مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الكتاب

الحمد لله المبدئ المعيد الفعال لما يريد ، ذي العرش المجيد والبطش الشديد ، الهادي صفوة العبيد ، إلى المنهج الرشيد ، والمسلك السديد ، والمنعم عليهم بعد شهادة التوحيد ، بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك والترديد ، السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واقتفاء آثار صحبه الأكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي لا يدركها إلا من ألقى السمع وهو شهيد ، وهو أنه في ذاته واحد لا شريك له ، فرد لا مثل له ، صمد لا ضد له ، منفرد لا ند له ، وأنه واحد قديم لا أول له ، أزلي لا بداية له ، مستمر الوجود لا آخر له ، أبدي لا نهاية له ، قيوم لا انقطاع له ، دائم لا انصرام له ، لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال ، لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض الآجال. بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

التنزيه : وأنه ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر. وأنه لا يماثل الأجسام في التقدير ولا في قبول الانقسام. وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر ، ولا بعرض ولا تحله الأعراض ، بل لا يماثل موجودا ولا يماثله موجود ، ليس كمثله شيء ، ولا هو مثل شيء ، وأنه لا يحده المقدار ، ولا تحويه الأقطار ، ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ، ولا السماوات وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال. لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى. فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى ، وهو مع ذلك قريب من كل موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، وهو على كل شيء شهيد ، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام وأنه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء ، تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان ، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان وأنه بائن من خلقه بصفاته ، ليس في ذاته سواه ولا في سواه ذاته ، وأنه مقدس عن التغير والانتقال لا تحله الحوادث ولا تعتريه العوارض ، بل لا يزال في نعوت جلاله منزها عن الزوال به ، وفي صفات كماله مستغنيا عن زيادة الاستكمال ، وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول مرئي الذات

١٦١

بالأبصار نعمة منه ، ولطفا بالأبرار في دار القرار ، وإتمام للنعم بالنظر إلى وجهه الكريم.

الحياة والقدرة : وأنه تعالى حي قادر ، جبار قاهر لا يعتريه قصور ولا عجز ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يعارضه فناء ولا موت ، وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت ، له السلطان والقهر والخلق والأمر ، والسماوات مطويات بيمينه والخلائق مقهورون في قبضته ، وأنه المنفرد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع ، خلق الخلق وأعمالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم لا يشذ عن قبضته مقدور. ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور لا تحصى مقدوراته ولا تتناهى معلوماته.

العلم : وأنه عالم بجميع المعلومات محيط علمه بما يجري في تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر في جو الهواء ، ويعلم السر وأخفى ويطلع على هواجس الضمائر ، وحركات الخواطر ، وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا به في أزل الآزال ، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال.

الإرادة : وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادثات فلا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير ، صغير أو كبير ، خير أو شر ، نفع أو ضر ، إيمان أو كفر ، عرفان أو نكر ، فوز أو خسران ، زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر ، بل هو المبدئ المعيد الفعال لما يريد ، لا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه ، ولا مهرب لعبد من معصيته إلا بتوفيقه ورحمته. ولا قوة له على طاعته إلا بمشيئته وإرادته ، فلو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته ، لم يزل كذلك موصوفا بها مريدا في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها فوجدت في أوقاتها كما في أزله من غير تقدم ولا تأخر ، بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغير ، دبر الأمور لا بترتيب أفكار ولا تربص زمان فلذلك لم يشغله شأن عن شأن.

السمع والبصر : وأنه تعالى سميع بصير يسمع ويرى ، لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي ، ولا يغيب عن بصره مرئي وإن دق ، ولا يحجب سمعه بعد ، ولا يدفع رؤيته ظلام. يرى من غير حدقة وأجفان ، ويسمع من غير أصمخة وآذان ، كما يعلم بغير قلب ، ويبطش بغير جارحة ، ويخلق بغير آلة إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق ، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق.

الكلام : وأنه تعالى متكلم آمر ناه واعد متوعد بكلام أزلي قديم قائم بذاته لا يشبه كلام الخلق ، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام ، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان ، وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله عليهم‌السلام ، وأن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب ، وأنه مع ذلك

١٦٢

قديم قائم بذات الله تعالى ، لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق ، وأن موسىعليه‌السلام سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف ، كما يرى الأبرار ذات الله تعالى في الآخرة من غير جوهر ولا عرض. وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام لا بمجرد الذات.

الأفعال : وأنه سبحانه وتعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها ، وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته ولا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ولا يتصور الظلم من الله تعالى ، فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما ، فكل ما سواه من إنس وجن وشيطان وملك وسماء وأرض وحيوان ونبات وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس : حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعا ، وأنشأه بعد أن لم يكن شيئا ، إذ كان في الأزل موجودا وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد إظهارا لقدرته وتحقيقا لما سبق من إرادته وحق في الأزل من كلمته لا لافتقاره إليه وحاجته ، وأنه تعالى متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب ، ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم ، له الفضل والإحسان والنعمة والامتنان. إذا كان قادرا على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب ، ولو فعل ذلك لكان منه عدلا ولم يكن قبيحا ولا ظلما ، وأنه يثيب عباده على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم إذ لا يجب عليه فعل ولا يتصور منه ظلم ولا يجب لأحد عليه حق ، وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على لران أنبيائه لا بمجرد العقل ، ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة ، فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به ، وأنه تعالى بعث النبي الأمّي القرشي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس فنسخ بشرعه الشرائع إلا ما قرر ، وفضله على سائر الأنبياء وجعله سيد البشر ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد ، وهي : قول لا إله إلا الله ما لم يقترن بها شهادة الرسول ، وهي محمد رسول الله فألزم الخلق تصديقه في جميع ما أقر به من الدنيا والآخرة ، وأنه لا يقبل إيمان عبد حتى يوقن بما أخبر عنه بعد الموت ، وأوله سؤال منكر ونكير. وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سويا ذا روح وجسد فيسألانه عن التوحيد والرسالة ويقولان : من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهما فتانا القبر وسؤالهما أول فتنة للقبر بعد الموت ، وأن يؤمن بعذاب القبر ، وأنه حق وحكمه عدل على الجسم والروح على ما يشاء ، ويوقن بالميزان ذي الكفتين واللسان ، وصفته في العظم أنه مثل طباق السماوات والأرضين توزن فيه الأعمال بقدرة الله تعالى ، والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقا لتمام العدل ، وتطرح صحائف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور فيثقل بها الميزان على قدر درجاتها عند الله بفضل الله تعالى ، وتطرح صحائف السيئات في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله تعالى ، وأن يؤمن بأن الصراط

١٦٣

حق ، وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم الله تعالى فيهوي بهم إلى النار ، وتثبت عليه أقدام المؤمنين فيساقون إلى دار القرار ، وأن يؤمن بالحوض المورود : حوض محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب منه المؤمن قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا ، عرضه السماء ، فيه ميزابان يصبان الكوثر ، ويؤمن بيوم الحساب وتفاوت الخلق فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه ، وإلى من يدخل الجنة بغير حساب ، وهم المقربون فيسأل من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة ، ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين ، ويسأل المبدعين عن السنة ، ويسأل المسلمين عن الأعمال ، ويؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى ، ويؤمن بشفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته ، ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل الله تعالى ، ولا يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، وأن يعتقد فضل الصحابة ورتبتهم ، وأن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي رضي الله عنهم ، وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما أثنى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم أجمعين ، فكل ذلك مما وردت به السنة وشهدت الآثار ، فمن اعتقد جميع ذلك موقنا به كان من أهل الحق وعصابة السنة ، وفارق رهط الضلال والبدعة. فنسأل الله تعالى كمال اليقين ، والثبات في الدين لنا ولكافة المسلمين إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

١٦٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خلاصة التصانيف في التصوّف

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي أودع لطائف أسراره في قلوب العارفين ، وجعل البيان طريقا لوصولها إلى المسترشدين والصلاة والسّلام على أفصح الأنبياء لسانا وأوضحهم بيانا ، وعلى آله وصحبه الهادين ، وعلى جميع علماء شريعته العاملين.

