مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعانا في معاني القدس ، ولكن لفظ الحظيرة محيط بجميع طبقاتها ، فلا تظنن أن هذه الألفاظ طامات غير معقولات عند أرباب البصائر.

واشتغالي الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدني عن المقصد ، فعليك بالتشمير لفهم الألفاظ فأرجع إلى الغرض فأقول : لما كان عالم الشهادة مرقى إلى عالم الملكوت كان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي وقد يعبر عنه بالدين ، وبمنازل الهدى فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر ، فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت ، فما من شيء في هذا العالم إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم ، وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشيء الواحد من الملكوت ، أمثلة كثيرة من عالم الشهادة ، وإنما يكون مثالا إذا ماثلة نوعا من المماثلة. وطابقه نوعا من المطابقة ، وإحصاء تلك الأمثلة يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها ، ولن تفي به القدرة البشرية ، ولم تتسع لفهمه القوة البشرية ، ولا تفي لشرحه الأعمار القصيرة ، فغايتي أن أعرفك منها أنموذجا لتستدل باليسير منها على الكثير وينفتح لك باب الاستبصار بهذا النمط من الأسرار. فأقول : إن كان من عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها با ملائكة منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها قد تسمى أربابا فيكون الله رب الأرباب لذلك ، ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة ، فالبحري أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب ، وسالك الطريق يترقى أولا إلى ما درجته درجة الكوكب فيتضح له إشراق نوره ، وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه وتحت اشراق نوره ، ويتضح له من جماله وعلو درجته ما ينادي فيقول : هذا ربي ، ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الأول في مضرب الهوى أي بالإضافة إلى ما فوقه أفولا ، فقال : لا أحب الآفلين ، فكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر وأعلى قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه ، والمناسبة مع ذي النقص نقص؟ وأقول أيضا فمنه من يقول : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩]. ومعنى الذي إشارة مبهمة مناسبة لها إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم الذي لم يتصور أن يجاب عنه فالمنزه عن كل مناسبة هو الله الحق ، ولذلك لما قال بعض الأعراب لرسول الله ما نسبة الله نزل في جوابه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ١. ٤]. معناه التقدس عن النسبة ، ولذلك لما قال فرعون لموسى : وما رب العالمين؟ كالطالب لماهيته لم يجبه إلا بأفعاله إذا كانت الأفعال أظهر عند السائل ، فقال : رب السماوات والأرض. فقال فرعون لمن حوله : ألا تسمعون كالمنكر عليه في عدوله في جوابه عن طلب الحقيقة ، فقال موسى : (رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الصافات : ١٢٦]. فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال والماهية وهو يجيب عن الأفعال بالأفعال ، وقال فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، ولنرجع الآن إلى الأنموذج فنقول: عالم التعبير

٢٨١

يعرفك مقدار ضرب المثال لأن الرؤيا جزء من النبوة. أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان لما بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني ، وهو الاستعلاء على الكافة مع فيضان الآثار والأنوار على الجميع ، والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها ، كما يفيض السلطان آثاره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان ، وأن من يرى أن في يده خاتما يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فإنه يعبر له أنه يؤذن قبل الصبح في رمضان ، ومن رأى أنه يصب الزيت في الزيتون تعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو لا يعرفها فاستقصاء أبواب التعبير في أمثال هذا الجنس غير ممكن فلا يمكن الاشتغال بعدها ، بل أقول : كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر والكواكب ، كذلك منها ما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت معها أوصاف أخر سوى النورانية ، فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير وعظيم لا يستصغر ومنه تتفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائس المكاشفات فمثاله الطور ، وإن كانت الموجودات التي تتلقى تلك النفائس بعضها أولى من بعض فمثاله الوادي ، وإن كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجري من قلب إلى قلب ، فهذه القلوب أيضا أودية ومفتتح الوادي قلوب الأنبياء والأولياء والعلماء ، ثم من بعدهم فإن كانت هذه الأودية دون الأول ومنها تغترف فبالحري أن يكون الأول هو الوادي الأيمن لكثرة يمنه وعلو درجته ، وإن كان الوادي الأول يتلقى من آخر درجات الوادي الأيمن فهو يغترف من شاطئ الوادي الأيمن دون لجته وميدانه ، وإن كان روح النبي سراجا منيرا. وكان ذلك الروح مقتبسا بواسطة وحي كما قال : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]. فما منه الاقتباس مثاله النار ، وإن كان المتلقون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد لما يسمعه وبعضهم على حظ من البصيرة ، فمثال المقلد الغير المستبصر الجذوة والقبس والشهاب وصاحب الذوق مشارك للنبي في بعض الأحوال. ومثال تلك المشاركة الاصطلاء وإنما يصطلي بالنار من معه النار لا من سمع خبرها ، وإن كان أول منزل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال ، فمثال ، ذلك المنزل الوادي المقدس ، وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا باطراح الكونين أعني الدنيا والآخرة والتوجه إلى الواحد الحق ، وكانت الدنيا والآخرة متقابلتين متحاذيتين وهما عارضان للجوهر النوراني البشري يمكن اطراحهما مرة والتلبس بهما أخرى ، فمثال اطراحهما عند الإحرام والتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين بل نترقى إلى الحضرة الربوبية مرة أخرى ، فنقول : وإن كان في تلك الحضرة شيء بواسطته ننتقش العلوم المفصلة في الجواهر القابلة فمثاله القلم. وإن كان في تلك الجواهر القابلة للتلقي ما انتقش بالعلوم فمثاله اللوح والكتاب (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) [الطور : ٣]. وإن كان فوق الناقش للعلوم شيء مسخر له فمثاله اليد ، وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله الصورة ، وإن كان يوجد للصور الأنسية ترتيب منظوم على هذه الشاكلة فهي على صورة الرحمن ،

