الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (١).

وقال في تفسير : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) ، عن السدّي أنّها المودّة في آل رسول الله: نزلت في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومودّته فيهم (٢). والظاهر : العموم في أي حسنة كانت ، إلّا أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى ، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولا أوّليا ، كأنّ سائر الحسنات لها توابع (٣). انتهى.

أقول : ويدلّ تقريبه الأخير لحسنة المودّة وعظمتها أنّها من الفرائض الكبرى في الدّين ، وسيأتي تقريب دلالة الآية على ذلك بنحو أوضح. وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير بعد ما نقل كلام الزمخشري :

وأنا أقول آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الّذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل. ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ التعلّقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ، وأيضا اختلف الناس في الآل ، فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم أمّته ، فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وإن حملناه على الأمّة الّذين قبلوا دعوته فهم أيضا الآل ، فثبت على جميع التقديرات هم الآل ،

__________________

(١). وفي تفسير القرطبي ١٦ / ٢٢ ، في ذيل الآية حكي عن الثعلبي هذه الرواية مذيّلة ب : «ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي».

(٢). ويشهد لذلك موت فاطمة عليها‌السلام وهي واجدة على أبي بكر ، ما رواه البخاري في صحيحيه ٥ / ٨٢ غزوة خيبر ، وإيصائها عدم حضوره جنازتها وأخذه لفدك منها ، في قبال إعطاءه ابنته عائشة حجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توريثا.

(٣). تفسير الكشّاف ٤ / ٢٢١.

١٨١

وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه (١).

أقول : يشير الفخر الرازي إلى ما قاله الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون ـ في حديث ـ :

فلمّا أوجب الله تعالى ذلك ثقل لثقل وجوب الطّاعة ، فأخذ بها قوم أخذ الله ميثاقهم على الوفاء ، وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك ، فصرفوه عن حدّه الذي قد حدّه الله تعالى ، فقالوا القرابة هم العرب كلّها وأهل دعوته ، فعلى أيّ الحالتين كان ، فقد علمنا أنّ المودّة هي للقرابة فأقربهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاهم بالمودّة ، وكلما قربت القرابة كانت المودّة على قدرها» (٢).

ثمّ قال الرازي في تفسيره :

وروى صاحب الكشّاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : «علي وفاطمة وابناهما». فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّ فاطمة عليها‌السلام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها» ، وثبت بالنقل المتواتر عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يحبّ عليّا والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمّة مثله ؛ لقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٣) ؛ ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٤) ؛ ولقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٥) ؛ ولقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٦).

__________________

(١). التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٦.

(٢). عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢١١ ح ١.

(٣). الأعراف / ١٥٨.

(٤). النّور / ٦٣.

(٥). آل عمران / ٣١.

(٦). الأحزاب / ٢١.

١٨٢

الثالث : أنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله : اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد وارحم محمّدا وآل محمّد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب ، وقال الشافعي رضي الله عنه :

يا راكبا قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمّد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (١)

أقول : عقد ابن قدامة الحنبلي صاحب كتاب المغني ، وكذا صاحب الشرح الكبير فصلا في باب التشهد في الصلاة ـ بعد ما نقلا الأقوال في صفة الصلاة على النبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ هناك من اختار وجوب الصلاة على (آله) ـ. قال :

فصل آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتباعه على دينه ، كما قال الله تعالى (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ)(٢) ، يعني أتباعه من أهل دينه ، وقد جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل من آل محمّد؟ فقال : كلّ تقيّ ، أخرجه تمام في فوائده ، وقيل : آله أهله ، الهاء منقلبة عن الهمزة ـ إلى أن قال ـ ومعناهما جميعا أهل دينه ، وقال ابن حامد وأبو حفص : لا يجزي لما فيه من مخالفة لفظ الأثر وتغيير المعنى فإنّ الأهل أنّما يعبّر عن القرابة والآل يعبّر به عن الأتباع في الدين(٣).

أقول : وتحريف الكلم عن مواضعه في المقام وأمثاله ممّا يخصّ مناقب عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثالا لفريضة المودّة ، فتراه يترك ما يروونه من ذكر الذريّة في صفة الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهد ، ولا يشير إليها من قريب ولا بعيد ، مع أنّ الآل في قوله تعالى :

__________________

(١). التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٦ ، ديوان الشافعي : ٨٤.

(٢). غافر / ٤٦.

(٣). المغني ١ / ٥٨٢.

١٨٣

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) (١) المراد به الرحم ؛ لأنّه ابن عمّ أو ابن خال فرعون ، وليس استعمال الآل في الأتباع على وجه الحقيقة بل المجاز.