أما بعد : فيقول المستعين بربه المبين الفقير إليه ، (محمد أمين) الشافعي مذهبا ، النقشبندي مشربا ، الكردي نسبة ، الإربلي بلدة ، الأزهري إقامة : إنه قد أظفرني الله وله الحمد بدرة غريبة ، من العلوم الإلهية ، موشحة بوشاح اللغة الفارسية. فاحتجبت عمن ليس له إلمام بها وهي من أنفس تصانيف العالم العلامة والبحر الفهامة ، حجة الإسلام الشيخ محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي صاحب (كتاب الإحياء) وهو الغني عن التعريف قدس الله سره ، وأفاض على المسلمين بره ، فرأيت من نصيحة المسلمين ، وخدمة الدين ، أن أستعين بالله على ترجمتها من (الفارسية إلى العربية) مع رقة اللفظ وجزالة المعنى وسهولة المبنى كي ينتفع بها الخاص والعام. والله أسأل أن يمن علينا بالفوز بدار السلام. قال ناقلها الفارسي في بيان سبب تأليف الأستاذ لهذه الرسالة الموسومة (بخلاصة التصانيف) بعد الثناء على الله تعالى وما يتصل به ما هذا ترجمته :

أما بعد : فقد كان رجل من تلامذة حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي قدس الله سره العالي قد تعب في تحصيل العلوم مدة من السنين حتى حاز من كل فن نصيبا وافرا ففي ذات يوم صار يتفكر في نفسه ويقول : إني قد أتعبت نفسي مدة طويلة في تحصيل تلك العلوم ، والآن لا أدري أي علم أنفع لي منها ليكون سببا لهدايتي ويقودني في عرصات القيامة. ولا أدري أيضا غير النافع منها حتى أتباعد وأحترز منه كما قال عليه الصلاة والسلام : «نعوذ بالله من علم لا ينفع». وما زالت هذه الفكرة تغلب عليه حتى حملته على أن يكتب إلى شيخه كتابا يستفتيه فيه عن قصته هذه ومسائل أخرى. ويطلب منه مع ذلك النصيحة والدعاء.

قال فيه : مولاي إن كان الطريق إلى جوابي مدونا في كتبك العديدة كإحياء العلوم ، وكيمياء السعادة وجواهر القرآن وميزان العمل والقسطاس المستقيم ومعراج القدس ومنهاج العابدين

١٦٥

وأمثالها. فإن خادمك ضعيف كليل الطرف عن المطالعة فيها ، فأطلب من سيدي وأستاذي مختصرا أقرؤه كل يوم وأعمل بما فيه إلى آخر ما قال ، فكتب الشيخ في رده الكتاب الآتي وأرسله إليه وهو قوله رضي الله عنه.

اعلم أيها الولد العزيز ، والصاحب المخلص أطال الله بقاءك في طاعته وسلك بك طريق أحبابه. أن جميع نصائح الأولين والآخرين مجموعة في أحاديث سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو الذي أوتي جوامع الكلم ، فكل ناصح مهما نصح فهو متطفل على موائد نصحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فإن وصلك شيء من النصائح النبوية فلا حاجة لك إلى نصائحي. وإن لم يصل إليك شيء منها فقل لي ما الذي حصلته من علومك فيما أمضيته من عمرك الذي ضيعته سدى).

أيها الولد : كل نصائح الأولين والآخرين في مقالات سيد المرسلين مكتوبة للعالمين ، وكل منها يفيد فائدة تامة. فمنها هذا الحديث وهو : «علامة إعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه ، وإنّ امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن يطوّل عليه حسرته ، ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهّز إلى النّار». فهذه النصيحة والموعظة كافية لأهل الدنيا.

يا ولدي : فعل النصيحة سهل والصعوبة في قبولها والعمل بها لأن طعم النصيحة في فم عابد الهوى مر والمنهيات محبوبة على العموم. خصوصا عند من يبذل همته في طلب علوم الرسم والفضل والمهارة ونحوها لاكتساب العزّ والشرف الدنيوي لأنه إنما يقصد بتحصيل العلوم مجرد العلم دون العمل له لينسب إليه العلم ويقال : فلان عالم فاضل فهذه عقيدة فاسدة وهذا القدر هو (نهاية مذهب الفلاسفة) والعياذ بالله إذ غايتهم تحصيل العلم بدون التفات إلى العمل ، ولم يعلموا أن العلم يكون عليهم حجة بالغة وهم في غفلة عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه».

وروى الإمام أحمد والبيهقي عن منصور بن زاذان قال : «بلغنا أن العالم إذا لم ينتفع بعلمه تصيح أهل النار من نتن ريحه ويقولون له : ما ذا كنت تفعل يا خبيث ، فقد آذيتنا بنتن ريحك. أما يكفيك ما نحن فيه من الأذى والشر؟ فيقول لهم : كنت عالما فلم أنتفع بعلمي».

وحكي أن بعض أكابر أصحاب الجنيد رآه في نومه بعد وفاته فقال : ما فعل الله بك؟ قال : طاحت تلك الإشارات ، وغابت تلك العبارات ، وفنيت تلك العلوم ، ونفذت تلك الرسوم ، وما نفعنا إلا ركيعات ، كنا نركعها في جوف الليل.

أيها الولد : ينبغي أن لا تكون مفلسا من الأعمال خاليا من الأحوال والمعاني الشريفة العالية ، واعلم يقينا أن العلم بمجرده لا يأخذ بيدك يوم القيامة ويتضح لك هذا بضرب مثال ، أرأيت لو أن رجلا يحسن الحرب بينما هو يسير في مفازه ومعه عشرة سيوف هندية وقسي وسهام في غاية الجودة ، وقد تقلد بها إذ فاجأه أسد عظيم هل تدفع عنه هذه الأسلحة بمجردها

١٦٦

من شر الأسد شيئا ، أنت على يقين تام بأنها لا تغني عنه شيئا حتى يستعملها فيما قصد منها ، فكذلك لو أن شخصا علم مائة ألف مسألة ولم يعمل بواحدة ، فأنت تعلم أن هذا العلم لا يفيده فائدة ما. ولنضرب لك مثالا آخر فنقول : لو أن شخصا به مرض وضعف من الحرارة والصفراء وعلم علما ليس معه شك أن شفاءه في تناول السكنجبين ولكنه لم يتناوله ، فهذا العلم ليس بنافع في الشفاء ولا دافع للداء حتى يعمل به :

لو كلت ألفي رطل خمر لم تكن

لتصير نشوانا إذا لم تشرب

فاعلم أنه لا يفيدك كثرة تحصيل العلم وجمع الكتب ما لم تعمل.

