الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

__________________

ـ اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء. ثمّ قاتل حتّى استشهد رضوان الله وبركاته عليه.

شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ٢٧٦ وج ١٥ / ٢٠ ـ ٢٥ ، لباب الآداب : ١٧٩ ، حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لهيكل ـ ٢٦٥ ، تفسير الرازي ٩ / ٦٧ ، الدرّ المنثور ٢ / ٨٠ ـ ٨٨ ، كنز العمّال ٢ / ٢٤٢ ، حياة الصحابة ٣ / ٤٩٧ ، المغازي ـ للواقدي ـ ٢ / ٦٠٩ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٠٨.

وفرار أبي بكر يوم أحد ؛ عن عائشة : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى.

شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٥ / ٢٣ ـ ٢٤ ، الطبقات ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٥٥ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٨ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٣١ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٩ ، كنز العمّال ١٠ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، حياة الصحابة ١ / ٢٧٢ ، المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ٣ / ٢٧ ، مجمع الزوائد ٦ / ١١٢ ، لباب الآداب : ١٧٩ ، حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لهيكل ـ ٢٦٥ ، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ٤ / ٢٤٤.

ومنها : فرار الثلاثة في يوم حنين.

السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٤ / ٨٥ ، صحيح البخاري : كتاب التفسير ـ باب قوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٣ / ٢٩٣ ، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ٣ / ٢٨٢.

ومنها : غزوة السلسلة بوادي الرمل ، وهي كخيبر ؛ إذ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا أبا بكر فرجع منهزما ، ثمّ عمر فرجع كذلك ، فبعث عليّا عليه‌السلام ففتح الله عليه.

الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ ٦٠ ـ ٦١.

ومنها : غزوة ذات السلاسل في ٧ ه‍ ؛ وكانت إمرة الجيش لعمرو بن العاص ، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، وكان بين عمر بن الخطّاب وعمرو بن العاص هنّات ..

ذكر الحاكم في مستدركه كتاب المغازي ٣ / ٤٣ ، بالإسناد إلى عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فلمّا انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لا ينوروا نارا ، فغضب عمر بن الخطّاب وهمّ أن ينال منه ، فنهاه أبو بكر وأخبره أنّه لم يستعمله رسول الله عليك إلّا لعلمه بالحرب ، فهدأ عنه عمر!!!

٣٦١

وقد روى فرار عمر في غزوة حنين البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ...) (١) (٢). وذكر الفخر الرازي أنّ من المنهزمين : عمر وعثمان (٣). وذكر مصحّح كتاب المغازي أنّ صاحب شرح نهج البلاغة ذكر عنه : أنّ من الفارّين ممّن ولى : عمر وعثمان ، وأبدلت النسخة ب : فلان (٤). وذكر فرارهما الآلوسي(٥). وفي الدرّ المنثور روى عن عمر بن الخطّاب قوله : فلقد رأيتني أنزو كأنّني أروى (٦). والطبري(٧).

وفي غزوة خيبر روي : «أنّه بعث رسول الله أبا بكر فرجع منهزما ومن معه ، فلمّا كان من الغد بعث عمر فرجع منهزما يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه» (٨). وقد عيّر وأعاب سعيد بن العاص ـ أخ خالد بن سعيد بن العاص ـ عمر بن الخطّاب خوفه وجبنه عن قتال الروم. وكان عمر يقول ـ إذا ذكر الروم ـ : «والله لوددت أنّ الدرب جمرة بيننا وبينهم ، لنا ما دونه وللروم ما وراءه» ؛ لما كان يكره قتالهم (٩).

وفي معركة بدر كان موقف أبو بكر وعمر معروفا من تثبيط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حرب قريش ؛ إذ قالا : «إنّها والله قريش وعزّها ، والله ما ذلّت منذ عزّت ، والله ما آمنت

__________________

قال الحاكم ـ بعد إخراجه ـ هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وقد أورده الذهبي في التخليص مصرّحا بصحّته أيضا.

وذكر فرار أبي بكر في أحد في : الطبقات ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٥٥ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٨ ، كنز العمّال ١٠ / ٢٦٨ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٣١ ، حياة الصحابة ١ / ٢٧٢ ، والبداية والنهاية ٤ / ٢٩.

(١). التوبة / ٢٥.

(٢). صحيح البخاري ٣ / ٦٧.

(٣). مفاتيح الغيب ٩ / ٥٢.

(٤). المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٨.

(٥). روح المعاني ٤ / ٩٩.

(٦). الدرّ المنثور ٢ / ٨٨.

(٧). تاريخ الطبري ٤ / ٩٥ ـ ٩٦.

(٨). مجمع الزوائد ٩ / ١٢٤ ، المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ٣ / ٣٧.

(٩). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٣ وص ١٥٥.

٣٦٢

منذ كفرت ، والله لا تسلّم عزّها أبدا ولتقتلنّك ، فاتّهب لذلك أهبته ، وأعدّ لذلك عدّته»(١).

وروى مسلم : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر فأعرض عنه ، فقام سعد بن عبادة ...» (٢). ثمّ قال المقداد بن عمرو : «يا رسول الله! امض لأمر الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها ... ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ... وقال سعد : لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك. وأخذ عمر في الهجر أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٣).

وسنبيّن عدّة عوامل أخرى لاحقا هي الدخيلة في تحقّق فتح البلدان ، ك : مبادئ وشعارات الإسلام ، من : العدالة ، ونفي الطبقية ، والحرية للأفراد أمام السلطة الحاكمة. وسيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقا وزهدا وهديا. ورزح شعوب البلدان المجاورة لبلاد المسلمين تحت نير الملوكيات المستبدّة الغاشمة طوال قرون ، وتطلّعهم إلى متنفّس للحرية ، ولتبديل نظامهم السياسي والاجتماعي.