فكان الأولى بهم الاستشهاد فى معنى اللآل بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (٢) ، فحيث وضّحت الآية الاصطفاء في آل إبراهيم وآل عمران هو في الذريّة والرحم لا في الأتباع. فالموازنة بين آل محمّد مع آل إبراهيم وآل عمران لا مع آل فرعون.

ثمّ قال الرازي :

قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، فيه منصب عظيم للصحابة ؛ لأنّه تعالى قال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٣) ، فكلّ من أطاع الله كان مقرّبا عند الله تعالى فدخل تحت قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، والحاصل أنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّ أصحابه وهذا المنصب لا يسلم إلّا على قول أصحابنا أهل السنّة والجماعة الّذين جمعوا بين حبّ العترة والصحابة ، وسمعت بعض المذكّرين قال أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات ، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين :

أحدهما : السفينة الخالية من العيوب والثقب.

والثاني : الكواكب الظاهرة الطالعة النّيرة ، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجا السلامة غالبا ، فكذلك ركب أصحابنا أهل السنّة سفينة حبّ آل محمّد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة ،

__________________

(١). غافر / ٢٨.

(٢). آل عمران / ٣٣ و ٣٤.

(٣). الواقعة / ٩ و ١٠.

١٨٤

فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة (١). انتهى.

أقول : ١. كيف يجمع الرازي بين تفسير القربى بمعنى القرابة وتفسيرها بمعنى العبادة. مع ما روي بطرق عديدة أنّهم «عليّ وفاطمة وابناهما» ، بل مع قوله تعالى في آيتي الخمس (٢) والفيء (٣) من جعلهما لله وللرسول ولذي القربى بمعنى القرابة وكذلك في آية إيتاء ذي القربى حقّه (٤) التي نزلت خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اعطاء فاطمة فدكا ، بل لم يرد لفظ وهيئة (القربى) في القرآن بمعنى العبادة والطاعة ونحوهما ، بل جميع مواردها بمعنى القرابة والأهل.

٢. أنّه لم ينقل تتمّة حديث السفينة وهي : «ومن تخلّف عنها هلك» ، وحديث السفينة دالّ على انحصار النجاة بهم ؛ كما أنّ حديث النجوم المنقول في بعض الطرق الأخرى لديهم أيضا هو : «أهل بيتي كالنجوم ...» ، ولو سلّمنا كون ألفاظ الحديث هو ما ذكرها فإنّ أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على مجموعات ، منهم جماعة السقيفة الذين عقدوا بيعة أبي بكر ، ومنهم الأنصار الذين خالفوا تلك البيعة ، ومنهم الموالين لعلي عليه‌السلام ، كسلمان وأبي ذرّ وعمّار والمقداد وبقية الاثني عشر الّذين ذكرناهم سابقا الذين اعترضوا على أبي بكر وجلوسه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا جابر بن عبد الله الأنصاري وزيد بن أرقم وأبي سعيد الخدري وغيرهم ، وبمقتضى الجمع بين الحديثين وعدم المعارضة والتوفيق بينهما هو الاقتداء بالصحابة الذين والوا عترة النبيّ وركبوا سفينة النجاة ، كما أنّ حديث السفينة المخاطب به كلّ المسلمين بما فيهم الصحابة ، ولفظ الحديث حسب ما زعم (بأيّهم اقتديتم) لفظ العموم البدلي (أي) ، المنطبق على مثل سلمان وأبي ذرّ والمقداد بل إنّ أكثر من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأد من ملازمته هم قرابته علي وفاطمة عليهما‌السلام.

__________________

(١). التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٧.

(٢). الأنفال / ٤١.

(٣). الحشر / ٧.

(٤). الإسراء / ٢٦.

١٨٥

٣. أن دعواه ركوب أصحابه سفينة حبّ آل محمّد سيأتي تفشي سنّة العداء والنصب لآل محمّد فيهم ، وجعلهم حبّ آل محمّد علامة للضعف والجرح ، وأنّهم مقيمون على الجفاء والهجر لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واقرأ التاريخ من يوم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدوث السقيفة إلى يومنا هذا فانظر من الذي وصل العترة رحم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (١)؟! ومن الذي قطع الصلة بالعترة (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)(٢)؟!

ثالثا (٣) : قد حكى القرطبي في تفسيره عن قوم القول بنسخ الآية بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) (٤) وبقوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٥) ، لكي يلحق الله تعالى نبيّه بإخوانه من الأنبياء ، حيث قالوا : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) ، ثمّ حكى تقبيح هذا القول عن الثعلبي (٧).

أقول : إنّ قوله تعالى : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) يعزز آية المودّة ولا يصادم مفادها ، بل هو شارح للأجر في آية المودّة وأنّ منفعته ونفعه عائد للمكلّفين والمسلمين أنفسهم لا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمره الله تعالى بها في آية المودّة مخالفة لسنن الأنبياء من قبل من عدم طلب الأجر على أدائهم وتبليغهم للدّين والنبوّة.