٢٨٢

وفرق بين أن يقال على صورة الرحمن وبين أن يقال على صورة الله. إذ الرحمة الإلهية هي التي على صورة الحضرة الإلهية بهذه الصورة ، ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة العالم مختصرة. وصور آدم أعني هذه الصورة مكتوبة بخط الله ، فهو الخط الإلهي الذي ليس برقم حروف إذ يتنزه خطه عن أن يكون رقما وحروفا ، كما يتنزه كلامه عن أن يكون صوتا وحروفا ، وقلمه عن أن يكون قصبا وحديدا ، ويده عن أن تكون لحما وعظما. ولو لا هذه الرحمة لعجز الآدمي عن معرفة ربه إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه ، فلما كان هذا من آثار الرحمة كان على صورة الرحمن لا على صورة الله ، فحضرة الإلهية غير حضرة الرحمن وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية ، ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلهِ النَّاسِ) [الناس : ١. ٢]. ولو لا هذا المعنى لكان قوله : إن الله خلق آدم على صورة الرحمن غير منظوم لفظا ، بل كان ينبغي أن يقول على صورته ، واللفظ الوارد في الصحيح على صورة الرحمن. ولأن تمييز حضرة الملك عن حضرة الربوبية يستدعي شرحا طويلا ، فلنتجاوز ويكفيك من الأنموذج هذا القدر فإنه بحر لا ساحل له فإن وجدت في نفسك نفورا عن هذه الأمثال فستأنس بقوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧]. الآية. فإنه قد ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والأودية القلوب.

خاتمة واعتذار : لا تظنن من هذا الأنموذج وطريق ضرب الأمثال رخصة مني في رفع الظواهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا : لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع الخطاب بقوله : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢]. حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ، وجهلوا جهلا بالموازنة بينهما فلم يفهموا وجهه ، كما أن أبطال الأسرار مذهب الحشوية فالذي يجرد الظاهر حشوي ، والذي يجرد الباطن باطني والذي يجمع بينهما كامل ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع". وربما نقل هذا عن علي موقفا عليه ، بل أقول موسى فهم من الأمر بخلع النعلين اطرح الكونين فامتثل الأمر ظاهرا بخلع نعليه وباطنا بخلع العالمين ، فهذا هو الاعتبار أي العبور من شيء إلى غيره ومن ظاهر إلى سر ، وفرق بين من يسمع قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة" ، فيقتني الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب ، لأنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة إذ الغضب غول العقل وبين من يمتثل الأمر بالظاهر ، ثم يقول ليس الكلب بصورته بل بمعناه وهو السبعية والضراوة ، وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عليه أن يحفظ عن صورة الكلبية ، فلأن يجب حفظ بيت القلب وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص عن سر الكلبية كان أولى ، فإن من يجمع بين الظاهر والباطن جميعا فهذا هو الكامل ، وهو المعني بقولهم الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ، وكذلك ترى الكامل لا يسمح لنفسه بترك حد من حدود الشرع

٢٨٣

مع كمال البصيرة.

فهذه مغلطة ، منها ما وقع لبعض السالكين في إباحة طي بساط الأحكام ظاهرا حتى ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائم الصلاة بسره ، وهذا أشد مغلطة الحمقاء من الإباحية الذين تأخذهم ترهات كقول بعضهم : إن الله غني عن عملنا. وقول بعضهم : إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته منها ولا مطمع في استئصال الغضب والشهوة بظنه أنه مأمور باستئصالها ، فهذه حماقات. وأما ما ذكرناه فهو ككبوة جواد وهفوة سالك صده الشيطان فدلاه بحبال الغرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول : ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين ، فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة ، ولكل حق حقيقة ، وأهل هذه الرتبة هم الذين بلغوا درجة الزجاجة ، كما سيأتي معنى الزجاجة لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار ، ولكن إذا صفا صار كالزجاج الصافي ، وصار غير حائل عن الأنوار بل صار مع ذلك مؤديا للأنوار ، بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الرياح ، فستأتيك قصة الزجاجة. فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء عليهم‌السلام زجاجة ، ومشكاة للأنوار ، ومصفاة للأسرار ، ومرقاة إلى العالم الأعلى. وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراء هذا سر. وقس عليه الضوء والنهار وغيره.

دقيقة : إذا قال عليه الصلاة والسلام : " رأيت عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة حبوا" ، فلا تظن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه ، وإن كان عبد الرحمن بن عوف نائما في البيت بشخصه ، فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهي فإن الحواس شاغلة وجاذبة إلى عالم الحس وصارفة وجهه عن عالم الغيب والملكوت ، وبعض الأنوار النبوية قد تصفى وتستولي بحيث لا تجذبه الحواس إلى عالمها ، ولا تشغله فيشاهد في اليقظة ما يشاهده غيره في المنام لكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة ، بل عبر منها إلى السر فانكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الأعلى الذي يعبر عنه بالجنة ، والغنى والثروة جاذبة إلى الحياة الحاضرة وهي العالم الأسفل ، فإذا كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى مقارنة من الجاذب للآخر صد عن السير إلى الجنة فإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسرا أو بطءا في سيره فيكون مثاله من عالم الشهادة الحبو ، فكذلك تنجلي الأسرار من وراء زجاجات الخيال وذلك لا يقصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورا عليه ، بل يحكم به عن كل من قويت بصيرته واستحكم إيمانه وكثرت ثروته كثرة تزاحم الإيمان ، لكن لا تقاومه لرجحان قوة الإيمان ، فهذا يعرفك كيفية إبصار الأنبياء الصور ، وكيفية مشاهدتهم المعاني من وراء الصور ، والأغلب أن يكون المعنى سابقا إلى المشاهدة الباطنية ، ثم يشرف منه على

٢٨٤

الروح الخيالي فينطبع بصورة موازية للمعنى محاكية له ، وهذا الحظ من الوحي في اليقظة يحتاج إلى التأويل كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير ، والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين ، والواقع منه في اليقظة نسبته أعظم من ذلك وأظن أن نسبته نسبة الواحد إلى الثلاثة ، فإن الذي انكشف لنا أن الخواص النبوية تنحصر شعبها في ثلاثة أجناس وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة.

