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور : «إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزوجل تطلبون دين محمّد ٩ ، فإنّ دين

٣٤٩

محمّد قد أفسده من خلفكم وترك ، فهلمّوا فأقيموا دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

ورواه ابن الأثير أيضا ، إلّا أنّه بهذا اللفظ : «فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم فأقيموه» (٢). ورواه ابن أبي الحديد بلفظ : «فاخلعوه» (٣).

وهذه الصحوة التي حصلت للمسلمين في قتل عثمان لم تكن نافعة تماما لتستأصل الداء ؛ وذلك لأنّ أسس الانحراف في الأمّة وبنيان الفساد قد تمّ على طول عهد الثلاثة ، ولم تكن تلك البنى لتزول بسهولة ، كما سنشير إليها ، كما لم يكن الحال الموصوف في كلام الناس مختصّا بعهد عثمان من أنّ دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أفسده الخليفة ، فإلى م يدعو المسلمون الآخرين في الجهاد في سبيل الله عزوجل؟! وهل هو جهاد في سبيل الله أم في سبيل الخلافة الفاسدة؟! وإلى ما ذا يدعى الآخرين؟ إلى الدين الذي قد أفسده الخلفاء؟!

ويشير الإمام الصادق عليه‌السلام إلى هذه الحالة التي نخرت في داخل المسلمين والنظام الديني في صحيح أبي بكر الحضرمي : قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أهل الشام شرّ أم أهل الروم؟ فقال : إنّ الروم كفروا ولم يعادونا وإنّ أهل الشام كفروا وعادونا» (٤).

يشير عليه‌السلام إلى كفر إبليس لعنه الله ؛ فكفره كان جحود خليفة الله آدم عليه‌السلام ، ولم يكن كفره بجحود الذات الإلهية ، ولا بجحود المعاد ، ولا بجحود شريعة الله تعالى ، فقد كان يتعبّد.

وكذلك في موثّق سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : «أهل الشام شرّ من أهل الروم ، وأهل المدينة شرّ من أهل مكّة ، وأهل مكّة يكفرون بالله جهرة» (٥).

قال في مرآة العقول :

__________________

(١). تاريخ الطبري ٥ / ١١٥.

(٢). الكامل في التاريخ ٥ / ٧٠.

(٣). شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٥ وج ٤ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤). الكافي ٢ / كتاب : الإيمان والكفر ـ باب : صنوف أهل الخلاف ح ٥.

(٥). الكافي ٢ / كتاب : الإيمان والكفر ـ باب : صنوف أهل الخلاف ح ٣.

٣٥٠

ويحتمل أن يكون هذا الكلام في زمن بني أميّة ، وأهل الشام ، من بني أميّة وأتباعهم ، كانوا منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، والمنافقون شرّ من الكفّار وهم في الدرك الأسفل من النار ، وهم كانوا يسبّون أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو الكفر بالله العظيم ، والنصارى لم يكونوا يفعلون ذلك.

ويحتمل أن يكون هذا مبنيا على أنّ المخالفين غير المستضعفين مطلقا شرّ من سائر الكفّار ، كما يظهر من كثير الأخبار ، والتفاوت بين أهل تلك البلدان باعتبار اختلاف رسوخهم في مذهبهم الباطل ، أو على أنّ أكثر المخالفين في تلك الأزمنة كانوا نواصب منحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام ، لا سيّما أهل البلدان الثلاثة ، واختلافهم في الشقاوة باعتبار اختلافهم في شدّة النصب وضعفه. ولا ريب في أنّ النواصب أخبث الكفّار ، وكفر أهل مكّة جهرة هو إظهارهم عداوة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد بقي بينهم إلى الآن ، ويعدّون يوم عاشوراء عيدا لهم ، بل من أعظم أعيادهم (١).

أقول : وهذه السنن التي يجازون بها نبيّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا زالت منتشرة في بلدان الشام ويسمّونه : «عيد الظفر» ، وكذلك في بعض بلدان المغرب العربي. ومن ثمّ كان النظام الديني القائم في البلاد الإسلامية عند أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وفقه الإمامية ليس يشكّل دار الإيمان وإنّما هو دار الإسلام صورة ، ويفرّق في الأحكام الاجتماعية والسياسية والمالية والحقوقية وغيرها بين الدارين.