إذ المودّة في القربى التي سألها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ليس أجرا عائدا نفعه له بل نفعه ينتفع به هم أنفسهم ، وهذا ممّا ينادي أنّ مودّة القربى هي منشأ هداية لهذه الأمّة ، وهذا ما يوضحه أيضا قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ

__________________

(١). الرعد / ٢١.

(٢). البقرة / ٢٧.

(٣). تقدّم «أو لا» فى صفحة ١٧٦ و «ثانيا» فى صفحة ١٧٧.

(٤). سبأ / ٤٧.

(٥). ص / ٨٦.

(٦). الشعراء / ١٠٩.

(٧). تفسير القرطبي ١٦ / ٢٢.

١٨٦

سَبِيلاً) (١) ، أي : أنّ الأجر الذي سأله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو المودّة في القربى هو اتخاذ السبيل إلى الربّ تعالى ، فنفع المودّة عائد للأمّة نفسها لا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ المودّة تتخذ سبيلا للهداية إلى الله تعالى ، فمودّة علي وفاطمة وابناهما هداية ، وهم السبيل إليه تعالى.

ويتحصّل من ذلك : تطابق آية المودّة مع حديث الثقلين وحديث السفينة وغيرها من الآيات والأحاديث في أصحاب الكساء.

مفاد آية المودة

إنّ التأمّل والتدبّر في ألفاظ الآية يرشدنا إلى ما أشارت إليه الآيتان الأخريان من كون المودّة في القربى مصلحة عامّة للأمّة وسبيل هداية ، وأنّ هذه الفريضة التي أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغها للأمّة هي من عظائم الفرائض وأركانها ؛ وذلك لأنّ المودّة جعلت أجرا معادلا لكلّ الرسالة ومن البين أنّ تبليغ الرسالة اشتمل على تبليغ التوحيد والمعاد والإقرار والايمان بالنبوّة وغير ذلك من الأصول الاعتقادية ، فضلا عن بقية أركان الدين ، ومقتضى المعادلة بين الأجر والمعوض كون هذه الفريضة من أركان الدين.

وفي حديث الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون عن آية المودّة :

وهذه خصوصية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم ، وذلك أن الله عزوجل حكى ذكر نوح في كتابه : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢) وحكى عزوجل عن هود أنّه قال : (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣) وقال عزوجل لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد! (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ

__________________

(١). الفرقان / ٥٧.

(٢). هود / ٢٩.

(٣). هود / ٥١.

١٨٧

فِيها حُسْناً) (١)

ولم يفرض الله تعالى مودّتهم إلّا وقد علم أنّهم لا يرتدّون عن الدّين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا ، وأخرى أن يكون الرجل وادّا للرجل ، فيكون بعض أهل بيته عدوّا له ، فلم يسلم قلب الرجل له ، فأحبّ الله عزوجل أن لا يكون في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المؤمنين شيء ففرض الله عليهم مودّة ذوي القربى فمن أخذ بها وأحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحبّ أهل بيته لم يستطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته ، فعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبغضه لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله تعالى ، فأيّ فضيلة وأيّ شرف يتقدّم هذا أو يدانيه؟ ...

ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ وما بعث الله عزوجل نبيّا إلّا أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجرا ، لأنّ الله يوفّي أجر الأنبياء ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض الله عزوجل مودّة قرابته على أمّته ، وأمره أن يجعل أجره فيهم ، لتودّوه في قرابته ، لمعرفة فضلهم الذي أوجب الله عزوجل لهم ، فإنّ المودّة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل. ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ وما أنصفوا نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حيطته ورأفته ، وما منّ الله به على أمّته ممّا تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه ، أن يودّوه في قرابته وذريّته وأهل بيته ، وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس ، حفظا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وحبّا لهم ، وكيف والقرآن ينطق به ويدعوا إليه ، والأخبار ثابتة أنّهم أهل المودّة والذين فرض الله تعالى مودّتهم ووعد الجزاء عليها ، فما وفى أحد بهذه المودّة مؤمنا مخلصا إلّا استوجب الجنّة ، لقول الله عزوجل في هذه الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ

__________________

(١). الشورى / ٢٣.

١٨٨

عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) مفسّرا مبيّنا (٢).

ثمّ إنّ هناك آيات أخر دالّة على هذه الفريضة ، كقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٣) وهذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام تصدّق وهو راكع في واقعة معروفة ، فلاحظ فيها مصادر الفريقين ، وكذا آية التبليغ وآية خير البريّة ، وسورة هل أتى وغيرها من الآيات الكثيرة.

