الصّحابة بين العدالة والعصمة

الشيخ محمد السند

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف:

الشيخ محمد السند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

الإيمان والعمل الصالح.

ويتطابق هذا المفاد مع ما في سورة الأحزاب من مضاعفة العذاب ضعفين على المعصية ، وإن أطعن الله ورسوله فلهنّ الأجر مرّتين ، وقد نزل القرآن بالأمر بالقرار في البيوت ، وعدم التبرّج ، وبإطاعة الله ورسوله ، علما أنّ الزوجية هي شدّة من الصحبة ، ومع ذلك فالمدار عند الله تعالى بحسب هذه السورة وبقية السور هو على الإيمان والعمل الصالح وطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ هذه الصحبة لا تغني عنهما من الله شيئا! ، فمن كلّ ذلك يتبيّن أنّ سبيل المؤمنين وصالحهم ليس هو مجموع الأمّة ، بل هو الفئة المؤمنة حقّا وواقعا.

وهؤلاء القائلون بعدالة الصحابة ـ بالمعنى الذي تقدّم شرحه ، فإنّه يضاهي الإمامة في الدين ، والعصمة والحجّيّة بذلك المعنى ، في الدائرة الضيّقة من جماعة السقيفة ، وبالخصوص في الأوّل والثاني ـ هم في الوقت نفسه يلتزمون بعدم عصمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطلقة ، فيجوّزون وقوع الخطأ منه ـ والعياذ بالله ـ! ففي الوقت الذي يرفعون من مقام الأوّلين ، فهم يحطّون من مقام النبوّة ، فتراهم يقولون باجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي قوله بالظنّ ، وأنّه قد يصيب وقد يخطئ! كما إنّهم يلتزمون بمسألة أخرى ، وهي جواز اجتهاد الصحابة في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الحضور أو الغياب! ؛ نعم ، قد رفض هذا القول بعض منهم ، كأبي علي الجبّائي وابنه هاشم لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (١) (٢).

وعن ابن حزم الأندلسي في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل ، أنّ الأنبياءعليهم‌السلام غير معصومين من الخطأ ، قال تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٣) وقوله : (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٤) وأنّ التوبة لا تكون إلّا من ذنب ، وهذا وقع منه عن قصد إلى خلاف ما أمر

__________________

(١). النجم / ٣.

(٢). فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت ـ المطبوع بذيل المستصفى ٢ / ٣٧٥.

(٣). طه / ١٢١.

(٤). طه / ١٢٢.

١٠١

به ، متأوّلا في ذلك ولا يدري أنّه عاص ، بل كان ظانّا أنّ الأمر للندب مثلا أو النهي لكراهة.

وقال الله لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (١) أنّه غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله ، فعوقب بذلك ، وإن كان ظانّا أنّ هذا ليس عليه فيه شيء ، وهذا هو ما أراده الله من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نهي عن مغاضبة قومه ، وأمر بالصبر على أذاهم ، وأمّا إخبار الله بأنّه استحقّ الذمّ والملامة لو لا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا في بطن الحوت(٢).

وذهب القاضي عياض في الشفا إلى جواز اجتهاد الأنبياء في الأمور الدنيويّة فقط ، مستدلّا بحديث تأبير النخل (٣). وقال كمال الدين ابن همام الدين الحنفي ، المتوفّى سنة ٨٦١ ه‍ ، في كتاب التحرير : إنّ الرسول مأمور (بالاجتهاد مطلقا) في الأحكام الشرعية والحروب والأمور الدينيّة من غير تقييد بشيء منها (٤). وقال ابن تيميّة في غير ما يتعلّق بالتبليغ : إنّ الأنبياء كانوا دائما يبادرون بالتوبة والاستغفار عند الهفوة ، والقرآن شاهد عدل ، فهو لم يذكر شيئا من ذلك عن نبيّ من الأنبياء إلّا مقرونا بالتوبة والاستغفار (٥). وقال الغزّالي في المستصفى :

المختار جواز تعبّده بذلك ، لأنّه ليس بمحال في ذاته ، ولا يفضي إلى محال ومفسدة. فإن قيل : المانع منه أنّه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح ، فكيف يرجم بالظنّ؟! ؛ قلنا : فإذا استكشف فقيل له : حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبّد به ، فهل له أن ينازع الله فيه ، أو يلزمه أن يعتقد أنّ

__________________

(١). القلم / ٤٨ و ٤٩.

