الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

صريح في ذلك : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (١) ؛ فإنّ خروج قريش للحرب كان بعد انتداب أبي سفيان لحماية قافلة التجارة التي كان فيها عند ما سمع بخروج المسلمين للاستيلاء عليها ابتداء انتقاما لما فعل المشركون بهم.

وقوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً* وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٢). فإنّ هذه الآيات تفيد الغطاء الحقوقي الدفاعي للجهاد الابتدائي.

وكذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣). و (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤). و (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٥).

وتمام الكلام في أدلّة الجهاد الابتدائي موكول إلى الكتب الفقهية ، إلّا أنّ الغرض

__________________

(١). الأنفال / ٥ ـ ٨.

(٢). النساء / ٧٤ ـ ٧٦.

(٣). التوبة / ٣٨ و ٣٩.

(٤). التوبة / ٤١.

(٥). التوبة / ٢٩.

١٢١

في المقام الإشارة إلى أنّ الخلط الذي حصل كان بسبب عدم التمييز بين الجهاد الابتدائي على مستوى التنظير وسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفلسفة الحقوقية التي تنطلق منها مشروعيّته ، وبين ما حصل من ممارسة في فتوحات البلدان ، فإنّ الانطباع الذي أورثته تلك الممارسات في أذهان الأمم الأخرى عاد عقبة كئودا أمام انتشار الدين الإسلامي في أرجاء المعمورة.

فالدين الإسلامي ـ بناء على هذا الانطباع ـ غطاء يحرز من وراءه جمع الثروات ، واستعباد البشر في صورة الرقيق ، ولقضاء النزوات بعنوان ملك الإماء ، فيهلك الحرث في البلدان ، ويبيد النسل البشري فيها ، وتحت ركام هذه الصورة حاولت تلك المجموعة من المثقّفين والكتّاب في الدول الإسلاميّة القيام بعملية الغسيل ، وتمييز الوجه الناصع للدين الحنيف عن تلك الممارسات ، لكنّها خلطت بين حقيقة الجهاد الابتدائي وفلسفته الحقوقية التي ينطلق منها ، وبين ما حصل من ممارسات باسم الجهاد الابتدائي في الفتوحات التي جرت ، ونفتح أمام القارئ ملفّة كي يتبيّن له حقيقة الحال.

أغراض تشريع الجهاد الابتدائي

إنّ أغراض هذا التشريع للجهاد الابتدائي كما تدلّ عليه مجموع الآيات القرآنية المتعرّضة للجهاد الابتدائي ـ والتي تقدّمت الإشارة إلى بعضها ـ في الدين الحنيف ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١).

فإنّ هذه الآية تحدّد معلما مهمّا من معالم الجهاد ، وإنّ الغرض فيه ليس جمع الغنائم والأموال والاسترقاق ، بل قيادة الجموع البشرية وهدايتها إلى طريق الله وعبادته.

__________________

(١). النساء / ٩٤.

١٢٢

وكذا قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (١).

وهذه ملحمة قرآنية عمّن هو في الصفوف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عسل اللسان والكلام ، ولكنّ قلبه مخالف تماما لما يظهره على لسانه ، وهو شديد العداوة لله ولرسوله ، والآية تخبر أنّه إذا تولّى الأمور فسوف يكون سعيه في ولايته فسادا في الأرض وإهلاكا للحرث والنسل البشري ، والحال إنّ الله تعالى لا يحبّ الفساد في التكوين ، وإنّ خاصية هذا المتولّي التعصّب لفعله أمام نصيحة الآخرين له ، كما إنّ هذه الآية تحدّد أغراض الدين ـ بما فيه الجهاد الابتدائي ـ بأنّه ليس للإفساد في الأرض وإهلاك الموارد الطبيعية أو الإنجازات المدنية التي حقّقها البشر ، ولا الهدف تبديد النسل.

وكذا قوله تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها* إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٢).

فهذه الآيات ترسم ملحمة مستقبلية لجماعة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، وهذه

__________________

(١). البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٢). محمّد / ٢٠ ـ ٣٠.

١٢٣

الجماعة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة المدّثّر ، رابع سورة نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوائل البعثة الشريفة في مكّة المكرّمة ، وأعلن وجودها في صفوف الثلّة الأولى التي أسلمت ، قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ* وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (١).