مضافا إلى تيقّن المسلمين من صدق بشارات الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي هي تدبير وبرمجة منه لوظائف الدولة الآتية بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مضافا إلى تدبير عليّ عليه‌السلام في الموارد الحرجة التي وقع المسلمون فيها ؛ وإلّا فممارسات الحزب الحاكم كانت تفتّ في عضد الأمّة ، وهي التي سبّبت وقوف انتشار الإسلام في ما بعد.

ويشير إلى السياسة التي مارسها الحزب القرشي لاختراق صفوف المسلمين ما تعاقدت عليه : فئة الّذين في قلوبهم مرض ، والطلقاء من قريش ، والمنافقين من الأنصار ، ومن كان في قلبه الارتداد من العرب في المدينة وما حولها ؛ من تنفير ناقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٤٨.

(٢). صحيح مسلم ٣ / ١٤٠٤ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٣٢١.

(٣). دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ١٠٧ ، المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٤٨.

٣٦٣

لاغتياله ، ثمّ لم يتمّ لهم ذلك ، فكرّروا المحاولة مرّة أخرى ، ولمّا لم يفلحوا تعاقدوا في صحيفة كتبوها على إزواء الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واستودعوها أحدهم ، وجعلوه «الأمين» عليها ، وشهدها جماعة آخرون ، وكاتبها هو سعيد بن العاص الأموي.

وكان المتعاقدون : أصحاب العقبة (الجماعة الّذين أرادوا تنفير ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتياله) وهم أربعة عشر رجلا ، وعشرون رجلا آخر ، فكان مجموعهم أربعة وثلاثين رجلا. وكانوا هؤلاء رؤساء القبائل وأشرافها ، وما من رجل من هؤلاء إلّا ومعه خلق عظيم من الناس يسمعون له ويطيعون ، وقد اتّفق هواهم على عدم وصول الإمارة لعليّعليه‌السلام ، ولا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، فاتّفقت كلمتهم على تقاسم القدرة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتولية أبو بكر الخلافة كواجهة ، وتوزيع المناصب الأخرى في ما بينهم (١).

__________________

(١). قد ذكرت مصادر عديدة مقاطع متعدّدة من هذه الأحداث ، وأوردت أسماء الجماعة المتعاقدة بالتفصيل ، منها : إرشاد القلوب ـ للديلمي ـ ٢ / ١١٢ ـ ١٣٥ ، المسترشد ـ لابن جرير الإمامي ـ ، كشف اليقين ـ للعلّامة الحلّي ـ : ١٣٧ ؛ نقلا عن حجّة التفضيل ـ لابن الأثير ـ بسنده عن ربيعة السعدي ، عن حذيفة.

وكتاب اليقين ، وكتاب الإقبال ـ لابن طاوس ـ : ٤٥٤ ـ ٤٥٩ عن كتاب النشر والطي.

وقد روى ابن أبي الحديد ، عن أبيّ بن كعب : «ما زالت هذه الأمّة مكبوبة على وجهها منذ فقد نبيّهم». وفي المصدر نفسه عن أبيّ أيضا : «ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم ، إنّما آسى على من يضلّون من الناس» ؛ وأهل العقدة : أي أصحاب الصحيفة الّذين تعاقدوا. شرح نهج البلاغة ٤ / ٤٥٤ وص ٤٥٩. وروى ذلك ابن سعد في طبقاته ٣ / ٦١ ق ٣ ، عن جندب بن عبد الله البجلي ، وذكر قصّة مقالة أبيّ بن كعب ، وفي ذيلها قوله : «اللهمّ إنّي أعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلّمنّ بما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أخاف فيه لومة لائم».

وفي موضع آخر ـ الطبقات ٣ / ٦١ ق ٢ ـ : «لأقولنّ قولا لا أبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني» ..

٣٦٤

__________________

قال الراوي : «لمّا قال ذلك وانصرفت عنه وجعلت انتظر الجمعة ، فلمّا كان يوم الخميس خرجت لبعض حاجتي فإذا السكك غاصّة من الناس لا أجد سكّة إلّا يلقاني الناس ، قال : قلت : ما شأن الناس؟! قالوا : مات سيّد المسلمين أبي بن كعب».

وروى ذلك الحاكم في مستدركه ٢ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧ وج ٣ / ٣٠٤ ، وفي سنن النسائي في كتاب الإمامة ٢ / ٨٨ رقم ٧٧٩٢٣ ، وفي مشكاة المصابيح : ٩٩ ، بسنده عن قيس بن عبادة ، وفيه : «ثمّ استقبل القبلة فقال : هلك أهل العقدة وربّ الكعبة ـ ثلاثا ـ ثمّ قال : «والله ما اسى عليهم ولكن على من أضلّوا».

وفي النهاية ـ لابن الأثير ـ : «ومنه حديث أبيّ : هلك أهل العقدة وربّ الكعبة. يعني : بيعة الولاة» ، والولاة لا بيعة لهم وإنّما هي للخلفاء وقال بعضهم : إنّ موت أبيّ بن كعب يوم الخميس ، قبل يوم الجمعة الموعود ، لعلّه خنقته الجنّ ، كما قتل سعد بن عبادة بسهم الجنّ!!!

ورواه عنه مثله في حلية الأولياء ١ / ٢٥٢. ورواه أحمد في مسنده (مسند الأنصار ٢٠٣١٠) ؛ وفيه : «ثمّ حدّث فما رأيت الرجال متحت ـ ذللت ـ أعناقها إلى شيء متوجّها إليه. قال : فسمعته يقول : هلك أهل العقدة وربّ الكعبة ، ألا لا عليهم اسى ولكن اسى على من يهلكون من المسلمين».

وروى حادثة الاغتيال في العقبة السيوطي في الدرّ المنثور ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، وعبّر عنهم بأنّهم : «ناس من أصحابه» ، وروى السيوطي في ذيله : أنّ حذيفة قال : «يا رسول الله! فنضرب أعناقهم؟! قال : أكره أن يتحدّث الناس ويقولوا : إنّ محمّدا وضع يده في أصحابه». ومثله في دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٥ / ٢٥٦ ـ ٢٦٧.

وذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب ـ في ذيل الإصابة ـ ٢ / ٣٧٢ ، في ترجمة أبي موسى الأشعري : «أنّ حذيفة قال فيه كلام كرهت أن أذكره» ، ولكنّ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣١٤ ـ ٣١٥ قال : «أنّه كان من أصحاب العقبة» ، كما عن حذيفة وعمّار. ولاحظ : كنز العمّال ١٤ / ٨٦.

وروى ذلك عن حذيفة ـ أنّ أبا موسى الأشعري من المنافقين ، أي الّذين اختصّ حذيفة بمعرفتهم ، وهم أصحاب العقبة ـ الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ / ٩٣ وج ٣ / ٨٢ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٣٢ / ٩٣ ، والمزّي في تهذيب الكمال ٤ / ٢٤٤ ؛ وروى الصدوق أسمائهم في الخصال ٦ / ٤٩٩.

وفي شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ١٠٣ : «أنّهم كانوا اثني عشر رجلا ، منهم : أبو سفيان».

٣٦٥

وهناك شواهد تاريخية عديدة على وجود العلاقة بين فئة الّذين في قلوبهم مرض ، وهم المجموعة التي اخترقت صفوف المسلمين في الأيام الأولى من البعثة النبوية ، وبين كفّار قريش ، الّذين تحلّوا في ما بعد إلى الطلقاء.

منها : ما رواه الواقدي ، قال : «حدّثني ابن أبي سبرة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم ، واسم أبي جهم : عبيد ، قال : كان خالد بن الوليد يحدّث وهو بالشام ، يقول : الحمد لله الذي هداني للإسلام! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطّاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وإنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري ، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه موجّها ـ أي فارّا ـ إلى الشعب» (١) ؛ فيا ترى لما ذا لا يريد خالد يوم أحد قتل عمر بن الخطّاب ، ويخشى على حياته!!! مع أنّ خالد يريد قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّا وحمزة؟!!!

__________________

وفي المحلّى ـ لابن حزم ـ ١١ / ٢٢٥ : «أنّه روي عن حذيفة : إنّ أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقّاص من أصحاب العقبة».

وروي : «إنّ عمر سأل حذيفة : يا حذيفة! أنشدك الله أمن القوم أنا؟! قلت : اللهمّ لا ، ولن أبرّئ أحدا بعدك.

قال : فرأيت عيني عمر جاءتا ـ أي : هلع ذعرا ـ» ..

رواه ابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق ٦ / ٢٥٣ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، وابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب ٦ / ٢١٧٦.

وروى ابن عساكر ، قال : «دخل عبد الرحمن على أمّ سلمة ، فقالت : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا.

فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتّى دخل على عمر ، فقال له : اسمع ما تقول أمّك. فقام عمر حتّى دخل عليها فسألها ، ثمّ قال : فأنشدك الله أمنهم أنا؟!

قالت : لا ولن أبرّئ بعدك أحدا». مختصر تاريخ دمشق ١٩ / ٣٣٤.

والذعر الذي أصابهما من قول أمّ سلمة خوف أن ينتشر ذلك بين المسلمين.

(١). المغازي ١ / ٢٣٧.

٣٦٦

ومنها : ما رواه المفيد في الإرشاد عن أبي بكر الهذلي ، عن الزهري ، عن صالح بن كيسان : «إنّ العاص بن سعيد بن أمية عرض له عمر يوم بدر ولم يقتله ، وكان عمر ينفي عن نفسه قتل العاص ويقول : إنّ قاتله عليّ عليه‌السلام» (١).

ومنها : ما رواه الواقدي وغيره في غزوة الخندق ، قال : «وحمل ضرار بن الخطّاب على عمر بن الخطّاب بالرمح ، حتّى إذا وجد عمر مسّ الرمح رفعه عنه وقال : نعمة مشكورة فاحفظها يا بن الخطّاب!» (٢).

وفي السيرة الحلبية : «ثمّ حمل ضرار بن الخطّاب وهبيرة بن أبي وهب على عليّ كرّم الله وجهه ، فأقبل عليّ عليهما ، فأمّا ضرار فولّى هاربا ، وأمّا هبيرة ... فكرّ ضرار راجعا وحمل على عمر بالرمح ليطعنه ، ثمّ أمسك وقال : هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ، ويد لي عندك ـ أي : نعمة أخرى سابقة ـ غير مجزى بها ، فاحفظها. أي : ووقع له مع عمر مثل ذلك في أحد ؛ فإنّه التقى معه ، فضرب عمر بالقناة ، ثمّ رفعها عنه وقال له : ما كنت لأقتلك يا بن الخطّاب» (٣)!!!!

ومنها : رثاء عمر وأبي بكر قتلى كفّار قريش في بدر :

وكأيّن بالقليب قليب بدر

من الفتيان والعرب الكرام

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام؟!

إلى آخر الأشعار التي قالاها بعد شربهما الخمر ، لا سيّما وأنّ السكر يخرج خبايا النفس والضمير (٤).

ومنها : الرسائل المتبادلة بين أصحاب السقيفة وقريش في مكّة ، كالتي جرت بين

__________________

(١). الإرشاد ١ / ٧٦.

(٢). المغازي ١ / ٤٧١ ، البداية والنهاية ٣ / ١٠٧ ، طبقات الشعراء ـ لابن سلام ـ : ٦٣.

(٣). السيرة الحلبية ٢ / ٣٢١.

(٤). فلاحظ : جامع البيان ـ للطبري ـ ٢ / ٢٠٣ وص ٢١١ ، والمستطرف ٢ / ٢٦٠.

٣٦٧

عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف (١).