يا ولدي : إن لم تكن مستعدا لائقا لرحمة الإله عزوجل بالعمل الصالح لم تصل إليك رحمته. واسمع الدليل من القرآن (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩].

يا ولدي : إن ظننت أن هذه الآية منسوخة فما ذا تقول في قوله تعالى في آيات أخرى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠]. وفي قوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : ٢٤]. وفي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خالِدِينَ فِيها) [الكهف : ١٠٧ ، ١٠٨]. وفي قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠]. وما ذا تقول في حديث : «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان ، وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلا». وفي حديث : «الإيمان إقرار باللّسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان» والدلائل على أن سلامة العبد بالعمل كثيرة لا تعد ولا تحصى. فإن خطر لك من كلامي أن العبد يدخل الجنة بعمله لا بفضل الله ورحمته فما فهمت كلامي؟.

واعلم أني لا أقول ذلك بل أقول إن العبد يدخل الجنة بفضل الله وكرمه ورحمته ، غير أن رحمة الله تعالى لا تصل إلى العبد إلا إذا كان مستعدا لها ولائقا لأن يكون محلا لها ولا يكون كذلك إلا بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وملازمة الطاعات والقرب والإخلاص في العمل كما يشير إليه قول الله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦]. حيث أخبر تعالى بقرب رحمته من المحسنين ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» ، فهو يفيد بعد رحمته من غير المحسنين. فإن لم تكن مستعدا لرحمته على الوجه المذكور لا تصل إليك رحمته ، وإذا لم تصل إليك رحمته لا تدخل الجنة ، فإن قال أحد إن العبد يدخل الجنة بمجرد الإيمان. قلنا : نعم. ولكن حتى يذوق صعوبة العقبات التي لا يسهلها إلا صالحات الأعمال إذ لا يصل العبد إليها إلا بالعبور على الصراط ، وما مشينا عليه إلا على صورة مشينا على الصراط المعنوي في هذه الدار وما اختلف الناس في السرعة والبطء إلا باختلافهم هنا في المبادرة إلى الطاعة والتخلف عنها ، فمن تحفظ هناك حفظ هناك ومن أبطأ هنا زلت به قدمه هناك ، كما أن شربنا من حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون بقدر تضلعنا من الشريعة

١٦٧

المطهرة ، وإذا فمعنى كون دخول الجنة بفضل الله أن يوفقك الله لصالح العمل بفضله لتكون صالحا ومتهيئا لرحمته وفضله فيدخلك الجنة.

يا ولدي : اعلم يقينا أنك إن لم تعمل لم تأخذ أجرة العمل.

وحكي أن عبدا من بني إسرائيل عبد الله مخلصا سنين عديدة فأراد البارئ جل وعلا أن يظهر إخلاصه للملائكة فبعث الله ملكا يخبره أن الله تعالى يقول : إلى متى تسعى هذا السعي وتتعب نفسك في العبادة ، وأنت من أهل النار؟ فأخبره الملك بما قاله المولى. فقال العبد في جوابه: أنا عبد ، وشأن العبد العبودية وهو إله ، وشأن الألوهية لا يعلمه إلا هو. فرجع الملك إلى ربّه وقال : إلهي أنت تعلم السر وأخفى وتعلم ما قاله عبدك ، فقال الله تعالى : إذا كان هذا العبد مع ضعفه لم يرجع عنا ، فكيف نرجع عنه مع كرمنا : (اشهدوا يا ملائكتي أني غفرت له).

يا ولدي : اسمع حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذا يقول : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا». وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : «من ظن أنه بدون الجهد يصل إلى الجنة فهو متمن. ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو متعن». وقال الحسن البصري رحمه‌الله تعالى : «طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب». وفي الحديث القدسي : «ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من بخل بطاعتي» وقال أحد الأكابر : «الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل». وحديث المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن وأشرف وأوضح من الكل حيث قال : «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من اتبع نفسه هواه وتمنّى على الله».

يا ولدي : كثيرا ما أحييت الليالي بتكرار العلم والمطالعة ولا أدري ما الباعث لك على ذلك. إن كان غرضك الدنيا وجذب حطامها وتحصيل المناصب والمباهاة على أقرانك وأمثالك ، فويل لك ثم ويل لك. وإن كان غرضك إحياء الشريعة والدين المحمدي وتهذيب الأخلاق ، فطوبى لك ثم طوبى لك ، ولقد صدق من قال :

سهر العيون لغير وجهك ضائع

وبكاؤهنّ لغير فقدك باطل

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عش ما شئت فإنّك ميّت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك مجزي به». ما فائدتك في تحصيل علم الكلام والخلاف والطب والدواوين والأشعار والنجوم والنحو والتصريف وغيرها ما حصلت غير تضييع عمرك في الغفلة عن جلال الله وعظمته وقدره ، لأني قرأت في إنجيل عيسى عليه‌السلام : إن العبد إذا مات ووضع في قبره يسأله الله تعالى بنفسه أربعين سؤالا أولها : «عبدي قد طهرت منظر الخلق سنين هل طهرت منظري ساعة»؟

يا ولدي : كل يوم ينادي في قلبك وإن لم تسمع (ما تصنع بغيري وأنت محفوف بخيري).

يا ولدي : العلم بغير عمل جنوني والعلم بغير علم أجنبي ، لأن العلم إن لم يباعدك اليوم عن المعاصي ولم يصيرك طائعا لم يباعدك غدا من نار جهنم ، فإن لم تعمل اليوم ولم تتدارك

١٦٨

ما فاتك من الأيام الماضية غدا في القيامة تقول : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢]. فيقال لك أيها الأحمق أنت أتيت منها فكيف ترجع إليها.

يا ولدي : الهمة العالية أن تصرف روحك في الطاعات قبل فرار روحك من الجسد بالموت ، لأن الدنيا منزلتك إلى أن تصل إلى المقابر وهؤلاء القوم الذين في منازل المقابر ينتظرونك في كل لحظة إلى أن تصل إليهم فالحذر الحذر من أن تذهب بغير زاد. قال الصديق الأكبر : «الأجساد قفص الطيور أو اصطبل الدواب». فتأمل في نفسك من أيهما أنت. فإن كنت من الطيور أصحاب الأعشاش سمعت صوت طبل (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ١٢]. فطر لتجلس بمكان أعلى وإن كنت من الدواب والعياذ بالله كنت ممن قال الله فيهم : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]. واعلم يقينا أنك حينئذ بعثت ذخيرتك في زاوية إلى هاوية.

نقل أن الحسن البصري عطش يوما وكان شديد الحر فأتي له بقدح من الماء البارد فلما مسه بيده وأحس ببرودة مائة صاح صيحة عظيمة وخر مغشيا عليه ، فوقع القدح من يده فلما أفاق قيل له : ما الذي حصل لك؟ قال : ذكرت آية أهل النار حين ينادون أهل الجنة : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠].