(٢). انظر : الفصل ٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٧ و ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٣). الشفا ٢ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٤). راجع تيسير التحرير ـ شرح محمّد أمين الحنفي على كتاب التحرير ـ ٤ / ١٨٥.

(٥). انظر : منهاج السنّة ٢ / ٣٩٦ ـ ٤٠٣.

١٠٢

صلاحه في ما تعبّد به؟!

فإن قيل : قوله نصّ قاطع يضادّ الظنّ ، والظن يتطرّق إليه احتمال الخطأ ، فهما متضادّان ؛ قلنا : إذا قيل له : ظنّك علامة الحكم ، فهو يستيقن الظنّ والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ ، وكذلك اجتهاد غيره عندنا ، ويكون كظنّه صدق الشهود ، فإنّه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزوّرا في الباطن.

فإن قيل : فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكلّ حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه! ؛ قلنا : لو تعبّد بذلك لجاز ، ولكن دلّ الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده ، كما دلّ على تحريم مخالفة الأمّة كافّة ، وكما دلّ على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم ؛ لأنّ صلاح الخلق في اتّباع رأي الإمام والحاكم وكافّة الأمّة ، فكذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن ذهب إلى أنّ المصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره ومنهم من جوّز عليه الخطأ ولكن لا يقرّ عليه.

فإنّ قيل : كيف يجوز ورود التعبّد بمخالفة اجتهاده ، وذلك يناقض الاتّباع ، وينفّر عن الانقياد؟! قلنا : إذا عرّفهم على لسانه بأنّ حكمهم اتّباع ظنّهم وإن خالف ظنّ النبيّ ، كان اتّباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود ، فإنّه لو قضى النبيّ بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما ، فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما.

وأمّا التنفير ، فلا يحصل ، بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا.

فإنّ قيل : لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا؟ إن قلتم : لا ؛ فمحال ؛ لأنّه صار منصوصا عليه من جهته. وإن قلتم : نعم ؛ فكيف يجوز القياس على الفرع؟! ؛ قلنا : يجوز القياس عليه وعلى كلّ فرع أجمعت

١٠٣

الأمّة على إلحاقه بأصل ؛ لأنّه صار أصلا بالإجماع والنصّ (١).

نقلنا كلامه بطوله لأنّه تلخيص لأقوالهم في المسألتين ، ويتلخّص من كلامهم أمور :

الأوّل : مساواة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغيره من رعيّته في تجويز الاجتهاد ، وتجويز مخالفة غيره له في الاجتهاد.

الثاني : إنّ الإجماع وإطباق كافّة الأمّة هو الحجّة الأصل عندهم لأقوال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع إنّ حجّيّة الإجماع لديهم مستقاة من الحديث النبوي.

الثالث : تسويتهم بين الموضوعات والأحكام الكلّيّة ، وبين الموضوع في الأمور العامّة والموضوع في الأمر الخاصّ بأحد المكلّفين ، مع إنّ الموازين المتّبعة في كلّ شقّ مختلفة عنها في الشقّ الآخر كما هو محرّر في أصول الفقه.

وقال الغزّالي في مسألة جواز الاجتهاد في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المختار أنّ ذلك جائز في حضرته وغيبته ، وأن يدلّ عليه بالإذن أو السكوت ؛ لأنّه ليس في التعبّد به استحالة في ذاته ، ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة ، وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبّدهم بالاجتهاد ؛ لعلمه بأنّه لو نصّ لهم على قاطع لبغوا وعصوا.

فإن قيل : الاجتهاد مع النصّ محال ، وتعرّف الحكم بالنصّ بالوحي الصريح ممكن ، فكيف يردّهم إلى ورطة الظنّ؟!