فإنّ الآيات تبيّن أنّ المخاطب بعدّة الملائكة الموكّلين بالنار على أربعة أقسام :

الأوّل : (الَّذِينَ آمَنُوا) ، والثاني : (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، والثالث : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، والرابع : (الْكافِرُونَ) ، وتخبر أنّ الذي سيحصل له الإيمان هما القسمان الأوّلان ، أمّا القسمان الآخران فسيحصل لديهما الارتياب. ومن الواضح أنّ المرض الذي في القلب نحو من النفاق الخفيّ جدّا ، أي الذي لا يظهر على صاحبه ، بل يبطنه في قلبه وخفاء أعماله ، وقد ذكرنا أنّ الآيات القرآنية تتابع هذه الفئة والجماعة في كثير من السور ، تحت هذا العنوان وبهذا الاسم إلى آخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن.

والآيات هنا من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبيّن أنّ غرض هذه الفئة هو تولّي الأمور والأخذ بزمامها ، وأنّ ذلك الغرض هو وراء انضمامها إلى صفوف المسلمين الأوائل ؛ إذ إنّ خبر ظفر النبيّ المبعوث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منتشرا قبل البعثة ، كما يشير إليه قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٢).

فقد أشارت الآية إلى أنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون وينتظرون ويطلبون الفتح والنصر والظفر بالنبيّ ـ الذي سيبعث خاتما ـ على الكافرين من مشركي الجزيرة العربية

__________________

(١). المدّثّر / ٣٠ و ٣١.

(٢). البقرة / ٨٩.

١٢٤

، فلمّا عرفوا ذلك وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعث كفروا برسالته ؛ فالسورة تبيّن أنّ غرض هذه الفئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هو تسلّم مقاليد الأمور ، وأنّها كانت على اتّصال في الخفاء وارتباط مع فئات معادية علنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ...) ، وكذلك بقية السور المتعرّضة لهذه الفئة بهذا الاسم تشير إلى هذه العلاقات بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأخرى.

ثمّ إنّ السورة تبيّن أنّ طابع سياسة الدولة التي يقيمها أفراد هذه الفئة هو الإفساد في الأرض ، وقطع الصلة بمن أمر تعالى بوصلهم ومودّتهم ، كالذي تشير إليه آية ٢٠٥ من سورة البقرة : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ؛ فهذه الآيات تحدّد أنّ أغراض الشريعة ـ في أحكامها وقوانينها السياسية ، وأبواب فقه النظام والسياسة الشاملة للجهاد الابتدائي ـ ليس الإفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث ، وتبديد النسل البشري ، فإنّ الله يحبّ صلاح الأرض وأهلها ، فهذا هو سبيل الله تعالى الذي أمرت الآيات القرآنية العديدة بالقتال فيه ، وفي سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ؛ لأجل إزالة استضعافهم وإرجاع حقوقهم المغتصبة.

ونلخّص ما تقدّم فى هذا الموضوع بجملة مختصرة ، وهى : إنّ البحث عن «عدالة الصحابة» لا بدّ من التعمّق فيه ، ورفع الإجمال يكتنفه ، هل المراد به : كلّ الصحابة ، أم بعضهم؟! ومن هم أولئك البعض؟! هل هم تكتّل بيعة السقيفة ورموزها ، أم يشمل سعد بن عبادة والأنصار والبيت الهاشمى وعليا عليه‌السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد وعمّارا ، وغيرهم ممّن كان فى تكتّل على عليه‌السلام؟! فهل الدائرة هى بحسب ما يذكر فى تعريف الصحابى ، أم أضيق؟!

ثمّ ما المراد بالعدالة؟! هل هى بمعنى الإمامة فى الدين؟! وما المراد بحجيّة قول وعمل الصحابى؟! هل هى بمعنى العصمة؟!

أم بمعنى حجّية الفتوى كمجتهدين ، مثل بقية المجتهدين ، بحدود اعتبار الاجتهاد وضوابط موازينه الشرعية؟!

١٢٥

وعلى هذا ، فلم لا يحتمل القائل خطأ أصحاب السقيفة في بيعتهم ، وخطأ اجتهادهم مع وجود النصّين القرآني والنبوي على إمامة عليّ عليه‌السلام؟! ولم يدّعي القائل امتناع احتمال ذلك؟! وكيف يبيّن الملازمة بين فضيلة الشيخين ، وبين امتناع خطأ اجتهادهما ، بعد فرض تسليمه بعدم عصمتهما؟! وإذا كانت المسألة اجتهاديّة فلم لا يسوّغ الاجتهاد المخالف؟!