ومنها : ما تقدّم في اشتراك قريش الطلقاء وأصحاب السقيفة لاغتيال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

سبب الردّة وحقيقتها

روى أبان بن تغلب (٢) قال : قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام : «جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنكر على أبي بكر وجلوسه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : «نعم ، كان الذي أنكر على أبو بكر اثني عشر رجلا ، من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص ، وكان من بني أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذرّ الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمّار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي ، ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبيّ بن كعب ، وأبو أيّوب الأنصاري.

ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لهم : فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرّفوه ما سمعتم من قول رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ليكون ذلك أوكد للحجّة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا وردوا عليه. فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يوم الجمعة ...

ـ إلى إن قال عليه‌السلام : إنّ القوم المعترضين تكلّم واحد تلو الآخر منهم ـ فأوّل من تكلّم به خالد بن سعيد بن العاص ، وذكّرهم بحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا إنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أميركم بعدي وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربّي ، ألا وإنّكم إن لم تحفظوا فيه

__________________

(١). مختصر تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ ٤ / ٧٦ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٣٥٠ و ٤ / ٧٧.

(٢). الاحتجاج ـ للطبرسي ـ : ٤٧ ـ ٥٠ ، وذكر اعتراض هؤلاء على بيعة أبي بكر في عدّة مصادر أخرى ؛ فقد ذكر ذلك : ابن الأثير في أسد الغابة : ترجمة خالد بن سعيد ابن العاص ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢ / ١٧ ، وأبي الفداء في المختصر في أخبار البشر ، واليعقوبي في تاريخه ٢ / ١١٤.

٣٦٨

وصيّتي وتؤازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم ، واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم شراركم ...

فقال له عمر بن الخطّاب : اسكت يا خالد! فلست من أهل المشورة (١) ولا ممّن يقتدى برأيه. فقال خالد : اسكت يا ابن الخطّاب! فإنّك تنطق عن لسان غيرك وأيم الله لقد علمت قريش أنّك من ألأمها حسبا ، وأدناها منصبا ، وأخسّها قدرا ، وأخملها ذكرا ، وأقلّهم غناء عن الله ورسوله ، وأنّك لجبان في الحروب ، بخيل بالمال ، لئيم العنصر ، ما لك في قريش من فخر ، ولا في الحروب من ذكر ...

وقال سلمان الفارسي : ... يا أبا بكر! إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه؟! وإلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلمه؟! وقام أبو ذرّ فقال : يا معشر قريش! أصبتم قباحة ، وتركتم قرابة ، والله لترتدّن جماعة من العرب ، ولتشكّن في هذا الدين ، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم ما اختلف عليكم سيفان ، والله لقد صارت لمن غلب ، ولتطمعنّ إليها عين من ليس من أهلها ، وليسفكنّ في طلبها دماء كثيرة. فكان كما قال أبو ذرّ.

وقال المقداد بن الأسود : ... ولا تغررك قريش وغيرها ... وقال : أبيّ بن كعب : ... ولا تكن أوّل من عصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّه وصفيّه وصدف عن أمره ، اردد الحقّ إلى أهله تسلم ... وقام عثمان بن حنيف فقال : فلا تكن يا أبا بكر (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ)(٢) و (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣) ...»

وما تخوّف منه هؤلاء الاثنا عشر من المهاجرين والأنصار من تمرّد القبائل العربية مسلمة الوفود بسبب تمرّد قريش نفسها وأصحاب السقيفة على وصيّة النبيّ وأمر الله ورسوله ، قد تحقّق ؛ فإنّ عصيانهم في الوصاية وارتدادهم عن عهد الله ورسوله في خلافة

__________________

(١). ذكر ابن الأثير في أسد الغابة أنّ خالد بن سعيد من السابقين إلى الإسلام ثالثا أو رابعا ، أي أسلم قبل أبي بكر وعمر.

(٢). البقرة / ٤١.

(٣). الأنفال / ٢٧.

٣٦٩

عليّ عليه‌السلام فتح الباب لسائر القبائل للارتداد عن أداء الزكاة.

بل إنّ نصوص كتب التواريخ ـ كما سيأتي استعراضها ـ تنصّ على أنّ تمرّد القبائل في الجزيرة العربية كان بسبب إبائها خلافة أبي بكر ، واستهجانها مكانته ولآمة حسبه ونسبه، وأنّهم قالوا : كما خانت قريش نبيّها في وصيّه فلم نطيع قريش وأبا بكر في بغيهم؟!

فالزلزلة التي أصابت الإسلام بسبب خلافة أبي بكر هي أكبر شؤم على الإسلام ، وقد سبّبت هلاك الحرث والنسل ، كما تنبّأ القرآن الكريم بذلك ، وأشارت إليه سورة المدّثر المكّية ، رابع سورة نزولا ؛ فقد قال تعالى في فئة الّذين في قلوبهم مرض ، وهي الفئة التي اندسّت في صفوف المسلمين في أوائل البعثة ، والتي كانت على ارتباط مع قريش الطلقاء في الخفاء : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (١) ، في سياق آيات (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ؛ فقد خفرت كثير من الذمم والعهود.

قال ابن أعثم ـ عند ذكر ارتداد أهل حضرموت من كندة ـ : «فلمّا فرغ أبو بكر من حرب أهل البحرين ـ وسيأتي أنّ عصيانهم هو لأبي بكر وخلافته ـ عزم على محاربة أهل حضرموت من كندة ، وذلك أنّ عاملهم زياد بن لبيد الأنصاري كان ولّاه عليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان مقيما بحضرموت يصلّي بهم ويأخذ منهم ما يجب عليهم من زكاة أموالهم ، فلم يزل كذلك إلى أن مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسبيله وصار الأمر إلى أبي بكر ، فقال له الأشعث بن قيس : يا هذا! إنّا قد سمعنا كلامك ودعاءك إلى هذا الرجل فإذا اجتمع الناس إليه اجتمعنا. قال له زياد بن لبيد : يا هذا! إنّه قد اجتمع المهاجرون والأنصار.