وأمّا الروايات ، والأحاديث الواردة في افتراض محبّة عترة المصطفى علي وفاطمة وولديهما فهي فوق حدّ التواتر ، فقد روي عن جابر : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نعرض أولادنا على حبّ علي بن أبي طالب (٤). وروي عن عبادة بن الصامت ، أنّه قال : كنا نبور أولادنا بحبّ علي ابن أبي طالب فإذا رأينا أحدا لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنه لغير رشدة (٥).

وروى المناوي في كنوز الحقائق ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حبّ علي عليه‌السلام براءة من النفاق» (٦) ، وروى الطبراني وغيره عن فاطمة الزهراء عليها‌السلام قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنّ السعيد كلّ السعيد من أحبّ عليّا عليه‌السلام في حياته وبعد موته ، وأنّ الشقيّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّا عليه‌السلام في حياته وبعد موته» (٧) ، وروى جابر رضى الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). الشورى / ٢٢ و ٢٣.

(٢). عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢١١ ح ١.

(٣). المائدة / ٥٥ و ٥٦.

(٤). ميزان الاعتدال ١ / ٢٣٦ ، لسان الميزان ٢ / ٢٣١.

(٥). الغريبين ـ للهروي ـ ٢١ مخطوط ، مجمع بحار الأنوار ـ للصديقي ـ ١ / ١٢١ طبعة لكهنو ، الأربعين ـ لعلي الهروي ـ ٥٤ ، المناقب ـ لعبد الله الشافعي ـ ٢١ مخطوط ، تاج العروس ٣ / ٦١ مادة «بور» ، نزهة المجالس ـ للصفوري ـ ٢ / ٢٠٨.

(٦). كنوز الحقائق : ٦٧ ، ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ ١٨.

(٧). المناقب ـ للخوارزمي ـ ٤٧ و ٨٠ عن معجم الطبراني ، ذخائر العقبى : ٩٢ ، الرياض النضرة ٢ / ٢١٤،

١٨٩

يقول : «لكلّ شيء أساس وأساس الدّين حبّنا أهل البيت» ، وفي طريق آخر «حبّ أهل بيتي» (١). وروي عن أنس بن مالك أنّه يقول : والله الذي لا إله إلّا هو لسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب» (٢).

ويمكن للقاريء العزيز مراجعة كتاب ملحقات إحقاق الحقّ بتوسط فهرست الملحقات مادة «ح ب ب» ليقف على عشرات المصادر من كتب أهل سنة الجماعة التي روت الأحاديث الجمّة في ذلك ، مثل «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا» ، فقد أخرج له في الملحقات العديد من المصادر ، وكذا «من مات على حبّ آل محمّد فأنا كفيله بالجنّة وجعل الله زوار قبره ملائكة الرحمة» ، و «لو اجتمع الناس على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق الله النار» ، و «حبّ علي براءة من النار» ، و «حبّ علي حسنة لا تضرّ معها سيئة وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة» ، و «أساس الإسلام حبّي وحبّ أهل بيتي» ، «لن يقبل الله فرضا إلّا بحبّ علي بن أبي طالب» ، «لا ينال ولاية النبيّ إلّا بحبّ علي» ، «أكثركم نورا يوم القيامة أكثركم حبّا لآل محمّد» ، «أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّا لأهل بيتي» ، «من أحبّ هذين ـ الحسنين ـ وأمّهما وأباهما كان معي في درجتي» ، «من أحبّ عليّا فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله» ، «شفاعتي لأمّتي من أحبّ أهل بيتي» ، «لا يحبّنا إلّا من طابت ولادته» ، «لا يحبّنا أهل البيت إلّا مؤمن تقيّ» ، «لا يحبّني حتّى يحبّ ذوي قرابتي» ، «من أراد دخول الجنّة بغير حساب فليحبّ أهل

__________________

ـ شرح النهج ٢ / ٤٤٩ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ ٤٦ ، مجمع الزوائد ٢ / ١٣٢ ، منتخب كنز العمال ٥ / ٤٧ ، ينابيع المودّة : ١٢٧ و ٢١٣ ، الأربعين ـ للهروي ـ ٦٥ مخطوط ، أرجح المطالب ـ للأمرتسري ـ ٥٢٢ و ٥٠٧ و ٥١٨ ، مفتاح النجاة ـ للبدخشي ـ : ٦٠.

(١). لسان الميزان ٥ / ٣٨٠ ، المناقب المرتضوية ـ للكشفي الحنفي ـ ١٠٠ ، كنز العمال ١٣ / ٩٠ و ٦ / ٢١٨ ، رموز الأحاديث ـ للكمشخانوي ـ ٤٩٨.