أم هي بمعنى حجّية روايتهم كرواة ثقات ، بحدود حجّيّة قول الراوي في الخبر؟! ثمّ ما هو الغرض المترتّب على سدّ الحديث والكلام عمّا وقع منهم وبينهم؟! وكيف يتلاءم ذلك مع دعوى الاقتداء بهم ، إذا لم تعرف سيرتهم وأعمالهم؟!

ونذيّل المقال ببعض الأحاديث التي ذكرها أصحاب الصحاح :

١. روى البخاري في صحيحه ، عن أبي وائل ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : «إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون» (١).

وهو مثار سؤال واجه كثيرا من الباحثين في التاريخ الإسلامي ؛ إذ أنّ القرآن الكريم في سوره المباركة أشار إلى مشكلة كبيرة وخطيرة كانت قائمة تواجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وهي أصناف وطوائف المنافقين ، وقد أشرنا في ما سبق إلى بعض تلك السور الكريمة ، ولا يفتأ القرآن يتابعهم في كلّ خطواتهم ، التي كانت خطيرة على أوضاع المسلمين حتّى آخر حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن فجأة لا يرى الباحث في التاريخ وجودا لهذه المشكلة بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فهل إنّ أفراد طوائف ومجموعات النفاق قد تابوا وآمنوا بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أم إنّ الوضع ـ كما يصفه حذيفة بن اليمان ، الخبير بمعرفة المنافقين ، كما في روايات الفريقين ، والذي شهد مؤامرة العقبة التي دبّرت في غزوة «تبوك» لاغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عاد مؤاتيا لتحرّكهم وفسح المجال لهم بالجهر بمقاصدهم التي يحيكونها

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٦ كتاب الفتن ب ٢١.

١٢٦

ضدّ الإسلام؟!

٢. وروى أيضا ، عن أبي الشعثاء ، عن حذيفة ، قال : «إنّما كان النفاق على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمّا اليوم فإنّما هو الكفر بعد الإيمان» (١).

٣. وروى مسلم في صحيحه ، عن قيس ، قال : «قلت لعمّار : أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليّ ، أرأيا رأيتموه ، أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ، فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكنّ حذيفة أخبرني ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ؛ وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم. والذيل من قول الراوي عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس» (٢).

وروى مثله بطريق آخر (٣).

وما قاله عمّار بيّن ؛ لأنّ تنصيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام يوم الغدير كان على ملأ الناس الراجعين من حجّة الوداع ، وغيرها من المواطن الأخرى ، وإنّما أراد عمّار بيان أنّ مناوئي عليّ عليه‌السلام وخصومه كان حذيفة قد عدّهم من الاثني عشر منافقا الّذين يمتنع دخولهم الجنّة.

٤. وروى بعد الحديثين السابقين ، عن أبي الطفيل ، قال : «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك! قال : كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٨ كتاب الفتن ب ٢١.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

(٣). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

١٢٧

الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (١) ...» الحديث.

٥. وروى مسلم ، عن ابن عمر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام عند باب حفصة ، فقال بيده نحو المشرق : «الفتنة هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان» قالها مرّتين أو ثلاثا(٢).

وقال عبيد الله بن سعيد في روايته : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند باب عائشة (٣). وروى عن ابن عمر ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيت عائشة فقال : «رأس الكفر من هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان» يعني المشرق. والذيل من تفسير الراوي (٤).

٦. وروى أيضا ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أخبرني من هو خير منّي ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول : «بؤس ابن سميّة ، تقتلك فئة باغية» وفي طريق : «ويس أو : يا ويس ابن سميّة» (٥). قال النووي في شرح الحديث : «قال العلماء : هذا الحديث حجّة ظاهرة في أنّ عليّا رضى الله عنه كان محقّا مصيبا ، والطائفة الأخرى بغاة ، لكنّهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك ، كما قدّمناه في مواضع ، منها هذا الباب ، وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوجه ، منها : إنّ عمّارا يموت قتيلا ، وإنّه يقتله مسلمون ، وإنّهم بغاة ، وإنّ الصحابة يقاتلون ، وإنّهم يكونون فرقتين : باغية وغيرها ، وكلّ هذا وقع مثل فلق الصبح ، صلّى الله وسلّم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى (٦). وروى بطرق أربعة أخرى ما يقرب من ألفاظ هذا الحديث من أنّ عمّارا تقتله الفئة الباغية» (٧).