قلنا : فإذا قال لهم : أوحي إليّ أنّ حكم الله تعالى عليكم ما أدّى إليه اجتهادكم وقد تعبّدكم بالاجتهاد ، فهذا نصّ ، وقولهم : (الاجتهاد مع النصّ محال) مسلّم ، ولكن لم ينزل نصّ في الواقعة ، وإمكان النصّ لا يضادّ الاجتهاد ، وإنّما يضادّه نفس النصّ ؛ كيف؟! وقد تعبّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء بقول الشهود حتّى قال : إنّكم لتختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون

__________________

(١). المستصفى ٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ القطب الرابع ، الفن الأوّل في الاجتهاد.

١٠٤

ألحن بحجّته من بعض ؛ وكان يمكن نزول الوحي بالحقّ الصريح في كلّ واقعة حتّى لا يحتاج إلى رجم بالظنّ وخوف الخطأ» (١).

ويتلخّص من كلامه :

الأوّل : جواز التقدّم بين يدي الله ورسوله في الحكم.

الثاني : أنّ بغي الناس وطغيانهم على حكم الله تعالى يسوّغ الاجتهاد من أنفسهم دون الرجوع إلى الله ورسوله ، وهو نمط من تفويض التشريع للأهواء (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) (٢) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) (٣) (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٤) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (٥) (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٦).

الثالث : خلطه بين الموضوعات والأحكام الكلّيّة وبين الموضوع في الأمور العامّة والموضوع في الأمر الخاصّ بأحد المكلّفين ـ كما تقدّم ـ

ونجم عن هذا الالتزام عندهم ما ذكره صاحب المنار ـ في معرض كلام له عن العمل بالحديث ـ :

ـ حكم عمر بن الخطّاب على أعيان الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث ، ثمّ ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأوّل والثاني من اكتفاء الواحد منهم ـ كأبي حنيفة ـ بما بلغه ووثق من الحديث وإن قلّ ، وعدم تعنّيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبيّن أحكامه ، قوى عندك ذلك الترجيح ، بل تجد الفقهاء لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتّفاق على العمل به ، فهذه

__________________

(١). المستصفى ٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢). المؤمنون / ٧١.

(٣). المائدة / ٤٩.

(٤). البقرة / ١٤٥.

(٥). محمّد / ١٤.

(٦). الأنعام / ١١٩.

١٠٥

كتب الفقه في المذاهب المتّبعة ، ولا سيّما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية ، فيها المئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتّفق على صحّتها.

وقد أورد ابن القيّم في أعلام الموقّعين شواهد كثيرة جدّا من ردّ الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس أو لغير ذلك ، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه ، وقد أورد لهذا أكثر من ستّين شاهدا (١) ، ومع ذلك كلّه فمن الغريب جمع الغزّالي بين ذلك وبين رأيه في الصحابة ، قال في المستصفى :

الأصل الثاني من الأصول الموهومة : قول الصحابي ، وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقا ، وقوم إلى أنّه حجّة إن خالف القياس ، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اقتدوا باللذين من بعدي) ، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتّفقوا.

والكلّ باطل عندنا ؛ فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه ، فلا حجّة في قوله ، فكيف يحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟! وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟! وكيف يتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف المعصومان؟!

كيف؟! وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الدليل على العصمة ، ووقوع الاختلاف بينهم ، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ، ثلاثة أدلّة قاطعة (٢).

ثمّ ذكر أدلّة بقية الأقوال وأخذ في ردّها ، وتتلخّص ردوده عليها في النقاط التالية :

الأولى : إنّ ما يروى عندهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، هو خطاب مع عوّام ذلك العصر ، لتعريف درجة الفتوى للصحابة ، إذ الصحابي

__________________

(١). انظر : أعلام الموقّعين ٢ / ٢٩٤ ـ ٤٢٤.

(٢). المستصفى ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦٢.

١٠٦

خارج عن الخطاب فله أن يخالف الآخر.

الثانية : إنّ اتّباع كلّ واحد من الخلفاء الراشدين محال مع اختلافهم في المسائل.

الثالثة : إنّ الاقتداء بأبي بكر وعمر واتّباعهما هو إيجاب للتقليد في الفتوى ، مع إنّه معارض بتجويز هما مخالفة الآخرين لهما ، ولو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيّهما يتّبع؟!

الرابعة : إنّ مذهب عبد الرحمن بن عوف معارض بمذهب الإمام عليّ عليه‌السلام ، حين أبى اشتراط عبد الرحمن الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين.