ففي رواية محمّد بن سابق بن طلحة الأنصاري قال : «كان ممّا قال هارون ـ العبّاسي ـ لأبي الحسن حين أدخل عليه : ما هذه الدار؟ فقال : هذه دار الفاسقين ، قال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (٢).

__________________

(١). مرآة العقول ١١ / ٢١٩.

(٢). الأعراف / ١٤٦.

٣٥١

فقال له هارون : فدار من هي؟ قال : هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة. قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال : أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة. قال : فأين شيعتك؟ فقرأ أبو الحسن عليه‌السلام : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١). قال : فقال له : فنحن الكفّار؟! قال : لا ، ولكن كما قال الله : (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢). فغضب عند ذلك وغلط عليه» (٣).

وروى ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : «أما تسمع لقول الله: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٤)؟! يخرجهم من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كلّ إمام عادل من الله. قال الله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٥).

قال : قلت : أليس الله عنى بها الكفّار حين قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)؟! قال : فقال : وأيّ نور للكافر وهو كافر فأخرج منه إلى الظلمات؟! إنّما عنى الله بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر ليس من الله خرجوا بولايتهم إيّاهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر ، فأوجب لهم النار مع الكفّار فقال : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٦)» (٧).

وروي في طرقهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين ، فاذا وضع السيف في أمّتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ... ولا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين ، لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (٨). وروي أيضا في

__________________

(١). البينة / ١.

(٢). إبراهيم / ٢٨.

(٣). الاختصاص ـ للشيخ المفيد ـ ٢٦٢ ، تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٩ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٣٦.

(٤). البقرة / ٢٥٧.

(٥). البقرة / ٢٥٧.

(٦). البقرة / ٢٥٧.

(٧). تفسير العيّاشي ١ / ١٣٨ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٣٥.

(٨). جامع الأصول ١٢ / ١٦٢ و ١٠ / ٤١٠.

٣٥٢

مشكاة المصابيح (١).

وقد أدرك المسلمون الحال المتردّي الذي وصلوا إليه ، وإنّ إقامة دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبعاد الزيغ والانحراف عنه في داخل البلاد الإسلامية أوّلا مقدّم على فتح البلدان غير الإسلامية ، وإنّ خلع الخليفة الفاسد ونصب الخليفة العادل هو قطب الرحى الذي يدور عليه نظام الدين ونظام المسلمين ، كما قالت بنت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وطاعتنا نظاما للملّة».

هذه الحقيقة التي أدركها المسلمون في قتل عثمان هي التي أوجبت اشتعال حروب عليّ عليه‌السلام الداخلية ـ حرب الجمل وصفّين والنهروان ـ بدل من فتح البلدان ، وكذلك سيرة الحسنين عليهما‌السلام ؛ فإنّ إصلاح أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقدّم على دعوة الكفّار إلى الإسلام.

وأي إسلام يدعى الكفّار إليه؟! أهو الإسلام الذي لبني أميّة فيه النصيب الأوفر؟! أم الإسلام الذي ينصّب معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ولاة على الشام؟! أم الإسلام الذي يفرّق بين القرشي وغير القرشي ، والعربي وغير العربي؟! أم الإسلام الطبقي البرجوازي ، وإسلام الإقطاع وتكدّس الثروات؟! أم الإسلام الذي يحرّم الخروج على الخليفة الجائر؟! أم الإسلام الذي يرى مشروعية الخليفة المتغلّب بالقوّة على رقاب المسلمين؟! أم الإسلام الذي يسوّغ كلّ مخالفة للأحكام والأصول تحت ذريعة : «اجتهد فأخطأ» ، و : «تأوّل فيعذر»؟! أم الإسلام الذي يمنع تدوين وحفظ أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطمس معالم الدين؟!