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٢٣ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٨١ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٣). صحيح مسلم ٨ / ١٨١ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٤). صحيح مسلم ٨ / ١٨١ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٥). صحيح مسلم ٨ / ١٨٥ ـ ١٨٦ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٦). صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ / ٣٤ ح ٢٩١٦.

(٧). صحيح مسلم ٨ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ، صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ / ٣٣ ـ ٣٤ ح ٢٩١٥ و ٢٩١٦.

١٢٨

هذا ، وإذا كان النووي يجوّز خطأ اجتهاد معاوية لوجود النصّ على حقّ وصواب عليّ عليه‌السلام ، فلم لا يجوّز النووي وأهل الجماعة خطأ اجتهاد الشيخين مع وجود النصّ على عليّ عليه‌السلام؟! فإذا كان الاجتهاد ممكن مع وجود النصّ ، ويمكن تأوّل المجتهد للنصّ ، فلم لا يمكن خطأ المجتهد في تأوّله؟! ولم يمتنع خطأ اجتهاد أصحاب السقيفة في تأوّلهم للنصّ على عليّ عليه‌السلام؟! ولم لا يسوّغ أهل الجماعة لأنفسهم الاجتهاد في صحّة أو خطأ بيعة السقيفة ، ويفتحوا باب الاجتهاد في ذلك ما دامت أنّ المسألة اجتهادية؟! فكيف يدّعون فيها الضرورة أو التسالم ويغلقون باب الاجتهاد والفحص والتحرّي عن الحقيقة؟!

٧. وروى أيضا ، عن أبي إدريس الخولاني : «كان يقول حذيفة بن اليمان : والله إنّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة في ما بيني وبين الساعة وما بي إلّا أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرّ إليّ في ذلك شيئا لم يحدّثه غيري ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال وهو يحدّث مجلسا أنا فيه عن الفتن (١). الحديث». وروى أيضا ، عن عبد الله بن يزيد ، عن حذيفة ، أنّه قال : «أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، فما منه شيء إلّا وقد سألته ، إلّا أنّي لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة» (٢).

٨. ورووا في الصحاح ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «بينا أنا قائم ـ يعني يوم القيامة على الحوض ـ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ. فقلت : أين؟! ؛ فقال : إلى النار والله ؛ قلت : وما شأنهم؟! ؛ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ـ إلى أن قال : ـ فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم» (٣). الحديث.

وهو يطابق قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٧٢ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٧٢ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٣). صحيح البخاري ٨ / ٢١٧ ح ١٦٦ كتاب الرقاق باب الحوض.

١٢٩

انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(١). ومفاد الآية ملحمة قرآنية عمّا بعد حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ إنّ القائلين بعدالة الصحابة ما داموا لا يرون في تفسير فضيلة الشيخين معنى العصمة ، فلم يدّعون الملازمة بين اجتهادهما في أمر الخلافة وبين الصواب ، وأنّ تخطئتهما في ما اجتهدا فيه مخالفة لضرورة الدين أو للمتسالم عندهم؟! ، أليست دعوى ضرورة صوابهما هي تثبيت عصمتهما؟! ، أو ليس امتناع الخطأ منهما ينافي القول بأنّ ما أتيا به هو اجتهاد منهما؟! ؛ كما إنّه ما هو المحصّل من وراء الفضيلة لهما؟! ، هل بمعنى امتناع خطئهما ، وأنّ ما أتيا به لا يمكن أن يخطئ الواقع ؛ فبتوسّط تلك الفضيلة لم يكن ما يريانه اجتهاد ، وإنّما هو عين اللوح المحفوظ؟!! كلّ هذه الجهات يراها الناظر مدمجة عند القائلين بالمقالة المزبورة!

__________________

(١). آل عمران / ١٤٤.

