مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة ، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها ، فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب ، يكشف عن تلبيسات هل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكلام وأهله. فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله تعالى إليه ، فأحسنوا الذب عن السنة ، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة والتغيير في وجه ما أحدث البدعة ؛ ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ، واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد ، أو إجماع الأمة ، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم ، وهذا قليل النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات شيئا أصلا ؛ فلم يكن الكلام في حقي كافيا ، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا. نعم ، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة ، تشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذبّ عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها ؛ ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى ، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ؛ ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولا مشوبا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات. والغرض الآن حكاية حالي ، لا الإنكار على من استشفى به ، فإن أدويته الشفاء تختلف باختلاف الداء ، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر!.

٢ ـ الفلسفة

ـ محصولها.

ـ المذموم منها وما لا يذم.

ـ وما يكفر به قائله وما لا يكفر به.

ـ وما يبتدع فيه وما لا يبتدع.

ـ وبيان ما سرقه الفلاسفة من كلام أهل الحق.

ـ وبيان ما مزجوه بكلام أهل الحق لترويح باطلهم في درج ذلك.

ـ وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل.

ـ وكيفية استخلاص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلامهم.

ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة ، وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم ، من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم ، ثم يزيد

٥٤١

عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله ، فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقا. ولم أر أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك.

ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ، حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة ، ظاهرة التناقض والفساد ، لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلا عمن يدعي دقائق العلوم. فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية ، فشمرت على ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنوّ بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفر من الطلبة ببغداد.

فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريبا من سنة ، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ، حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ، وتحقيق وتخييل ، اطلاعا لم أشك فيه.

فاسمع الآن حكايته وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافا ، ورأيت علومهم أقساما ، وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.

أصناف الفلاسفة

واتصاف كافتهم بالكفر

اعلم أنهم على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم ، ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : الدهريون ، والطبيعيون ، والإلهيون.

الصنف الأول : الدهريون : وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر ، العالم القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع ، ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان كذلك كان ، وكذلك يكون أبدا وهؤلاء هم الزنادقة.

الصنف الثاني : الطبيعيون : وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات ، وأكثروا الخوض في تشريح أعضاء الحيوانات ، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بقادر حكيم ، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها. ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع ، إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان ؛ لا سيما بنية الإنسان. إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ، ظهر عنهم. لاعتدال المزاج. تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا ، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم ، ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا ؛ فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود ، فجحدوا الآخرة

٥٤٢

وأنكروا الجنة والنار ، والحشر والنشر ، والقيامة والحساب ، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ، ولا للمعصية عقاب ، فانحل عنهم اللجام ، وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام.

وهؤلاء أيضا زنادقة : لأن أصل الإيمان حد الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر ، وإن آمنوا بالله وبصفاته.

الصنف الثالث : الإلهيون : وهم المتأخرون منهم ، مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون ، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس. وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق ، وهذب لهم العلوم ، وحرر لهم ما لم يكن محررا من قبل ، وأنضج لهم ما كان فجا من علومهم. وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعة ، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بتقاتلهم. ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم ؛ إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزع منها ؛ فوجب تكفيرهم ، وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين ، كابن سينا والفارابي وغيرهما. على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين ؛ وما نقله غيرهما ليس يخلو عن تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم ، وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس ، بحسب نقل هذين الرجلين ، ينحصر في ثلاثة أقسام :

١. قسم يجب التكفير به.

٢. وقسم يجب التبديع به.

٣. وقسم لا يجب إنكاره أصلا.

أقسام علومهم

اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ست أقسام : رياضية ، ومنطقية ، وطبيعية ، وإلهية ، وسياسية ، وخلقية.

١ ـ أما الرياضية : فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العلم ، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفيا وإثباتا ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان :

الأولى : من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة ، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح ووثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسن ، فيكفر بالتقليد المحض ويقول : لو كان الدين حقا لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم ، فيستدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين. وكم رأيت ممن ضل عن الحق

٥٤٣

بهذا القدر ولا مستند له سواه! وإذا قيل له : الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقا في كل صناعة ، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقا في الطب ، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلا بالنحو ، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق ؛ وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها ، فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني ، وفي الإلهيات تخميني ، لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه ، فهذا إذا قرر على هذا الذي اتخذ بالتقليد ، لم يقع منه موقع القبول بل تحمله غلبة الهوى ، وشهوة البطالة ، وحب التكايس ، على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها.

فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ، فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين ، لكن لما كانت من مبادئ علومهم ، يسري إليه شرهم وشؤمهم ، فقل من يخوض في آفة إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى.

الآفة الثانية : نشأت من صديق للإسلام جاهل ، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم ، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها ، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف ، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع ، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع ، لم يشك في برهانه ، لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حبا وللإسلام بغضا. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم ، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله عليه‌السلام : " إن للشمس والقمر آيتان من آيات ذكر الله تعالى لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة" وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتهما على وجه مخصوص. أما قوله عليه‌السلام : " لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له" فليس توجد هذه الزيادة في الصحاح أصلا. فهذا حكم الرياضيات وآفتها.