القطب الثاني : في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن :

فالأول منها : الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس إذ كان أصل الروح الحيواني وأوله وبه يصير الحيوان حيوانا وهو موجود للصبي الرضيع.

الثاني : الروح الخيالي وهو الذي يكتب ما أوردته الحواس ويحفظه مخزونا عنده ليعرضه على الروح العقلي فوقه عند الحاجة إليه. وهذا لا يوجد للصبي الرضيع في بدء نشوئه ولذلك يولع بالشيء ليأخذه ، فإذا غيب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر قليلا بحيث إذا غيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله ، وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض ، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد النار لشغفه بضياء النار فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نفسه عليه فيتأذى به ، لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة أخرى بعد مرة ، ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر به مرة. فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة فإذا رأى الخشبة بعد ذلك هرب.

الثالث : الروح العقلي الذي يدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال وهو الجوهر الإنسي الخاص ولا يوجد للبهائم ولا الصبيان ، ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين.

الرابع : الروح الفكري وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف نفسية ثم استفاد نتيجتين مثلا ألف بينهما مرة أخرى واستفاد نتيجة مرة أخرى ، ولا تزال تتزايد كذلك إلى غير نهاية.

الخامس : الروح القدسي النبوي الذي به يختص الأنبياء وبعض الأولياء ، وفيه تنجلي لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض ، بل من المعارف الربانية التي تقصر دونها الروح العقلي والفكري وإليه الإشارة بقول تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]. ولا يبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طورا آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لم يبعد كون العقل طورا

٢٨٥

وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز. فلا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك ، وإن أردت مثالا مما تشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إدراك ويحرم منه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في آخرين حتى استخرجوا منها الموسيقى والأغاني وصنوف الدستانات التي منها المحزن ، ومنها المطرب ، ومنها المنوم ، ومنها المبكي ، ومنها المجنن ، ومنها القاتل ، ومنها الموجب للغشي وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق ، وأما العاطل عن خاصية الذوق فإنه يشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار وهو يتعجب من صاحب الوجد والغشي ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.

فهذا مثال في أمر خسيس لأنه قريب إلى فهمك فقس به الذوق الخاص النبوي ، واجتهد في أن تصير من أهل الذوق بشيء من تلك الروح فإن للأولياء منه حظا وافرا ، فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التي ذكرناها والتشبيهات التي رمزنا إليها من أهل العلم بها فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١]. والعلم فوق الإيمان ، والذوق فوق العلم ، والذوق وجدان والعلم قياس ، والإيمان قبول مجرد بالتقليد وحسن الظن بأهل الوجدان أو بأهل العرفان ، وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة ، فاعلم أنها بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات والحسي والخيالي منها وإن كان يشارك البهائم في جنسها ، لكن الذي للإنسان منها نمط آخر أشرف وأعلى وخلقا في الإنسان لغرض آخر أجلى وأسنى. وأما الحيوانات فلم يخلقا لها ليكونا آلتها في طلب غذائها وتسخيرها للآدميين. وإنما خلقا للآدمي ليكونا شبكة له يقتص بهما في جهة العالم الأسفل مبادئ المعارف الدينية الشريفة إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصا معينا اقتبس من عقله معنى عاما مطلقا كما ذكرنا في مثال عبد الرحمن بن عوف ، فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض الأمثلة.

بيان أمثلة هذه الآية : اعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله ، لكني أوجز وأقتصر على التنبيه على طريقه ، فأقول : أما الروح الحاس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من ثقب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرهما فأوفق مثال له في عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالي فتجد له خواص ثلاثة:

إحداها : أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو من بعد ، ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه عن الوصف

٢٨٦

بالجهات والمقادير والقرب والبعد.

الثانية : أن هذا الخيال الكثيف إذا صفي ورقق وهذب وضبط صار موازيا للمعاني العقلية محاذيا لها وغير حائل عن إشراق نور منها.

الثالثة : أن الخيال في بداية أمره محتاج إليه جدا لتنضبط له المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشارا يخرج عن الضبط إذ تجمع المثالات الخيالية للمعارف العقلية.

وهذه الخواص الثلاثة لا تجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صفي ورقق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة فهي أولى مثال به.

وأما الثالث : وهو الروح العقلي الذي فيه إدراك المعاني الشريفة الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيلها وقد عرفت هذا مما سبق من بيان معنى كون الأنبياء سراجا منيرا.

وأما الرابع : وهو الروح الفكري فمن خاصيته أن يبتدئ من أصل واحد ثم يتشعب شعبتين ثم كل شعبة شعبين ، وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية ، ثم يفضي بالآخر إلى نتائج تعود فتصير بذورا لأمثالها إذ يمكن أيضا تلقيح بعضها بالبعض فيكون مثاله من هذا العالم الشجرة ، وإذا كانت ثمراتها مادة لتضاعف المعارف وثباتها وبقائها ، فبالحري أن لا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها من جملة سائر الأشجار إلا بالزيتونة خاصة لأن لبّ ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح ويختص من بين سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق ، وإذا كانت الشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا تتناهى ثمرتها إلى حد محدود أولى أن تسمى. شجرة مباركة. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد فأولى أن تكون شرقية ولا غربية.