١٣٠

٥

موقف الصديقة فاطمة عليها‌السلام

تجاه الصحابة

١٣١
١٣٢

فقد روي عن المفضّل بن عمر ، قال :

قال مولاي جعفر الصادق عليه‌السلام : لمّا ولي أبو بكر بن أبي قحافة ... ثمّ سردعليه‌السلام منعه فاطمة وعليّ وأهل بيته الخمس والفيء وفدكا ، ومجيء فاطمة لمحاجّة أبي بكر بقوله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (١) وأنّها وولدها أقرب الخلائق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢) وقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ) (٣) وأنّ ما لله فهو لرسوله ، وما لرسوله فهو لذي القربى ، وأنّها وعليّ وولدهما ذوو القربى الّذين قال الله تعالى فيهم : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٤)

فنظر أبو بكر بن أبي قحافة إلى عمر بن الخطّاب وقال : ما تقول؟ ؛ فقال عمر :

ومن اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟! ؛ قالت فاطمة عليها‌السلام : اليتامى الّذين

__________________

(١). الروم / ٣٨.

(٢). الأنفال / ٤١.

(٣). الحشر / ٧.

(٤). الشورى / ٢٣.

١٣٣

يأتمّون بالله وبرسوله وبذي القربى ، والمساكين الّذين أسكنوا معهم في الدنيا والآخرة ، وابن السبيل الذي يسلك مسلكهم. قال عمر : فإذا الخمس والفيء كلّه لكم ولمواليكم وأشياعكم؟!

فقالت فاطمة عليها‌السلام : أمّا فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا ، وأمّا الخمس فقسّمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله. قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟! قالت فاطمة : إن كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسّمها الله وأوجبها في كتابه فقال الله عزوجل : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ) (١) ... إلى آخر القصّة. قال عمر : فدك لك خاصّة والفيء لكم ولأوليائكم؟! ما أحسب أصحاب محمّد يرضون بهذا!!

قالت فاطمة : فإنّ الله عزوجل رضي بذلك ، ورسوله رضي به ، وقسّم على الموالاة والمتابعة لا على المعاداة والمخالفة ، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن خالفنا فقد خالف الله ، ومن خالف الله فقد استوجب من الله العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة. فقال عمر : هاتي بيّنة يا بنت محمّد على ما تدّعين؟! ؛ فقالت فاطمة عليها‌السلام : قد صدّقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله ولم تسألوهما البيّنة! وبيّنتي في كتاب الله. فقال عمر : إنّ جابرا وجريرا ذكرا أمرا هيّنا ، وأنت تدّعين أمرا عظيما يقع به الردّة من المهاجرين والأنصار! فقالت ٣ : إنّ المهاجرين برسول الله وأهل بيت رسول الله هاجروا إلى دينه ، والأنصار بالإيمان بالله ورسوله وبذي القربى أحسنوا ، فلا هجرة إلّا إلينا ، ولا نصرة إلّا لنا ، ولا اتّباع بإحسان إلّا بنا ، ومن ارتدّ

__________________

(١). التوبة / ٦٠.

١٣٤

عنّا فإلى الجاهلية (١)

فها هي بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمحّص عن الضابطة القرآنية في حسن الصحبة وسوئها ، وهي على الموالاة والمتابعة لرسول الله وأهل بيته لا المعاداة لهم والمخالفة ، وأنّ الهجرة تحقّقت بهم ، والنصرة بنصرة الله ورسوله وذي القربى ، فلا هجرة إلّا إليهم لا إلى غيرهم ، ولا نصرة إلّا لهم لا عليهم ، ولا اتّباع بإحسان إلّا باتّباع سبيلهم وصراطهم. اهدنا الصراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين ، سبيل وصراط المطهّرين من المعصية والذنوب ، ومن الضلالة والجهل والعمى.

ودلّلت على ذلك بأن قرن تعالى بين رسوله وبين ذي القربى في مواطن ، كما في اختصاص الخمس والفيء ـ الذي وصفه عمر بأنّه أمرا عظيما ـ بالله ورسوله وذي القربى ، لمكان اللام ، دون اليتامى والمساكين وابن السبيل ، والتفرقة للدلالة على أنّ ملكية التصرّف هي شأنه تعالى ورسوله وذي القربى ، وأنّ مودّة ذوي القربى المفترضة في الكتاب كأجر لكلّ الرسالة هو موالاتهم ومجانبة عدائهم ومخالفتهم ، فمدار حسن الصحبة على ذلك وسوئها على خلافه.