الخامسة : إنّ قول الصحابي ليس بحجّة ، وإنّما الحجّة الخبر إلّا أنّ إثبات الخبر بقول الصحابي من دون تصريح منه أنّه خبر إثبات موهوم ، وخبر الواحد الحجّة هو الخبر المصرّح لا الموهوم المقدّر الذي لا يعرف لفظه ومورده ، فقوله ليس بنصّ صريح في سماع خبر ، بل ربّما قاله من دليل ضعيف ظنّه دليلا وأخطأ فيه ، والخطأ جائز عليه ، وربّما يتمسّك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نصّ قاطع لصرّح به.

السادسة : إنّ جميع ما يذكر لحجّيّة قول الصحابي أخبار آحاد لا تقاوم الحجج القطعية الأخرى.

السابعة : إنّ (جعل) قول الصحابي حجّة كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبره (إثبات) أصل من أصول الأحكام ومداركه ، فلا يثبت إلّا بقاطع كسائر الأصول.

الثامنة : حكى عن الشافعي في الجديد : أنّه لا يقلّد العالم صحابيا كما لا يقلّد عالما آخر. ونقل المزني عنه ذلك ، وأنّ العمل هو على الأدلّة التي بها يجوز للصحابة الفتوى ؛ ثمّ قال :

وهو الصحيح المختار عندنا ، إذ كلّ ما دلّ على تحريم تقليد العالم للعالم كما

١٠٧

سيأتي في كتاب الاجتهاد لا يفرّق فيه بين الصحابي وغيره (١).

وذكر أنّ ما ورد من الثناء عليهم لا يوجب تقليدهم ، لا جوازا ولا وجوبا ، وإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثنى أيضا على آحاد الصحابة كأبي بكر وعمر وعليّ وزيد ومعاذ بن جبل وابن أمّ عبد ، مع إنّهم لا يتميّزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه.

التاسعة : حكى عن القاضي أنّه لا يرجّح أحد الدليلين المتعارضين بقول الصحابي ؛ لأنّه لا ترجيح إلّا بقوّة الدليل ، ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه (٢) ، واستقرب احتمال مصير الصحابي إلى أحد القولين أو أحد الدليلين لمجرّد الظنّ ، لا لاختصاصه بمشاهدة.

هذا ، فإذا كان مدار الحجّيّة المطلقة ـ عند الغزّالي وجماعة منهم معروفين ـ في قول شخص ما ، هو عصمته عن الغلط والسهو وعدم الخطأ ، وعدم جواز مخالفته ، فكيف يصوّرون حجّيّة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطلقة ولزوم طاعته ، ويجوّزون عليه الخطأ والاجتهاد الظنّي ، بل ومخالفة غيره له في الاجتهاد؟! في حين ينكر الغزّالي على القائلين بحجّيّة قول عمر وأبي بكر وبقية الصحابة بتمسّكهم بأخبار آحاد لا تثبت أصلا من أصول الأحكام التي لا بدّ فيها من القطع ، تراه يرفع يده عن قطعيات الآيات في لزوم متابعة النبيّ وعدم الخلاف عليه وعصمته ، بأخبار آحاد في تأبير النخل والمخالفة في الشفاعة ونحوها ، مع إنّ لها وجه من التأويل يتلاءم مع العصمة من الخطأ ، فما هذا إلّا تدافع ، وأقوال ينقض أوّلها آخرها!

ثمّ أليس كما قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في صحيفته في وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

... فرضت علينا تعزيره وتوقيره ومهابته ، وأمرتنا أن لا نرفع الأصوات على صوته ، وأن تكون كلّها مخفوضة دون هيبته ، فلا يجهر بها عليه عند

__________________

(١). المستصفى ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢). المستصفى ٢ / ٤٦٥.

١٠٨

مناجاته ، ونلقاه عند محاورته ، ونكفّ من غرب الألسن لدى مسألته ، إعظاما منك لحرمة نبوّته ، وإجلالا لقدر رسالته ، وتمكينا في أثناء الصدور لمحبّته ، وتوكيدا بين حواشي القلوب لمودّته (١)

وهو يشير إلى المناصب الإلهية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي جعلها الله تعالى له ، فقد قال تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣).