(٢). تاريخ بغداد ٤ / ٤١٠ ، والمناقب : ٢٤٣ ح ٢٩٠ ، لسان الميزان ٤ / ٤٧١ ، الجامع الصغير ٢ / ١٤٥ ، تاريخ دمشق ١ / ٤٥٤.

١٩٠

بيتي» ، «لا يقبل إيمان عبد إلّا بمحبته أهل بيتي» ، «عاهدني ربّي أن لا يقبل إيمان عبد إلّا بمحبّة أهل بيتي» ، وغيرها من عشرات الأحاديث لو أردنا أن نستوفيها بأكملها لخرجنا عن حدّ البحث ، لكن يمكن مراجعة تلك المصادر (١).

__________________

(١). لاحظ : فهرس ملحقات إحقاق الحقّ ٣٤ / ٤٠١ ، مادة : «ح ب ب».

١٩١

المقام الثاني

في ترك القوم فريضة المودّة وتبديلها بسنّة النّصب

والعداوة

قال ابن قدامة في المغني في كتاب الشهادات ـ شروط الشهادة ـ :

الشرط الرابع : العدالة ... فالفسوق نوعان :

أحدهما : من حيث الأفعال فلا نعلم خلافا في ردّ شهادته.

والثاني : من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب ردّ الشهادة أيضا ، وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ، وقال شريك أربعة لا تجوز شهادتهم ، (رافضي) يزعم أن له إماما مفترضة طاعته ، (وخارجي) يزعم أن الدنيا دار حرب. إلى أن قال ـ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة أضرب.

الأوّل : اختلفوا في الفروع ، فهؤلاء لا يفسقون بذلك ولا تردّ شهادتهم وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التّابعين.

الثاني : من نفسّقه ولا نكفّره وهو من سبّ القرابة كالخوارج أو سبّ الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك ... (١)

ونظير ذلك قال صاحب الشرح الكبير (٢). وقال في المغني في فصل التوبة من الكتاب المزبور :

وقد ذكر القاضي أنّ التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل

__________________

(١). المغني ١٢ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٢). الشرح الكبير بذيل المغني ١٢ / ٣٩ ـ ٤٠.

١٩٢

البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنّة ... (١)

أقول : فالرفض أحد تعاريفه لديهم هو : من يعتقد بالإمام المفترض الطاعة من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعلوا هذا الاعتقاد بدعة في الدّين ولا أدري أيّ دين يعنون؟! هل آية المودّة وآية التطهير وآية المباهلة وسورة الدهر وآية الولاية ، والتصدّق في حال الركوع ، وآية الإبلاغ في غدير خم من سورة المائدة ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي نزلت في أصحاب الكساء ، فضلا عن الأحاديث النبويّة فيهم كحديث الغدير والسفينة والثقلين والدار والمنزلة والأئمّة من قريش اثنا عشر ، وغيرها من الأحاديث النبويّة الكثيرة التي رواها الفريقان ، كلّ هذه الحجج من الكتاب والسنّة ابتداع في الدين الذي يرسمه القوم لأنفسهم؟!

والأنكى أنّ جماعة من أهل سنّة الجماعة ـ كما نقل التفتازاني في شرح المقاصد (٢) ، في مبحث الإمامة وغيره في كتب أخرى ـ قائلون بالنصّ على أبي بكر وأنّه الخليفة المنصوب المفترض طاعته ، وكذلك النصّ على عمر ، فهل القول بالنصّ عليهما غير مخرج عن الدين ، والقول بالنصّ على عليّ عليه‌السلام وولده بدعة في الدين ، لا أرى هذه التفرقة إلّا امتثالا لفريضة المودّة في القربى التي أمر القرآن بها!!

والغريب أنّ التفتازاني ثمّة أعترف ـ ونقل عن بعضهم أيضا ـ أنّ الدلائل من كلا الطرفين موجودة ، غاية الأمر انّه رجّح الدالّ منها ـ بزعمه ـ على فضائل الشيخين ، على ما دلّ على فضائل علي عليه‌السلام ، ولا ينقضي التدافع في أقوال القوم فهم من جانب يجعلون الخلافة والإمامة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفروع دون الاعتقادات ، ومن جانب آخر يجعلون الاختلاف بينهم وبين الشيعة في الإمامة والخلافة خلافا اعتقاديا ، وهذا بخلاف الاختلاف في المذاهب الأربعة ونحوها فإنّه خلاف في الفروع لاتّفاقهم على إمامة الشيخين وإن اختلفوا في التجسيم والتشبيه وفي الجبر والتفويض وفي خلق القرآن

__________________

(١). المغني ١٢ / ٨١.

(٢). تقدّم نقله.

١٩٣

وغيرها من المسائل الخطيرة الخلافية في الاعتقادات.