وأما الخامس : وهو الروح القدسي النبوي والمنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية الإشراق والصفاء وكانت الرّوح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف ، وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه تنبيه من نفسه بغير مدد من خارج ، فالبحري أن يعبر عن الصافي القوي الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار إذ في الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء. وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة فهذا المثال موافق لهذا القسم وإذا كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحسي هو الأول وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالي إذ لا يتصور الخيالي إلا موضوعا بعده والفكري والعقلي يكونان بعدهما ، فبالحري أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة فيكون المصباح في زجاجة والزجاجة في مشكاة ، وإذا كانت هذه كلها أنوارا بعضها فوق بعض فبالحري أن تكون نورا على نور فافهم والله الموفق.

٢٨٧

خاتمة : هذا مثال إنما يصلح لقلوب المؤمنين أو لقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب الكفار ، فإن النور يراد للهداية فالمصروف عن طريق الهدي باطل وظلمة ، بل أشد من الظلمة لأن الظلمة لا تهدي إلى باطل كما تهدي إلى حق ، وعقول الكفار انتكست وكذلك سائر إدراكاتهم وتعاونت على الضلال في حقهم ، فمثالهم كرجل في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوق سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ، والبحر اللجي هو الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة والحوادث الرديئة والمكدرات المعمية ، والموج الأول : موج الشهوات الباعثة إلى الصفات البهيمية والاشتغال باللذات الحسية وقضاء الأوطار الدنيوية حتى أنهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ، فبالحري أن يكون هذا الموج مظلما لأن حب الشيء يعمي ويصم. والموج الثاني : موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر وبالحري أن يكون مظلما لأن الغضب غول العقل وبالحري أن يكون هو الموج الأعلى لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات ، حتى إذا ماج أذهل عن الشهوات وأغفل عن اللذات فإن الشهوة لا تقاوم الغضب الهائج أصلا ، وأما السحاب فهو الاعتقادات الخبيثة والظنون الكاذبة والخيالات الفاسدة التي صارت حجبا بين الكافر وبين الإيمان ومعرفة الحق والاستضاءة بنور شمس القرآن والعقل فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس ، وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض ، وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضلا عن البعيدة فلذلك تحجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل ، فبالحرى أن يعبر عنه بأنه إذا أخرج يده لم يكد يراها ، وإذا كان منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق كما سبق ، فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، ويكفيك هذا القدر من أسرار هذه الآية فاقنع.

الفصل الثالث

في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إن لله سبعين حجابا

من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من

أدركه بصره"

في بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعين ألفا. فأقول : إن الله تعالى متجلّ في ذاته بذاته لذاته ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة ، وإن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام منهم : من يحتجب بمجرد الظلمة ، ومنهم : من يحتجب بمجرد النور المحض ، ومنهم : من يحتجب بنور مقرون بظلمة. وأصناف هذه الأقسام كثيرة تتحقق كثرتها ، ويمكنني أن أتكلف حصرها لكني لا أثق بما يلوح من تحديد وحصر إذ لا يدري أهو المراد في

٢٨٨

الحديث أم لا ، أما الحصر إلى سبعمائة أو سبعين ألفا فذلك لا تستقل به إلا القوة النبوية مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة لا للتحديد ، وقد تجري العادة بذكر أعداد ولا يراد بها الحصر ، بل التكثير والله أعلم بحقيقة ذلك فهو خارج عن الوسع ، وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل قسم فأقول :

القسم الأول : هم المحجوبون بمحض الظلمة وهم الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وهم الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا وهم أصناف.

الصنف الأول : تشوق إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله الطبع والطبع صفة مركوزة في الأجسام حالة فيها ، وهي مظلمة إذ ليس لها معرفة وإدراك ولا خبر لها من نفسها ولا تصور لها وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضا.

الصنف الثاني : هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يتفرغوا لطلب السبب بل عاشوا عيشة البهائم فكان حجابهم أنفسهم المركوزة وشهواتهم المظلمة فلا ظلمة أشد من الهوى والنفس. ولذلك قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم" الهوى أبغض إله عبد إلى الله" ، وهؤلاء ينقسمون فرقا : ففرقه زعمت أن غاية المطلب من الدنيا هي قضاء الأوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم ومشرب وملبس ، فهؤلاء عبيد اللذة يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادة رضوا لأنفسهم بأن يكونوا بمنزلة البهائم بل كيلا ينظر الناس إليهم بعين الحقارة ، وهؤلاء الأصناف لا يحصون وكلهم محجوبون عن الله بمحض الظلمة وهي نفوسهم المظلمة ، ولا معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع التنبيه على الأجناس ، ويدخل في جملة هؤلاء جماعة يقولون بلسانهم لا إله إلا الله ولكن ربما حمله على ذلك خوف ، أو استظهار بالمسلمين أو تجمل بهم ، أو استمداد من مالهم ، أو لأجل التعصب لنصرة مذهب الآباء ، وهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فلا تخرجهم من الظلمات إلى النور بل أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فأما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو خارج عن محض الظلمة وإن كان كثير المعصية.

القسم الثاني : طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة وهم ثلاثة أصناف : صنف منشأ ظلمتهم من الحس ، وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال ، وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة.

الصنف الأول : المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائف لا يخلو واحد منهم عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوق إلى معرفة ربه ، وأول درجاتهم عبدة الأوثان وآخرهم الثنوية وبينهما درجات.

الطائفة الأولى : عبدة الأوثان علموا في الجملة أن لهم ربا يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء وأنفس من كل نفيس ، ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن يتجاوزوا المحسوس من أنفس الجوهر كالذهب والفضة والياقوت أشخاصا مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة ،

٢٨٩

فهؤلاء محجوبون بنور العزة والجمال من صفات الله وأنواره ، ولكنهم الصقوها بالأجسام المحسوسة وصدهم عن ذلك النور ظلمة الحس ، فإن الحس ظلمة بالإضافة إلى العالم الروحاني كما سبق.