والغريب ولا تنقضي غرابته أنّهم يجعلون فضيلة لبعض الصحابة بالتقدّم على الله ورسوله في الحكم في موارد ، ويدّعون حالات لنزول آيات أخرى في تلك الموارد موافقة من الوحي لرأي ذلك الصحابي ، وكأنّهم لا يصغون إلى هذه الآية الصريحة ، ويتأوّلون تلك الآيات بما يدافع ظهورها.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٤) وقال تعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥).

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ* وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ* فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦).

__________________

(١). الصحيفة السجّادية : الدعاء العاشر ـ ط. مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام.

(٢). النجم / ٢ ـ ٤.

(٣). الحجرات / ١.

(٤). الحجرات / ٢ و ٣.

(٥). الحجرات / ١٦.

(٦). الحجرات / ٦ ـ ٨.

١٠٩

أليست هذه الآية في الموضوعات الخارجيّة والأمور العامّة في تدبير الحكم ، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو يتابع من أسلم معه لوقعوا في المشقّة والحرج العظيم ، ولكنّ الله حبّب إليهم طاعة الرسول ومتابعته وهو الإيمان ، وكرّه إليهم مخالفة الرسول التي هي كفر وفسوق وعصيان ، والرشاد إنّما يصيبه المؤمنون بمتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو الفضل والنعمة من الله ، وكلّ هذا عن علم وحكمة منه تعالى.

فمع كلّ ذلك كيف يكون الرشاد في مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً* أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً* وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١)؟!

وفي هذه الآيات عدّة أحكام :

الأوّل : لزوم ردّ كلّ شيء يختلف فيه إلى الله وإلى الرسول ، وأنّ ذلك مقتضى الإيمان بالله وبالمعاد ، فكيف يرجع إلى الظنون مقدّمة على الرجوع والردّ إلى الله وإلى رسوله؟!

الثاني : إنّ الاحتكام في الأمور إلى غير ما أنزل الله على رسوله تحاكم إلى الطاغوت وضلال ونفاق وظلم للنفس.

__________________

(١). النساء / ٥٩ ـ ٦٥.

١١٠

الثالث : إنّ غاية رسالة الرسول هو طاعة أمّته له بإذن الله ، لا خلافهم عليه.

الرابع : إنّ الإيمان مشروط بتحكيم الرسول في ما يختلف فيه ، وطاعة الرسول في ما يحكم به ، مع عدم التحرّج ممّا حكم به الرسول ، ومع التسليم القلبي التامّ لذلك.

وقال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١). وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢). وقال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٣). وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٤).

إلى غير ذلك من آيات الله العزيز ، فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموا النبيّ في ما اختلفوا فيه ، ولا يجدوا تحرّجا في نفوسهم من حكمه وقضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسلّموا تسليما لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم يتذرّعون بموارد من الآيات التي ظاهرها العتاب في الخطاب الإلهي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضي بالبيّنات والأيمان ، وهي قد تخطئ الواقع ، أو بأخبار آحاد في تأبير النخل ونحوه في قبال الدليل القطعي ، مع إنّ لتلك الآيات الظاهرة في العتاب ، في المنسبق من دلالتها بدوا ، وجوها من المعنى ، ذهلوا عنه!

الأوّل : إن مقتضى قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخاطب بفعل أمّته كما يخاطب الوليّ بفعل المولى عليه ، وكما يخاطب المربّي بفعل من هو تحت قيمومته وتربيته ، والرئيس يخاطب بفعل مرءوسه ، والإمام بفعل مأمومه ، إذ إنّ صلاح الرعية من مسئولية الراعي ، ومن ثمّ يسند

__________________

(١). التوبة / ٦١.

(٢). التوبة / ١٢٨.

(٣). الحشر / ٧.

(٤). آل عمران / ٣١.

(٥). هود / ١١٢.

١١١

فعلهم إلى فعله وإن كان الفعل صادر حقيقة منهم لا منه.

ومن هذا القبيل إسناد فعل الحكومة وجهاز الحكم والدولة إلى الرئيس ويخاطب به ، ومن هذا الباب قد يسند المعصوم الخطأ لنفسه كما في قول عليّ عليه‌السلام في خطبة له بعد تسلّمه مقاليد الأمور والخلافة بصفّين :

فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلّا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي (١).