ثمّ أنّهم اشترطوا في التوبة الاجتناب ممّن كان يواليه من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ويوالي من كان يعاديه من أهل سنّة الجماعة ولم يذكروا ذلك في الناصبة الذين عادوا أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم يعتبروهم من أهل البدع بل من أهل سنّة الجماعة الذين اشترط موالاتهم في التوبة المتقدمة. وقال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي :

شيعي جلد ، لكنّه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم وأورده ابن عدي وقال : كان غالبا في التشيّع ، وقال السعدي : زائغ مجاهر. فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟! فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟!

وجوابه : أنّ البدعة على ضربين : فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا كثير في التّابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة ، وهذه مفسدة بيّنة ثم بدعة كبرى ، كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة. وأيضا فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا ، بل الكذب شعارهم ، والتقية والنفاق دثارهم ، فكيف يقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا ، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب عليّا رضي الله عنه ، وتعرّض لسبّهم ، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة ، ويتبرأ من الشيخين أيضا ، فهذا ضالّ معثّر ، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا ، بل قد يعتقد عليّا أفضل منهما (١). انتهى.

__________________

(١). ميزان الاعتدال ١ / ٥.

١٩٤

أقول : وإقرار الذهبي بأنّ كثيرا من رواة التّابعين وتابعيّهم هم ممن تشيّع وكان من الرافضة ، يقتضي على أصول القوم تعديلهم لأولئك الرواة وحجّيتهم بمقتضى القاعدة والأصل الذي عدّلوا به الصحابة ، وهو كونهم نقلة الدّين وأنّه لو لا هم لما وصل إلينا ، إلّا أنّ القوم لم يعملوا بهذا الأصل في التّابعين وتابعيهم فى الرواة المذكورين ، ممّا يدلل على أن وجهة التعديل ليس ذلك الأصل المتقدّم وإنّما هو بيعة السقيفة.

ويلحظ في نهج الذهبي الدمشقي الذي هو من أئمّة الجرح والتعديل لدى أهل سنّة الجماعة والذي وصفه تلميذه ابن السبكي في الطبقات بالنصب ، بل إنّ غالب أئمّة الجرح والتعديل لديهم ممّن ينصب العداوة لآل البيت عليهم‌السلام ـ كما يفوح من كلماتهم ـ : أنّه جعل حبّ أهل البيت عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو التشيّع كما يسمّيه ـ بدعة ، ولا يستغرب من جرأة القوم على القرآن والسنّة وجعلهم الفريضة العظيمة بدعة ، وسيأتي أنّهم جعلوا بغض أهل البيت سنّة وكلّما أشتد البغض أطلقوا عليه صلب في السنّة. وقد جرى على ذلك غالب أئمّة الجرح والتعديل لديهم.

ففي ترجمة إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني قال ابن حجر في تهذيب التهذيب :

قال الخلال : إبراهيم جليل جدّا ، كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراما شديدا ... وقال ابن حبّان في الثقات : كان حروري المذهب ، ولم يكن بداعية ، وكان صلبا في السنّة ، حافظا للحديث ، إلّا أنّه من صلابته ربّما كان يتعدّى طوره. وقال ابن عدي : كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي. وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه : لكنّ فيه انحراف عن علي ، اجتمع على بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فرّوجة لتذبحها فلم تجد من يذبحها ، فقال : سبحان الله فرّوجة لا يوجد من يذبحها ، وعليّ يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم. قلت : وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته ، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان حريزي المذهب وهو

١٩٥

بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاي نسبة إلى حريز ابن عثمان المعروف بالنصب(١). انتهى.

وقال الذهبي في ترجمته :

أحد أئمّة الجرح والتعديل ... كان مقيما بدمشق يحدّث على المنبر وكان أحمد يكاتبه فيتقوّى بكتابه ويقرؤه على المنبر (٢). انتهى.

أقول : فقد أفصحوا بأبلغ وضوح مرادهم من السنّة والصلابة في السنّة وهي نصب العداوة لعلي عليه‌السلام وولده ، ويلاحظها المتتبع في تراجم كثير من الرواة من التّابعين وتابعيّهم المعروفين بالنصب والجفاء للعترة ، وهذه السنّة أفرزتها السقيفة من إقصاء أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن الهجوم على بيت فاطمة عليها‌السلام ، كما جاهر بها بنو أميّة وهي طابع النهج المرواني.

ولقد ارتجّ المسجد من صياح من فيه بعمر بن عبد العزيز : السنّة السنّة تركت السنّة! عند ما ترك في خطبة الجمعة لعن ابن عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخيه!! وأصرّ أهل حران على الاستمرار على تلك السنّة لمّا نهوا عن اللعن ، وقالوا أنّ الجمعة لا تصحّ بدونها ، ولا غرو فقد أخرجت تلك السنّة في تلك البلدان أجيال ممّن تصلّبوا فيها من الوقيعة واللمز في أهل البيت عليهم‌السلام. هذا في حين يذكر الذهبي في ترجمة عمر بن سعد قاتل سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وقال العجلي : روى عنه الناس ، تابعي ثقة.

