مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

وقد عادت الجبال رمالا ، وهو الكثيب المهيل ، ثم يحيي الله سبحانه وتعالى إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة ببيت المقدس ، والصور قرن من نور له أربعة عشر دارة ، الدارة الواحدة فيها ثقوب بعدد أرواح البرية ، فتخرج أرواح البرايا لها دويّ كدويّ النحل فتملأ ما بين الخافقين ، ثم تذهب كل نسمة إلى جثتها. فسبحان ملهمهم إياها! حتى الوحش والطير وكل ذي روح ، فإذا الكل كما قال تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨]. والزجرة العظيمة هي الصيحة كما قال الله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ، ١٤]. والساهرة هي الأرض السفلى ، لأنهم فتحوا أبصارهم عند قيامهم فنظروا إلى جبال منسوفة ، وبحار منزوفة ، والأرض لا عوج فيها ولا أمت ، والأمت الشيء المرتفع كالربوة ، والعوج الأرض المنخفضة كالوهدة والأودية ، وإنما صارت مستوية كأنها صحفة قاعدة. فتعجبوا لما نظروا من الساهرة وقعد كل واحد منهم على قبره عريانا منتظرا متعجبا متفكرا معتبرا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح «عراة غرلا» أي غير مختونين ، إلا قوما ماتوا في الغربة مؤمنين لم يكفنوا ، فإنهم يحشرون وقد كسوا ثيابا من الجنة ، وأقواما ماتوا شهداء فيقومون وقد كسوا من الجنة ، وأقواما أيضا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم متحرين السنة ما خافوا عنها سم الخياط ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بالغوا في أكفان موتاكم فإنّ أمّتي تحشر بأكفانها وسائر الأمم عراة» رواه أبو سفيان مسندا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الميّت في ثيابه» وبعض الموتى لما احتضر قال : اكسوني الثوب الفلاني ، فمنع منه حتى مات في غلالة ليس عليه غيرها ، فرئي في المنام بعد أيام قلائل كأنه حزين فقال له : ما بالك؟ فأعرض عن خطابه ثم قال : منعتموني ثوبي وجعلتموني أحشر في هذه الغلالة لا غير.

فصل في الإقامة التي بين النفختين

وهي الموتة الثانية ، لأنها منعت من الحواس الباطنة ، والموت الجسماني منع من الحواس الظاهرة ، لأن الأجرام هي الفاعلة للحركة ، ولأنهم لا يصلّون ولا يصومون ولا هم يتعبدون ، ولو أدخل الله ملكا في جثة لأقام فيها ، لأنه ذو حرص على التحيز إلى عالمه. والنفس جوهر بسيط ، فإذا ركبت في الجسد صحت حياته وأفعاله.

واختلف الناس في هذه المدة الكائنة بين النفختين ، واستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة ، وحدثني من لا أشك في علمه ولا معرفته أن أمر ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى لأنه من أسرار الربوبية ، وكذلك حدثني أن الاستثناء واقع عليه سبحانه وتعالى خاصة ، فقلت : ما معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أوّل من تنشقّ الأرض عنه يوم القيامة ، فإذا أخي موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أبعث قبلي أم كان ممّن استثناه الله عزوجل؟» فلا يخرج من هذا الحديث على ما نقدره إلا غير أجسام ، وإن كان موسى الآن لا جثة له ، وبعد الاستثناء الذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر الفزع ، لأن البرايا عند الصعقة وعند الفزعة كما قال كعب وقد حدث في مجلس عمر

٥٢١

ابن الخطاب رضي الله عنه عن هول المقام حيث قال : فلو كان ذلك يا بن الخطاب عمل سبعين نبيا لظننت أنك لا تنجو من ذلك اليوم إلا قوما استثناهم الله في هول الفزع والصعق وهم أهل المقام الرابع. لا شك أن موسى أحدهم والاستثناء من بلوغ الأمر ، ولو كان هناك أحد لأجاب الله تعالى حين يقول لمن الملك اليوم لقال : لك يا واحد يا قهار.

فصل

فإذا استوى كل أحد قاعدا على قبره فمنهم العريان والمكسو والأسود والأبيض ، ومنهم من يكون له نور كالمصباح العظيم ، ومنهم من يكون له نور كالشمس ، إلا أن كل واحد منهم لا يزال مطرقا برأسه ما يدري ما يصنع ألف عام ، حتى تظهر نار من المغرب لها دويّ تسوق الخلق إلى المحشر ، فيندهش لها رءوس الخليقة إنسا وجنا ، ووحشا وطيرا ، فيأخذ كل واحد عمله ويقول قم وانهض إلى المحشر ، فمن كان له حينئذ عمل جيد تشخص عمله بغلا ، ومنهم من تشخص عمله له حمارا ، ومنهم من تشخص له عمله كبشا ، تارة يحمله وتارة يلقيه. ويجعل لكل واحد نور شعاعيّ بين يديه ، وعن يمينه مثله ، يسري بين يديه في الظلمات وهو قوله تعالى (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [التحريم : ٨]. وليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع أحد ينظر فيها ، يختار فيها الكفار ويتردد المرتابون ، والمؤمن ينظر إلى قوة حلكها وشدة حندسها ويحمد الله على ما أعطاه من النور المهتدى به في تلك الشدة ، ويسعى بين أيديهم ، لأن الله يكشف للعبد المؤمن المتنعم عن أحوال أهل الشقاء المعذبين ليستبين له سبل الفائدة ، كما فعل أهل الجنة وأهل النار حيث يقول (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات: ٥٥]. وكما قال سبحانه وتعالى (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٧]. لأن أربعا لا يعرف قدرها إلا أربعة : لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى ، ولا يعرف قدر الشدة إلا أهل النعم ، ولا يعرف قدر الغنى إلا الفقراء ، ولا يعرف قدر الصحة إلا المرضى. ومن الناس من يسعى على قدميه وعلى أطراف بنانه ، ومنهم من له نور ينطفئ تارة ويشتعل أخرى ، وإنما نورهم عند البعث على قدر إيمانهم ، وسرعة خطواتهم على قدر أعمالهم. قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث صحيح «كيف نحشر يا رسول الله؟ قال : اثنان على بعير ، وخمسة على بعير ، وعشرة على بعير» ومعنى هذا الحديث والله أعلم أن قوما يتلاقون في الإسلام فيرحمهم‌الله تعالى ، خلق لهم من أعمالهم بعيرا يركبون عليه ، وهذا من ضعف العمل ، لأنهم مشتركون معهم ، فهم كقوم خرجوا في سفر بعيد وليس معهم أحد ، منهم من يشتري مطية توصله ، فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة ، فاشتروا مطية يتعقبون عليها في الطريق وقد يبلغ بعير مع عشرة. فهذا العجز في العمل معناه قبض اليد في المال ، أي منع التصرف فيه ، ومع هذا يحكم له بالسلامة. فاعمل هداك الله عملا يكون لك بعيرا خالصا من الشركة ، واعلم أن ذلك هو المتجر الرابح ، فالمتقون وافدون