ومن هذا الباب أكثر ما يخاطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعاتب في لحن الخطاب ، فإنّه بالتتبّع في تلك الموارد والتدبّر مليّا يظهر أنّ الفعل الذي كان مورد الخطاب هو من فعل المسلمين خوطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلى هذا يشير قول الإمام الصادق عليه‌السلام :

إنّ القرآن نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة (٢).

كما هو الحال في أسارى بدر ، فإنّ اللازم كان على المسلمين هو الإثخان في القتل ما دامت المعركة محتدمة ، وعدم استبقاء المشركين أحياء ما دامت الحرب لم تضع أوزارها ، فكان في أخذهم الأسارى أثناء المعركة خلاف الحكم والإرادة الإلهيّة ، وكما هو الحال في مساءلة الله تعالى النبيّ عيسى عليه‌السلام : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٣).

الثاني : إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، أي إنّه كلّما قرب الشخص من القدس الإلهي كلّما كان الحساب معه والتوقّع منه أكثر في مجال كمال الأفعال ، كما هو الحال في الموالي في العرف البشري ، فإنّ الملك يتوقّع من الوزير مستوى من الاحترام والأدب

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٢١٤.

(٢). الكافي ٢ / ٤٦١ ح ١٤ باب النوادر.

(٣). المائدة / ١١٦ ـ ١١٧.

١١٢

والكون رهن الإشارة ما لا يتوقّعه من سائر الرعية ، بل إنّ في طبقات الوزراء اختلاف في المكانة والحظوة لدى الملك ، وبالتالي اختلاف في ما يتوقّعه وينتظره الملك منهم في مجال التقيّد بأقصى مكارم الآداب معه ، ومن هذا الباب ما يشاهد من خطاب عتاب مع الأنبياء في القرآن ، فإنّها ليست أخطاء ومعاص في الشرع وحكم العقل ، وإنّما هي من باب ترك الأولى في منطق القرب والزلفى ومقام المحبّين.

الثالث : إنّ خطأ الميزان الظاهر المجعول في باب القضاء ، أو في باب الإمارة وتدبير الحكم ، ونحوهما ممّا يكون في الموضوعات الخارجيّة ، ليس من خطأ المعصوم ، كالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه موظّف في مصالح التشريع بالعمل بهذا الميزان في تلك الموضوعات الجزئية ، ممّا يتدارك خطأ الميزان الشرعي الظاهري بالمصالح الأخرى ؛ وأين هذا من الأحكام الكلّيّة ومعرفة الشريعة؟! وإذا فرض جهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ـ والعياذ بالله تعالى ـ وتحرّيه لها بالاجتهاد الظنّي ، فأين الطريق إليها المأمون عن الخطأ؟! وما هو ميزان الصحّة من الخطأ إذا كان الطريق مسدودا إلى الأبد ، إذ لا فاتح لما انسدّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبواب العلم؟! وهذا بخلاف باب الموضوعات الجزئية ، فإنّ طريق العلم بها مفتوح وراء ميزان القضاء والحكم.

الربع : إنّهم خلطوا بين السؤال الممدوح عن الأحكام ومعارف الدين كما في قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) (١) وقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢) ، وبين السؤال المذموم عن الأحكام والشريعة ، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها) (٣) وقال : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) (٤).

__________________

(١). التوبة / ١٢٢.

(٢). النحل / ٤٣ ، والأنبياء / ٧.

(٣). المائدة / ١٠١.

(٤). البقرة / ١٠٨.

١١٣

فإنّ الفرق بين السؤالين هو الفرق بين الاجتهادين اللذين عند الشيعة وعند أهل السنّة ، فإنّ الأوّل مخصوص باستكشاف الحكم الشرعي الثابت واقعا ، وتطبيقه على الموارد والدرجات المختلفة ، بموازين منضبطة دقيقة ، والثاني يشمل ذلك ويعمّ إنشاء أحكام جديدة تتميما لما يدّعى من نقص الشريعة! نظير تتميم القوانين الدستورية بالتبصرة القانونية في القوانين الوضعية.