وقال ابن حجر في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي البصري :

قال أبو طالب عن أحمد : لا بأس به ، قيل له : أن سليمان بن حرب يقول : لا يكتب حديثه ، فقال : أنّما يتشيّع ، وكان يحدّث بأحاديث في فضل علي ، وأهل البصرة يغلون في علي ـ أي في بغضه ـ وقال عباس عنه : ثقة كان يحيى بن سعيد لا يكتب حديثه لا يروي عنه وكان يستضعفه ، وقال أحمد بن

__________________

(١). تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩ رقم ٣٣٢.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٧٥ ـ ٧٦.

١٩٦

سنان : رأيت عبد الرحمن بن مهدي لا ينبسط لحديث جعفر بن سليمان قال أحمد بن سنان : استثقل حديثه ، وقال ابن سعد : كان ثقة وبه ضعف وكان يتشيّع ، وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين : سمعت من عبد الرزاق كلاما يوما فاستدللت به على ما ذكر عنه من المذهب ، فقلت له : أنّ أستاذيك الذين أخذت عنهم ثقات ، كلهم أصحاب سنّة فعمّن أخذت هذا المذهب؟ فقال : قدم علينا جعفر بن سليمان فرأيته فاضلا حسن الهدي فأخذت هذا عنه.

وقال ابن الضريسي : سألت محمّد بن أبي بكر المقدمي عن حديث لجعفر ابن سليمان ، فقلت : روى عنه عبد الرزاق قال : فقدت عبد الرزاق ما أفسد جعفر غيره ـ يعني في التشيع ـ ... قال ابن حبان : كان جعفر من الثقات في الروايات غير أنّه ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه وليس بين أهل الحديث من أئمّتنا خلاف ، أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعوا إليها الاحتجاج بخبره جائز» (١). انتهى.

فيلاحظ من نقله لكلمات أئمّة الجرح والتعديل الأمور التالية :

الأوّل : جعلهم حبّ علي عليه‌السلام ونقل الرواية في فضائله بدعة ، ويسمونه تشيع ، وهم في ذلك يستحرمون الفريضة العظيمة التي أمر بها القرآن من مودّة القربى.

الثاني : جعلهم الميل إلى أهل البيت مصدر طعن وقدح في الراوي ، وتراهم يفصحون بذلك ويجاهرون به في كثير من تراجم الرواة من غير نكير وهذا شقاق مع الله ورسوله ومحادّة ، وقد طعنوا في كثير من أصحاب علي عليه‌السلام وحواريّه بمثل ذلك.

الثالث : إعراضهم عن روايات فضائل أهل البيت عليهم‌السلام التي يرويها الثقات ، وكم

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٢ / ٦١ ـ ٦٣.

١٩٧

طمس وضيّع من الآثار النبويّة في مناقب العترة ، الجمّ الغفير وترى تصريحهم بالإعراض المزبور في تراجم رواة ثقات كثير ، ومن ذلك قول الشافعي في حقّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما ذا أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفا ، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا ، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين (١). وكيف لا يكون ذلك منهم وقد منع كتابة الحديث النبوي في الصدر الأوّل تحت شعار حسبنا كتاب الله.

الرابع : جريهم على استبشاع الروايات الواردة في فضائل علي عليه‌السلام فتارة يعبرون لا ينبسط لحديث فلان ، وأخرى لا يكتب حديثه ، وثالثة استثقل حديثه وغير ذلك من عبائرهم التي تفوح بالاشمئزاز والنفرة من الذي قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ، «وعلي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار» ، «لا يبغضك يا علي إلّا منافق أو ابن زنا أو ابن حيضة» ، وغيرها من الأحاديث النبويّة.

الخامس : جعلهم الانقطاع عن أهل البيت عليهم‌السلام والابتعاد عنهم وتركهم سنّة ، والعاملين بها أصحاب سنّة كما عبّر بذلك ابن معين في كلامه مع المحدّث الحافظ عبد الرزاق الصنعاني ، وجعل موادّة عبد الرزاق لأهل البيت عليهم‌السلام فساد في الدين. ولا يخفى أن جعفر بن سليمان ممّن روى حديث الطير ، وحديث «ما تريدون من عليّ! عليّ مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي» كما ذكر ذلك الذهبي في الميزان (٢).