الطائفة الثانية : جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ولا شريعة يعتقدون أن لهم ربا وأنه أجمل الأشياء وإذا رأوا إنسانا في غاية الجمال أو شجرا أو فرسا أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا ، وهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس وهم أدخل في ملاحظة النور من عبدة الأوثان لأنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص ولا يخصصونه بشخص دون شخص ثم يعبدون الجمال المطبوع لا المصنوع من جهتهم وبأيديهم.

الطائفة الثالثة : قالوا ينبغي أن يكون ربنا نورانيا في ذاته ، بهيا في صورته ذا سلطان في نفسه ، مهيبا في حضرته لا يطاق القرب منه ، ولكن ينبغي أن يكون محسوسا إذ لا معنى لغير المحسوس عندهم ، ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة والبهاء ، وكل ذلك من أنوار الله تعالى.

الطائفة الرابعة : زعموا أن النار نستولي نحن عليها بالاشتغال والإطفاء فهي تحت تصرفنا فلا تصلح للإلهية بل ما يكون بتلك الصفة أعني السلطة والبهاء ، ثم نكون نحن تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفا بالعلو والارتفاع ، ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها ، فمنهم من عبد الشعرى ، ومنهم من عبد المشتري إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات ، فهؤلاء محجوبون بنور العلو والإشراق والاستيلاء وهي أنوار الله تعالى.

الطائفة الخامسة : ساعدت هؤلاء في المأخذ ، ولكن قالت لا ينبغي أن يكون ربّنا موسوما بالصغر والكبر بالإضافة إلى الجواهر النورانية ، بل ينبغي أن يكون أكبرها فعبدوا الشمس إذ قالوا هي أكبر. فهؤلاء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية الأنوار مقرونا بظلمة الحواس.

الطائفة السادسة : ترقوا من هؤلاء فقالوا النور كله لا تنفرد به الشمس بل لغيرها أيضا أنوار ، ولا ينبغي أن يكون للرب شريك في نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع الأنوار. وزعموا أنه رب العالمين والخيرات كلها منسوبة إليه ، ثم رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيها له عن الشر فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة وأحالوا العالم إلى النور والظلمة وربما سموها : (يزدان واهرمن) وهم الثنوية فيكفيك هذا القدر تنبيها على هذا الصنف فهم أكثر من ذلك.

الصنف الثاني : المحجوبون ببعض الأنوار مقرونا بظلمة الخيال وهم الذين جاوزا الحس وأثبتوا وراء المحسوسات أمرا ، لكنهم لم يمكنهم مجاوزة الخيال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش وأخسهم رتبة المجسمة ، ثم أصناف الكرامية بأجمعهم ، ولا يمكنني شرح مقالاتهم ومذاهبهم فلا فائدة للتكثير ، ولكن أرفعهم درجة من نفي الجسمية وجميع عوارضها إلا الجهة المخصوصة بجهة فوق لأن الذي لا ينسب إلى الجهة ولا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لم يكن عندهم موجودا ، إذ لم يكن متخيلا

٢٩٠

ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوز النسبة إلى الجهات والحيزة.

الصنف الثالث : المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إلها سميعا بصيرا عالما قادرا مريدا حيا منزها عن الجهات ، لكنهم فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم ، وربما صرح بعضهم ، فقال كلامه حروف وأصوات ككلامنا ، وربما ترقى بعضهم فقال : لا بل هو كحديث نفسنا ولا حرف ولا صوت ، وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلا معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى ، ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا وإنه طلب وقصد مثل قصدنا ، وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها. وهؤلاء محجوبون بجملة من أنوار مع ظلمة المقايسات العقلية الفاسدة ، فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة.

القسم الثالث : هم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم :

الصنف الأول : عرفوا معنى الصفات تحقيقا وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر ، فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون : وما رب العالمين؟ فقالوا : إن الرب المقدس عن معاني هذه الصفات محرك السماوات ومدبرها.

الصنف الثاني : ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السماوات كثرة ، وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى ملكا فيهم كثرة ، وإنما نسبهم إلى الأنوار الإلهية نسبة الكواكب في الأنوار المحسوسة ، ثم لاح لهم أن هذه السماوات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة ، فالرب هو المحرك للجرم الأقصى المحتوي على الأفلاك كلها إذ الكثرة منفية عنه.

الصنف الثالث : ترقوا عن هؤلاء وقالوا : إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة له وطاعة من عبد من عبيده يسمى ملكا نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر إلى الأنوار المحسوسة ، فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك ، ويكون الرب تعالى وجد محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة ، ثم في تفهيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الافهام ولا يحتمله هذا الكتاب ، فهؤلاء أصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة ، وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر ليس يحتمل هذا الكتاب كشفه ، وأن نسبة الجمر إلى جوهر النار الصرف فتوجهوا من الذي يحرك السماوات ومن الذي أمر بتحريكها ، فوصلوا إلى موجود ، منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه منزها ومقدسا عن جميع ما وصفناه من قبل ، ثم هؤلاء انقسموا :

٢٩١

فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى ولكن بقي هو ملاحظا للجمال والقدس وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية ، فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر ، وجاوز هؤلاء طائفة منهم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه الأعلى وغشيهم سلطان الجلال وانمحقوا وتلاشوا في ذاتهم ، ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لفنائهم عن أنفسهم ، ولم يبق إلا الواحد الحق وصار معنى قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. لهم ذوقا وحالا ، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين.