يا ولدي : إن كان يكفيك العلم المجرد ولم تحتج إلى العمل فما ذا تقول في نداء : هل من سائل هل من تائب هل من مستغفر ، لأنه ورد في أخبار صحيحة أنه إذا مضى نصف الليل والناس نيام ينادي المولى سبحانه وتعالى بنفسه : «هل من تائب هل من سائل هل من مستغفر» ، ولذلك صار القيام والاستغفار بالأسحار مطلوبا قال تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات : ١٧ ، ١٨].

قيل : إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا جالسين ذات يوم بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا عبد الله بن عمر بن الخطاب بخير ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم الرّجل لو يصلّي في اللّيل». وأيضا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحد الصحابة : «لا تكثر النّوم باللّيل فإنّ كثرة النّوم باللّيل تدع صاحبها فقيرا يوم القيامة».

يا ولدي : قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٨٩]. أمر (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). شكر (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧]. ذكر. يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة أصوات يحبّها الله تعالى ، صوت الدّيك ، وصوت الّذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار». ويقول سفيان الثوري رحمه‌الله تعالى : إن لله تعالى ريحا تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. وأيضا له : إذا كان أول الليل نادى مناد من تحت العرش : ألا ليقم العابدون فيقومون فيصلون ما شاء الله ، ثم ينادي مناد في شطر الليل : ألا ليقم القانتون فيقومون فيصلون ، إلى السحر ، فإذا كان السحر ينادى مناد : ألا ليقم المستغفرون فيقومون فيستغفرون ، فإذا طلع الفجر نادى مناد : ألا ليقم الغافلون فيقومون من مفرشهم كالموتى نشروا من قبورهم.

١٦٩

يا ولدي : ورد في وصايا لقمان أنه قال لابنه : «يا بني لا يكونن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم». وما أجمل وأليق من قول القائل حيث قال :

لقد هتفت في جنح ليل حمامة

على فنن وهنا وإني لنائم

كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا

لما سبقتني بالبكاء الحمائم

وأزعم أني هائم ذو صبابة

لربّي ولا أبكي وتبكي البهائم

يا ولدي : (خلاصة النصيحة) أن تعلم حقيقة الطاعة والعبادة ما هي؟ العبادة هي متابعة الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأوامر والنواهي ، فإن فعلت فعلا ولست بمأمور به فليس بعبادة ، وإن كان ذلك الفعل في صورة العبادة بل قد يكون عصيانا وإن كان صوما وصلاة. ألا ترى أنه إذا صام شخص يوم العيدين وأيام التشريق يكون عاصيا ، وإن كان ما فعله في صورة العبادة لأنه لم يؤمن به ، وكذا من صلى في الأوقات المكروهة أو في المواضع المغصوبة يكون آثما.

واعلم أنه إذا مزح شخص مع محرمه فإنه مأجور وإن كان ذلك في صورة لعب ، لأن هذا اللعب مأمور به ، وبذا صار معلوما أن العبادة الحقيقية هي امتثال الأمر لا مجرد الصلاة والصوم ، لأن الصلاة والصوم لا يكونان عبادة إلا إذا كان مأمورا بهما.

يا ولدي : فليكن جميع أحوالك وأقوالك مأمورا به موافقا للشريعة ، لأن علم وعمل المخلوقات بغير فتوى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضلالة وسبب للبعد عن الله تعالى ، ولهذا نسخ المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعمال السابقة فلا تحرك لسانك بكلمة تكون غير مأمور بها. وكن متيقنا أن طريق الله تعالى لا تقدر أن تصل إليه بغير ما لم تأمر به ولا تصل إليه أيضا بالشطحات والترهات الصوفيّة ترسما ، بل لا تصل إلى هذا الطريق إلا بقطع الهوى والشهوة وحظوظ النفس بسيف المجاهدات ولا بوثبات الشطحات والترهات ، فإن زعمت الوصول اغترارا منك بما تبديه من الكلام الرقيق وصفاء الأيام والأوقات وصلافة اللسان مع تعلق القلب بالشهوات والغفلة كان ذلك علامة على الشقاء والوبال ، وإذا لم تقهر الهوى والنفس بالمجاهدات وتصيرها تحت الشرع لم يكن القلب حيا بنور المعرفة.

يا ولدي : سئلت أسئلة بعضها لا يكيف بالقول ولا بالكتابة لأنه ذوقي ، وكل ما كان ذوقيا لا يكيف بالقول ولا بالكتابة فلا تعلمه إلا إذا وصلت إليه ، وما مثلك في ذلك إلا كمثل من جهل الحلاوة أو المرارة مثلا وأراد أن يكفيه بمجرد القول والكتابة فلا يقدر البتة.

يا ولدي : إن كتب عنين لأحد عرف لذة الجماع يسأله عن لذة الجماع كتب إليه في جوابه : إن هذا ذوقي لا تعرفه إلا إذا وصلت إليه وإلا فلا يكيف بالقول والكتابة.

يا ولدي : بعض أسئلتك من هذا القبيل. وأما القدر الذي يكيف بالقول والكتابة فقد بينته في كتابنا «إحياء العلوم» وغيره من التصانيف فاطلبه هناك ، وأما هنا فما قلنا على طريقة

١٧٠

الإشارة : وسألتني عما يجب على مريد طريق الحق جلّ وعلا.

فاعلم : أن أول ما يجب عليه الاعتقاد السليم الخالي عن البدع.

الثاني : التوبة النصوح بأن لا يرجع إلى الزلات.

الثالث : إرضاء الخصماء حتى لا يبقى عليه حق المخلوق.

الرابع : تحصيل علم الشريعة بقدر ما يعمل بأوامر الله ويقف عن نواهيه ولا يجب عليه من علم الشريعة سوى ذلك ، وأما غير علم الشريعة فيكفيه أن يتعلم القدر الذي به خلاصه ونجاته ، وهذا الكلام يكون معلوما لك بنقل حكاية وردت عن المشايخ وهي أن الشبلي رحمه‌الله قال : إني خدمت أربعمائة أستاذ ، وقرأت عليهم أربعة آلاف حديث ، واخترت منها حديثا واحدا وعملت به وتركت باقيها لأني تأملت في هذا الحديث الواحد فرأيت فيه خلاصي ونجاتي ، وأيضا رأيت أن علم الأولين والآخرين مندرج فيه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للنّار بقدر صبرك عليها».

يا ولدي : من هذا الحديث علم لك أنك لا تحتاج للعلم الكثير وتحصيل كثرة العلم من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان ، وتأمل في هذه الحكاية حتى تكون متيقنا. ورد أن حاتما الأصم كان من تلامذة شقيق البلخي رحمة الله عليهما ، فقال شقيق ذات يوم : يا حاتم كم سنة أنت في صحبتي؟ قال : ثلاثا وثلاثين سنة. فقال : ما الذي حصلته من العلوم وكم فائدة أخذتها مني؟ قال : تحصلت على ثمان فوائد قال شقيق : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦]. يا حاتم أنا صرفت عمري معك في تعليمك وأنت ما تحصلت مني على سوى هذه الفوائد ، فقال حاتم : يا أستاذي إن طلبت مني الصدق فما تحصلت على غير الذي قلته ولم أطلب تحصيل غيرها لأني تيقنت أني لا أتحصل على خلاصي ونجاتي في الدارين إلا بهذه الثمانية ، وإن ما سواها مستغنى عنه بها. قال شقيق : قل لي ما هذه الفوائد الثمانية؟ فقال :

الأولى : نظرت في المخلوقات ورأيت كل واحد منهم اختار محبوبا فالبعض يصحب المحب إلى مرض الموت والبعض إلى طرف القبر ، وبعد ذلك يودعونه ويرجعون ولا يدخلون معه القبر ، وتأملت لأجد محبوبا يكون لي رفيقا وأنيسا في القبر فما وجدت سوى العمل الصالح ، فلهذا اخترته وجعلته محبوبا ليكون رفيقا ومؤنسا في القبر. فقال شقيق : أحسنت يا حاتم.