فقال له الأشعث : إنّك لا تدري كيف يكون الأمر بعد ذلك. قال : فسكت زياد بن

__________________

(١). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٢.

(٢). البقرة / ٢٠٥.

٣٧٠

لبيد ولم يقل شيئا ، ثمّ قام إلى الأشعث بن قيس ابن عمّ له يقال له : امرؤ القيس بن عابس من كندة ، فقال له : يا أشعث! انشدك بالله وبإيمانك وبقدومك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن نكصت أو رجعت عن دين الإسلام ، فإنّك إن تقدّمت تقدّم الناس معك ، وإنّ هذا الأمر لا بدّ له من قائم يقوم به فيقتل من خالف عليه ، فاتّق الله في نفسك ؛ فقد علمت ما نزل بمن خالف أبا بكر ومنعه الزكاة» (١).

ويظهر من هذا النصّ التاريخي أنّ أصحاب السقيفة قد حكموا بالكفر والردّة على مجرّد مخالفة تنصيب أبا بكر وعدم تمكينه من الزكاة ، وهذا التكفير والحكم بالردّة هو بنفسه وبدوره سببا لتطوّر مخالفة خلافة أبي بكر إلى التشكيك في الدين والرجوع حقيقة عنه.

ومن تناقضات أصحاب السقيفة وتلاعبهم في الدين ، أنّهم كفّروا مخالفي استخلاف أبي بكر ومانعيه من التسلّط على رقاب المسلمين وعلى الأموال العامّة ـ كالزكاة ـ وحكموا بإسلام عائشة وطلحة والزبير وأصحاب الجمل ، الّذين نكثوا بيعة عليّ عليه‌السلام وقاموا بمحاربته ، وقالوا : بأنّهم تأوّلوا واجتهدوا وأخطئوا.

وكذلك حكموا بإسلام معاوية وأهل الشام القاسطين في محاربتهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وقالوا : بأنّهم اجتهدوا وتأوّلوا وأخطئوا. وكذلك حكموا بإسلام خالد بن الوليد مع استحلاله لقتل مالك بن نويرة وقومه ـ كما سيأتي بيانه ـ مع بقاء مالك وقومه على إسلامهم وإيمانهم ، واستباحة خالد التزويج بزوجة مالك. فلما ذا لا يحكم بكفر وردّة أبي بكر وأصحاب السقيفة ، الّذين أنكروا النصّ على خلافة عليّ عليه‌السلام ، وخالفوا عهد الله ورسوله في الوصية؟!

حكى ابن أبي الحديد عن السيّد المرتضى في الشافي قول الجاحظ : «وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلّة

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٤٥.

٣٧١

المنتصف ، وحدب الوامق ومقة المحقّ» (١).

وقال ابن أعثم : «ثمّ تكلّم الأشعث بن قيس فقال : يا معشر كندة! إن كنتم على ما أرى فلتكن كلمتكم واحدة ، والزموا بلادكم وحوّطوا حريمكم وامنعوا زكاة أموالكم ؛ فإنّي أعلم أنّ العرب لا تقرّ بطاعة بني تميم بن مرّة وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيره ، فإنّها لنا أجود ، ونحن لها أجرى وأصلح من غيرنا ؛ لأنّا ملوك من قبل أن يكون على وجه الأرض قريشي ولا أبطحي» (٢).

ويرى الباحث صدق ما أخبر به أبو ذرّ وبقية المهاجرين والأنصار الاثني عشر من تسبّب خيانة أبي بكر وأصحاب السقيفة ، وضعة مكانة أبي بكر في تمرّد القبائل وطمعها في الخلافة ، واسترابتها في الدين.

ثمّ قال ابن أعثم : «جاء لزياد بن لبيد الأنصاري العامل على كندة رجل يقال له : الحارث بن معاوية ، فقال لزياد : إنّك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد. فقال له زياد بن لبيد : يا هذا! صدقت ، فإنّه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد ، ولكنّا اخترناه لهذا الأمر.

فقال له الحارث : أخبرني لم نحّيتم عنها أهل بيته وهم أحقّ الناس بها ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٣)؟!

فقال له زياد بن لبيد : إنّ المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك. فقال له الحارث بن معاوية : لا والله ، ما أزلتموها عن أهلها إلّا حسدا منكم لهم ، وما يستقرّ في قلبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علما يتّبعونه ، فارحل عنّا أيّها الرجل ؛ فإنّك تدعو إلى غير الرضا. ثمّ أنشأ الحارث بن معاوية يقول :

كان الرسول هو المطاع فقد مضى

صلّى عليه الله لم يستخلف

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٦٤.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٤٧.

(٣). الأنفال / ٧٥.

٣٧٢

قال : فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال : صدق والله الحارث بن معاوية ، أخرجوا هذا الرجل عنكم فما صاحبه بأهل للخلافة ولا يستحقّها بوجه من الوجوه ، وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمّة من نبيّها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : ثمّ وثب رجل من كندة يقال له : عدي بن عوف ، فقال : يا قوم! لا تسمعوا قول عرفجة بن عبد الله ولا تطيعوا أمره ؛ فإنّه يدعوكم إلى الكفر ويصدّكم عن الحقّ ، اقبلوا من زياد بن لبيد ما يدعوكم إليه وارضوا بما رضى المهاجرون والأنصار ؛ فإنّهم أنظر لأنفسكم منكم» (١).