منهم من لم يتدرج في الترقي والعروج عن التفصيل الذي ذكرناه ، ولم يطل عليه العروج فسبقوا من أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخرا ، وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي أو بصيرة عقلية ، ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل ، والثاني طريق الحبيب صلوات الله وسلامه عليهما ، والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما.

فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا ، ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منهم خارجا عن الأقسام التي ذكرناها ، فإنهم إما يحتجون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال وبمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق.

فهذا ما حضرني في جواب هذه الأسئلة مع أن السؤال صادفني ، والفكر منقسم ، والخاطر متشعب ، والهم إلى غير هذا الفن منصرف ، ومقترحي عليه أن تسأل لي العفو عما طغى به القلم أو زلت به القدم. فإن خوض غمرة الأسرار الإلهية خطيرة ، واستكشاف الأنوار العلوية من وراء الحجب غير يسير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

٢٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

رسالة الطير

ذكر العنقاء

اجتمعت أصناف الطيور على اختلاف أنواعها وتباين طباعها ، وزعمت أنه لا بدّ لها من ملك : واتفقوا أنه لا يصلح لهذا الشأن إلا العنقاء وقد وجدوا الخبر عن استيطانها في مواطن الغرب وتقررها في بعض الجزائر فجمعتهم داعية الشوق وهمة الطلب فصمموا العزم على النهوض إليها ، والاستظلال بظلها ، والمثول بفنائها ، والاستسعاد بخدمتها ، فتناشدوا وقالوا :

قوموا إلى الدّار من ليلى نحييها

نعم ونسألهم عن بعض أهليها

وإذا الأشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب وزعمت بلسان الطلب ، بأي نواحي الأرض أبغي وصالكم ، وأنتم ملوك ما لمقصدهم نحو.

وإذا هم بمنادي الغيب ينادي من وراء الحجب : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥].

لازموا أماكنكم ولا تفارقوا مساكنكم ، فإنكم إن فارقتم أوطانكم ، ضاعفتهم أشجانكم ، فدونكم والتعرض للبلاء والتحلل بالفناء :

إن السلامة من سعدى وجارتها

أن لا تحل على حال بواديها

فلما سمعوا نداء التعذر من جناب الجبروت ما ازدادوا إلا شوقا وقلقا وتحيرا وأرقا ، وقالوا من عند آخرهم :

ولو داواك كلّ طبيب إنس

بغير كلام ليلى ما شفاكا

وزعموا :

إنّ المحبّ الّذي لا شيء يقنعه

أو يستقرّ ومن يهوى به الدار

ثم نادى لهم الحنين ، ودب فيهم الجنون ، فلم يتلعثموا في الطلب اهتزازا منهم إلى بلوغ الأرب.

فقيل لهم : بين أيديكم المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة وأماكن القر ومساكن الحر ، فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ الأمنية فتخترمكم المنية ، فالأحرى بكم مساكنة أوكار الأوطار قبل أن يستدرجكم الطمع ، وإذا هم لا يصغون إلى هذا القول ، ولا يبالون ، بل رحلوا وهم يقولون :

فريد عن الخلّان في كلّ بلدة

إذا عظم المطلوب قلّ المساعد

فامتطى كل منهم مطية الهمة قد ألجمها بلجام الشوق وقوّمها بقوام العشق وهو يقول :

٢٩٣

انظر إلى ناقتي في ساحة الوادي

شديدة بالسّرى من تحت ميّاد

إذا اشتكت من كلال البين أوعدها

روح القدوم فتحيا عند ميعادي

لها بوجهك نور تستضيء به

وفي نوالك من أعقابها حادي

فرحلوا من محجة الاختبار ، فاستدرجتهم بحد الاضطرار ، فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد ، ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر ، وتصرفت فيهم الصواعق. وتحكمت عليهم العواصف حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك ، ونزلوا بفنائه واستظلوا بجنابه ، والتمسوا من يخبر عنهم الملك وهو في أمنع حصن من حمى عزه ، فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان الحضرة أن يسألهم : ما الذي حملهم على الحضور؟ فقالوا : حضرنا ليكون مليكنا ، فقيل لهم : أتعبتم أنفسكم فنحن الملك شئتم أو أبيتم ، جئتم أو ذهبتم ، لا حاجة بنا إليكم ، فلما أحسوا بالاستغناء والتعذر أيسوا وخجلوا وخابت ظنونهم فتعطلوا فلما شملتم الحيرة ، وبهرتهم العزة ، قالوا لا سبيل إلى الرجوع فقد تخاذلت القوى وأضعفنا الجوى ، فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا ، وأنشؤوا يقولون هذه الأبيات :

أسكّان رامة هل من قرى

فقد دفع اللّيل ضيفا قنوعا

كفاه من الزّاد إن تمهدوا

له نظرا وكلاما وسيعا

هذا وقد شملهم الداء ، وأشرفوا على الفناء ، ولجؤوا إلى الدعاء :

ثمل نشاوى بكأس الغرام

فكلّ غدا لأخيه رضيعا

فلما عمّهم اليأس ، وضاقت بهم الأنفاس تداركتهم أنفاس الإيناس وقيل لهم : هيهات فلا سبيل إلى اليأس ، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون ، فإن كان كمال الغنى يوجب التعزز والرد فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول ، فبعد أن عرفتم مقداركم في العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكن فهو دار الكرم ومنزل النعم. فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا عن مساكنة الحسبان ولولاه لما قال سيد الكل وسابقهم : " أحيني مسكينا" ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قرينا ، فلما استأنسوا بعد أن استيأسوا ، وانتعشوا بعد أن تعبسوا ووثقوا بفيض الكرم واطمأنوا إلى درور النعم سألوا عن رفقائهم فقالوا : ما الخبر عن أقوام قطعت بهم المهامة والأودية ، أمطلول دماؤهم أم لهم دية؟ فقيل : هيهات هيهات : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠]. اجتبتهم أيادي الاجتباء بعد أن أبادتهم سطوة الابتلاء : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [البقرة : ١٤٥]. قالوا : فالذين غرقوا في لجج البحار ، ولم يصلوا إلى الدار ولا إلى الديار بل التقمتهم لهوات التيار. قيل : هيهات (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) [آل عمران : ١٦٩]. فالذي جاء بكم وأمهاتهم أحياهم ، والذي وكّل بكم داعية الشوق حتى استقللتم العناء والهلاك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم وقربهم ، فهم