ولقد أنصف أحمد بن حنبل ؛ إذ يروي عنه الفقيه الحنبلي ابن قدامة عند قوله :

وأمّا حمل أبي بكر وعمر (رض) على سهم ذي القربى في سبيل الله ، فقد ذكر لأحمد فسكت وحرّك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عبّاس ومن وافقه أولى ؛ لموافقته كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم ، فإنّ ابن عباس لمّا سئل عن سهم ذي القربى فقال : إنّا كنّا نزعم أنّه لنا فأبى ذلك علينا قومنا ؛ ولعلّه أراد بقوله (أبى ذلك علينا قومنا) فعل أبي بكر وعمر (رض) في حملهما عليه في سبيل الله ومن تبعهما على ذلك ، ومتى اختلف الصحابة وكان قول بعضهم يوافق الكتاب والسنّة كان أولى ، وقول

__________________

(١). الكشكول في ما جرى على آل الرسول : ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، وبحار الأنوار ٢٩ / ١٩٤ ح ٤٠ ، نقلا عنه.

١٣٥

ابن عبّاس موافق للكتاب والسنّة (١).

وروى البخاري بسنده عن عائشة ، في كتاب المغازي باب ٣٨ باب غزوة خيبر :

إنّ فاطمة عليها‌السلام بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّا لا نورّث ما تركناه صدقة ، إنّما يأكل آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا المال ، وإنّي والله لا أغيّر من صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبو بكر ، وصلّى عليها (٢).

ورواه مسلم في صحيحه بنفس ألفاظه ، وأحمد في مسنده (٣).

وفي هذا الرواية التي هي من طرقهم (٤) ، ونظيراتها ممّا رووها ، فضلا عن طرقنا ، ما يدلّ على إنّها عليها‌السلام كانت ساخطة على أبي بكر وعمر ، منكرة لخلافتهم وإمامتهم إلى أن توفّيت عليها‌السلام ، مع إنّ من مات ولم يبايع أو لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وكفر وضلال ، ممّا يدلّ على نفي إمامتهم وخلافتهم ، لكونها مطهّرة في القرآن من كلّ

__________________

(١). المغني ٧ / ٣٠١.

(٢). صحيح البخاري ٥ / ١٧٧ ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٤٩٣.

(٣). صحيح مسلم : ١٣٨٠ ح ١٧٥٩ ، مسند أحمد ٢ / ٢٤٢ وص ٣٧٦ وص ٤٦٣ ـ ٤٦٤ ؛ وفيه : عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله :

لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة

(٤). صحيح ابن حبان ١٤ / ٥٧٣ ح ٦٦٠٧.

١٣٦

رجس ، وهي سيّدة نساء العالمين ، وأنّ الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

والغريب في دعوى أبي بكر بكون الخمس والفيء الخاصّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذي القربى صدقة ، فإنّ الناظر على الصدقة الجارية أيضا هو الوارث لا الأجنبي ، فإنّ ولاية النظارة على الصدقات الجارية أيضا هي من نصيب الوارث ، فكيف يمنعها عن الوارث؟!! وفي موضع آخر (١) قالت عليها‌السلام في معرض خطبتها المعروفة تجاه المهاجرين :

قالت ـ بعد الثناء على الله تعالى بأبلغ ثناء ، وذكر نعمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هدايته للأمّة ، وكثرة وشدّة بلاء ابن عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب في إرساء الدين ـ :

وأنتم في بلهنية من العيش ـ أي سعة ـ وادعون آمنون ، حتّى إذا اختار الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبع خامل الآفلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتموها غير شربكم.

هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢) ، فهيهات منكم! وأنّى بكم؟! وأنّى تؤفكون؟! وهذا كتاب الله بين أظهركم ، وزواجره بيّنة ، وشواهده لائحة ، وأوامره واضحة ، أرغبة عنه تدبرون؟! أم بغيره تحكمون؟! (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٣) ... (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ

__________________

(١). بلاغات النساء : ١٢ ـ ٢٠ ، الاحتجاج ١ / ٢٦٣ ، بحار الأنوار ٢٩ / ١٠٨ ح ٢ وص ٢٣٣ ضمن ح ٨ خطبة الزهراء عليها‌السلام ، وانظر : شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٢.