٢ ـ وأما المنطقيات : فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيا وإثباتا ، بل هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها ، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد ، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان ؛ وليس في هذا كل ما ينبغي أن ينكر ، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة ، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات ، وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات ، ومثال كلامهم فيها قولهم : إذا ثبت أن كل" أ"" ب" لزم أن بعض" ب"" أ" أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان. ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية. وأي لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر ، بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار. نعم ، لهم نوع

٥٤٤

من الظلم في هذا العلم ، وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة ، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ، بل تساهلوا غاية التساهل ، وربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين ، فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية.

فهذه الآفة أيضا متطرقة إليه.

٣ ـ وأما علم الطبيعيات : فهو يبحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة : كالماء والهواء والتراب والنار ، ومن الأجسام المركبة : كالحيوان والنبات والمعادن ، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك يضاهي بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة ، وأسباب استحالة مزاجه.

وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ، فليس من شرطه أيضا إنكار ذلك العلم إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب" تهافت الفلاسفة" وما عداها مما يجب المخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها ، وأصل جملتها : أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ، لا تعمل بنفسها ، بل هي مستعملة من جهة فاطرها ؛ والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته.

٤ ـ وأما الإلهيات : ففيها أكثر أغاليطهم ، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق ؛ ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها ، ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب الإسلاميين ، على ما نقله الفارابي وابن سينا. ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا ، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها ، وتبديعهم في سبعة عشر. ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين ، صنفنا كتاب" التهافت" أما المسائل الثلاث ، فقد خالفوا فيها كافة المسلمين ، وذلك في قولهم :

١ ـ إن الأجساد لا تحشر ، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة ، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.

ولقد صدقوا في إثبات الروحانية ، فإنها كائنة أيضا ، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية ، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.

٢ ـ ومن ذلك قولهم : " إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات" وهذا أيضا كفر صريح ، بل الحق أنه : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣].

٣ ـ ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته ؛ فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل. وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم إنه عليم بالذات ، لا بعلم زائد على الذات وما يجري مجراه ، فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك ، وقد ذكرنا في كتاب" فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" ما يتبين فيه فساد رأي من يتسارع إلى

٥٤٥

التكفير في كل ما يخالف مذهبه.

٥ ـ وأما السياسيات : فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية والإيالة السلطانية ، وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء ، ومن الحكم المأثور عن سلف الأنبياء.

٦ ـ وإما الخلقية : فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها ، وذكر أجناسها وأنواعها ، وكيفية معالجتها ؛ ومجاهدتها ؛ وإنما أخذوها من كلام الصوفية ، وهم المتألهون المثابرون على ذكر الله تعالى وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا. وقد انكشف لهم في مجاهداتهم من أخلاق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ما صرحوا بها ، فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم ، توسلا بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم ، بل في كل عصر جماعة من المتألهين ، لا يخلي الله سبحانه العالم عنهم ، فإنهم أوتاد الأرض ، ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال عليه‌السلام : «بهم تمطرون وبهم ترزقون ، ومنهم كان أصحاب الكهف».

وكانوا في سالف الأزمنة ، على ما نطق به القرآن ، فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان : آفة في حق القابل ، وآفة في حق الراد.

١ ـ أما الآفة التي هي في حق الراد فعظيمة : إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكلام إذا كان مدونا في كتبهم ، وممزوجا بباطلهم ، ينبغي أن يهجر ولا يذكر ، بل ينكر على كل من يذكره ؛ لأنهم إذ لم يسمعوه أولا إلا منهم ، فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل ، لأن قائله مبطل ، كالذي يسمع من النصراني قول" لا إله إلا الله عيسى رسول الله" فينكره ويقول : " هذا كلام النصراني". ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول ، أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه‌السلام! فإن لم يكن كافرا إلا باعتبار إنكاره ، فلا ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه ، وإن كان أيضا حقا عنده. وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق. والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال : " لا تعرف الحق بالرجال ، بل اعرف الحق تعرف أهله" والعاقل يعرف الحق ، ثم ينظر في نفس القول ، فإن كان حقا قبله ، سواء كان قائله مبطلا أو محقا ، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالما بأن معدن الذهب الرغام. ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج ، مهما كان واثقا ببصيرته ؛ فإنما يزجر عن معاملة القلاب القروي دون الصير في البصير ؛ ويمنع من ساحل البحر الأخرق ، دون السباح الحاذق ؛ ويصد عن مس الحية الصبي ، دون المعزم البارع.

ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة وكمال العقل وتمام

٥٤٦

الآلة في تمييز الحق عن الباطل ، والهدى عن الضلالة ، وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلالة ما أمكن ، إذ لا يسلمون عن الآفة الثانية التي سنذكرها أصلا ، وإن سلموا عن هذه الآفة التي ذكرناها.

ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم ، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم ، وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل ، مع أن بعضها من مولدات الخواطر ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر ، وبعضها يوجد في الكتب الشرعية ، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية. وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم ، فإذا كان ذلك الكلام معقولا في نفسه ، مؤيدا بالبرهان ، ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة ، فلم ينبغي أن يهجر ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب ، وتطرقنا إلى أن نهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل ، للزمنا أن نهجر كثيرا من الحق ، ولزمنا أن نهجر جملة آيات من آيات القرآن ، وأخبار الرسول وحكايات السلف ، وكلمات الحكماء والصوفية ، لأن صاحب كتاب" إخوان الصفا" أوردها في كتابه مستشهدا بها ، ومستدرجا قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله ، ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه في كتبهم. وأقل درجات العالم ، أن يتميز عن العامي الغمر ، فلا يعاف العسل ، وإن وجده في محجمة الحجام ، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل ، فإن نفرة الطبع منه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر ، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة ، ولا يدرى أنه مستقذر لصفة في ذاته ، فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة ، فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار. وهذا وهم باطل ، وهو غالب على أكثر الخلق. فمهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلا ، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقّا. فأبدا يعرفون الرجال بالحق ، وهو غاية الضلال! هذه آفة الراد.

٢ ـ آفة القبول : فإن من نظر في كتبهم" كإخوان الصفا" وغيره ، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية والكلمات الصوفية ، ربما استحسنها وقبلها ، وحسن اعتقاده فيها ، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه وذلك نوع استدراج إلى الباطل.

ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر. وكما يجب صون من لا يحسن السباحة عن مزالق الشطوط ، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب. وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيات ، يجب صون الأسماع عن مختلط تلك الكلمات. وكما يجب على المعزم أن لا يمس الحية بين يدي ولده الطفل ، إذا علم أنه سيقتدي به ويظن أنه مثله ، بل يجب عليه أن يحذره : بأن يحذر هو في نفسه ولا يمسها بين يديه ، فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله. وكما أن المعزم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم ، فاستخرج منه الترياق وأبطل

٥٤٧

السم ، فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه. وكذلك الصراف الناقد البصير ، إذا أدخل يده في كيس القلاب ، وأخرج منه الإبريز الخالص ، واطّرح الزيف والبهرج فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ، كذلك العالم. وكما أن المحتاج إلى الترياق ، إذا اشمأزت نفسه منه ، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم ، وجب تعريفه ؛ والفقير المضطر إلى المال إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاب ، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض ، وهو سبب حرمانه عن الفائدة التي هي مطلبه ، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفا كما لا يجعل الزيف جيدا ؛ فكذلك قرب الجوار بين الحق والباطل لا يجعل الحق باطلا ، كما لا يجعل الباطل حقّا.

فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.

٣ ـ القول في مذهب التعليم وغائلته

ثم إني فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه ، علمت أن ذلك أيضا غير واف بكمال الغرض ، وأن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا كاشفا للغطاء عن جميع المعضلات. وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، عنّ لي أن أبحث عن مقالاتهم لأطلع على ما في كتبهم. ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم ، فلم يسعني مدافعته ، وصار ذلك مستحثا من خارج ، ضميمة للباعث الأصلي من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم. وكان قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر لا على المنهاج المعهود من سلفهم ، فجمعت تلك الكلمات ، ورتبتها ترتيبا محكما مقارنا للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها ، حتى أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم ، وقال : «هذا سعي لهم ، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لو لا تحقيقك لها وترتيبك إياها» وهذا الإنكار من وجه حق ، فلقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما‌الله تصنيفه في الرد على المعتزلة ، فقال الحارث : " الرد على البدعة فرض" فقال أحمد" نعم ، ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها ، فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب ، أو ينظر إلى الجواب ، ولا يفهم كنهه؟».

وما ذكره أحمد حق ، ولكن في شبهة لم تنشر ولم تشتهر ، فأما إذا انتشرت ، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية. نعم ، ينبغي ألا يتكلف إيرادها ، ولم أتكلف أنا ذلك ، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إليّ ، بعد أن كان قد التحق بهم ، وانتحل مذهبهم ، وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد

٥٤٨

عليهم ، بأنهم لم يفهموا بعد حجتهم. وذكر تلك الحجة وحكاها عنهم. فلم أرض لنفسي أن يظن فيّ الغفلة عن أصل حجتهم ؛ فلذلك أوردتها ، ولا أن يظن بي أني وإن سمعتها لم أفهمها ؛ فلذلك قررتها.

والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ، ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان.

والحاصل : أنه لا حاصل عند هؤلاء ، ولا طائل لكلامهم. ولو لا سوء نصرة الصديق الجاهل ، لما انتهت تلك البدعة. مع ضعفها. إلى هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ، دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع معهم في مقدمات كلامهم ، وإلى مجادلتهم في كل ما نطقوا به ، فجادلوهم في دعواهم" الحاجة إلى التعليم والمعلم" ودعواهم" لا يصلح كل معلم ، بل لا بد من معلم معصوم".

وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم ، وضعف قول المنكرين في مقابلتهم ، فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم ، وضعف مذهب المخالفين لهم ، ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجهله بطريقه ؛ بل الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم ، وأنه لا بد وأن يكون المعلم معصوما ؛ ولكن معلمنا المعصوم هو محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا قالوا : " هو ميت" فنقول" ومعلمكم غائب" فإذا قالوا : " معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل" ، فنقول : " ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [سورة المائدة : الآية ٣] وبعد كمال التعليم لا يضرّ موت المعلم كما لا يضر غيبته.

فبقي قولهم : " كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبا النص ولم تسمعوه ، أم بالاجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف؟» فنقول : نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، إذ كان يحكم بالنص عند وجود النص وبالاجتهاد عند عدمه ؛ بل كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي البلاد ؛ إذ لا يمكنهم أن يحكموا بالنص ، فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير المتناهية ، ولا يمكنهم الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام ، وإلى أن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات وفات الانتفاع بالرجوع. فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلي بالاجتهاد ، إذ لو سافر إلى بلدة الإمام لمعرفة القبلة ، لفات وقت الصلاة ، فإذن جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء على الظن. ويقال" إن المخطئ في الاجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران" فكذلك في جميع المجتهدات ، وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير ، وربما يظنه فقيرا باجتهاده وهو غني باطنا بإخفاء ماله ، ولا يكون هو مؤخذا به وإن أخطأ ، لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب ظنه. فإن قال : " ظن مخالفه كظنه" فنقول" هو مأمور باتباع ظن نفسه ، كالمجتهد في القبلة يتبع ظن نفسه وإن خالفه غيره" ، فإن قال : " فالمقلد يتبع أبا حنيفة أو الشافعيرحمهما‌الله ، أم غيرهما" فأقول : " فالمقلد في القبلة عند الاشتباه ، إذا اختلف عليه

٥٤٩

المجتهدون كيف يصنع"؟. فسيقول : " له مع نفسه اجتهاد في معرفته الأفضل الأعلم بدلائل القبلة ، فيتبع ذلك الاجتهاد ، فكذلك في المذاهب".

فرد الخلق إلى الاجتهاد. ضرورة. الأنبياء والأئمة مع العلم بأنهم قد يخطئون ، بل قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أنا أحكم بالظّاهر والله يتولّى السّرائر" أي : أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود وربما أخطئ فيه. ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات فكيف نطمع في ذلك؟

ولهم هاهنا سؤالان : أحدهما قولهم هذا : وإن صح في المجتهدات فلا يصح في قواعد العقائد ، إذ المخطئ فيها غير معذور. فكيف السبيل إليه؟ فأقول : " قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة وما وراء ذلك من التفصيل ، والمتنازع فيه يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقيم ، وهي الموازين التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، وهي خمسة ذكرتها في كتاب القسطاس المستقيم". فإن قال : " خصومك يخالفونك في ذلك الميزان" فأقول : " لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه ، إذ لا يخالف فيه أهل التعليم ، لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه. ولا يخالف فيه أهل المنطق ، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق غير مخالف له. ولا يخالف فيه المتكلم ، لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات ، وبه يعرف الحق في الكلاميات». فإن قال : " فإن كان في يدك مثل هذا الميزان ، فلم لا ترفع الخلاف بين الخلق؟ " فأقول" لو أصغوا إليّ لرفعت الخلاف بينهم ؛ وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب" القسطاس المستقيم" فتأمله لتعلم إنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعا لو أصغوا ، ولا يصغون إليه بأجمعهم! بل قد أصغى إليّ طائفة فرفعت الخلاف بينهم وإمامك يريد رفع الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم فلم لم يرفع إلى الآن؟ ولم لم يرفع علي رضي الله عنه وهو رأس الأئمة؟ أو يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على الإصغاء قهرا ، فلم لم يحملهم إلى الآن؟ ولأي يوم أجله؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف؟ نعم! كان يخشى من الخلاف نوع من الضر لا ينتهي إلى سفك الدماء ، وتخريب البلاد ، وإيتام الأولاد ، وقطع الطرق ، والإغارة على الأموال. وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلاف ما لم يكن بمثله عهد" فإن قال : " ادعيت أنك ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير بين أهل المذاهب المتعارضة والاختلافات المتقابلة لم يلزمه الإصغاء إليك دون خصمك وأكثر الخصوم يخالفونك ولا فرق بينك وبينهم".