٢٩٤

حجب العزة وأستار القدرة : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥]. قالوا : فهل لنا إلى مشاهدتهم سبيل؟ قيل : لا ، فإنكم في حجاب العزة وأستار البشرية ، وأسر الأجل وقيده ، فإذا قضيتم أوطاركم وفارقتم أوكاركم ، فعند ذلك تزاورتم وتلاقيتم ، قالوا : والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا؟ قيل : هيهات (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : ٤٦]. ولو أردناهم لدعوناهم ولكن كرهناهم فطردناهم. أنتم بأنفسكم جئتم أم نحن دعوناكم؟ أنتم اشتقتم أم نحن شوّقناكم؟ نحن أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر ، فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية كمل اهتزازهم وتم وثوقهم فاطمأنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التمكين ، وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين ، ولتعلمن نبأه بعد حين.

فصل

أترى هل كان بين الراجع إلى تلك الجزيرة وبين المبتدئ من فرق؟ إنما قال : جئنا ملكنا من كان مبتدئا ، أما من كان راجعا إلى عيشه الأصلي (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي) [الفجر : ٢٧ و ٢٨]. فرجع لسماع النداء كيف يقال له لم جئت؟ فيقول : لم دعيت لا بل فيقول لم حملت إلى تلك البلاد وهي بلاد القربة ، والجواب على قدر السؤال ، والسؤال على قدر التفقّه ، والهموم بقدر الهمم.

فصل

من يرتاع لمثل هذه النكت فليجدد العهد بطور الطيرية ، وأريحية الروحانية ، فكلام الطيور لا يفهمه إلا من هو من الطيور ، وتجديد العهد بملازمة الوضوء ، ومراقبة أوقات الصلاة ، وخلوة ساعة للذكر فهو تجديد العهد الحلو في غفلة لا بدّ من أحد الطريقين ، فاذكروني أذكركم ، أو نسوا الله فنسيهم. فمن سلك سبيل الذكر أنا جليس من ذكرني ، ومن سلك النسيان : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦]. وابن آدم في كل نفس مصحح أحد هاتين النسبتين ولا بد يتلوه يوم القيامة أحد السيماءين. أما يعرف المجرمون بسيماهم أو الصالحون بسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أنقذك الله بالتوفيق ، وهداك إلى التحقيق ، وطوى لك الطريق ، إنه بذلك حقيق. والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين آمين.

٢٩٥

الرسالة الوعظية

٢٩٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الرسالة

لقد بلغني عن لسان من أثق به سيرة الشيخ الإمام الزاهد حرس الله توفيقه وسمره في مهم دينه ما قوى رغبتي في مؤاخاته في الله تعالى رجاء لما وعد الله به عباده المتحابين. وهذه الأخوة لا تستدعي مشاهدة الأشخاص وقرب الأبدان ، وإنما تستدعي قرب القلوب وتعارف الأرواح وهي جنود مجندة فإذا تعارفت ائتلفت ، وها أنا عاقد معه الأخوة في الله تعالى ومقترح عليه أن لا يخليني عن دعوات في أوقات خلوته ، وأن يسأل الله تعالى أن يريني الحق حقا ، ويرزقني اتباعه ، وأن يريني الباطل باطلا ، ويرزقني اجتنابه ، ثم قرع سمعي أنه التمس مني كلاما في معرض النصح والوعظ. وقولا وجيزا فيما يجب على المكلف اعتقاده من قواعد العقائد.

وعظ النفس

أما الوعظ ، فلست أرى نفسي أهلا له لأن الوعظ زكاة نصابها الاتعاظ ومن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة ، وفاقد النور كيف يستنير به غيره (ومتى يستقيم الظل والعود أعوج) وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني ، وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " تركت فيكم واعظين ناطق وصامت".

فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن لا يتعظ بهما فكيف يعظ غيره ، ولقد وعظت بهما نفسي فصدقت وقبلت قولا وعقلا ، وأبت وتمردت تحقيقا وفعلا فقلت لنفسي : أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ الناطق ، وأنه الناصح الصادق ، فإنه كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ فقالت : نعم. قال الله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [هود : ١٥ و ١٦]. فقد وعدك الله تعالى بالنار على إرادة الدنيا ، وكل ما لا يصحبك بعد الموت فهو من الدنيا ، فهل تنزهت عن إرادة الدنيا أو حبها ، ولو أن طبيبا نصرانيا وعدك بالموت أو المرض على تناولك ألذ الشهوات لتحاشيتها واتقيتها. أكان النصراني عندك أصدق من الله تعالى؟ فإن كان ذلك فما أكفرك. أو كان المرض أشد عندك من النار ، فإن كان كذلك فما أجهلك ، فصدقت ثم ما انتفعت بل أصررت على الميل إلى العاجلة واستمررت ، ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ الصامت