الثانية : نظرت في المخلوقات فرأيت الكل أسير النفس والهوى ، وتأملت قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠. ٤١]. فعلمت يقينا أن القرآن حق وخالفت النفس الأمارة بالسوء وشددت المنطقة في المجاهدات وما أعطيتها مآربها وآمالها حتى انقادت تحت طاعة الحق قال شقيق : بارك الله فيك.

الثالثة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يسعى ويتعب في تحصيل شيء من حطام الدنيا

١٧١

وما تحصلوا عليه حفظوه وفرحوا به لظنهم أنهم تحصلوا على شيء ، ثم نظرت في قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦]. فما حصلته وجمعته في سنين تصدقت به على الفقراء وجعلته وديعة عند الله ليكون لي عنده باقيا وزادا مدخرا لآخرتي قال شقيق : أحسنت.

الرابعة : إني نظرت في هذا العالم فرأيت قوما يظنون أن شرف الإنسان وعزه بكثرة الأقارب والعشائر ويفتخرون بها. وقوما يظنون أن شرف الإنسان وكبرياءه بكثرة الأموال والأولاد فافتخروا بها ، وبعضا يظنون أن العزّ والشرف بالغضب والسب والضرب وسفك الدماء فافتخروا بذلك ، ونظرت في قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]. فعلمت أن القرآن حق ، وأن ظنون الخلق خطأ ، فاخترت التقوى حتى أكون عند الله من المكرمين قال شقيق : أحسنت.

الخامسة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت قوما يبغض ويحسد بعضهم بعضا بسبب حب المال والجاه ، وإني نظرت في قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف : ٣٢]. وإني علمت أن هذه القسمة ثابتة في الأزل لا اختيار لأحد فيها فما حسدت أحدا بعد ورضيت بقسمة البارئ تعالى واصطلحت مع أهل الدنيا. قال شقيق : أحسنت.

السادسة : نظرت إلى هذا العالم فرأيت بعضهم يعادي بعضا بسبب أغراض نفسانية ووساوس شيطانية ، ونظرت في قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦]. وعلمت أن القرآن حق وأن غير الشيطان واتباعه لا يكون عدوا فاتخذت الشيطان عدوي ولم أطعه في أمر ما ، وامتثلت أمر الله تعالى وراقبت عظمته ولم أعاد أحدا من خلقه وعلمت أن الصراط المستقيم في قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس : ٦٠. ٦١]. قال شقيق : أحسنت يا حاتم.

السابعة : نظرت في هذا العالم فرأيت كل واحد يصرف غاية جهده وقد أذل نفسه في تحصيل القوت ، وبسبب ذلك قد وقعوا في الحرام والشبهات ، ونظرت في قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦]. وفي قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩]. فعلمت أني أحد الدواب في الأرض وأن رزقي مضمون منه تعالى ، وأني مكلف بالسعي في طلب الآخرة فاشتغلت بالخالق قال شقيق : أحسنت.

الثامنة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت بعضا يعتمد على ماله وملكه وبعضا يعتمد على حرفته وصناعته ، وبعضا يعتمد على مخلوق مثله ، وتأملت في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣]. فتوكّلت على الله تعالى وهو حسبي ونعم الوكيل. قال شقيق : أحسنت يا حاتم ، وفّقك الله تعالى ، إني نظرت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فوجدت ما في الكتب الأربعة لا يخرج عن هذه الفوائد الثمانية ، والذي يعمل بها كأنه عمل بما في الكتب الأربعة. وبهذه الحكاية صار معلوما لك أنك لا تحتاج إلى كثرة العلم ، ولنرجع الآن إلى ما نحن فيه ونذكر لك مما يجب في حق سالك طريق الحق.

١٧٢

الخامس : أن يكون له مرشد ومرب ليدله على الطريق ويرفع عنه الأخلاق المذمومة ، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة. ومعنى التربية أن يكون المربي كالمزارع الذي يربي الزرع ، فكلما رأى حجرا أو نباتا مضرا بالزرع قلعه وطرحه خارجا ويسقي الزرع مرارا إلى أن ينمو ويتربى ، ليكون أحسن من غيره ، وإذا علمت أن الزرع محتاج للمربي علمت أنه لا بدّ للسالك من مرشد مرب البتة ، لأن الله تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للخلق ليكونوا دليلا لهم ويرشدهم إلى الطريق المستقيم. وقبل انتقال المصطفى عليه الصلاة والسّلام إلى الدار الآخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نوّابا عنه ليدلوا الخلق إلى طريق الله ، وهكذا إلى يوم القيامة ، فالسالك لا يستغني عن المرشد البتة.

وشرط المرشد أن يكون عالما ، لكن ليس كل عالم يصلح للإرشاد ، بل لا بدّ أن يكون عالما له أهلية صناعة الإرشاد ، ولهذا المرشد علامات ونحن نذكر لك ما لا بدّ له منهما بطريق الإجمال حتى لا يدعي الإرشاد كل متحير.

فالمرشد هو الذي يكون قد خرج من باطنه حب المال والجاه وتأسس بنيان تربيته على يد مرشد كذلك ، وهلم حتى تنتهي السلسلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذاق بعض الرياضيات كقلة الأكل والكلام والنوم ، وكثرة الصلاة والصدقة والصوم ، واقتبس نورا من أنوار سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واشتهر بالسيرة الحسنة والأخلاق المحمودة من صبر وشكر وتوكل ويقين وطمأنينة وسخاء وقناعة وأمانة وحلم وتواضع ومعرفة وصدق ووقار وحياء وسكون وتأن وأمثالها ، وتطهر من الأخلاق الذميمة كالكبر والبخل والحسد والحقد والحرص والأمل الطويل والطيش ونحوها ، وسلم من تعصب المتعصبين ، واستغنى عن علم المكلفين بالعلم المتلقى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالاقتداء بمثل هذا المرشد هو عين الصواب والظفر بمثله نادر لا سيما في هذا الزمان ، فإنه كثر فيه من يدعي الإرشاد وهو في الحقيقة يدعو الناس إلى اللهو واللغو ، بل ادعى كثير من الملحدين الإرشاد بمخالفة الشريعة وبسبب غلبة هؤلاء المدعين اختفى المرشدون الحقيقيون في أركان الزوايا وبما ذكرناه علم بعض علامات المرشد الحقيقي ، حتى أنه من وجد متخلفا بها علم أنه من المرشدين ، ومن لم يكن متخلفا بها علم أنه من المدعين ، فإن تحصل أحد على مثل هذا المرشد وقبله المرشد وجب عليه احترامه ظاهرا وباطنا.