فيظهر من هذا النصّ التاريخي أنّ منطق أصحاب السقيفة هو : الحكم بالكفر والردّة على المعترضين على أبي بكر وأصحابه بخيانة عهد الله ورسوله في وصيّه ، وإنّ حروب الردّة هي ضدّ تلك القبائل التي تمرّدت على استخلاف أبي بكر عدا تلك التي ظهر فيها الكذّابين المدّعين للنبوّة ، كمسيلمة الكذّاب وسجاح ، وإنّ الردّة شعار رفعه أصحاب السقيفة ضدّ تلك القبائل لتبرير قتالهم ، وإخمادا للمعارضة على تنصيب أبي بكر ، وساعد هذا التمويه والإغراء والخداع تقارن هذه المعارضة مع دعاوى الكذّابين الدجّالين للنبوّة ، كمسيلمة وسجاح وطليحة بن خويلد ، فحصل اختلاط في الأوراق وهرج في تصفية الحسابات ومعادلة المواجهات.

وفي نصّ آخر ذكره ابن أعثم : «عند ما وصل كتاب أبي بكر للأشعث ابن قيس وفيه : وأنهاكم أن لا تنقضوا عهده ، وأن لا ترجعوا عن دينه إلى غيره فلا تتّبعوا الهوى فيضلّكم عن سبيل الله ... فأقبل الأشعث على الرسول فقال : إنّ صاحبك أبا بكر هذا يلزمنا الكفر بمخالفتنا له ولا يلزم صاحبه ـ أي : زياد بن لبيد ـ الكفر بقتله قومي وبني عمّي! فقال له الرسول : نعم يا أشعث! يلزمك الكفر ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى قد أوجب عليك الكفر بمخالفتك لجماعة المسلمين» (٢).

وهذا النصّ يوضّح أنّ مبنى أصحاب السقيفة أنّ الدين يتمثّل في جماعتهم ، وأنّهم

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٤٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٥٤.

٣٧٣

جماعة المسلمين وما عداهم من المهاجرين والأنصار وبني هاشم وسعد بن عبادة وسائر القبائل ليسوا بجماعة المسلمين ، وأنّ خيانة الله ورسوله في عهد الوصاية والإمامة وإنكار ما جاء به الرسول في ذلك ليس يوجب الكفر ، فهم قد جعلوا جماعة السقيفة عدل القرآن وبديل النبوّة ، وهذا ممّا يكشف أوراق حروب الردّة ويفضح دجليّة شعارها.

وقال ابن أعثم : إنّ أبا بكر لمّا وصله خبر كندة وعصيانها له وضعف الجيش الذي أرسله عن مقاومة كندة استشار جماعته «ثمّ انصرف أبو بكر إلى منزله وأرسل إلى عمر بن الخطّاب فدعاه ، وقال : إنّي عزمت على أن أوجّه إلى هؤلاء القوم عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه عدل رضا عند أكثر الناس ؛ لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ورفقه بما يحاول من الأمور.

قال : فقال له عمر بن الخطّاب : صدقت يا خليفة رسول الله! إنّ عليّا كما ذكرت وفوق ما وصفت ، ولكنّي أخاف عليك خصلة منه واحدة. قال له أبو بكر : وما هذه الخصلة التي تخاف عليّ منها منه؟ فقال عمر : أخاف أن يأبى القتال فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك فلن تجد أحدا يسير إليهم إلّا على المكروه منه ، ولكن ذر عليّا يكون عندك بالمدينة ؛ فإنّك لا تستغني عنه وعن مشورته ، واكتب إلى عكرمة بن أبي جهل» (١).

ويظهر من هذا النصّ التاريخي أنّ عمر يتخوّف من إباء عليّ عليه‌السلام قتال كندة ، ممّا يدلّل على عدم تكفير عليّ عليه‌السلام لكندة وعدم قوله عليه‌السلام بردّتهم ، ويظهر القول بإسلام كندة أيضا من أبي أيوب الأنصاري عند ما استشاره أبي بكر في كندة ؛ قال : «لو صرفت عنهم الخيل في عامك هذا وصفحت عن أموالهم لرجوت أن ينيبوا إلى الحقّ وأن يحملوا الزكاة إليك بعد هذا العام طائعين غير مكرهين ، فذاك أحبّ إليّ من محاربتك إيّاهم» (٢) ، ولكنّ أبا بكر أبى ذلك ، ولعلّه فطن إلى أنّ أبا أيوب الأنصاري من أنصار عليّ عليه‌السلام.

بل إنّ عمر اعترف بإسلام أهل «دبا» ، الّذين ناصروا كندة في تمرّدهم ؛ إذ همّ أبو

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٥٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٥٦.

٣٧٤

بكر بقتل المقاتلة وقسمة النساء والذرّيّة ، فقال له عمر ابن الخطّاب : «يا خليفة رسول الله! إنّ القوم على دين الإسلام ، وذلك أنّي أراهم يحلفون بالله مجتهدين : ما كنّا رجعنا عن الإسلام. ولكن شحّوا على أموالهم» (١) ، والحقيقة أنّهم أبوا إمارة أبي بكر.

وتظهر هذه الحقيقة التاريخية أيضا من بكر بن وائل في البحرين ؛ إذ أنّ سبب تمرّدهم وردّتهم في قولهم لكسرى : «إنّه قد مضى ذلك الرجل الذي كانت قريش وسائر مضر يعتزّون به ـ يعنون بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد قام من بعده خليفة له ، ضعيف البدن ضعيف الرأي» (٢).

ويظهر أنّ سبب تمرّد وردّة بني أسد وغطفان وفزارة ، ومناصرتهم لطليحة بن خويلد الكذّاب هو ضعة أبي بكر ، وقولهم بعدم أهليّته للخلافة ؛ إذ نادوا : «لا نبايع أبا الفصيل ـ يعنون أبا بكر ـ» (٣) ، وهذه التكنية تحقيرا لأبي بكر ، وإشارة إلى عمله في الجاهلية ، وهو الدلالة في بيع وشراء الإبل.