٥٢٢

كما قال الجليل جل جلاله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥]. وفي غريب الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأصحابه : «كان رجل من بني إسرائيل كثيرا ما يفعل الخير حتّى إنّه ليحشر فيكم. قالوا له : وما كان يصنع؟ قال : ورث من أبيه مالا كثيرا فاشترى بستانا فحبسه للمساكين وقال هذا بستاني عند الله ، وفرّق دنانير عديدة في الضّعفاء وقال بهذا أشتري جارية من الله تعالى وعبيدا ، وأعتق رقابا كثيرة وقال هؤلاء خدمي عند الله ، والتفت ذات يوم إلى رجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي وتارة يكبو فابتاع له مطيّة يسير عليها وقال هذه مطيّتي عند الله تعالى أركبها. والّذي نفسي بيده لكأنّني أنظر إليها وقد جيء بها مسرجة ملجمة لأركبها في الموقف». وقيل في تفسير قوله تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك : ٢٢]. أنه مثل ضربه الله ليوم القيامة في حشر المؤمنين والكافرين ، كما قال الله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦]. أي مشاة على وجوههم ، هذا قول بعض المفسرين ، وليس الأمر كما حكاه ، وإنما السر في ذلك أنه تارة يمشي وتارة يكبو على وجهه ، والذي تأوله بعيد ، لأن الله تعالى ذكر الأرجل فقال تعالى (وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤]. وقوله (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧]. تفسير غير المقصد الذي أرادوه ، وترك الإشارة التي نبأك عليها ، فقد رأيت العرب يتمثلون بها ويقولون : هذا يمشي على وجهه ، إذا كان يكبو ، ومعناه : عميا عن النور الذي يشعشع بين أيدي المؤمنين وعن أيمانهم ، وليس العمى الكلي إرادتهم ، لأنه لا خلاف أنهم ينظرون السماء تنشق بالغمام ، والملائكة تنزل ، والجبال تسير ، والكواكب تنثر. وكل أهوال يوم القيامة تفسير قوله تعالى (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور : ٢٥]. فمعنى العمى في القيامة الخوض في الظلمة والمنع عن النظر إلى الكريم ، إذ نور الله سبحانه وتعالى تشرق به الأرض البيضاء ، وهم قد ضرب على أبصارهم غشاوة لا ينظرون إلى شيء من ذلك. كذلك ضرب على آذانهم فلا يسمعون كلام الله تعالى والملائكة الذين ينادون (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف : ٤٩]. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف : ٧٠]. وكذلك منعوا من الكلام كأنهم بكم ، يفسره قوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦]. والممنوع من الشيء موصوف بالضعف عن قدرته وإن كانت الصفة فيه موجودة كأنها معدومة الوجود في حال دون حال.

ومن الناس من يحشر بفتنته الدنيوية ، فقوم مفتونون بالعود وعاكفون عليه دهرهم ، فعند قيام أحدهم من قبره يأخذه بيمينه فيطرحه من يده ويقول سحقا لك شغلتني عن ذكر الله! فيعود إليه ويقول أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. وكذلك يبعث السكران سكرانا والزامر زامرا وكل أحد على الحال الذي صده عن سبيل الله ، ومثله الحديث الذي روي في الصحيح «إنّ شارب الخمر يحشر والكوز معلّق في عنقه والقدح بيده ، وهو أنتن من

٥٢٣

كل جيفة على الأرض ، يلعنه كلّ من يمرّ عليه من الخلق». والميت أيضا يحشر بظلامته ، وفي الصحيح أن المقتول في سبيل الله يأتي يوم القيامة وجرحه يشخب دما. اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ، حتى يقف بين يدي الله عزوجل. فإذا ساقتهم الملائكة زمرا وأفواجا تحت كل واحد ما قدر له ، وجمعوا في صعيد واحد من إنس وجن وشيطان ووحش وسبع وطير ، تحولهم الملائكة إلى الأرض الثانية وهي أرض بيضاء من فضة نورية ، وصارت الملائكة من وراء العالمين حلقة واحدة فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات. ثم إن الله سبحانه وتعالى يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدثون حلقة واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة. ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون بالكل حلقة واحدة فإذا هم مثلهم ثلاثين ضعفا. ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل فتكون حلقة واحدة أكثر منهم بأربعين ضعفا. ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة. ثم تنزل ملائكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم ستين مرة. ثم تنزل ملائكة السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم سبعين مرة. والخلق تتداخل ويندرج بعضهم في بعض حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام ، ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الآذان وإلى الصدر وإلى الحلقوم وإلى المنكبين وإلى الركبتين ، ومنهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام ، ومنهم من يصيبه البلل كالعطش إذا شرب الماء. وأصحاب الرأي هم أصحاب الكراسي ، وأصحاب الكعبين قوم يموتون غرقى ، والملائكة تناديهم (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف : ٤٩]. وحدثني بعض العارفين أنهم الأوابون كالفضيل بن عياض وغيره إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له" فإن دليل ذلك قول مطلق.

وهذه الأصناف الثلاثة : أهل الرأي ، والرشح ، وأهل الكعب ، هم الذين تبيض وجوههم ومن دونهم تسود وجوههم. وكيف لا يكون القلق والعرق والأرق وقد قربت الشمس من رءوسهم حتى لو أن أحدا مد يده يضاعف حرها سبعين مرة! وقال بعض السلف : لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم القيامة لأحرقت الأرض ، وأذابت الصخر ، ونشفت الأنهار. فبينما الخلائق يمرحون وهم في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم : ٤٨]. وهم على أنواع في المحشر ، وملوك أهل الدنيا كالذر كما روي في الخبر في صفة المتكبر. وليس هم كهيئة الذر عينا ، غير أن الأقدام تطأ عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم وانخفاضهم.

وقوم يشربون ماء باردا عذبا صافيا ، لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكئوس من أنهار الجنة يسقونهم. وعن بعض السلف الصالحين أنه نام فرأى القيامة قد قامت وكأنه في الموقف عطشان ، ورأى صبيانا صغارا يسقون الناس ، قال فناديتهم : ناولوني شربة ماء! فقال لي واحد

٥٢٤

منهم : ألك فينا ولد؟ قلت : لا ، قال : فلا إذا. وفي هذا فضل التزويج. ولهذا الولد الساقي شروط ذكرناها في كتابنا" الإحياء".