فالاجتهاد الأوّل هو تمسّك بالعموم المشرّع الوارد ، والسؤال الممدوح هذا مورده ، وهو فهم ما ورد ، ومعرفة العمومات والأدلّة المشرّعة ؛ والاجتهاد الثاني هو الاجتهاد الابتداعي ، والسؤال المذموم منطقته هو إنشاء الأحكام الجديدة وضمّها إلى أحكام الشريعة ، أو السؤال والمطالبة بإنشائها ؛ والمنطقة الأولى هي كانت سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسليم والاتّباع لربّه ، والمنطقة الثانية لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلّفها كما في قوله تعالى : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١) ، فالمنطقة الثانية والنمط الثاني كان ديدن اليهود ، والنمط الأوّل هو ديدن الأنبياء بالوحي القطعي والرسالة والملّة الحنيفية الإبراهيمية.

فتخلّص أنّهم فرّطوا في عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغالوا في عدالة الصحابة إلى العصمة والتفويض في التشريع.

__________________

(١). ص / ٨٦.

١١٤

٤

الوجه التاريخى

١١٥
١١٦

ثمّ إنّه بقي وجه آخر أو أخير يتمسّك به القائل بعدالة الصحابة ، ـ بالترديد المتقدّم في معنى العدالة وفي دائرة الصحابة المرادة لذلك القائل ـ وهو : إنّ الصحابة هم الّذين قاموا بفتوحات الإسلام ونشر الدين في أرجاء المعمورة ، وهذا بعد ما عانوا ما عانوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغزوات الأولى.

وهذا الوجه ـ مع غضّ النظر عن التحليل الآتي فيه ، وعن الخوض في حقيقته ـ ما هو المقدار اللازم منه في الحجّيّة المبحوث عنها في عدالة الصحابة ؛ فقد تقدّم أنّ صدور العمل الصالح أو الحسن من شخص ـ بعد افتراض ذلك ـ لا يلازم عدالته واستقامته في كلّ أفعاله الأخرى ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.

ففي كثير من الغزوات التي قام بها المسلمون في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتكب من صحبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أعمالا تعدّ في الشرع من الخطايا الكبيرة المغلّظة عقوبتها ، وقد ذكرنا شطرا منها في ما سلف ، ونذكر هنا شطرا آخر منها :

قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١) والآية تبيّن أنّ الواجب على المسلمين الإثخان في قتل المشركين ، وعدم

__________________

(١). الأنفال / ٦٧ و ٦٨.

١١٧

أخذ الأسرى والحرب قائمة قبل أنّ ينهدّ صفّ المشركين ويستولي عليهم الرعب.

وقد وصفت الآية أنّ العقوبة لو لا عفو الله تعالى لكانت عذاب ، ووصفته بالعظيم ، وظاهر الآية وبمقتضى الإثخان هو : كون الواجب القتل لا الأسر أثناء قيام الحرب مع المشركين وقبل انتهائها بتقويض معسكرهم ، لا ما يقال : إنّ الآية ناظرة إلى حكم الأسرى بعد انتهاء الواقعة ، وإنّ الواجب هو قتلهم لا مفاداتهم ؛ لأنّه يخالف الآيات اللاحقة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) ، الدالّة على أنّ القتل المطلوب هو أثناء الحرب لا بعد أنّ تضع الحرب أوزارها.

وكلّ هذا في غزوة «بدر» ، وكذلك الحال في غزوة «حنين» ، قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢) ، والفرار في اللقاء من الكبائر التي توعّد الله عليها النار ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٣).

وكذلك الحال في غزوة «أحد» كما أشرنا إليه سابقا في سورة آل عمران ، وقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة في فتح مكّة حينما بعثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حولها في سرايا تدعو إلى الله تعالى ولم يأمرهم بقتال ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، فغدر خالد بهم وقتلهم ، فانتهى الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفع يديه إلى السماء ثمّ قال : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرّات ؛ ثمّ أرسل رسول

__________________

(١). الأنفال / ٧٠ و ٧١.

(٢). التوبة / ٢٥.

(٣). الأنفال / ١٥ و ١٦.

١١٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام فودى لهم الدماء وأرضاهم (١).

فتبيّن أن لا تلازم بين صدور العمل الصالح ـ على تقدير ثبوته ـ وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.