وهذا هو سؤالهم الثاني فأقول : هذا أولا ينقلب عليك ، فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير : بم صرت أولى من مخالفيك وأكثر أهل العلم يخالفونك؟ فليت شعري بما ذا تجيب! تجيب بأن تقول إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك في دعوى النص وهو لم يسمع النص من الرسول؟ وإنما لم يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك

٥٥٠

وتكذيبك. ثم هب أنه سلم لك النص ، فإن كان متحيرا في أصل النبوة فقال : هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسى فيقول : الدليل على صدقي أني أحيي أباك ، فأحياه فناطقني بأنه محق ، فبما ذا أعلم صدقه؟ ولم يعرف كافة الخلق صدق عيسى بهذه المعجزة ، بل عليه من الأسئلة المشكلة ما لا يدفع إلا بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي لا يوثق به عندك ، ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق ما لم يعرف السحر والتمييز بينه وبين المعجزة ، وما لم يعرف أن الله لا يضل عباده. وسؤال الإضلال وعسر تحرير الجواب عنه مشهور. فبما ذا تدفع جميع ذلك؟ ولم يكن إمامك أولى بالمتابعة من مخالفيه! فيرجع إلى الأدلة النظرية التي تنكرها ، فخصمه يدلي بمثل تلك الأدلة وأوضح منها.

وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلابا عظيما ، لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يجيبوا عنه جوابا لم يقدروا عليه. وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم فلم يشتغلوا بالقلب بل بالجواب ؛ وذلك مما يطول فيه الكلام ، ولا يسبق سريعا إلى الأفهام ، فلا يصلح للإفحام.

فإن قال قائل : " فهذا هو القلب فهل عنه جواب؟ " فأقول : نعم ، جوابه أن المتحير لو قال أنا متحير ولم يعين المسألة التي هو متحير فيها ، يقال له : أنت كمريض يقول أنا مريض ، ولا يذكر عين مرضه ، ويطلب علاجه ، فيقال له : ليس في الوجود علاج للمرض المطلق ، بل لمرض معين من صداع أو إسهال أو غيرهما. فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه ، فإن عين المسألة عرفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان الحق الذي يوثق بكل ما يوزن به ، فيفهم الميزان ، ويفهم أيضا صحة الوزن ، كما يفهم متعلم الحساب نفس الحساب ، وكون المحاسب المعلم عالما بالحساب وصادقا فيه. وقد أوضحت ذلك في كتاب" القسطاس المستقيم" في مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل!.

وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم ، فقد ذكرت ذلك في كتاب المستظهري أولا ، وفي كتاب حجة الحق ثانيا ؛ وهو جواب كلام لهم عرض علي ببغداد ، وفي كتاب" مفصل الخلاف" الذي هو اثنا عشر فصلا ثالثا ؛ وهو جواب كلام عرض علي بهمذان ؛ وفي كتاب" الدرج" المرقوم بالجداول رابعا ، وهو من ركيك كلامهم الذي عرض علي بطوس ؛ وفي كتاب" القسطاس المستقيم" خامسا ، وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار الاستغناء عن الإمام المعصوم لمن أحاط به.

بل المقصود أن هؤلاء ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء ، بل هم مع عجزهم عن إقامة البرهان على تعيين الإمام ، طال ما جاريناهم فصدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم ، وأنه الذي عينوه ؛ ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم ، وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها ، فضلا عن القيام بحلها ؛ فلما عجزوا أحالوا على الإمام الغائب وقالوا : إنه لا بد من السفر إليه. والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التبجح بالظفر به ، ولم يتعلموا منه شيئا أصلا ،

٥٥١

كالمتضمخ بالنجاسة يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله وبقي متضمخا بالخبائث.

ومنهم من ادعى شيئا من علمهم ، فكان حاصل ما ذكره شيئا من ركيك فلسفة فيثاغورس ، وهو رجل من قدماء الأوائل ، ومذهبه أرك مذاهب الفلاسفة ، وقد رد عليه أرسطاطاليس ، بل استرك كلامه واسترذله ؛ وهو المحكي في كتاب إخوان الصفا ، وهو على التحقيق حشو الفلسفة.

فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغث ، ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم! فهؤلاء أيضا جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم ، فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ، ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم ، حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد وقال : هات علمه وأفدنا من تعليمه! وقف وقال : الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه ، فإنما غرضي هذا القدر فقط. إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات ؛ بل عجز عن فهمه فضلا عن جوابه.

فهذه حقيقة حالهم فاخبرهم تقلهم فلما خبرناهم نفضنا اليد عنهم أيضا.

٤ ـ طرق الصوفية

ثم إني فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس ، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله.

وكان العلم أيسر علي من العمل ، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه‌الله ، وكتب الحارث المحاسبي ، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم ، وغير ذلك من كلام مشايخهم ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقها بالتعلم والسماع ، فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما ، وبين أن يكون صحيحا وشبعانا ، وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن يكون سكرانا. بل السكران لا يعرف حد السكر ، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء ، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها وهو فاقد الصحة. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها ، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا.

فعلمت يقينا أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال ، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد

٥٥٢

حصلته ، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك. وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر. فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت رسخت في نفسي لا بدليل معين محرر بل بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها.

وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ؛ وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب من الشواغل والعلائق.

ثم لاحظت أحوالي ، فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من الجوانب ، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم ، فإذا أنا فيها فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس ، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت ، فتيقنت أني على شفا جرف هار ، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.

فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار ، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما ، وأحل العزم يوما ، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى ، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الهوى حملة فتفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ، ومنادي الإيمان ينادي : الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل ، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار.

ثم يعود الشيطان ويقول هذه حال عارضة إياك أن تطاوعها ، فإنها سريعة الزوال ، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص ، والأمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما التفتت إليه نفسك ولا يتيسر لك المعاودة.

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر ، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ؛ وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس ، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفين إليّ ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة ، حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب ، فكان لا ينساغ لي ثريد ، ولا تنهضم لي لقمة ؛ وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج ، وقالوا : هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا

٥٥٣

بأن يتراوح السر عن الهم الملم.

ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري ، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام حذرا أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبدا. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة ، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض عما كنت فيه سببا دينيا ؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين وكان ذلك مبلغهم من العلم.

ثم ارتبك الناس في الاستنباطات ، وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة ؛ وأما من قرب من الولاة فكان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب علي وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى قولهم ، فيقولون : هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة العلم. ففارقت بغداد ، وفرقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال ، ترخصا بأن مال العراق مرصد للمصالح لكونه وقفا على المسلمين ؛ فلم أر في العالم ما لا يأخذه العالم لعياله أصلح منه.

ثم دخلت الشام وأقمت به قريبا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة ، اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى ، كما كنت حصلته من علم الصوفية. وكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار وأغلق بابها على نفسي.

ثم رحلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على نفسي. ثم تحركت فيّ داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة ، وزيارة رسول الله تعالى عليه‌السلام بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه ؛ فسرت إلى الحجاز.

ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن ، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه ؛ فآثرت العزلة به أيضا حرصا على الخلوة وتصفية القلب للذكر.

وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير فيّ وجه المراد ، وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفو لي الحال في أوقات متفرقة ؛ لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها ، فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها. فدمت على ذلك مقدار عشر سنين ، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الذي أذكره لينتفع به : أني علمت يقينا أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق ؛ بل لو جمع عقل العقلاء ، وحكمة الحكماء ، وعلم

٥٥٤

الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلا ؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من نور مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

وبالجملة فما ذا يقول القائلون في طريق طهارتها. هي أول شروطها. تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى ، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله ، وآخرها الفناء بالكلية في الله ، وهذا آخرها بالإضافة إلى ما لا يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها ، وهي على الحقيق أول الطريقة ، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.

ومن أول الطريقة تبتدئ المشاهدات والمكاشفات ، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ، ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول وطائفة الاتحاد وطائفة الوصول وكل ذلك خطأ ، وقد بينا وجه الخطأ في كتاب المقصد الأسنى. بل الذي لا بسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول :

وكان ما كان ممّا لست أذكره

فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر!!

وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئا بالذوق ، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم ؛ وكرامات الأولياء على التحقيق هي بدايات الأنبياء ؛ وكان ذلك أول حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تبتل حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد ، حتى قالت العرب" إن محمدا عشق ربه". وهذه حالة يتحققها بالذوق من سلك سبيلها ، فمن يرزق الذوق فيتقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر معهم الصحبة ، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقينا. ومن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان ، فهم القوم لا يشقى جليسهم. ومن لم يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقينا بشواهد البرهان على ما ذكرناه في كتاب" عجائب القلب" من كتب" إحياء علوم الدين".

والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة عين تلك الحالة ذوق ، والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان ؛ فهذه ثلاث درجات (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١] ووراء هؤلاء قوم جهال ، هم المنكرون لأصل ذلك ، المتعجبون من هذا الكلام ، يستمعون ويسخرون ويقولون : العجب! إنهم كيف يهذون! وفيهم قال الله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) [محمد : ١٦] فأصمهم وأعمى أبصارهم.

ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم حقيقة النبوة وخاصيتها ولا بد من التنبيه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها.

٥٥٥

حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها

اعلم أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة خلق خاليا ساذجا لا خبر معه عوالم الله تعالى ، والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى كما قال (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] وإنما خبره عن العوالم بواسطة الإدراك ، وكل إدراك من الإدراكات خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات ، ونعني بالعوالم أجناس الموجودات.

فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس ، فيدرك بها أجناسا من الموجودات كالحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللين والخشونة وغيرها. واللمس قاصر عن الألوان والأصوات قطعا ، بل هي كالمعدومة في حق اللمس.

ثم تخلق له حاسة البصر ، فيدرك بها الألوان والأشكال ؛ وهو أوسع عوالم المحسوسات.

ثم ينفخ فيه السمع ، فيسمع الأصوات والنغمات.