فالاحترام الظاهري ألا يجادله ولا ينكر عليه ولا يقيم الحجة عليه في أي مسألة ذكرها. وإن تحقق خطأه ، وأن لا يظهر نفسه أمام المرشد بفرش السجادة إلا أن يكون إماما ، فإذا فرغ من الصلاة ترك السجادة تأدبا معه ، وأن لا ينتقل كثيرا في حضرته ، وأن يفعل كل ما أمره به قدر استطاعته ، وأن لا يسجد له ولا لغيره لأنه كفر ، وأن يبالغ في امتثال أمره ولو كان ظاهره في صورة المعصية.

والاحترام الباطني أن كل ما سلمه له في الظاهر لا ينكره في الباطن وإلا كان منافقا ، فإن لم يقدر على ذلك ترك صحبته حتى يكون ما في باطنه موافقا لما في ظاهره لأنه لا فائدة في الصحبة مع الإنكار ، بل ربما تكون سببا في هلاكه.

١٧٣

السادس : مخالفة سياسة النفس وهذا لا يتيسر إلا بترك جلساء السوء لتقصر عنه يد تصرف شياطين الإنس والجن وترفع عنه التلوثات الشيطانية.

السابع : أن تختار جميع أحوال الفقراء ، لأن أصل هذا الطريق فراغ القلب من حب الدنيا ، فإذا لم تختر جميع أحوال الفقراء ، وجدت في قلبك الأسباب الدنيوية فقل أن تقدر على الخلاص من حبها فترك تلك الأسباب يكون سببا لفراغ القلب من حب الدنيا ، ولا يتيسر لك هذا الترك إلا بذلك الاختيار ، وهذه السبعة واجبة على سالك طريق الله.

وسألت أيضا ما هو التصوف؟ فاعلم أن التصوف شيئان في الصدق مع الله تعالى وحسن المعاملة مع الناس ، فكل من صدق مع الله وأحسن معاملة الخلق فهو صوفي ، والصدق مع الله تعالى هو أن يفني العبد حظوظ نفسه لأمره تعالى ، وحسن المعاملة مع الخلق هو أن لا يفضل مراده على مرادهم ما دام مرادهم موافقا للشرع ، لأن كل من رضي بمخالفة الشرع أو خالفه لا يكون صوفيا وإن ادعى التصوف يكون كذابا.

وسألت ما هي العبودية؟ فاعلم أن العبودية هي عبارة عن دوام حضور العبد من الحق تعالى بلا شعور الغير ، بل مع الذهول عن كل ما سواه وهي لا تتأتى إلا بثلاثة أشياء :

الأول : الانتباه لأمر الشرع.

الثاني : الرضا بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى.

الثالث : ترك طلب اختيار نفسك وفرحك باختيار الله تعالى لك.

وسألت ما هو التوكل؟ فاعلم أن التوكل أن تثق بما وعد به الله وثوقا لا تضعفه الحوادث مهما كثرت وتعاظمت. يعني أن يكون لك تمام اليقين بأن كل ما قسم لك يصل إليك وإن اجتمع أهل الدنيا ليدفعوه عنك ، وكل ما لم يقسم لك لن يصل إليك وإن ساعدك أهل الدنيا.

وكذلك سألت ما هو الإخلاص؟ فاعلم أن الإخلاص هو أن تكون أفعالك كلها صادرة لله تعالى بحيث لا يكون في قلبك التفات لشيء من الخلق حين العمل ولا بعده ، كأن تحب ظهور أثر الطاعة عليك من نور الوجه وظهور أثر السجود في جبهتك. ومن علامات إخلاصك أن لا تفرح بثناء الخلق عليك ولا تحزن بذمهم لك ، بل يستوي عندك الأمران واعلم أن الرياء يتولد من عظمة الخلق عندك فعلاجه أن ترى الخلق مسخرا لقدره الله ، وتلاحظ أن الناس مثل الجمادات لا قدرة ولا إرادة لهم فلا يقدرون على أن يوصلوا إليك نفعا ولا ضرا ، فإذا فعلت ذلك خلصت من هذا المرض ، وإلا فما دمت تظن أن الخلق قادرون ومريدون لا يرتفع عنك الرياء.

يا ولدي ، أما بقية أسئلتك فبعضها مسطر في كتبي فاطلبه هناك ، وبعضها لا تنبغي كتابته ، لكن إذا عملت بما علمت يكشف لك حقيقته.

يا ولدي ، إذا أشكل عليك شيء بعد هذا فلا تسألني إلا بلسان الحال قال تعالى : (وَلَوْ

١٧٤

أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [الحجرات : ٥]. واقبل نصيحة الخضر عليه‌السلام المشار إليها بقوله تعالى : (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) [الكهف : ٧٠]. ولا تستعجل بالسؤال لأنك تصل إلى وقت يكون هو المبين لك ، ألا ترى إشارة قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء : ٣٧]. واعلم يقينا أنك إذا لم تسر : لم تصل ولم تر ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [الأنبياء : ٣٧].

يا ولدي ، إذا ذهبت في طريق الله سريعا ترى العجائب.

يا ولدي ، لا بد لك مع العمل من بذل روحك في سبيل الوصول إلى حضرة الحق ، فإن العمل بدون بذل الروح لا يفيد. قال ذو النون المصري رحمة الله تعالى عليه لأحد التلامذة : إن قدرت على بذل الروح فتعال. وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية والقال.

يا ولدي ، أختصر لك النصيحة في ثمانية أشياء : أربعة تركية وأربعة فعلية ، حتى لا يكون علمك يوم القيامة خصما لك وحجة عليك.

أما التركية فأحدها : ترك المناظرة بقدر إمكانك وإقامة الحجة على كل من يذكر مسألة فإن آفات ذلك كثيرة وضرها أكثر من نفعها ، إذ هي منبع كل الأخلاق الذميمة كالرياء والحقد والكبر والعداوة والمباهاة وغيرها ، فإن وقعت بينك وبين غيرك مسألة وأنت تريد بالمناظرة أن ينكشف الحق جاز لك البحث في تلك المسألة بهذه النية ، ولصدق هذه النية علامتان :

إحداهما : ألا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو لسان خصمك بل تحب أن تنكشف الحقيقة على يد خصمك ليكون ذلك أدعى له إلى قبولها ، لأن قبوله من نفسه أقرب إلى قبوله منك.

ثانيهما : أن يكون البحث في الخلوة أحب إليك منه في الملأ. أما إذا قلت لأحد مسألة وأنت تعلم أن الحق بيدك وهو يستهزئ ، فالحذر من أن تقيم الحجة معه واترك الكلام ، فإنه يؤدي إلى الوحشة فلا تكون معه فائدة ، وهاهنا أذكر لك فائدة.

اعلم أن السؤال عن الأشياء المشكلة مثل عرض المريض علته على الطبيب والجواب مثل سعي الطبيب في شفاء هذا المريض فالجهلاء مرضى والعلماء أطباؤهم ، والعالم الناقص لا يليق أن يكون طبيبا لهم ، بل الذي يداوي المرضى هو العالم الكامل لأنه هو الذي يؤمل فيه أن يعرف حقيقة العلة ، وقد يكون المرض شديدا لا يمكن علاجه فمهارة الطبيب تكون في عدم الاشتغال بمداواته ، واعلم أن مرض الجهل أربعة أقسام : ثلاثة لا علاج لها ، وواحد يمكن علاجه.

