مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

مثال وأنموذج من ذلك الوصف الخاص ، وكذلك الاسم للوصف الخاص الذي له تعالى لأن الإنسان إنما يسمي الشيء بعد معرفته إياه ، وإذا لم يكن للإنسان إليه طريق وأنموذج فلا علم له به ولا اسم له عنده ولا علامة. فكيف يعرفه؟ فلذلك لا يعرف الله إلا الله. وأعني أخص وصفه وكنه معرفته فمن قال : إن الإنسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم والله تعالى كذلك لا يكون هذا القائل مشبها ، فإن التشبيه إثبات المشاركة في الوصف الأخص ، ومن قال : إن السواد عرض موجود وهو لون ، والبياض عرض موجود وهو لون لا يكون مشبها السواد بالبياض ، فإن الاشتراك في اللونية والعرضية والوجودية لا يكون تشبيها بينهما ، ولذلك لا تماثل بين السواد والبياض مع اشتراكهما في اللونية والعرضية الوجدية ، فالمثال في حق الله سائغ جائز والمثل مستحيل ، فإنا نقول : الله تعالى مدبر متصرف في العالم وليس في العالم مثال ذلك أن إصبع الإنسان يتحرك ويحركه علمه وإرادته وليس فيها العلم والإرادة فيقع التفهيم بسبب ذلك وتصور الضعيف أنه كيف يكون مدبرا فاعلا في شيء غير مجاور له ولا حال فيه.

فصل في تكليف الله تعالى عباده

تكليف الله تعالى عبادة لا يضاهي تكليف الإنسان عبده الأعمال التي يرتبط بها غرضه وما لا حظ له فيه وما لا يحتاج إليه فلا يكلفه به ، وتكليف الله تعالى عباده يجري مجرى تكليف الطبيب المريض ، فإذا غلبت عليه الحرارة أمره بشرب المبردات والطبيب غني عن شربه لا يضره مخالفته ولا ينفعه موافقه ، ولكن الضرر والنفع يرجعان إلى المريض وإنما الطبيب هاد ومرشد فقط ، فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص ، وإن لم يوفق فخالفه تمادى به المرض وهلك ، وبقاؤه وهلاكه عند الطبيب سيان ، فإنه مستغن عن بقائه وفنائه ، فكما أن الله تعالى خلق للشفاء سببا مفضيا إليه كذلك خلق للسعادة سببا وهو الطاعات ، ونهى النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائل الأخلاق منجيات ورذائل في الآخرة مهلكات. كما أن رذائل الأخلاق ممرضات في الدنيا ومهلكات والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم بالإضافة إلى حياة الدنيا وللنفوس طب كما أن للأجساد طبا والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى طريق الفلاح بتمهيد الطريق المزكية للقلوب ، كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ و ١٠]. ثم يقال : إن الطبيب أمره بكذا ونهاه عن كذا ، وأنه زاد مرضه لأنه خالف الطبيب ، وأنه صح لأنه راعى قانون الطبيب ولم يقصر في الاحتماء ، وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض بمخالفة الطبيب لعين المخالفة ، بل لأنه سلك غير طريق الصحة التي أمره الطبيب بها ، فكذلك التقوى هي الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها وأمراض القلوب تفوت حياة الآخرة كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنيا ، والمثال الآخر أن ملكا من ملوك الناس يمد بعض عبيده الغائب عن مجلسه بمال ومركوب ليتوجه تلقاءه لينال رتبة القرب منه ، ويسعد بسببه مع استغناء الملك