ثم يخلق له الذوق. وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات ، فيخلق فيه التمييز وهو قريب من سبع سنين ، وهو طور آخر من أطوار وجوده ، فيدرك فيه أمورا زائدة على عالم المحسوسات ، لا يوجد منها شيء في عالم الحس.

ثم يترقى إلى طور آخر ، فيخلق له العقل ، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وأمورا لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل ، وأمورا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات ، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها ، فكذلك بعض العقلاء أبى مدركات النبوة واستبعدها ؛ وذلك عين الجهل ، إذ لا مستند له إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه ، فيظن أنه غير موجود في نفسه. والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال ، وحكي لو ذلك ابتداء ، لم يفهمها ولم يقرّ بها. وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأن أعطاهم أنموذجا من خاصية النبوة وهو النوم ، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحا وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه وقيل له : " إن من الناس من يسقط مغشيا عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب" لأنكره ، وأقام البرهان على استحالته وقال : القوى الحساسة أسباب الإدراك ، فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها ، فبأن لا يدركها مع ركودها أولى وأحق. وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة ؛ فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعا من المعقولات ، والحواس معزولة عنها ، فالنبوة أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب ، وأمور لا يدركها العقل.

والشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها ، أو في وجودها ووقوعها ، أو في حصولها

٥٥٦

لشخص معين. ودليل إمكانها وجودها ، ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل كعلمي الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي وتوفيق من جهة الله تعالى ، ولا سبيل إليها بالتجربة ؛ فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة ، فكيف ينال ذلك بالتجربة؟ وكذلك خواص الأدوية. فتبين بهذا البرهان أن الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل ؛ وهو المراد بالنبوة ، لا أن النبوة عبارة عنها فقط ، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ، ولها خواص كثيرة سواها ؛ وما ذكرناه قطرة من بحرها ، وإنما ذكرناها لأن معك أنموذجا منها وهو مدركاتك في النوم ، ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ، وهي معجزات الأنبياء ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلا.

وأما ما عدا من خواص النبوة إنما يدرك بالذوق من سلوك طريق التصوف ؛ لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ، ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج فلا تفهمها أصلا ، فكيف تصدق بها؟ وإنما التصديق بعد الفهم ؛ وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف ، فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ، ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس إليه. هذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة.

فإن وقع لك الشك في شخص معين أنه نبي أم لا ، فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله ، إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع ، فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم ، ولا تعجز أيضا عن معرفة كون الشافعي رحمه‌الله فقيها ، وكون جالينوس طبيبا ، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير ، بل بأن تتعلم شيئا من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ، فيحصل لك علم ضروري بحالهما. فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعلى درجات النبوة ، وعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب ، وكيف صدق في قوله : " من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم" وكيف صدق في قوله : " من أعان ظالما سلّطه الله عليه" وكيف صدق في قوله : " من أصبح وهمومه همّ واحد كفاه الله تعالى هموم الدّنيا والآخرة" فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه.

فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ، لا من قلب العصا ثعبانا وشق القمر ، فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ، ربما ظننت أنه سحر وتخييل ، وأنه من الله إضلال فإنه (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨].

وترد عليه أسئلة المعجزات ، فإن كان مستندا إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة ، فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكال والشبهة عليها ؛ فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك ، حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على

٥٥٧

التعيين ، كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين بل من حيث لا يدري ، ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد ؛ فهذا هو الإيمان القوي العلمي. وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية.

فهذا القدر من حقيقة النبوة كاف في الغرض الذي أقصده الآن ، وسأذكر وجه الحاجة إليه.

سبب نشر العلم بعد الإعراض عنه

ثم إني لما واظبت على العزلة والخلوة قريبا من عشر سنين ، وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها ، مرة بالذوق ، ومرة بالعلم البرهاني ، ومرة بالقبول الإيماني : أن الإنسان خلق من بدن وقلب ، وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة ، وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيها هلاكه ، وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ، ولا ينجو (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩] وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي ، كما قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠ ، والمائدة : ٥٢ ، والأنفال : ٤٩ ، والتوبة : ١٢٥ ، والحج : ٥٣ ، والأحزاب : ١٢ ، ٦٠ ، ومحمد : ٢٠ ، ٢٩ ، والمدثر : ٣١.] وأن الجهل بالله سم مهلك ، وأن معصية الله بمتابعة الهوى داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي ، وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافي ، وأنه لا سبيل إلى معالجته بإزالة مرضه وكسب صحته إلا بأدوية ، كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك. وكما أنّ أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل ، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء ، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء ، فكذلك بان لي ، على الضرورة ، أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء ، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء ، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لا ببضاعة العقل. وكما أن الأدوية تركبت من أخلاط مختلفة ، وبعضها ضعف البعض في الوزن والمقدار ، فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص ، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ، حتى أن السجود ضعف الركوع ، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ، ولا يخلو عن سر من الأسرار ، هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة. ولقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة ، أو ظن أنها ذكرت على سبيل الاتفاق ، لا عن سر إلهي فيها يقتضيها بطريق الخاصية. وكما أن في الأدوية أصولا هي أركانها ، وزوائد هي متمماتها ، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات.