هذه لمحة خاطفة تدلّل على أنّ تدبير الفتوحات وخططها لا تعزى إلى الثلاثة!! كيف ولا مراس لهم بالحروب وإدارتها وأمور الجيوش؟! وقد ولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أسامة بن زيد في جيش المسلمين لمحاربة الروم في آخر أيّام حياته ، وأنّ خطط الفتوح وتدبيرها راجعة إلى أسباب وعوامل أخرى.

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٥٩.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٣٤.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ١٤.

٣٧٥

تدبير الإمام عليّ عليه‌السلام

في ظفر المسلمين في الفتوحات

هناك نصوص تاريخية عديدة تبيّن تدبير عليّ عليه‌السلام في المنعطفات الخطيرة التي عصفت بالمسلمين ودولتهم وجيوشهم ، وكاد نظام المسلمين أن يتقوّض لو لا حنكته وبصيرته في تدبير الأمور العامّة ، وإعزاز الإسلام ، ونصر الدين ، ورتقه ، ولو لا ذلك أيضا لتشتّت أوضاع المسلمين ؛ بسبب استخلاف أبي بكر ونبذ أصحاب السقيفة عهد الله ورسوله في الإمامة ، ممّا دعا سائر القبائل للتمرّد والريبة في الدين ، واضطرار أبي بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة لاستشارته عند اضطراب الأمر عليهم في تدبير الأحوال الخطيرة.

ثمّ إنّ عمدة ما حصل من الفتوحات ، وطرد الروم والقضاء على ملك كسرى كان ببركة إشرافه وتسديده ومشورته ، بل في بعض الموارد صدرت منه المعجزات لإنقاذ الموقف ؛ لحكمة إلهية ، وزيادة في الامتحان لهذه الأمّة ، مع ما مر من ضعف الثلاثة في مراس التدبير ، لا سيّما وأنّ الدولة الإسلامية تعيش حالة استنفار عسكري ، أي ما يصطلح عليه حاليا : «دولة حرب» ، وهم أبعد ما يكونون وزنا عن التأثير في معادلة القوى في الحروب ، كما مرّ.

ومن ثمّ قال عليه‌السلام ـ في ما مرّ من رواية ابن أبي الحديد ـ : «... ثمّ نسبت ـ أي قريش ـ تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنّا نحن ممّن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته حتّى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممّن يعرف ـ أي فضائله ومناقبه وركنيته بعد الرسول في بنيان الدين وانتظام الإسلام ـ ونشأ

٣٧٦

كثير ممّن لا يعرف ...» (١).

وقد جاءت عدّة نصوص تاريخية في ذلك :

منها : ما قاله أبو بكر لعمر عند ما فشل الجيش الذي بعثه أبو بكر لقتال كندة ، ولم يفلح المدد أيضا ، فاضطرب لذلك أبو بكر وقال : «إنّي عزمت على أن أوجّه إلى هؤلاء عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه عدل رضا عند أكثر الناس لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ، ورفقه بما يحاول من الأمور ...».

فهذا النصّ سواء في فقرة كلام أبي بكر أو كلام عمر يكشف النقاب عن دور عليّعليه‌السلام ومكانته في نفسية المسلمين وسائر القبائل المتمرّدة على استخلاف أبي بكر كما فيه إقرار واعتراف من أبي بكر بالإحكام في تدبير عليّ عليه‌السلام للأمور ، لا سيّما هذا الأمر الذي استعصى حلّه على أبي بكر ، وجزع من شدّة الورطة فلم يجد بدّا من الكتابة إلى الأشعث بن قيس بالرضا (٢).

كما أنّ في كلام عمر ؛ إذ قال : «أخاف أن يأبى القتال فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك فلن تجد أحدا يسير إليهم إلّا على المكروه منه ، ولكن ذر عليّا يكون عندك بالمدينة فإنّك لا تستغني عنه وعن مشورته» إقرار بما ذكره صاحبه وزيادة : إنّ عليّا عليه‌السلام إذا أبدى قوله في عدم قتال كندة فإنّ البقية سيتأثّروا به ويمتنعوا عن مقاتلة كندة إلّا بالإكراه ، وإنّ دولة السقيفة لم تستطع إدارة الأمور بدون مشورة عليّ عليه‌السلام. وسيأتي في بقية النصوص الكثير ممّا يعضد ذلك.

ومنها : «وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من الأصحاب ، فقدّموا وأخّروا ، فاستشار عليّ بن أبي طالب ، فأشار أن يفعل ، فقال : إن فعلت ظفرت. فقال : بشّرت بخير! فقام أبو بكر في الناس خطيبا ، وأمرهم أن يتجهّزوا إلى الروم» (٣).

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٩٨ رقم ٤١٤.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٥٣.

(٣). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

٣٧٧

وفي فتوح ابن أعثم : «فسأل أبو بكر : ومن أين علمت ذلك؟! فقال عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...» (١) ، وفي مكان آخر : «تسامع هرقل بأنّ نبيّ الإسلام أخبرهم بالنصر» (٢). ويظهر من هذا النصّ ، ومن الذي قبله ، وممّا يأتي من نصوص متعدّدة طمع السلطة في فراسة عليّ عليه‌السلام الغيبية ، وإخباره بالملاحم وعلم المنايا والبلايا ، وهي من العلوم اللدنية للأوصياء ، وما عنده عليه‌السلام من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمصير الأمور وأحوال البلدان ، فإنّه نقل ذلك عنه بكثرة في كتب السير والتواريخ ، واستخبار أبي بكر وعمر عليّا عليه‌السلام ، واستخفاؤهما إيّاه أحوال الأوضاع ، وفي الفتوح : تهديد وفد المسلمين جبلة ـ حليف هرقل بالشام ـ ببشارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر (٣) ؛ كلّ ذلك يصبّ في النهاية في رفعة اسميهما عند عامّة الناس ، ونسبة الفتوح إليهما ، كما قال عليه‌السلام في ما مرّ من الرواية.