وقوم قد دنا على رءوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيبة ، ولا يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتابنا" الإحياء" ، وهو من بعض أسرار القرآن ، فتوجل له القلوب وتخشع له الأبصار لعظم نقره ، وتساق الرؤوس من المؤمنين والكافرين يظنون ذلك عذابا يزداد في هول القيامة ، فإذا بالعرش يحمله ثمانية أملاك يسير قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة ، وأفواج الملائكة وأنواع الغمام بأصوات التسبيح لا تطيقه العقول ، حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا الشأن خاصة ، فتطرق الرؤوس وتحصر وتنحبس ، وتشفق البرايا ، وترعب الأنبياء ، وتخاف العلماء ، وتفزع الأولياء والشهداء من عذاب الله الذي لا يطيقه شيء. فبينما هم كذلك إذ غشيهم نور غلب على نور الشمس التي كانوا في حرها ، فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام والجليل لا يكلمهم كلمة واحدة ، فحينئذ تذهب الناس إلى آدم عليه‌السلام فيقولون : يا آدم يا أبا البشر الأمر علينا شديد. وأما الكافر فيقول : يا رب ارحمني ولو إلى النار ، من شدة ما يرى من الهول. ويقولون : يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، ونفخ فيك من روحه ، اشفع لنا في فصل القضاء! فيؤمر بكل حيث يشاء سبحانه وتعالى فيفعل بهم ما يشاء فيقول : عصيت الله حيث نهاني عن أكل الشجرة ، وأنا أستحي أن أكلمه في هذه الحالة ، ولكن اذهبوا إلى نوح عليه‌السلام فإنه أول المسلمين! فيقيمون ألف عام يتشاورون فيما بينهم ، ثم يذهبون إلى نوح فيقولون له : أنت أول المرسلين ، فيذكرون له مثل ذلك ، ثم يطلبون منه الشفاعة في فصل القضاء بينهم ، فيقول : إنني دعوت دعوة أغرقت بها أهل الأرض ، وإني أستحي من الله تعالى أن أسأله مثل ذلك ، ولكن انطلقوا إلى إبراهيم خليل الله تعالى ، هو سماكم المسلمين من قبل فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام ثم يأتونه عليه‌السلام فيقولون له : يا إبراهيم يا أبا المسلمين أنت الذي اتخذك الله خليلا فاشفع لنا إلى الله لعله يفصل فيما بين خلقه! فيقول لهم : إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات جادلت بهن عن دين الله ، فأنا أستحي من الله أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام ، ولكن اذهبوا إلى موسى عليه‌السلام فإنه اتخذه الله كليما وقربه نجيا عسى أن يشفع لكم. فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال يزيد شدة والموقف ضيقا فيأتون موسى فيقولون له : يا بن عمران أنت الذي اتخذك الله كليما وقربك نجيا وأنزل إليك التوراة ، فاشفع لنا في فصل القضاء فقد طال المقام واشتد الزحام وتراكمت الأقدام ونادى أهل الكفر الإسلام من طول المقام! فيقول لهم موسى : إني سألت الله تعالى أن يأخذ آل فرعون بالسنين وأن يجعلهم مثلا للآخرين ، وأنا استحي من الله تعالى أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام مع أسباب جرت بيني وبينه في

٥٢٥

المناجاة يلوح فيها تعريض الهلاك ، إلا أنه ذو رحمة واسعة ورب غفور ، لكن اذهبوا إلى عيسى عليه‌السلام فإنه من أصح المرسلين يقينا ، وأكثرهم معرفة بالله تعالى ، وأشدهم زهدا ، وأبلغهم حكمة ، فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال يزيد شدة والموقف يزداد ضيقا ، وهم يقولون : حتى متى نحن من رسول إلى رسول ومن كريم إلى كريم؟ فيأتون عيسى عليه‌السلام فيقولون له : أنت روح الله وكلمته ، وأنت الذي سماه الله وجيها في الدنيا والآخرة ، اشفع لنا إلى ربك في فصل القضاء! فيقول إن قومي اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، فكيف أشفع عند من عبدت معه وسميت له ابنا وسمي لي أبا ، ولكن أرأيتم لو كان لأحدكم كيس فيه نفقة وعليه خاتم أكان يبلغ إلى ما في الكيس حتى يفض الخاتم؟ قالوا : نعم يا نبي الله ، قال لهم : اذهبوا إلى سيد المرسلين وخاتم النبيين أخي العرب ، فإنه ادخر دعوته شفاعة لأمته ، وكثيرا ما آذاه قومه : شجوا جبينه ، وكسروا رباعيته ، وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، وإنه لأحسنهم فخارا ، وأكبرهم شرفا ، وهو يقول كما قال الصديق لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٩٢]. وجعل يتلو عليهم من فضائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم تمجه آذانهم حتى امتلأت نفوسهم حرصا على الذهاب إليه ، فساروا حتى أتوا إلى منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا له : أنت حبيب الله والحبيب أوجه الوسائط ، اشفع لنا إلى ربك! فقد ذهبنا إلى أبينا آدم فأحالنا على نوح ، فذهبنا إلى نوح فأحالنا على إبراهيم ، وذهبنا إلى إبراهيم فأحالنا على موسى ، فذهبنا إلى موسى فأحالنا على عيسى ، فذهبنا إلى عيسى فأحالنا عليك صلّى الله عليك وسلم ، وليس بعدك مطلب ولا عنك مهرب ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى. ثم ينطلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سرادقات الجلال فيستأذن فيؤذن له ، ثم يرفع الحجاب ويلج إلى العرش ويخر ساجدا يمكث فيها ألفا ، ثم يحمد الله تعالى بمحامد ما حمده بها أحد قط. قال بعض العارفين : إن تلك المحامد التي أثنى الله بها على نفسه يوم فراغه من خلقه. فيتحرك العرش تعظيما وقد حاز صحيفة من الصحف التي تقدم ذكرها في" الإحياء" والناس في تلك المدة قد ضاق مكانهم ، وساءت أحوالهم ، وترادفت أهوالهم ، وقد طوق كل واحد منهم ما بخل به في الدنيا : فمانع زكاة الإبل يحمل بعيرا على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم ، ومانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم. والرغاء والخوار كالرعد القاصف. ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالا قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به ، برّا كان أو شعيرا ، أثقل ما يكون ، ينادي تحته بالويل والثبور ، ومانع زكاة المال يحمل شجاعا أقرع له زبيبتان ، وذنبه قد صب في منخره ، واستدار بجيده ، وثقل على كاهله ، حتى كأنه طوق به كل رحى في الأرض. وكل واحد ينادي ما هذا فتقول لهم الملائكة : هذا ما بخلتم به رغبة فيه وشحا عليه ، وهو قوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٠]. وآخرون قد عظمت فروجهم وهي تسيل صديدا تتأذى بنتنهم

٥٢٦

جيرانهم ، وآخرون قد صلبوا على جذوع النيران ، وآخرون قد خرجت ألسنتهم على صدورهم أقبح ما يكون ، وهم الزناة واللاطة والكاذبون ، وآخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي ، وهم آكلوا الربا. وكل ذنب قد بدا سوء ذنبه ظاهرا عليه.

فصل

فينادي الجليل جل جلاله يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رب افصل بين عبادك! فقد طال مقامهم ، وقد أفصح كل واحد بذنبه في عرصات يوم القيامة. فيأتي النداء نعم يا محمد ، ويأمر الله بالجنة فتزخرف ويؤتى بها ولها نسيم طيب أعبق ما يكون وأزكى ، فيوجد ريحها مسيرة خمسمائة عام ، فتبرد القلوب ، وتحيا النفوس ، إلا من كانت أعمالهم خبيثة فإنهم منعوا من ريحها ، فتوضع عن يمين العرش. ثم يأمر الله تعالى أن يؤتى بالنار ، فترعب وتفزع ، وتقول للمرسلين إليها من الملائكة : أتعلمون أن الله خلق خلقا يعذبني به؟ فيقولون : لا وعزته! وإنما أرسل إليك لتنتقمي من عصاة ربك ، ولمثل هذا اليوم خلقت ، فيأتون بها تمشي على أربع قوائم ، تقاد بسبعين ألف زمام ، في كل زمام سبعون ألف حلقة لو جمع حديد الدنيا كله ما عدل منها حلقة واحدة ، على كل حلقة سبعون ألف زباني لو أمر زباني منهم أن يدك الجبال لدكها وأن يهد الأرض لهدها ، وإذا لها شهيق ودوي وشرر ودخان ، تفور حتى تسد الأفق ظلمة ، فإذا كان بينها وبين الخلق مقدار ألف عام انفلتت من أيدي الزبانية حتى تأتي إلى أهل الموقف ولها صلصلة وتصفيق وسحيق فيقال : ما هذا؟ فيقال: جهنم انفلتت من أيدي سائقيها ولم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها ، فيجثو الكل على الركب ، حتى المتوسلون ، ويتعلق إبراهيم وموسى وعيسى بالعرش ، هذا قد نسي الذبيح ، وهذا قد نسي هارون ، وهذا قد نسي مريم ، ويجعل كل واحد منهم يقول : يا رب نفسي لا أسألك اليوم غيرها. وهو الأصح عندي. ومحمد عليه الصلاة والسلام يقول : أمتي أمتي سلمها ونجها يا رب! وليس في الموقف من تحمله ركبتاه وهو قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) [الجاثية : ٢٨]. وعند تفلتها تكبو من الحنق والغيظ وهو قوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢] أي تعظيما وحنقا ، يقول سبحانه وتعالى تكاد تميز أي تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها فيبرز صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأخذ بخطامها ويقول لها ارجعي مدحورة إلى خلفك حتى تأتيك أفواجك! فتقول : خل سبيلي فإنك يا محمد علي حرام ، فينادي مناد من سرادقات العرش : اسمعي منه وأطيعي له! ثم تجذب وتجعل عن شمال العرش ، ويتحدث أهل الموقف بجذبها ، فيخف وجلهم وهو قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. فهناك ينصب الميزان ، وهو كفتان : كفة من نور عن يمين العرش ، وكفة عن يساره من ظلمة ، ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس تعظيما له وتواضعا ، إلا الكفار فإن أصلابهم تعود حديدا فلا يقدرون على السجود وهو قوله تعالى (يَوْمَ