أمّا الخوض في الفتوحات بشكل إجمالي فالنظرة المقابلة تقيّم الفتوحات التي حصلت بأنّها كانت بمثابة سدودا أمام انتشار الدين في كلّ أرجاء المعمورة ، فإنّ هذا الدين الحنيف لا يصمد أمام بريق نوره الأقوام البشريّة إلّا وتنجذب إليه ، وهذا هو عمدة نهج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته إلى الإسلام.

قال تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً)(٢) ، فالدخول الفوجي الأفواجي للناس كان بحكم الانجذاب إلى عظمة الدين ، والمثالية التي يتّصف بها صاحب الدعوة ، والكيان الداخلي الذي بناه ، إلّا إنّ مجموع الممارسات في أحداث الفتوحات كبّلت الدين ، وألبست الإسلام أثوابا قاتمة ، وولّدت انطباعا لدى بقيّة الأمم والملل أنّ الدين الحنيف هذا هو دين السيف والدم ، ولغته لغة القوّة بالدرجة الأولى وفي القاعدة الأصلية له ، لا أنّه دين الفطرة العقلية ، (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (٣).

ومن ثمّ أخذت بعض الكتابات في العالم العربي الإسلامي منذ نصف قرن في التنكّر لقانون الجهاد الابتدائي في الإسلام ، باعتبار أنّه يعني لغة القوّة والعنف والعسكر ، ورفضا للغة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، التي هي من الثوابت الأوّلية لطريقة الدعوة إلى الإسلام ، وربّما تمسّكوا بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع غزواته ؛ إذ إنّها لم تكن مبتدأة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل من مناوشات الكفّار أوّلا للمسلمين ، وبذيل بعض الآيات من قبيل قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُ

__________________

(١). المغازي للواقدي ـ ٣ / ٨٧٥ ـ ٨٨٤.

(٢). النصر / ١ و ٢.

(٣). الروم / ٣٠.

١١٩

الْمُعْتَدِينَ) (١). وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢). ونحوها من الآيات التي ظاهرها يوهم بأنّ القتال مخصوص بالمدافعة ، وقد تسرّب مثل هذا النظر إلى بعض الأوساط الفقهيّة.

والذي أوقعهم في مثل هذا الوهم المخالف للمسلّمات الفقهيّة في الدين ، هو ما جرى من الأحداث والممارسات في الفتوحات عبر تاريخ المسلمين ، فإنّه قد وقع الخلط لديهم بين الجهاد الابتدائي وبين العدوان المبتدأ ، وحصر الدفاع في الجهاد الدفاعي ، مع إنّ الجهاد الابتدائي ليس بمعنى الابتداء بالعدوان ، بل إنّ الغطاء الحقوقي للجهاد الابتدائي هو الدفاع الحقوقي ، وإن كان ابتداء الحرب من المسلمين بمعنى الضغط على الكفّار تحت تأثير القوّة ، لكن ليس هو ابتداء عدوان ، بل ابتداء الضغط بالقوّة لردّ العدوان الذي مارسه الكفّار تجاه المسلمين في ما سبق ، فالابتداء في استخدام القوّة أمر ، والابتداء في العدوان أمر آخر.

وأمّا التمسّك بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقد خلط أصحاب هذه المقولة بين الجهاد الابتدائي في مصطلح الفقهاء وبين العدوان الابتدائي الحقوقي ، فالثاني لم يكن في سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا الأوّل ؛ فغزوة «بدر» أعظم الغزوات كانت ابتداء في استخدام القوّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّا على مصادرة أموال المسلمين في مكّة التي قام بها كفّار قريش ، وردّا على الغارات المباغتة التي كان يقوم بها أفراد منهم على أطراف المدينة ، ونحو ذلك ، لكنّ ذلك لا يستوجب تصنيف غزوة «بدر» في الجهاد الدفاعي وإخراجه عن الابتدائي بالمصطلح الفقهي ؛ إذ لكلّ شرائط تختلف عن الآخر ، وكذا غزوة «خيبر» وغزوة «حنين» وغزوة «تبوك» وغيرها من الغزوات الكبرى أو الوسطى والصغيرة ، وقوله تعالى في سورة الأنفال

__________________

(١). البقرة / ١٩٠.

(٢). الممتحنة / ٨ و ٩.

١٢٠