فالأول : أن يكون السؤال أو الاعتراض ناشئا عن حسد والحسد مرض لا علاج له ، واعلم أنك كلما أجبته بأي جواب تزينه وتوضحه له لا يزيده جوابك إلا حسدا ولا يزيده حسده إلا تكبرا ، فينبغي ألا تشتغل بجوابه وما أحسن قول الشاعر :

١٧٥

كلّ العداوة قد ترجى إزالتها

إلّا عداوة من عاداك من حسد

وتدبيره : أن تتركه بمرضه وتعرض عنه عملا بقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) [النجم : ٢٩]. فإذا تعرضت له واشتغلت بمداواته فقد أشعلت نار حسده التي هي مما يحبط الأعمال ، كما في الحديث «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».

الثاني : أن تكون العلة من الحماقة وهذا لا يمكن علاجه لقول عيسى عليه‌السلام : (ما عجزت عن إحياء الموتى ولكن عجزت عن إصلاح الأحمق). وهذا هو الذي اشتغل يومين أو ثلاثة بتحصيل العلم ولم يشرع في العلوم العقلية أصلا ، ومع هذا يعترض على العلماء الذين صرفوا عمرهم في تحصيل العلوم ولم يعلم أن الاعتراض على العالم العظيم من طالب صغير لا يكون إلا من الجهل وعدم المعرفة ، فهذا لم يعرف قدر نفسه ولا قدر هذا العالم من حماقته وعدم معرفته ، فينبغي أن تعرض عن هذا أيضا ولا تشتغل بجوابه.

الثالث : أن يكون السائل مسترشدا ليس فيه أهلية لفهم كلام الأكابر لقصور فهمه عنه ، ويسأل عن جهة الاستفادة عن غوامض الأمور التي يكون قاصرا عن إدراك حقائقها ، ولا يرى قصور فهمه فلا تشتغل بجوابه أيضا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن معاشر الأنبياء أمرنا بأن نكلم الناس على قدر عقولهم».

الرابع : أن يكون مسترشدا ذكيا لبيبا عاقلا ليس مغلوب الغضب والشهوة والحسد وحب المال والجاه ، بل طالبا لطريق الحق ، سائلا من غير تعنت ، فهذا المريض يمكن علاجه فالاشتغال بجوابه لائق بل واجب.

الثاني : أن تحترز من الوعظ والتذكير إلا أن تعلم أنك علمت أولا بما تقول مؤملا قبل أن تتكلم. قال الله تعالى لعيسى عليه‌السلام : «يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني». فإن كنت كذلك وابتلاك الله بالوعظ فاحترز من شيئين : الأول أن تحترز من التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات والشطحات والأشعار ، لأن الله تعالى يعد المتكلفين في الكلام أعداء له لأن التكلف يدل على خراب باطن صاحبه وغفلة قلبه ، مع أن المقصود من التذكير استحضار مصائب الآخرة والتقصير في خدمة المولى جلّ وعلا ، فتأمل في العمر الماضي والعقبات التي في الطريق حتى تخرج من الدنيا بسلامة الإيمان وتنجو من هول قبضة ملك الموت وسؤال منكر ونكير ورد جوابهما.

وأيضا تأمل في هول القيامة وموافقها وحسابها والميزان والعبور على الصراط والنار ومصائبها ، فهذا هو الذي ينبغي تذكره وتذكير الخلق به وتطلعهم على تقصيرهم وعيوبهم لأجل أن توقع في قلوب أهل المجلس خوف حرارة النار ومصائبها ، ليتذكروا تفريطهم في الزمن الماضي بالندم عليه والتحسر على ضياع العمر الذي انقضى بغير طاعة.

فالجملة المذكورة بالكيفية المتقدمة يقال لها وعظ مع عدم التكلف في الكلام بالفصاحة والتسجيع

١٧٦

وغير ذلك ، لأن مثل الواعظ كمثل صاحب بيت فيه عياله ، وقد جاء السيل وهو يخاف أن يأخذ البيت ويغرق الأولاد وينادي الحذر الحذر ، يا أهل البيت اهربوا لأن السيل وصلكم ، فهذا الرجل في هذه الحالة لا يقول الكلام بالتكلف والعبارات والتسجيع والإشارات ، فمثل الواعظ للخلق يكون هكذا ، وينبغي ألا يميل قلبك حال وعظك إلى صراخ الصارخين وبكاء الباكين وغوغاء أهل المجلس بقولهم : إن هذا الواعظ حسن الوعظ والمجلس ، لأن هذا الميل يتولد عن الغفلة ، بل ينبغي أن يكون ميله حال الوعظ إلى تحويلهم عن الدنيا إلى الآخرة ، وعن المعصية إلى الطاعة ، وعن الغفلة إلى التيقظ ، وعن الغرور إلى التقوى ، وأن يكون كلامه في علم الزهد والعبودية وأن ينظر إلى رغبتهم هل هي خلاف رضى الخالق أو لا ، وإلى ميل قلوبهم هل هو خلاف الشرع أو لا ، وإلى أعمالهم وأخلاقهم الذميمة والحميدة أيهما أغلب ، والذي خوفه غالب فيرجعه إلى الرجاء ، والذي رجاؤه غالب فيرجعه إلى الخوف بكيفية يتصرفون بها من المجلس بحيث لم يبق معهم صفات ذميمة ظاهرا وباطنا ، ويتصفون بالصفات الحميدة. ويرغبون ويحرصون على الطاعات التي تكاسلوا عنها ، ويكرهون المعاصي التي كانوا يحرصون عليها وكل وعظ لم يكن ولم يقل هكذا يكون وبالا على الواعظ والموعوظ ، بل يكون الواعظ غولا وشيطانا لأنه يضل الناس عن طريق الحق ويهلكهم هلاكا أبديا ، ويجب على الخلق أن يهربوا منه ، لأن الفساد الذي يفعله لا يقدر الشياطين أن يفعلوه ، وكل من له يد القدرة يجب عليه أن ينزله عن المنبر ليدفعه لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثالث : ألا تميل إلى الملوك والأمراء والحكام ولا تخالطهم ولا تجالسهم بل ولا تنظر إليهم ، لأن في مخالطتهم ومجالستهم آفات كثيرة ، وإن ابتليت برؤيتهم ومجالستهم فاترك مدحهم وثناءهم ، وإذا جاءوا لزيارتك فسبيلك أن يكون هكذا ، فإن الله يغضب إذا مدح الفاسق والظالم. ومن دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه.

الرابع : ألا تقبل منهم شيئا وإن علمت أنه حلال ، لأن الطمع في مالهم يكون سببا لفساد الدين والمداهنة والمحاباة ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ، ويتولد منها فسقهم وفجورهم ، وهذا كله هلاك في الدين وأقل مضرة يتولد منها أن تحبهم ، وكل من يحب أحدا يحب طول عمره ، وإذا أحب طول عمره أحب طول ظلمه وخراب العالم. ونسأل الله الأمان من أن يضللك الشيطان عن طريق الحق لأنه يقول لك الأولى أن تأخذ منهم الدراهم وتعطيها للدراويش وتريح المساكين بصرفها عليهم ، لأنك تصرفها في الضرورة وأبواب الخير ، وأما هو فيصرفها في الفسق والفجور ، لأن الشيطان بهذا الطريق سفك دماء خلق كثير. وآفات الطمع كثيرة ذكرتها في كتابنا إحياء العلوم فاطلبها هنا. يا ولدي ، اجتنب هذه الأربعة التركية.