وعلى الجملة : فالأنبياء أطباء أمراض القلوب ، وإنما فائدة العقل وتصرفه إن عرفنا ذلك ، ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة ، وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين ، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين. وإلى هاهنا

٥٥٨

مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه. فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ، في مدة الخلوة والعزلة.

ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة ، ثم في حقيقة النبوة ، ثم في العمل بما شرحته النبوة ، وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ؛ فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ، وضعف إيمانهم ، فإذا هي أربعة :

١ ـ سبب من الخائضين في علم الفلسفة.

٢ ـ وسبب من الخائضين في طرق التصوف.

٣ ـ وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم.

٤ ـ وسبب من معاملة الموسومين بالعلم بين الناس.

فإني تتبعت مدة آحاد الخلق ، أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع ، وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره ، وقلت له : " ما لك تقصر فيها؟ فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا ، فهذه حماقة! فإنك لا تبيع الاثنين بواحد ، فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت لا تؤمن ، فأنت كافر ، فدبر نفسك في طلب الإيمان ، وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطنا ، وهو سبب جرأتك ظاهرا ، وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفا بذكر الشرع! ".

فقائل يقول : هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه ، لكان العلماء أجدر بذلك ، وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي ، وفلان يشرب الخمر ، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى ، وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام ، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة! وهلم إلى أمثاله ...

وقائل ثان يدعي علم التصوف ، ويزعم أنه قد بلغ مبلغا ترقّى عن الحاجة إلى العبادة وقائل ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة! وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف.

وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول : " الحق مشكل ، والطريق إليه منسد ، والاختلاف فيه كثير ، وليس بعض المذاهب أولى من بعض ، وأدلة العقول متعارضة ، فلا ثقة برأي أهل الرأي ، والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له ، فكيف أدع اليقين بالشك؟ ".

وقائل خامس يقول : " لست أفهل هذا تقليدا ، ولكني قرأت علم الفلسفة ، وأدركت حقيقة النبوة ، وأن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة ، وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات ؛ فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف ، وإنما أنا من الحكماء اتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغن فيها عن التقليد!؟.

٥٥٩

هذا منتهى إيمان من قرأ مذهب فلسفة الإلهيين منهم ، وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي هؤلاء هم المتجملون بالإسلام. وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ، ويحضر الجماعات والصلوات ، ويعظم الشريعة بلسانه ، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر ، وأنواعا من الفسق والفجور! وإذا قيل له" إذا كانت النبوة غير صحيحة فلم تصلي؟ " فربما يقول : " لرياضة الجسد ، ولعادة أهل البلد ، وحفظ المال والولد! " وربما قال" الشريعة صحيحة ، والنبوة حق" فيقال : فلم تشرب الخمر؟ فيقول : إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء ، وأنا بحكمتي محترز عن ذلك ، وإني أقصد به تشحيذ خاطري". حتى إن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها : أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا ، وأن يعظم الأوضاع الشرعية ، ولا يقصر في العبادات الدينية ولا يشرب تلهيا بل تداويا وتشافيا ، فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان والتزام العبادات ، أن استثنى الخمر لغرض التشافي.

فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم. وقد انخدع بهم جماعة ، زادهم انخداعهم ضعف اعتراض المعترضين عليهم ، إذ اعترضوا بمجاحدة علم الهندسة والمنطق ، وغير ذلك مما هو ضروري لهم ، على ما بينا علته من قبل.

فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذه الأسباب ، ورأيت نفسي لازمة مجتهدة ملبة بكشف هذه الشبهة ، حتى كان فضح هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء لكثرة خوضي في علومهم وطرقهم ، أعني طرق الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء ، انقدح فو نفسي أن ذلك متعين في الوقت محتوم. فما ذا تغنيك الخلوة والعزلة وقد عم الداء ، ومرض الأطباء ، وأشرف الخلق على الهلاك؟ ثم قلت في نفسي : متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ، والزمان زمان الفترة ، والدور دور الباطل؟ ولو اشتغلت بدعوة الخلق عن طرقهم إلى الحق لعاداك أهل الزمان في جمعهم. وأنّى تقاومهم ، فكيف تعايشهم ، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد وسلطان متدين قاهر؟ فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة ، تعللا بالعجز عن إظهار الحق بالحجة ؛ فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه لا بتحريك من خارج ؛ فأمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور لتدارك هذه الفتنة ، وبلغ الإلزام حدا كاد ينتهي لو أصررت على الخلاف إلى حد الوحشة ، فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف ، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة ، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق ، ولم ترخص نفسك لعسر مقاساة الخلق ، والله تعالى يقول : بسم الله الرحمن الرحيم (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ١ ، ٢ ، ٣].

ويقول عزوجل لرسوله وهو أعز خلقه (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام : ٣٤]

٥٦٠