٥٢٧

يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم : ٤٢]. وروى البخاري في تفسيره مسندا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يكشف الله عن ساقه يوم القيامة فيسجد كلّ مؤمن ومؤمنة» وقد أشفقت من تأويل الحديث وعدلت عن منكريه ، وكذا أشفقت من ذكر صفة الميزان وزيفت قول واضعيه بالمثل وجعلته محيزا إلى العالم الملكوتي ، فإن الحسنات والسيئات أعراض ، ولا يصح وزن الأعراض إلا بالميزان الملكوتي. فبينما الناس ساجدون إذ نادى الجليل بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان حكاه البخاري لا يجاوزني ظلم ظالم ، فإن جاوزني فأنا الظالم. ثم يحكم بين البهائم ، ويقتص للجماء من القرناء ، ويفصل بين الوحش والطير ، ثم يقول لها : كوني ترابا! فتسوى بها الأرض. ويتمنى الكافر فيقول يا ليتني كنت ترابا! ثم يخرج النداء من قبل الله : أين اللوح المحفوظ ، فيرى به هوج عظيم فيقول الله : أين ما سطرت فيك من توراة وإنجيل وفرقان ، فيقول : سلبني الروح الأمين ، فيؤتى به يرعد وتصطك ركبتاه فيقول الله : يا جبريل هذا اللوح يزعم أنك نقلت منه كلامي ووحيي أصدق؟ فيقول : نعم يا رب! فيقول له : فما فعلت فيه؟ فيقول : أنهيت التوراة إلى موسى ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقان إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهيت إلى كل رسول رسالته ، وإلى أهل الصحف صحائفهم. فإذا بالنداء : يا نوح! فيؤتى به يرعد وتصطك فرائصه فيقول له : يا نوح زعم جبريل أنك من المرسلين ، قال : صدق ، فيقول له : ما فعلت مع قومك؟ قال : دعوتهم ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. فإذا بالنداء : يا قوم نوح! فيؤتى بهم زمرة واحدة فيقال هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة ، فيقولون : يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء ، وينكرون الرسالة ، فيقول الله : يا نوح ألك بينة عليهم؟ فيقول : نعم يا رب بينتي عليهم محمد وأمته ، فيؤتى بالنبي فيقول الله عزوجل : يا محمد هذا نوح يستشهدك ، فيشهد له بتبليغ الرسالة ويقرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح : ١]. إلى آخرها فيقول الجليل : قد وجب عليكم الحق وحقت عليكم كلمة العذاب ، فقد حقت على الكافرين ، فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل ولا حساب. ثم ينادى : أين عاد؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح ، فيشهد عليهم النبي وخيار أمته فيتلو (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣]. فيؤمر بهم إلى النار. ثم ينادي : يا صالح ويا ثمود! فيأتون فيستشهدون عند ما ينكرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيتلو (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٤١]. إلى آخر القصة ، فيفعل بهم مثلهم. ولا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بيانا ، وذكرهم فيه إشارة ، كقوله تعالى (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨]. وقوله (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) [المؤمنون : ٤٤]. وقوله (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) [إبراهيم : ٩]. وفي هذا تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم يارخ ومارخ ودوح وأسر وما أشبه ذلك ، حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرسّ وتبّع وقوم إبراهيم ، وفي كل ذلك لا يروج ، أي يرتفع لهم ميزان ، ولا يوضع لهم حساب ، وهم عن ربهم يومئذ محجوبون ، والترجمان يكلمهم ، لأن من نظر إليه الله وكلمه لم يعذب. ثم ينادى بموسى فيأتي وهو كأنه ورقة في ريح

٥٢٨

عاصف فيقول له : يا موسى إن جبريل زعم أنه بلغك الرسالة والتوراة ، فتشهد له بالبلاغ؟ قال : نعم ، قال : فارجع إلى منبرك واتل ما أوحي إليك! فيرقى المنبر ويقرأ فينصت كل من في الموقف ، فيأتى بالتوراة غضة طرية على حسبها يوم أنزلت حتى يتوهم الأخبار أنهم ما عرفوها يوما. ثم ينادى : يا داود! فيأتي وهو يرعد كأنه ورقة في ريح عاصف ، ويقول جل ثناؤه : يا داود زعم جبريل أنه بلغك الزبور ، فتشهد له بالبلاغ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول له : ارجع إلى منبرك واتل ما أوحي إليك! فيرقى ويقرأ وهو أحسن صوتا. وفي الصحيح أنه صاحب مزامير أهل الجنة. فيسمع صوته أمام تابوت السكينة ، فيقتحم الجموع ويتخطى الصفوف حتى يصل إلى داود ، فيتعلق به فيقول : أما وعظك الزبور حتى نويت لي شرّا؟ فيخجله ويسكته مفحما ، فيرتج الموقف لما يرى الناس من شأن داود عليه‌السلام. ثم يتعلق به فيسوقه إلى الله ، فيرخى عليهم الستر ، فيقول : يا رب أنصفني منه! فإنه تعمدني بالهلاك ، وجعلني أقاتل حتى قتلت ، وتزوج امرأتي وعنده يومئذ تسع وتسعون امرأة غيرها ، فيلتفت الجليل إلى داود فيقول له : أصدق فيما يقول؟ فيقول له : نعم يا رب ، وهو منكس رأسه حياء وتوقعا لما ينزل به من العذاب ، ورجاء فيما وعده الله من المغفرة ، فكان إذا خاف نكس رأسه ، وإذا طمع ورجا رفعه ، فيقول الله تعالى : قد عوضتك عن ذلك كذا وكذا من القصور والولدان ، فيقول : رضيت يا رب. ثم يقول لداود : اذهب قد غفرت لك.