٢٩٧

فقلت : قد أخبر الناطق عن الصامت إذ قال تعالى : (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة : ٨]. وقلت لها : هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة آتيك وقاطع عليك كل ما أنت متمسكة به وسالب منك كل ما أنت راغبة فيه وكل ما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت ، وقد قال الله تعالى : (أفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: ٢٠٥ و ٢٠٧]. أفأنت مخرجة هذا عن جميع ما أنت فيه؟ والحر الحكيم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج منها. واللائم يتمسك بها إلى أن يخرج من الدنيا خائبا خاسرا متحسرا ، فقالت : صدقت ، فكان ذلك منها قولا لا تحصيل وراءه إذ لم تجتهد قط في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجل ، ولم تجتهد قط في رضاء الله تعالى كاجتهادها في رضاها بل كاجتهادها في طلب الخلق ، ولم تستح قط من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ، ولم تشمر للاستعداد للآخرة كتشميرها في الصيف ، فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تفرغ من جميع ما تحتاج إليه فيه من آلاته مع أن الموت ربما يختطفها ، والشتاء لا يدركها ، والآخرة على يقين لا يتصور أن يختطف منها ، وقلت لها : ألا تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر؟ قالت : نعم. قلت : فاعصي الله بقدر صبرك على النار واستعدي للآخرة بقدر بقائك فيها. فقالت : هذا هو الواجب الذي لا يرخص في تركه إلا الأحمق ، ثم استمرت على سجيتها فوجدتني كما قال بعض الحكماء : إن في الناس من يموت نصفه ولا ينزجر نصفه الآخر ، وما أراني إلا منهم ، ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بوعظ الموت والقرآن. رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها ، فإن ذلك من العجائب العظيمة ، فطال عليه تفتيشي حتى وقفت على سببه. وها أنا مؤنس وإياه بالحذر منه. فهو الداء العضال وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال. وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب. فإنه لو أخبره صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت إلى أسبوع أو أشهر ، لاستقام على الطريق المستقيم. ولترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه مما يتعاطاه لله تعالى ومغرور فيه فضلا عما يعلم أنه ليس لله تعالى ، فانكشف تحقيقا أن من أصبح وهو يأمل أن يمسي أو أمسى وهو يأمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف ، ولم يقدر إلا على سير ضعيف. فأوصيه ونفسي بما أوصى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : " صلّ صلاة مودّع" ، ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب. ولا ينتفع بوعظ إلا به ، فمن غلب على قلبه في كل صلاة أنها آخر صلاته ، حضر معه قلبه في الصلاة وتيسّر له الاستعداد بعد الصلاة. ومن عجز عن ذلك فلا يزال في غفلة دائمة وغرور مستمر ، وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت فتدركه حسرة الفوت ، وأنا مقترح عليه أن لا يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها ، وقاصر عنها ، وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا بها ، وأن يحذر من مواقع الغرور ، فإذا وعدت النفس بذلك طالبها بموثق غليظ من الله تعالى ، فإن خداع النفس لا يقف عليه إلا الأكياس.

وأما أقل ما يجب اعتقاده على المكلف فهو ما يترجمه قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله.

٢٩٨

ثم إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله تعالى فإنه حي قادر عالم متكلم مريد ليس كمثلة شيء وهو السميع البصير وليس عليه بحث عن حقيقة هذه الصفات. وأن الكلام والعلم وغيرهما قديم أو حادث ، بل لو لم تخطر له هذه المسألة حتى مات مؤمنا وليس عليه تعلم الأدلة التي حررها المتكلمون. بل كلما حصل في قلبه التصديق بالحق. بمجرد الإيمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن ، ولم يكلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من ذلك. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق إلا من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل مقدم الكلام وحدوثه ومعنى الاستواء والنزول وغيره فإن لم يأخذ ذلك قلبه وبقي مشغولا بعبادته وعمله فلا حرج عليه وإن أخذ ذلك بقلبة فأقل الواجبات عليه ما اعتقده السلف فيعتقد في القرآن القدم ، كما قال السلف : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ويعتقد أن الاستواء حق والسؤال عنه مع الاستغناء بدعة ، والكيفية فيه مجهولة. فيؤمن بجميع ما جاء به الشرع إيمانا مجملا من غير بحث عن الحقيقة والكيفية ، فإن لم ينفعه ذلك وغلب على قلبه الإشكال والشك فإن أمكن إزالة شكه وإشكاله بكلام قريب من الافهام. وإن لم يكن قويا عند المتكلمين ولا مرضيا عندهم ، فذلك كاف ولا حاجة به إلى تحقيق الدليل ، بل الأولى أن يزال إشكاله من غير برهان حقيقة الدليل ، فإن الدليل لا يتم إلا بدرك السؤال والجواب عنه ، ومهما ذكرت الشبهة فلا يبعد أن ينكر بقلبه ويكل فهمه عن درك جوابه إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب دقيقا لا يحتمله عقله. ولهذا زجر السلف عن البحث والتفتيش عن الكلام. وإنما زجروا عنه لضعفاء العوام.

وأما المشتغلون بدرك الحقائق فلهم خوض غمرة الإشكال ومنع الكلام للعوام يجري مجرى منع الصبيان من شاطئ نهر دجلة خوفا من الغرق ، ورخصة الأقوياء فيه تضاهي رخصة الماهر في صنعة السباحة ، إلا أن هاهنا موضع غرور ومزلة قدم ، وهو أن كل ضعيف في عقله. راض من الله تعالى في كمال عقله. يظن بنفسه أنه يقدر على إدراك الحقائق كلها وأنه من جملة الأقوياء فربما يخوضون فيغرقون في بحر الجهات حيث لا يشعرون ، فالصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما نزله الله تعالى وأخبر به رسوله من غير بحث وتفتيش عن الأدلة ، بل الاشتغال بالتقوي عليه شغل شاغل إذ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث رأى أصحابه يخوضون بعد أن غضب حتى احمرت وجنتاه : " أبهذا أمرتم تضربون كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أمركم الله به فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا". فهذا تنبيه على المنهج الحق ، واستيفاء ذلك شرحناه في كتاب (قواعد العقائد) فيطلب منه والسلام.

٢٩٩

إلجام العوام

عن

علم الكلام

٣٠٠