فالحقيقة التي يصل إليها الباحث في التاريخ والعلوم الإسلامية هي : إنّ قريش وجملة من قبائل العرب لمّا شاهدوا بزوغ الدين الجديد وأنّه ستكون له القدرة والسلطة على كلّ الجزيرة العربية وغيرها من البلدان ، أخذوا بتنظيم عملية اختراق لصفوف

__________________

(١). مشكاة المصابيح : ٤٦٥.

٣٥٣

المسلمين منذ السنوات الأولى لبعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ففي الوقت الذي كان رؤساء قريش وغيرها قد اعتمدوا المواجهة المعلنة والمصادمة الشديدة لهذا الدين ، لأنّ مصالحهم ومواقعهم القبلية مهدّدة بالخطر ، اعتمدوا ـ في الوقت نفسه ـ سياسة الاختراق هذه ، التي هي طريق طبيعي مألوف ، في كلّ عصور البشر ، بين أيّ قوّتين متدافعتين.

فأبو سفيان ـ وغيره من الحزب القرشي في مكّة ـ كان يقيم علاقة في أوائل الهجرة مع عبد الله بن أبي سلول في المدينة ، الذي أسلم في الظاهر وكان من رءوس النفاق ، ولم يقم مثل هذه العلاقة مع من أسلم في مكّة في الأيام الأولى ؛ لاختراق صفوف ونظام الإسلام والمسلمين ، واعتمادا على هذه السياسة ، تحسّبا لنتائج المستقبل من أنّ القوّة والسلطة في الجزيرة قد تقع في يد صاحب هذا الدين الجديد.

لقد كانت القبائل النائية عن مكّة تتطلّع إلى ذلك ، فكيف لا تتطلّع قريش إليه ؛ يقول الطبري : «وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض نفسه في الموسم إذا كان على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنّه نبيّ مرسل ، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتّى يبيّن عن الله ما بعثه به ..

حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة ، قال : قال محمّد بن إسحاق : وحدّثني محمّد بن مسلم بن شهاب الزهري : «أنّه أتى بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، فقال رجل منهم يقال له : بيحرة بن فراس : والله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.

ثمّ قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟! قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال : فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه» (١).

فإذا كانت القبائل المتوسّطة والصغيرة تتطلّع إلى تولّي الحكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١). تاريخ الطبري ٢ / ٨٣ ـ ٨٤.

٣٥٤

فكيف لا تعتمد قريش سياسة وتدبير من أوائل أيام البعثة كي تكون هي الظافرة بملك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا سيّما وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان ينبئ ويخبر بما سيكون عليه مستقبل دين الإسلام وأنّه سيسود البلدان؟!

فقد روى الطبري وغيره : «أنّ ناسا من قريش اجتمعوا ، فيهم أبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلّمه فيه فلينصفنا منه ، فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا ...».

إلى أن قال : «قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي عمّ! أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟!

قال : وإلى ما تدعوهم؟ قال : ادعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» (١).

والمتتبّع في كتب التاريخ والسير يجد الكثير من هذه النماذج التي تشير إلى تحسّب القبائل وطمعها في الدعوة الجديدة ومستقبلها ، والسلطة الجديدة الآخذة في الانتشار. ونظيره ما كانت تتنبّأ به الكهنة والمنجّمين ، وكانت قريش تعتمد عليهم كثيرا ، وقد ذكر إخبارهم بمستقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب السير والتاريخ ، بل كانت اليهود والنصارى كثيرا ما تتوعّد المشركين بالظفر عليهم عند بعثة خاتم النبيّين من مكّة ، ولذلك هاجروا من بلاد الشام واستوطنوا الحجاز انتظارا لبعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) ، بل قد ذكرت كتب السير والتاريخ أنّ اليهود ـ مع ذلك ـ كانت تترصّد اغتيال أجداد وآباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فمن كلّ ذلك يتبيّن أنّ خبر المستقبل كان متفشّيا منتشرا في أرجاء مكّة

__________________

(١). تاريخ الطبري ٢ / ٦٥.

(٢). البقرة / ٨٩.