وكذا شأنه سبحانه وتعالى مع من أكرمه ، يعطى عنه من سعة رفده وعظيم عفوه ، ثم يقول له : ارجع إلى منبرك واقرأ بما بقي من الزبور! فيفعل حينئذ ، فيؤمر ببني إسرائيل أن ينقسموا قسمين : قسم مع المؤمنين ، وقسم مع المجرمين. ثم ينادي المنادي : أين عيسى ابن مريم؟ فيؤتى به فيقول له : أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ فيحمد ما شاء الله ، ويثني عليه كثيرا ، ثم يعطف على نفسه بالذم والاحتقار ويقول (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١١٦]. فيضحك الله تعالى ويقول (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩]. صدقت يا عيسى ارجع إلى منبرك واتل الإنجيل الذي بلغك جبريل! فيقول : نعم ، ثم يقرأ فتشخص إليه الرؤوس من حسن ترديده وترجيعه ، فإنه أحكم الناس به رواية ، فيأتي به غضا طريا حتى يظن الرهبان أنهم ما علموا منه آية قط. ثم ينقسم النصارى فرقتين : المجرمون مع المجرمين ، والمؤمنون مع المؤمنين. ثم يخرج النداء : أين محمد؟ فيؤتى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول له : يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن ، فيقول : نعم يا رب ، فيقال له : ارجع إلى منبرك واقرأ! فيتلو صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن فيأتي به غضا طريا عليه حلاوة يستبشر بها المتقون ، وإذا وجوههم ضاحكة مستبشرة ، والمجرمون وجوههم مغبرة. ويستدل على السؤال المتقدم للرسل والأمم بقوله تعالى (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦]. وقيل بقوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ

٥٢٩

الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩]. والأول أصح ، حكيناه في" الإحياء" لأن الرسل يتفاضلون والمسيحعليه‌السلام من أجلهم لأنه روح الله وكلمته. فإذا تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط ، وقد قالوا للأصمعي : تزعم أنك أحفظهم لكتاب الله تعالى ، قال : يا ابن أخي يوم أسمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأني ما سمعته قط. فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرادقات الجلال : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩]. فيرتج الموقف ويقوم فيه روع عظيم ، والملائكة قد امتزجت بالجن والجن ببني آدم. ولجّ الكل لجة واحدة. ثم يخرج النداء : يا آدم ابعث من نبيك بعثا إلى النار! فيقول : كم يا رب؟ فيقول له : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة. فلا يزال يستخرج من سائر الملحدين والغافلين والفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة الرب كما قال الصديق : نحو حفنة من حفنات الرب. ثم يقرب اللعين بالشياطين فمنهم من يزيغ له الميزان فإذا سيئاته ترجح على حسناته ؛ وكل من وصلت له الشريعة لا بدّ له من الميزان. فإذا اعتزلوا وأيقنوا أنهم هالكون قالوا : آدم ظلمنا ومكن الزبانية من نواصينا ، فإذا النداء من قبل الله تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧]. فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق والمغرب فيه جميع أعمال الخلائق ، فما من صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩]. وذلك أن أعمال الخلائق كل يوم تعرض على الله فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم وهو قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩]. ثم ينادى بهم فردا فردا فيحاسب كل واحد منهم ، فإذا الأقدام تشهد ، واليدان تشهدان وهو قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤]. وقد جاء في الخبر أن رجلا منهم يوقف بين يدي الله تعالى فيقول له : يا عبد السوء كنت مجرما عاصيا ، فيقول : ما فعلت ، فيقال له : عليك بينة ، فيؤتى بحفظته فيقول : كذبوا علي ، ويجادل على نفسه وهو قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النمل : ١١١]. ويختم على فيه وهو قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : ٦٥]. فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار ، فيجعل يلوم جوارحه فتقول له : ليس عن اختيارنا ، أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء. ثم يدفعون بعد الفراغ إلى خزنة جهنم فترتج أصواتهم بالبكاء والضجيج ، ويكون لهم رجة عظيمة حين يعرض الموحدون المؤمنون ، فتحدق بهم الملائكة تلقى كل واحد منهم يقول : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٣]. والفزع الأكبر في أربعة مواضع : عند نقر الناقور ، وعند تفلت جهنم من الخزنة ، وعند إخراج بعث آدم ، وعند دفعهم إلى الخزنة. فإذا بقي الموقف ليس فيه إلا المؤمنون ، والمسلمون المحسنون ، والعارفون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون ، والمرسلون ، ليس فيهم مرتاب ولا منافق ولا زنديق فيقول الله تعالى: يا أهل الموقف من ربكم؟ فيقولون : الله ، فيقول لهم : تعرفونه؟ فيقولون : نعم ،

٥٣٠

يسار العرش لو جعلت البحار السبعة في نقرة إبهامه ما ظهرت فيقول لهم : أنا ربكم ، بأمر الله ، فيقولون: نعوذ بالله منك! فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الأربعة عشر في نقرة إبهامه ما ظهرت فيقول لهم : أنا ربكم ، فيتعوذون بالله منه. ثم يتجلى لهم الله تعالى في الصورة التي كانوا يعرفونها وسمعوه وهو يضحك فيسجدون له جميعهم فيقول أهلا بكم ، ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط والناس أفواج ، أعني المرسلين ثم النبيين ثم الصديقين ثم المحسنين ثم الشهداء ثم المؤمنين ثم العارفين ، ويبقى المسلمون منهم المكبوب على وجهه ، ومنهم المحبوس في الأعراف ، ومنهم قوم قصروا عن تمام الأيمان ، ومنهم من يجوز الصراط على مائة عام ، وآخر يجوز على ألف عام ، ومع ذلك كله تحرق النار كل من رأى ربه عيانا لا يضام في رؤيته. وأما المسلم والمحسن والمؤمن فقد كشفنا عن مقام كل واحد منهم في كتابنا المسمى «بالاستدراج» وهم في زمرة الانطلاق قد كثر مرورهم وترددهم بالجوع والعطش ، قد تفتتت أكبادهم ، لهم نفس كالدخان ، يشربون من الحوض بكئوس عدد نجوم السماء ، وماؤه من نهر الكوثر ، وقدره من إيلياء إلى صنعاء طولا ، وعرضه من عدن إلى يثرب ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «منبري على حوضي» أي على أحد حافتيه في المكيال والمقدار ، والمذادون عنه هم المشتغلون في حبس الصراط بمساوي قبائح ذنوبهم ، فكم من متوضئ لا يحسن أن يسبغ وضوءه ، وكم من مصلّ لم يسأل عن صلاته اتخذ صلاته حكاية قد عريت من الخضوع والخشوع لو قرصه نملة لالتفت ، والعارفون بجلال الله لو قطعت أيديهم وأرجلهم ما ارتجوا ، لذلك شغلتهم الهيبة والفكرة لعملهم بقدر من قاموا بين يديه ، فربما رجل لسعته العقرب في مجلس أمير من الأمراء لم يتحرك صبرا عليها وتعظيما للأمير في المجلس ، فهذه حالة الآدميين مع المخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ، فكيف حال من يكون قائما بين يدي الله عزوجل وهيبته وسلطانه وعظمته وجبروته! وحكى الظالم العارف أنه يؤتى به إلى الله تعالى فتخرج عليه المظالم ويتعلق به المظلوم فيقول له : التفت أيها المظلوم فوق رأسك! فإذا بقصر عظيم تحار فيه الأبصار فيقول : ما هذا يا رب؟ فيقول : إنه للبيع فاشتره مني! فيقول : ليس معي ثمنه ، فيقول : إن ثمن هذا أن تبرئ مظلمة أخيك فالقصر لك ، فيقول : قد فعلت يا رب. هكذا يفعل الله بالظالمين الأوابين وهو قوله تعالى : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) [الإسراء : ٢٥]. والأواب الذي أقلع عن الذنب فلم يعد أبدا ، وقد سمي داود عليه‌السلام أوابا وغيره من المرسلين.