٣٤١

عن الاستعانة به ، وتصميم العزم على أن لا يستخدمه أصلا ، ثم إن العبد إن ضيع المركوب وأهلكه وأنفق المال لا في زاد الطريق كان كافرا للنعمة ، وإن ركب المركوب وأنفق المال في الطريق متزودا به كان شاكرا للنعمة لا بمعنى أنه أنال الملك حظا ، فإنه لم يرد في الإنعام عليه وفي تكلفه الحضور حظا لنفسه ولكن أراد سعادة العبد ، فإنه وافق مراد السيد فقبه كان شاكرا وإن خالف عدت مخالفته كفرانا ، والله تعالى يستوي عنده كفر الكافرين وإيمانهم بالإضافة إلى جلاله واستغنائه ، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر ، فإنه لا يصلح لعباده فإنه يشقيهم ، كما لا يرضى الطبيب هلاك المرضى ويعالجهم ، ولا يرضى الملك المستغني عن عبده لعبده الشقاوة بالبعد عنه ويريد له السعادة بالقرب منه وهو غني عنه قرب أو بعد ، فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف فإن الطاعات أدوية والمعاصي سموم وتأثيرها في القلوب ، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم ، كما لا تسعد الصحة إلا من أتى بمزاج معتدل ، وكما يصح قول الطبيب للمريض قد عرفتك ما يضرك وما ينفعك ، فإن وافقتني فلنفسك وإن خالفت فعليها ، كذلك قال الله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [الإسراء : ١٥]. وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦ ، الجاثية : ١٥]. وأما العقاب على ترك الأمر وارتكاب النهي فليس العقاب من الله تعالى غضبا وانتقاما. ومثال ذلك أن من غادر الوقاع عاقبه الله تعالى بعدم الولد ، ومن ترك إرضاع الطفل عاقبه بهلاك الولد ، ومن ترك الأكل والشرب عاقبة بالجوع والعطش ، ومن ترك تناول الأدوية عاقبة بألم المرض وغضب الله تعالى على عبادة غير إرادته الإيلام ، كما إن الأسباب والمسببات يتأدى بعضها إلى بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب فبعضها يفضي إلى الآلام وبعضها إلى اللذات ولا يعرف عواقبها إلا الأنبياء ، فكذلك نسبة الطاعات والمعاصي إلى آلام الآخرة ولذاتها من غير فرق ، فالسؤال عن أنه لم تفض المعصية إلى العقاب كالسؤال في أنه لم يهلك الحيوان عن السم ، ولم يؤد السم إلى الهلاك ، ولم يخلق جسد الإنسان على وجه يفعل فيه السم أثرا وينفعل البدن عنه وهو لا ينفعل عن البدن ، فكذلك الكلام في أنه لما خلق الله تعالى نفس الإنسان على وجه تكملها وتنجيها الفضائل وتهلكها الرذائل ، هذا والله تعالى غير عاجز عن الإشباع من غير أكل والإدواء من غير شرب ، والإنشاء من غير مصاحبة وقاع ، والإنماء من غير رضاع ، ولكنه قد رتب الأسباب والمسببات ، ولذلك سر وحكمة لا يعلمها إلا الله تعالى والراسخون في العلم ، وليس هذا بعجب ، وإنما العجب من هذا التدبير المحكم والنظام المتقن ، ولعمري أن من لا يهتدي إلى سر الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته ، ولو كان كذلك لضاع حظ النبات والحيوانات التي هي ألطف الحيوانات وأقربها إلى الاعتدال مثل العنم والنعاج والقباج والدجاج وغيرها ، وكمال النبات أن يصير غذاء لما هو أعلى منه بالرتبة وهو الحيوان ، ولذلك يقوم بدل ما يحلل منه فيصير جزء منه متشبها به وهذا كماله ، وكذلك نسبة الحيوانات

٣٤٢

المذبوحة إلى الإنسان ونسبة الإنسان إلى الملائكة في جنات عدن كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) [الرعد : ٢٣]. وأما كون بعض الحيوانات العجم غذاء لبعض السباع الضارية ففي السباع الضواري فوائد ومنافع سياسية وطبية يعرفها أرباب السياسة والأطباء ، ومثال من يتعجب من وضع هذه الأشياء على ترتيب النظام الكلي على موجب تقدير العزيز الحكيم كمثل الأعمى الذي دخل دارا فتعثر بالأواني الموضوعة في صحن الدار ، فقال لأهل الدار : ما الذي أزال عقولكم؟ لما ذا لا تردون هذه الأواني إلى مواضعها؟ ولم تركتموها على الطريق؟ فقيل له : إنها موضوعة في مواضعها ، وإنما الخلل من فقد البصر ، وكمثل الأخشم الذي لا يدرك الروائح فيلوم واضع اللخالخ والمثلثات والفواكه العطرة الطيبة بين يديه ، فقال : هذا قد شغل المكان فقط ، فقيل له في العودة فائدة سوى اتخاذه على جهة الحطب ، وإنما المانع من إدراكه هو الخشم.