٣٥٥

والحجاز ، فكيف لا تطمع قريش في نصيب المستقبل لو قدّر وقوعه؟! فكانت سياستها على نمطين : المواجهة المعلنة ، والاختراق لصفوف المسلمين ؛ لكي يعضد كلّ نمط النمط الآخر.

والقرآن الكريم يشير إلى حصول الاختراق في صفوف المسلمين منذ أوائل البعثة النبوية، نجد ذلك في رابع سورة نزلت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي سورة المدّثر : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(١).

فهذا التقسيم القرآني فاضح لوجود فئة : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في أوساط المسلمين المؤمنين ، وهم ليسوا من الكفّار في العلن بل في باطنهم مرض ، وقد لاحق القرآن الكريم هذه الفئة وميّزها عن فئة المنافقين ؛ إذ أنّ أهل النفاق لم يكونوا قد احترفوا الخفاء والسرية التامّة والدهاء الذي كانت تعتمده فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في اختراق صفوف المسلمين ونظام الدين الجديد.

لاحق القرآن هذه الفئة إلى آخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشار إلى شبكة اتّصالاتهم مع الأطراف الأخرى من الحزب القرشي والقبائل الأخرى واليهود والنصارى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ... فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) (٢).

وفي بدر : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) (٣).

وفي الخندق والأحزاب : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (٤).

__________________

(١). المدّثر / ٣١.

(٢). المائدة / ٥١ ـ ٥٢.

(٣). الأنفال / ٤٩.

(٤). الأحزاب / ١٢.

٣٥٦

وأنّهم كانوا على خلطة قريبة من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (١).

وأنّهم كانوا أهل جبن في الحروب : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) (٢).

وقد فسّر القرآن المرض الذي في قلوب هذه الفئة بأنّه : الضغينة وعداوة الحسد ؛ ففي تتمّة الآية السابقة : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها* إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣).

فهذه الآيات تفصح عن علاقة هذه الفئة بالكفّار ، وأنّها سوف تتقلّد الأمور وتتسلّط على رءوس المسلمين ، وأنّ سيرتها الإفساد في الأرض ، نظير ما تنبّأت به الآيات في سورة البقرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٤).

وتجد في سورة البقرة ٢ : ١٠ ، والتوبة ٩ : ١٢٥ ، والحجّ ٢٢ : ٥٣ ، والنور ٢٤ : ٥٠ بقية الأدوار التي قاموا بها ، وفي : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

__________________

(١). الأحزاب / ٣٢.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠.

(٣). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢١ ـ ٣٠.

(٤). البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

٣٥٧

وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) (١) دورهم في إعاقة سياسات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسيرته.

ويشير إلى ذلك ما روي في شرح نهج البلاغة : «قال له قائل : يا أمير المؤمنين! أرأيت لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك ولدا ذكرا قد بلغ الحلم وآنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟

قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت. إنّ العرب كرهت أمر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيّامه حتّى قذفت زوجته ، ونفّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حيّا على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ، ولو لا أنّ قريشا جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة ، وسلّما إلى العزّ والإمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا ، ولارتدّت في حافرتها وعاد تارحها جذعا ، وبازلها بكرا.

ثمّ فتح الله عليها الفتوح فأثرت بعد الفاقة ، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجا ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطربا ، وقالت : لو لا أنّه حقّ لما كان كذا.

ثمّ نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنّا نحن ممّن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته حتّى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممّن يعرف ونشأ كثير ممّن لا يعرف ، وما عسى أن يكون الولد لو كان؟!

إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقرّبني بما تعلمونه من القرب للنسب واللحمة ، بل للجهاد والنصيحة ، أفتراه لو كان له ولد هل كان يفعل ما فعلت؟! وكذلك لم يكن يقرب ما قربت ، ثمّ لم يكن عند قريش والعرب سببا للحظوة والمنزلة ، بل للحرمان والجفوة.

__________________

(١). الأحزاب / ٦٠.

٣٥٨

اللهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد الإمرة ولا علوّ الملك والرئاسة ، وإنّما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها ، والمضي على منهاج نبيّك ، وإرشاد الضالّ إلى أنوار هدايتك» (١).