فصل في كيفية دعاء أهل الموقف وذكر الاختلاف فيما

جاء في تفسيره

وفي الصحيح أن أول ما يقضي الله تعالى في الدماء ، وأول من يعطي الله أجورهم : الذين ذهبت أبصارهم. نعم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم : أنتم أحرى ، أي أحق من ينظر إليه ، ثم يستحي الله منهم فيقول لهم : اذهبوا إلى ذات اليمين! ويعقد لهم راية ، وتجعل في يد

٥٣١

شعيب عليه‌السلام ، فيصير أمامهم ومعهم من ملائكة النور ما لا يحصي عددهم إلا الله ، يزفونهم كما تزف العروس ، فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف ، وصفة أحدهم في الصبر والحلم كابن عباس ومن ضاهاه من هذه الأمة. ثم ينادي : أين أهل البلاء؟ ويريد المجذومين ، فيؤتى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة ، فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء وتجعل بيد أيوب عليه‌السلام فيصير أمامهم إلى ذات اليمين ، وصفة المبتلى صبر وحلم : كعقيل بن أبي طالب ومن ضاهاه من هذه الأمة. ثم ينادي : أين الشباب المتعففون؟ فيؤتى بهم إلى الله فيترحب بهم ويقول ما شاء الله أن يقول ، ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء ، ثم تجعل في يد يوسف عليه‌السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين ، وصفة الشباب صبر وحلم كراشد بن سليمان ومن ضاهاه من هذه الأمة. ثم يخرج النداء : أين المتحابون في الله؟ فيؤتى بهم إلى الله فيترحب بهم ويقول ما شاء الله ، ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين ، وصفة المتحابين الله في صبر وحلم لا يسخط ولا يسيء من توارد الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن ضاهاه من هذه الأمة. ثم يخرج النداء : أين الباكون من خشية الله؟ فيؤتى بهم إلى الله فتوزن دموعهم ودماء الشهداء ومداد العلماء فيرجع الدمع ، فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة : هذا بكى خوفا ، وهذا بكى طمعا ، وهذا بكى ندما ، وتجعل بيد نوح عليه‌السلام فتهم العلماء بالتقدم عليهم ويقولون علمنا أبكاهم ، فإذا النداء : على رسلك يا نوح! فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء ودم الشهداء فيرجع دم الشهداء على مداد العلماء ، فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية مزعفرة وتجعل في يد يحيى ثم ينطلق أمامهم ، فهم العلماء بالتقدم ، ويقولون : عن علمنا قاتلوا ، فنحن أحق منهم بالتقدم فيضحك الله عزوجل ويقول : هم عندي كأنبيائي اشفعوا فيمن تشاؤون! فيشفع العالم في أهل بيته وجيرانه وإخوانه ، ويأمر كل واحد منهم ملكا ينادي في الناس : ألا إن فلانا العالم قد أمره الله أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة أو سقاه شربه ماء حين عطش ، فيقوم إليه من فعل معه شيئا من ذلك فيشفع له. وفي الصحيح «إنّ أوّل من يشفع المرسلون ثمّ النّبيّون ثمّ العلماء» ، ويعقد لهم راية بيضاء تجعل في يد إبراهيم عليه‌السلام فإنه أشد المرسلين مكاشفة. ونضرب عن هذا الفن. ثم ينادي مناد : أين الفقراء؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى ، فيقول لهم : مرحبا بمن كانت الدنيا سجنهم ، ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين وتعقد لهم راية صفراء وتجعل في يد عيسى عليه‌السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين. ثم ينادى : أين الأغنياء؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فيعدد لهم ما خولهم خمسمائة عام ، ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين وتعقد لهم راية ملونة وتجعل بيد سليمان عليه‌السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين. وفي الحديث «إنّ أربعة يستشهد عليهم بأربعة : ينادى بالأغنياء وأهل الغبطة فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله؟ فيقولون : أعطانا ملكا وغبطة شغلتنا عن

٥٣٢

القيام بحقّه ، فيقال : من أعظم ملكا أنتم أم سليمان؟ فيقولون : سليمان ، فيقال : ما شغله ذلك عن القيام بحقّي. ثمّ يقال : أين أهل البلاء؟ فيؤتى بهم فيقولون لهم : أيّ شيء شغلكم عن عبادة الله؟ فيقولون : ابتلانا الله في الدّنيا فشغلنا عن ذكره والقيام بحقّه ، فيقال لهم : من أشدّ بلاء أنتم أم أيّوب؟ فيقولون : أيّوب ، فيقال لهم : ما شغله ذلك عن القيام بحقّ الله. ثمّ ينادى أين الشّباب والمماليك؟ فيؤتى بهم ، فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله؟ فيقولون : أعطانا جمالا وحسنا فتنّا به فكنا مشغولينعن القيام بحقّه ، وتقول المماليك : شغلنا رقّ العبوديّة ، فيقال لهم : أنتم أكثر جمالا أم يوسف؟ فيقولون : يوسف ، فيقال لهم : ما شغله ذلك وهو في الرّقّ عن القيام بحقّ الله. ثمّ ينادى : أين الفقراء؟ فيؤتى بهم ، فيقال لهم : ما شغلكم عن القيام بحقّ الله؟ فيقولون : ابتلينا في الدّنيا بالفقر فشغلنا عن القيام بحقّ الله ، فيقال لهم : من أشدّ فقرا عيسى أم أنتم؟ فيقولون : عيسى ، فيقال : ما شغله عن ذكرنا». فمن ابتلي بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه. وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في دعائه «اللهمّ إنّي أعوذ بك من فتنة الغنى والفقر» فاعتبروا بالمسيح فقد صح أنه ما كان يملك شيئا قط ، وقد لبس جبة صوف عشرين سنة ، وما كان له في سياحته إلا كوز وسبحة ومشط ، فرأى يوما رجلا يشرب بيده فرمى الكوز ولم يمسكه بعد ، ورأى رجلا آخر يخلل لحيته بيده فرمى المشط من يده ولم يمسكه بعد. وكان يقولعليه‌السلام : دابتي رجلاي ، وبيوتي كهوف الأرض ، وطعامي نباتها ، وشرابي أنهارها. وفي بعض الصحف المنزلة : يا بن آدم حسنة وسيئة من أنواع الحياة والقتل متعمدا والخطأ أيضا إذا استهين بكفارته ولم يقتص ، فاحذرهما فإنهما فعل عظيم ، والكبائر قد يرجى لصاحبها الشفاعة بعد التخليص ، فأكرمهم يخرج من النار بعد ألف سنة وقد امتحش. وكان الحسن البصري رحمه‌الله تعالى يقول في كلامه : يا ليتني ذلك الرجل! ولا شك أنه كان رحمه‌الله تعالى عالما بأحكام الآخرة. ويؤتى يوم القيامة برجل فلم يجد حسنه ترجح بها ميزانه أو قد اعتدلت بالسوية فيقول الله تعالى له رحمة منه : اذهب في الناس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة ، فيسير يجوس خلال الناس فما يجد أحدا يكلمه في ذلك ، وكل من كلمه وسأله يقول : أخشى أن يخف ميزاني أنا أحوج إليها منك ، فييأس فيقول له رجل : ما الذي تطلب؟ فيقول له : حسنة واحدة ، فلقد مررت بقوم لهم منها ألوف فبخلوا علي ، فيقول له الرجل : لقد لقيت الله تعالى فما وجدت في صحيفتي إلا حسنة واحدة وما أظن أنها تغني عني سيأخذها هبة مني إليك ، فينطلق بها فرحا مسرورا فيقول الله له : كيف جاء لك؟ وهو سبحانه أعلم ، فيقول ما كان منه مع الرجل ، فيدعى بالرجل الذي أعطاه الحسنة فيقول الله تعالى : كرمي أوسع من كرمك ، خذ بيد أخيك وانطلق إلى الجنة! وإذا استوى كفتا الميزان لرجل فيقول الله : لا هو من أهل الجنة ولا هو من أهل النار ، فيأتي الملك بصحيفة يضعها في كفة السيئات فيها مكتوب «أف» فترجع على الحسنة لأنها كلمة عقوق ، فيؤمر به إلى النار ، فيلتفت الرجل