وأما الفعلية فأربعة أيضا ولا بدّ أن تعمل بها.

الأول : يلزمك أن تؤدي ما أمرك الله تعالى به مثل ما تحب أن يؤدي عبدك ما أمرته به ، وأنت راض عنه وكل شيء لا ترضى بفعله من عبدك فلا ترضى عن نفسك بفعله في تحقق

١٧٧

عبوديتك لله تعالى ، ومع ذلك فليس هو عبدك حقيقة لأنك اشتريته بالدراهم وأنت في الحقيقة عبد لله لأنك مخلوق له وهو خالق لك.

الثاني : أن تعامل الخلق بما تحب أن يعاملوك به. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يكمل إيمان العبد حتّى يحبّ لسائر النّاس ما يحبّ لنفسه».

الثالث : أن تشتغل بالعلم النافع في الواقع ونفس الأمر وهو الذي لو علمت أنه بقي من عمرك أسبوع لم تشتغل بسواه ، ومن المعلوم أنه إذا كان كذلك لا تشتغل بعلم النحو والصرف والطب وأمثالها ، لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تنفع في إغاثتك ، بل تشتغل بمراقبة قلبك ومعرفة صفاته فتشتغل بتطهيره من الأخلاق الذميمة وعلائق الدنيا وتحليته بالأخلاق الحسنة ومحبة الحق وتشتغل بالعبادة.

يا ولدي : اسمع كلمة واحدة وتأمل في حقيقتها واعمل بها تجد فيها خلاصك ونجاتك إليه. إن أخبرت أن السلطان قاصد زيارتك في هذا الأسبوع مثلا ، فأنا أعلم أنك لا تشتغل في هذا الأسبوع بشيء غير إصلاح ما تعلم أن عين السلطان تقع عليه. إذا علمت ما ذكرناه تحققت بالأولى أنه لا ينبغي لك إلا أن تشتغل بإصلاح ما تعلم أنه محل نظر الله تعالى وهو القلب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونيّاتكم». وإن أردت أن تعلم علم أحوال القلوب فاطلبه من كتابي (إحياء العلوم) ، وسائر تصانيفي ، وهذا فرض عين على كل مسلم وباقي العلوم فرض كفاية ، إلا أن تعلم بقدر ما تتحصل به على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

الرابع : أن تدخر لعيالك من القوت ما لا يزيد على السنة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأزواجه : «اللهمّ اجعل رزق آل محمّد كفافا» ولم يقل ذلك لكل أزواجه. بل قال لمن لم يكن لهن قوة اليقين. أما مثل السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها فلم يرتب لها قوت سنة ولا يوم.

يا ولدي : جميع ما طلبته مني كتبته لك في هذه الرسالة ، فينبغي أن تعمل بكل ما فيها ، وفي أثناء عملك اذكرني بصالح دعائك ، أما ما طلبته من الأدعية فمذكورة في الصحاح وتاريخ أهل البيت فاطلبها هناك واذكر لك هذا الدعاء فاقرأه على الدوام خصوصا عقب الصلوات وهو :

اللهم إني أسألك من النعمة تمامها ، ومن العصمة دوامها ، ومن الرحمة شمولها ، ومن العافية حصولها ، ومن العيش أرغده ، ومن العمر أسعده ، ومن الإحسان أتمه ، ومن الإنعام أعمه ، ومن الفضل أعذبه ، ومن اللطف أقربه ، ومن العمل أصلحه ، ومن العلم أنفعه ، ومن الرزق أوسعه ، اللهم كن لنا ولا تكن علينا ، اللهم اختم بالسعادة آجالنا ، وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا ، واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ، واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ، ومنّ علينا بإصلاح

١٧٨

عيوبنا ، واجعل التقوى زادنا ، وفي دينك اجتهادنا ، وعليك توكلنا واعتمادنا. إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة ، وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة ، وخفف عنا ثقل الأوزار ، وارزقنا عيشة الأبرار ، واكفنا واصرف عنا شر الأشرار واعتق رقابنا ، ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار والدّين والمظالم يا عزيز يا غفار ، يا كريم يا ستار ، يا حليم يا جبار برحتمك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين آمين.

خاتمة للمعرب

اعلم أن تصفية القلب لا تتم إلا بطريقة الذكر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤها ذكر الله تعالى «. ثم إن الذكر إما باللسان وإما بالقلب ، فذكر اللسان لتحصيل ذكر القلب ، وذكر القلب لتحصيل المراقبة ، وأقرب التصفية للقلب الاشتغال بذكر الطريقة النقشبندية وهو الذكر باسم الذات أو بالنفي والإثبات ، وكيفية ذكر اسم الذات أن يتلفظ الذاكر بلسان القلب لفظة (الله). لأن القلب كله لسان وكله سمع وكله بصر. وأما كيفية ذكر النفي والإثبات فهي أن يتلفظ بلسان القلب (لا إله) نافيا بها جميع تعلقات القلب عما سوى الله ثم يتلفظ بلسان القلب (إلا الله) مثبتا بها وجود وحدانية الحق فيه ، فإذا ذكر الذاكر هذين الاسمين بهذه الكيفية تحصل له صفوة القلب وزكاه ، ويكون عارفا بالله تعالى واصلا إليه ويقدم وظيفة الذكر به على سائر العبادات بعد الفرائض ورواتبها في جميع الأوقات إلى أن يحصل في قلبه ملكة حميدة ، وبعد ذلك يجوز له جميع الفضائل من العبادات لأنه عرف طريق الاستفاضة من الله وعرف طريق التقرب إليه :

فذكر الله أحسن في الطّريق

من الورد المرتب للصّلاة

وأحسن من قراءة قول حقّ

ومن عمل بكلّ النّافلات

لأنّ الذّكر يجلي صداء قلب

ويرفع عنه كلّ الحاجيات

وجاهد في جميع الوقت والزم

بذكر الله تشهد واردات

توجّه للإله ودع سواه

وراقب وارتفع للعاليات

والمراقبة وهي رؤية جناب الحق سبحانه وتعالى بعين البصيرة على الدوام مع التعظيم ، وهي أقرب الطرق إلى الله تعالى من حيث التقرب إليه. كما قيل : القصد إلى الله عزوجل بالقلوب أبلغ من حركات الأعضاء في الأعمال بالصلاة والسلام والأذكار والأوراد ونحوها ، لأن صاحب الهمة العالية لا يزال عاملا بقلبه وإن لم تساعده على الأعمال جوارحه فهو يكون دائما في التقرب وأبدا في التحبب.

ثم اعلم أن الذاكر إذا بلغ مرتبة المراقبة ثبتت له وحدة الوجود الإلهية وتحقق بدوام العبودية ، فإذا داوم على المراقبة ترقى إلى مرتبة المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أن أنوار وجود وحدة الذات الإلهية محيطة بجميع الأشياء ، وأنه تعالى متجل بصفاته وأسمائه في مصنوعاته وبحسب استعداد المشاهدين يصير الابتهاج بأنوار الربوبية والاستكشاف بأسرار الأحدية.

تمت في شهر رجب سنة ١٣٢٧

١٧٩

القسطاس المستقيم

١٨٠