اعتراض وإجابة

وقد يرد اعتراض في ذهن بعض من لا بصيرة له بأوصياء الأنبياء : لما ذا يسدّد عليّعليه‌السلام خلفاء الجور إلى أبواب الظفر والنصر ، فيعلو كعبهم واسمهم ، وتزداد فتنة الناس بضلالتهم ، وببدعهم في الدين ، وبمتاركتهم لصراط الهداية من أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام؟! ، كما أنّ بعض آخر ـ ممّن لا يستمسك بالبيّنات والبراهين ـ يموّه إرشاد علي عليه‌السلام لهما في تدبير الأمور على أنّه رضى منه بحالهما!!

وهؤلاء إذ تاركوا عيش اليقين نكسوا قلوبهم في الريب ؛ استحبابا منهم لذلك ، بدلا من نور الحقيقة ؛ فإنّ الوصيّ عليه‌السلام ليس غارقا في بحر الهوى ، كما قال عليه‌السلام في ذيل الرواية المزبورة : «اللهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد الإمرة ، ولا علوّ الملك والرئاسة ، وإنّما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها ، والمضي

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٨٠.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٨٣.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ١٠٣.

٣٧٨

على منهاج نبيّك ، وإرشاد الضالّ إلى أنوار هدايتك» (١).

فإنّه عليه‌السلام ممّن طهّره الله من الرجس والهوى ، فلا يعيش إلّا همّ إقامة الدين ونشره وانتشاره بقدر ما يتيسّر من ذلك ، وإن مانع الطامعون في الرئاسة والملك ، والحريصون على الإمارة والعلوّ في الأرض ، والحزب القرشي والطلقاء ، عن إقامة الحقّ في جليل من الأبواب ؛ فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه ، والميسور لا يسقط بالمعسور ..

نظير ما قصّه الله تعالى من دور النبيّ يوسف عليه‌السلام في ملك عزيز مصر : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ؛ فإنّ التدبير الحسن منه كان ليوسف وإن كان ينسب لملك مصر ، ولو لا يوسف لتشتّت الأمر على ملك مصر عند ما عصفت السنين بهم.

وفي هذه الحقبة والفترة تجلّى خلوص عليّ عليه‌السلام في تشييد الدين ؛ فأين تجد من غصب حقّه ، وزحزح عن مقامه ، وتقمّص مكانه من ليس بأهل له ، ومع ذلك يقوم بحفظ الدين ونشره ، مع علمه بأنّ هذا الدور أيضا هو الآخر سوف يبتزّه الغاصبون وينسبونه لأنفسهم؟!

وممّا يشير إلى تدبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفتوحات ما ذكره ابن أعثم (٣) في الفتوح ؛ إذ أورد رسالة عمر إلى معاوية ، التي تضمّنت عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين بتفاصيل برامج فتوح البلدان ، حتّى أسماء المدن ، والمهمّ منها في حصول الظفر والنصر.

دوره عليه‌السلام في وقعة الجسر

في وقعة «الجسر» ـ وهي أوّل وقعة للمسلمين مع جيوش كسرى ـ اضطرب تدبير الحرب والمسلمين بشدّة حتّى كاد يفلت الأمر ، فأغاث عليّ عليه‌السلام عمر بالمشورة

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٩٩ رقم ٤١٤.

(٢). يوسف / ٢١.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ٢٦٢.

٣٧٩

المفصّلة ، وأمره بأن لا يصير إلى العدو : «فإنّك إن صرت إلى العراق وكان مع القوم حرب واختلط الناس لم تأمن أن يكون عدوّ من الأعداء يرفع صوته ويقول : قتل أمير المؤمنين! فيضطرب أمر الناس ويفشلوا ... ولكن أقم بالمدينة ووجّه برجل يكفيك أمر العدوّ ، وليكن من المهاجرين والأنصار البدريّين. فقال عمر : ومن تشير عليّ أن أوجّه به يا أبا الحسن؟! فأشار عليه بسعد بن أبي وقّاص. وانتهت الواقعة بنصر المسلمين (١).

ومن ذلك يظهر أنّ التدبير في المفاصل الخطيرة من الفتوح كان منه عليه‌السلام».

وفي هذه الواقعة ذكر ابن أعثم تهديد المسلمين يزدجرد ملك الفرس ببشارة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح فارس (٢).

ومن تدابير عليّ عليه‌السلام البالغة الأهمّية أيضا بثّه الخلّص الأبدال من أصحابه في جيوش الفتوح ، وكان لهم الأثر البالغ في الفتوح ، كحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر في فتوح فارس ، ومالك الأشتر في فتوح الروم ، ولا سيّما في يوم اليرموك ؛ إذ بارز وزير هرقل هامان فهزمه(٣) ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقّاص في فتوح الشام وفارس أيضا ، وكذلك عبادة بن الصامت الأنصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، والجميع كانوا أمراء سرايا وفصائل في الكتائب ، وخالد بن سعيد بن العاص وأخوه ، وعدي بن حاتم الطائي ، وعبد الله بن خليفة ، وسلمان الفارسي ، وغيرهم ممّا يجده المتتبّع لتواريخ الفتوح ، ذكرنا جملة منهم لا على سبيل الاستقصاء والحصر ، هذا مع أنّ أقلام التاريخ غالبا سقيفية أو أموية أو عبّاسية ، لا ترصد ولا تحبّ أن تكتب لأصحاب عليّ عليه‌السلام أدوارا خطيرة في الفتوح ، بل وتركّز الضوء على غيرهم لترفع ذكرهم دون تيار عليّ عليه‌السلام.

وذكر ابن أعثم : أنّ أبا عبيدة أرسل كتابا إلى عمر يخبره فيه أنّ أهل «إيليا» بعد ما حوصروا في الشامات اشترطوا الصلح مع الخليفة كي يثقوا بالأمان ، فاستشار عمر وجوه

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ١٥٧.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ٢٠٨.

٣٨٠