٥٣٣

ويطلب أن يرده الله إليه ، فيقول : ردوه! ثم يقول له : أيها العبد العاق لأي شيء تطلب الرد؟ فيقول : إلهي إني رأيت أني سائر إلى النار لا بد لي منها ، وكنت عاقا لأبي فضعف علي عذاب أبي وأنقذه منها!قال فيضحك الله ويقول : عققته في الدنيا وبررته في الآخرة ، خذ بيد أبيك وانطلق به إلى الجنة! فما من أحد يذهب به إلى النار إلا والملائكة توقفه لعلمهم بسر أحكام الآخرة ، حتى لقد ينادى بقوم لا خلاق لهم خلقوا حطبا لها وحشوا فيقال (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤]. فتحبس تلك الزمرة حتى يخرج النداء فيهم : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) [الصافات : ٢٥]. فيستسلمون ويعترفون بالذنب كما قال الله تعالى (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١١]. فيدفعون دفعة واحدة إلى النار. وكذا يؤتى بأهل الكبائر من الأمة شيوخا وعجائز ونساء وشبابا ، فإذا نظر إليهم مالك خازن جهنم قال : أنتم معاشر الأشقياء ما لي أرى أيديكم لا تغسل ولم تسود وجوهكم؟ ما ورد علي أحسن حالا منكم ، فيقولون : يا مالك نحن أشقياء أمة محمد دعنا نبكي على ذنوبنا! فيقول لهم : ابكوا فلن ينفعكم البكاء ، فكم من شيخ وضع يده على لحيته يقول وا شيبتاه وا طول حزناه! وكم من كهل ينادي واطول مصيبتاه واذل مقاماه! وكم من شاب ينادي وا شباباه! وكم من امرأة قد قبضت على شعرها وهي تنادي وا سوأتاه وا فضيحتاه! فإذا النداء من قبل الله تعالى : يا مالك أدخلهم النار من الباب الأول! فإذا همت النار أن تأخذهم يقولون بأجمعهم : لا إله إلا الله ، فتفر النار منهم مسيرة خمسمائة عام ، فيأخذون في البكاء ، وإذا النداء : يا نار خذيهم يا مالك أدخلهم الباب الأول! فعند ذلك يسمع صلصلة كصلصلة الرعد فإذا النار همت أن تحرق القلوب زجرها مالك وجعل يقول : لا تحرقي قلبا فيه القرآن ، وكان وعاء للإيمان ، ولا تحرقي جباها سجدت للرحمن! فيعودون فيها ، وإذا برجل يعلو صوته على صوت أهل النار فيخرج وقد امتحش فيقول الله له : ما لك أكثر أهل النار صياحا؟ فيقول : يا رب حاسبتني ولم أقنط من رحمتك ، وعلمت أنك تسمعني فأكثرت الصياح ، فيقول الله تعالى : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر : ٥٦]. اذهب فقد غفرت لك وكذا يخرج من النار فيقول الله له : خرجت من النار فبأي عمل تدخل الجنة؟ فيقول : يا رب ما أسألك منها إلا يسيرا ، فترفع له شجرة منها فيقول الله : أرأيت إن أعطيتك هذه الشجرة تسألني غيرها؟ فيقول : لا وعزتك يا رب! فيقول الله : هي هبة مني إليك ، فإذا أكل منها واستظل بظلها رفعت له شجرة أخرى أحسن منها فيجعل يكثر النظر إليها فيقول الله تعالى : مالك لعلك أحببتها؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول له : إن أعطيتك إيّاها هل تسألني غيرها؟ فيقول : لا يا رب ، فإذا أكل واستظل بظلها رفعت له شجرة أحسن منها فيجعل ينظر إليها فيقول الله له : إن أعطيتك إياها تسألني غيرها؟ فيقول : لا وعزتك يا رب لا أسألك غيرها ، فيضحك الله عزوجل فيدخله الجنة. ومن غريب حكم الآخرة أن الرجل يؤتى به إلى الله فيحاسبه ويوبخه وتوزن له حسناته وسيئاته وهو في ذلك كله يظن يقينا أن الله ما اشتغل إلا

٥٣٤

بحسابه ووزنه ، ولعل في تلك اللحظة حاسب فيها آلاف ألوف ما لا يحصي عدتهم إلا الله ، كل منهم يظن أن الحساب له وحده ، وكذا لا يرى بعضهم بعضا ، ولا يسمع أحدهم كلام الآخر ، بل كل واحد تحت أستاره. فسبحان من هذا شأنه وهو قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨]. وهو في قوله سر عجيب من أسرار الملكوت ، إذ ليس لملكه حد محدود ، فسبحان من لا يشغله شأن عن شأن! وفي هذه الحالة يأتي الرجل إلى ولده فيقول له : يا بني إني كسوتك حيث لا تقدر تكسو نفسك ، وأطعمتك طعاما وسقيتك شرابا حيث كنت عاجزا عن ذلك ، وكفلتك صغيرا حيث كنت لا تستطيع دفع الضراء ولا جلب السراء ، فكم من فاكهة تمنيتها فابتعتها لك ، حسبك ما ترى من هول يوم القيامة وسيئات أبيك كثيرة فتحمل عني منها ولو سيئة فيخف عني ، وأعطني ولو حسنة أزيدها في الميزان! فيفر منه الولد ويقول له : أنا أحوج منك إليها. وكذا يفعل الفصيل مع الفصيلة والصاحب والأخ وهو قوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس : ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦]. (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) [المعارج : ١٣]. وفي الحديث «يحشر النّاس عراة ، قالت عائشة رضي الله عنها : ووا سوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه». لأن شدة الهول وعظم الكرب تشغلهم أن ينظر بعضهم إلى بعض. فإذا استقر الناس في صعيد واحد طلعت عليهم سحابة سوداء فأمطرتهم صحفا منشرة ، فإذا صحيفة المؤمن ورقة ورد ، وإذا صحيفة الكافر ورقة سدر ، والكل مكتوب ، فتتطاير الصحف فإذا هي بالميامن والمياسر ، وليس عن اختيار ، وإنما هي تقع بيمينه وبشماله وهو قوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣]. وحكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد جواز الصراط ، وهو غلط من قائله فإنه تعين أنه يرده من قد جاز الصراط ، ففي السبعة جسور يهلك الناس. والسبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفا ، وإنما هي براءة مكتوب فيها «لا إله إلا الله محمد رسول الله هذه براءة فلان بن فلان بدخول الجنة ونجاته من النار» فإذا غفرت له ذنوبه أخذ الملك بعضده وجاس به خلال الموقف ونادى : هذا فلان بن فلان قد غفر الله له ذنوبه وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، فما مر عليه شيء أسر من ذلك المقام. والرسل يوم القيامة على المنابر والأنبياء والعلماء على منابر صغار دونهم ، ومنبر كل رسول على قدره ، والعلماء العاملون على كراسي من نوره ، والشهداء والصالحون كقراء القرآن والمؤذنون على كثبان المسك. وهذه الطائفة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين يطلبون الشفاعة من آدم عليه‌السلام ونوح حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد جاء أن القرآن يأتي يوم القيامة في صورة رجل حسن الوجه والخلق فيشفع ، فيشفع الإسلام مثله ، فيخصم ويخاصم عن صاحبه ، وقد ذكرنا حكاية الإسلام مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب" الإحياء" بعد مخاصمته ، فيتعلق به من شاء الله فيهوي بهم