فهو عليه‌السلام يشير إلى أنّ ما دعا قريش إلى البقاء على ظاهر الإسلام بعد موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو : أنّها لم تكن لتسود العرب ، فضلا عن العجم ، إلّا باسم نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه المبعوث به ، وإلّا لأبت باقي القبائل عليها ذلك ، كما هو حال توزّع القدرة بين القبائل في الجاهلية ، وإلّا فقريش لم تكن تذعن بقلبها لبعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فضّله به الله تعالى من كرامة له عليها ، كالذي حصل لجميع الأنبياء من قبله مع قومهم ، أو نظير ما حصل لعيسى عليه‌السلام مع قومه بني إسرائيل ؛ قال تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (٢) ، و : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣).

ثمّ إنّه عليه‌السلام بيّن عاملا ثانيا لانشداد قريش لدين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو : غنائم الفتوح وما جلبته من ثراء ، وهو يبيّن نوايا أصحاب فتوح البلدان ، كما أنّه عليه‌السلام يبيّن أنّ خطط فتوح البلدان كانت من تدبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوامره وبشاراته في عدّة مواطن ، وتدبيره ورأيه هوعليه‌السلام.

وأنّ أسباب الفتح ترجع إلى عوامل عدّة لا صلة لها بالخلفاء الثلاثة ، كيف والثلاثة لا عهد لهم بالحروب وإدارتها وتدبيرها؟! إذ لم يسبق لهم خوض يذكر في القتال إلّا ما في غزوة خيبر ؛ فقد ذكر المؤرّخون أنّ الأوّل والثاني انتدبهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح الحصن ، كلّ منهما مع سرية ، فرجع كلّ منهما مع سريّته يجبّن الناس والناس يجبّنونه (٤).

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ الحكم المنسوبة رقم ٤١٤.

(٢). المائدة / ١١٠.

(٣). آل عمران / ٤٩ ـ ٥٢.

(٤). المستدرك على الصحيحين ٣ / ٧٣ ؛ وفي كنز العمّال ١٣ / ١٢٢ رقم ٣٦٣٨٨ : عن ابن أبي ليلى ، بعد سؤاله ـ

٣٥٩

وحظّهم من الفرار في غزوة أحد والخندق وحنين وغيرها هو الحظّ الأوفر في مواطن عديدة (١).

__________________

ـ عليّا عليه‌السلام عن لبسه ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء ، قال له عليه‌السلام : «ما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟! قلت : بلى والله كنت معكم.

قال : فإن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعث أبا بكر فسار بالناس ، فانهزم حتّى رجع ، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأعطينّ الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله له ، ليس بفرّار. ـ وهذا تعريض منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشيخين في كلا الوصفين ـ

قال : فأرسل إليّ فدعاني ، فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئا ، فدفع إليّ الراية ، فقلت : يا رسول الله! كيف وأنا أرمد لا أبصر شيئا؟! قال : فتفل في عيني ثمّ قال : اللهمّ اكفه الحرّ والبرد. قال : فما اذاني بعد حرّ ولا برد». ونقله عن ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبزّار ، وابن جرير وصحّحه ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء المقدسي.

(١). منها : يوم أحد ، كما حكاه تعالى ، قال : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) ـ آل عمران / ١٥٣.

قال الطبري وابن الأثير : «وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين وفيهم عثمان بن عفّان وغيره إلى الأعوص ، فأقاموا بها ثلاثا ثمّ أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة».

تاريخ الطبري ٢ / ٢٠٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١١٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ٢٢٧ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٨ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٥.

وذكر الطبري وابن الأثير : إنّ أنس بن النضر ـ وهو عمّ أنس بن مالك ـ انتهى إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يحبسكم؟! قالوا : قتل النبيّ.

قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟! موتوا على ما مات عليه النبيّ. ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل.

(قالوا :) وسمع أنس بن النضر نفرا من المسلمين ـ الّذين فيهم عمر وطلحة ـ يقولون لمّا سمعوا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل : ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا.

فقال لهم أنس : يا قوم! إن كان محمّد قد قتل فإنّ رب محمّد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمّد ، ـ

٣٦٠