وقال ابن حجر في ترجمة حريز بن عثمان الحمصي :

قال معاذ بن معاذ حدّثنا حريز بن عثمان ولا أعلم أني رأيت بالشام أحدا أفضله عليه. وقال الآجري عن أبي داود : شيوخ حريز كلّهم ثقات ، قال : وسألت أحمد بن حنبل فقال : ثقة ثقة ، وقال أيضا : ليس بالشام أثبت من

__________________

(١). حلية الأبرار ١ / ٢٩٤ ، وانظر : الرواشح السماويّة : ٢٠٣ ، الأنوار البهيّة : ٦٠ ، كشف اليقين : ٤٠.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٤١٠ ـ ٤١١.

١٩٨

حريز إلّا أن يكون بحير ، وقال أيضا عن أحمد وذكر له حريز وأبو بكر بن أبي مريم وصفوان فقال : ليس فيهم مثل حريز ليس أثبت منه ...

وقال عمر بن علي : كان ينتقص عليّا وينال منه وكان حافظا لحديثه وقال في موضع آخر : ثبت شديد التحامل على علي. وقال الحسن بن علي الخلال : سمعت عمران بن إياس سمعت حريز بن عثمان يقول : لا أحبّه قتل آبائي ـ يعني عليّا ـ وقال أحمد بن سعيد الدارمي ، عن أحمد بن سليمان المروزي : سمعت إسماعيل بن عياش قال : عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكّة فجعل يسبّ عليّا ويلعنه ، وقال الضحاك بن عبد الوهاب ـ وهو متروك متّهم ـ حدّثنا إسماعيل بن عياش سمعت حريز بن عثمان يقول : هذا الذي يرويه الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعلي : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» حقّ ، ولكن أخطأ السامع ، قلت : فما هو؟ فقال : إنّما هو : أنت منّي بمنزلة قارون من موسى. قلت : عمّن ترويه؟ قال : سمعت الوليد بن عبد الملك يقول وهو على المنبر.

وقال ابن عدي : وحريز من الأثبات في الشاميين ، ويحدّث عن الثقات منهم ، وقد وثّقه القطان وغيره ، وإنّما وضع منه ببغضه لعلي ، وقيل له في ذلك ، فقال : هو القاطع رءوس آبائي وأجدادي. وقد اعتمده البخاري في صحيحه (١).

انتهى.

أقول : فانظر إلى مدح هذا الناصبيّ الوضّاع ، وتوثيقهم له وجعلهم إيّاه من الأثبات ، واعتمادهم عليه وملازمة روايته وتوثيقهم لجميع مشايخه الذين منهم الوليد بن عبد الملك!! ثمّ أين غيرتهم على الصحابة والبراءة من سبّ الصحابة؟! وأين تلك الهالة القدسيّة التي يحيطونها بالصحابي؟! وأين تلك الحميّة لصحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أو ليس ابن عمّ

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٢.

١٩٩

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجم ورأس في الصحبة والصحابة؟! علاوة على قرابته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقاماته في بناء صرح الدّين.

كلّ هذا شاهد لما كررناه في بحوث هذه الحلقات أنّ عنوان الصحابة لا يراد به إلّا أصحاب السقيفة دون الأنصار ودون بني هاشم ودون من والى عليّا عليه‌السلام من المهاجرين وسائر الصحابة ، كما أنّ مرادهم من أصحاب السنّة هو سنّة العداء والقطيعة والجفاء لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّ هذه السنّة الجاهلية والمنبعثة من السقيفة والأمويّة المروانية قد طالت شخص النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن حجر في ترجمة خالد بن سلمة بن العاص المخزومي المعروف بالفأفأ :

قال أحمد ـ أي ابن حنبل ـ وابن معين وابن المديني : ثقة ... وقال أبو حاتم : شيخ يكتب حديثه ، وقال ابن عدي : هو في عداد من يجمع حديثه ، ولا أرى بروايته بأسا ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال محمّد بن حميد عن جرير : كان الفأفأ رأسا في المرجئة وكان يبغض عليّا ، ذكره علي بن المديني يوما ، فقال : قتل مظلوما. وقع في صحيح البخاري ضمنا ، وذكر ابن عائشة أنّه : كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجى بها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). وقد وثّقه الذهبي أيضا (٢).

أقول : وكيف لا يركنون إلى أمثال هؤلاء الرواة المبغضين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته ، ـ كمروان بن الحكم ونظائره في صحاحهم ـ؟! وكيف لا يأمنونهم على دينهم والسنّة عندهم هي على قطيعة العترة وجفائهم وهجرهم والعداوة لهم؟! وهي تؤدي إلى قطيعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعداوة له ، كما أنّ مودّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤدي إلى مودّة عترته ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته متلازمان في المودّة ، وبغض أحدهما يؤدي إلى بغض الآخر وهذا هو مفاد آية المودّة ، إذ مقتضى كون مودّة القربى أجر الرسالة هو : أن تقدير نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٦٣١.

٢٠٠