٥٣٥

إلى الجنة. وكذلك تأتي الدنيا في صورة عجوز شمطاء أقبح ما يكون فيقال للناس : أتعرفون هذه؟ فيقولون : نعوذ بالله من هذه! فيقال لهم : هذه الدنيا التي كنتم تتحاسدون عليها وتتباغضون فيها. وكذلك يؤتى بالجمعة في صورة عروس تزف ، فيحدق بها المؤمنون ، ويحوط بهم كثبان المسك والكافور ، عليهم نور يتعجب منه كل من رآه في الموقف ، فلم تزل بهم حتى تدخلهم الجنة. فانظر إلى رحمة الله تعالى وجود القرآن والإسلام والجمعة ، وكيف هم أشخاص : القرآن موجود جبروتي ، والإسلام ملكوتي كالصيام والصلاة والصبر. ولا يلتفت إلى من احتج في تلاشي الأنفس عند الموت بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق : «اللهمّ ربّ الأجسام البالية والأرواح الفانية» فإن ذلك كله يحوج إلى العلوم وقد نبهنا عليه في غير هذا الكتاب وقصدنا الاختصار لسلوك طريق السنة ، ولا يلتفت إلى البدع الطارئة على الشريعة من شياطين الإنس. فبشر المؤمنين بالرشاد وسلوك المراد.

نسأل الله العصمة والتوفيق بمنه وكرمه آمين. وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥٣٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كتاب المنقذ من الضّلال

المدخل

الحمد لله الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة ، والصلاة على محمد المصطفى صاحب النبوة والرسالة ، وعلى آله وأصحابه الهادين من الضلالة.

أما بعد : فقد سألتني أيها الأخ في الدين ، أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها ، وغائلة المذاهب وأغوارها ، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق ، مع تباين المسالك والطرق ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاستفسار ، وما استفدته أولا من علم الكلام وما اجتويته ثانيا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام ، وما ازدريته ثالثا من طرق التفلسف ، وما ارتضيته آخرا من طريقة التصوف ، وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق من لباب الحق ، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة ، وما دعاني إلى معاودتي نيسابور بعد طول المدة ، فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك بعد الوقوف على صدق رغبتك ، وقلت مستعينا بالله ومتوكلا عليه ، ومستوثقا منه ، وملتجئا إليه :

اعلموا أحسن الله تعالى إرشادكم ، وألان للحق قيادكم أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطرق ، بحر عميق غرق فيه الأكثرون ، وما نجا منه إلا الأقلون. وكل فريق يزعم أنه الناجي ، و (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٢] هو الذي وعدنا به سيد المرسلين ، صلوات الله عليه ، وهو الصادق الصدوق حيث قال : " ستفترق أمّتي ثلاثا وسبعين فرقة ، النّاجية منها واحدة" فقد كان ما وعد أن يكون.

ولم أزل في عنفوان شبابي ، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين ، أقتحم لجة هذا البحر العميق ، وأخوض غمرته خوض الجسور ، لا خوض الجبان الحذور ، وأتوغل في كل مظلمة ، وأتهجم على كل مشكلة ، وأتقحم كل ورطة ، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ لأميز بين محق ومبطل ، ومتسنن ومبتدع لا أغادر باطنيّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته ، ولا ظاهريّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته ، ولا فلسفيّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته ، ولا متكلما إلا وأجتهد في

٥٣٧

الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته ، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلّتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد شرة الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر ؛ وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين ، والتمييز بين هذه التقليدات ، وأوائلها تلقينات ، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات ، فقلت في نفسي : إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي ؛ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا ، لم يورث ذلك شكّا وإنكارا ، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل : لا ، بل الثلاثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا وقلبها ، وشاهدت ذلك منه ، لم أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه ؛ فأما الشك فيما علمته فلا.

ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.

(١) مداخل السفسطة وجحد العلوم

ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. قلت : الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليّات ، وهي الحسيات والضروريات ، فلا بد من إحكامها أولا لأتيقن أثقتي بالمحسوسات وأماني من الغلط في الضروريات ، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات ، ومن جنس أماني أكثر الخلق في النظريات ، أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا ؛ وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول : من أين الثقة بالمحسوسات ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر

٥٣٨

إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم العقل ويخونه ، تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته.

فقلت : قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا : العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما ، موجودا معدوما ، واجبا محالا. فقالت المحسوسات : بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولو لا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر ، إذا تجلى كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا ، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت : أما تراك تعتقد في النوم أمورا ، وتتخيل أحوالا ، وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها؟ فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم ، إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالا لا توافق هذه المعقولات ؛ ولعل تلك الحالة هي الموت إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة ، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢] فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعة إلا بالدليل ، ولم يكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل. فأعضل هذا الداء ، ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وتركيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة ؛ ولما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن «الشرح»

٥٣٩

ومعناه في قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] قال : «هو نور يقذفه الله تعالى في القلب» فقيل : «وما علامته»؟ فقال «التّجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود» وهو الذي قال عليه‌السلام فيه : «إنّ الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره» فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف. وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين ، ويجب الترصد له كما قال عليه‌السلام : " إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها".

والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطب حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب ؛ فإن الأوليات ليست مطلوبة ، فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب فقد واختفى ، ومن طلب ما لا يطلب فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب.

القول في أصناف الطالبين

ولما شفاني الله تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده ، انحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق :

١ ـ المتكلمون : وهم يدّعون أنهم أهل الرأي والنظر.

٢ ـ الباطنية : وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.

٣ ـ الفلاسفة : وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.

٤ ـ الصوفية : وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة.

فقلت في نفسي : الحق لا يعدو عن هذه الأصناف الأربعة ، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق ، فإن شذ الحق عنهم ، فلا يبقى في درك الحق مطمع ، إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته ، إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ، وهو شعب لا يرأب ، وشعث لا يلم بالتلفيق وبالتأليف ، إلا أن يذاب بالنار ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة.

فابتدرت لسلوك هذه الطرق ، باستقصاء ما عند هذه الفرق ، مبتدئا بعلم الكلام ، ومثنيا بطريق الفلسفة ، ومثلثا بتعليمات الباطنية ، ومربعا بطريق الصوفية.

١ ـ علم الكلام مقصوده وحاصله

ثم إني ابتدأت بعلم الكلام ، فحصلته وعقلته ، وطالعت كتب المحققين منهم ، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف ، فصادفته علما وافيا بمقصوده ، غير واف بمقصودي ؛ وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة ؛ فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار ،

٥٤٠