(٢). التوبة / ٤٩.

(٣). الكهف / ٥٠.

١٣٧

مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١)

ثمّ لم تريثوا إلّا ريث أن تسكن نغرتها ، تشربون حسوا ، وتسرون في ارتغاء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا. (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢)؟!

ويها معشر المهاجرين! أأبتزّ إرث أبي؟! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا. فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون و (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٣).

ثمّ انحرفت إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقول :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا

تجهمتنا رجال واستخفّ بنا

بعد النبيّ وكلّ الخير مغتصب

سيعلم المتولى ظلم حامتنا

يوم القيامة أن سوف ينقلب

فقد لقينا الذي لم يلقه أحد

من البرية لا عجم ولا عرب.

وقالت عليها‌السلام (٤) تجاه الأنصار :

__________________

(١). آل عمران / ٨٥.

(٢). المائدة / ٥٠.

(٣). الأنعام / ٦٧.

(٤). بلاغات النساء : ١٢ ـ ٢٠.

١٣٨

معشر البقية ، وأعضاد الملّة ، وحصون الإسلام! ما هذه الغميزة في حقّي ، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : المرء يحفظ في ولده؟! سرعان ما أجدبتم فأكديتم ، وعجلان ذا إهانة ، تقولون : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فخطب جليل استوسع وهيه ، واستنهر فتقه ، وبعد وقته ، وأظلمت الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتلك نازلة علن بها كتاب الله في أفنيتكم ، في ممساكم ومصبحكم ، يهتف بها في أسماعكم ، وقبله حلّت بأنبياء الله عزوجل ورسله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١)

إيها بني قيلة! أأهضم تراث أبيه وأنتم بمرأى منه ومسمع؟! تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الحيرة ، وفيكم العدد والعدّة ، ولكم الدار ، وعندكم الجنن ، وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه ، وأنصار رسوله وأهل الإسلام والخيرة التي اختار لنا أهل البيت ، فباديتم العرب ، وناهضتم الأمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح نأمركم وتأتمرون ، حتّى دارت لكم بنا رحا الإسلام ، ودرّ حلب الأنام ، وخضعت نعرة الشرك وباخت نيران الحرب ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأسررتم بعد الإعلان ، لقوم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أوّل مرة. (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢)؟!

ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وركنتم إلى الدعة فعجتم عن الدين ، ومججتم الذي وعيتم ، ودسعتم الذي

__________________

(١). آل عمران / ١٤٤.

(٢). التوبة / ١٣.

١٣٩

سوّغتم ف (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١).

ألا وقد قلت الذي قلته على معرفة منّي بالخذلان الذي خامر صدوركم ، واستشعرته قلوبكم ، ولكن قلته فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وبثّة الصدر ، ومعذرة الحجّة ، فدونكموها فاحتقبوها ، مدبرة الظهر ، ناكبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بشنار الأبد ، موصولة ب (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٢) ، فبعين الله ما تفعلون. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٣) ، وأنا ابنة (نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤) ف (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (٥).

ثمّ إنّها عليها‌السلام تشير في استنهاضها الأنصار إلى بيعتهم ، بيعة العقبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين عاهدوه على أن يمنعوه وذرّيّته ممّا يمنعون منه أنفسهم وذراريهم ، وكانت تقول عند ما دار بها عليّ عليه‌السلام على أتان والحسنين عليهما‌السلام معها على بيوت المهاجرين والأنصار :

يا معشر المهاجرين والأنصار! انصروا الله فإنّي ابنة نبيّكم وقد بايعتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بايعتموه أن تمنعوه وذرّيّته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيعتكم (٦).

وقالت عليها‌السلام عند ما اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها : يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! كيف أصبحت عن علّتك؟ فقالت عليها‌السلام :

أصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ،

__________________

(١). إبراهيم / ٨.

(٢). الهمزة / ٦ و ٧.

(٣). الشعراء / ٢٢٧.

(٤). سبأ / ٤٦.

(٥). هود / ١٢١ و ١٢٢.

(٦). الاختصاص ١٨٣ ـ ١٨٥ ، وانظر : شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٠ ـ ٢١٣ ، الاحتجاج ١ / ٢٠٦ وص ٢٠٩ ، الغدير ٧ / ١٩٢ ؛ وذكر جملة من المصادر.

١٤٠