وهاهنا مباحثة أخرى منها : إن الله تعالى كيف يأمر بالشيء ويمنع من البحث عنه والبصيرة لا تحصل إلا بالبحث عنه وهذا تعجب فاسد ، فإن العلم يستدعي اعتقادا جازما أو معرفة حقيقية ، والاعتقاد الجازم يعرف بالتقليد المجرد على سبيل التصديق والإيمان ، والمعرفة تحصل بالبرهان والوصول إليها بالبحث ، ولم يمنع عن البحث الخلائق كلهم ، بل الضعفاء العاجزون عن الاطلاع على حقائق البرهان ومعضلات البحث ، ومثل ذلك الطبيب الذي يأمر العليل بشرب الدواء ويمنعه عن البحث عن سبب كون هذا الدواء شافيا ، فإنه يقصر عنه فهمه ويشق عليه ويعجز عنه ويزداد المرض ويستضر به ، فإن وجد على سبيل الندور مريضا ذكيا سالكا منهاج الطب وعلل الأمراض لم يمنعه من البحث ولم يمنعه عن ذكر المناسبة بين دوائه وبين مرضه ، بل إذا علم أنه ليس يؤمن بمجرد قوله وليس يقلد محض التقليد لما خص به من الذكاء وما يفهم من أسباب العلة ، وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة اشتغل بالعلاج ، وإن لم يكن يفهم أعرض عن التقليد وجب عليه ذكر المناسبة والعلة ولم يمنع من البحث إذا علم استقلاله به ، إلا أن ذلك نادر في المرضى جدا ، والأكثرون يضعفون عن ذلك وكذلك معرفة العلل والأسرار والبحث عنها في الشرعيات من هذا القبيل ، وأما تسخير البهائم للإنسان مثل من يمشي خطوات مثلا ينظر إلى منتزهات ووجوه حسان ، فيقال له : كيف أتعب رجله وسخرها لأجل عينيه والعين آلته ، كما أن الرجل آلته فما باله جعل إحداهما خادمة وأتعبها ، وجعل الأخرى مخدومة وطلب راحتها ، وهذا جهل بالأقدار والمراتب ، بل العاقل يعلم أن الكامل أبدا يفدى بالناقص ، وأن الناقص يستسخر لأجل الكامل وهو عين الحكمة وليس ذبك بظلم ، فإن الظلم هو التصرف في ملك الغير ، والله تعالى لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما فلا يتصور منه ظلم ، بل له أن يفعل ما يشاء في ملكه ويكون عادلا ، والوحي الإلهي والشرع الحق لا يرد بما ينبو عنه العقل ، فإن أراد ينبو العقل أن برهان العقل يدل على

٣٤٣

استحالته كخلق الله تعالى مثل نفسه أو الجمع بين المتضادين ، فهذا ما لا يرد الشرع به ، وإن أراد به ما يقصر العقل عن إدراكه ولا يستقل بالإحاطة بكنهه فهذا ليس بمحال أن يكون في علم الأطباء مثلا جلب المغناطيس للحديد ، وأن المرأة لو مشت فوق حية مخصوصة ألقت الجنين وغير ذلك من الخواص ، وهذا مما ينبو عنه العقل بمعنى أنه لا يقف على حقيقته ولا يستقل بالاطلاع عليه فلا ينبو عنه الحكم باستحالته ، وليس كل ما لا يدركه العقل محالا في نفسه بل لو لم نشاهد قط النار وإخراجها فأخبرنا مخبر وقال : إني أصك خشبة بخشبة وأستخرج من بينهما شيئا أحمر بمقدار عدسة فتأكل هذه البلدة وأهليها حتى لا يبقى منهم شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها ، ومن غير إن يزيد في حجمها بل تأكل نفسها فلا تبقى هي ولا البلد ، لكنا نقول : هذا الشيء ينبو عنه العقل ولا يقبله ، وهذه صورة النار والحس قد صدق ذلك ، وكذلك قد يشتمل الشرع على مثل هذه العجائب التي ليست مستحيلة ، وإنما هي مستبعدة وفرق بين البعيد والمحال ، فإن البعيد هو ما ليس بمألوف والمحال ما لا يتصور كونه ، وأما معنى قول الله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]. وقوله تعالى : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ١٢٥]. فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام يقال : ناظر فلان فلانا ويتوجه عليه سؤاله وقد يطلق ويراد به الاستخبار كما يسأل التلميذ أستاذه ، والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام وهو المعنى بقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ). إذ لا يقال له : لم قول إلزام فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم فليس كذلك وهو المراد بقوله : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى). وهذا القدر كاف في جواب هذه الأسئلة ، ومن ترقّ عن محل التقليد بأدنى كياسة ولم ينته إلى رتبة الاستقلال كان من الهالكين ، فنعوذ بالله من كياسة لا تنفع فإن الجهالة أدنى إلى الخلاص والنجاة منها ، شعر :

ولم أر في عيوب النّاس شيئا

كنقص القادرين على التمام

فصل

إذا عرفت أنك حادث ، وأن الحادث لا يستغني عن محدث فقد حصل لك البرهان على الإيمان بالله ، وما أقرب إلى العقل من هاتين المعرفتين. أعني أنك حادث وأن الحادث لا يحدث بنفسه ، وإذا عرفت نفسك وأنك جوهر خاصيتك معرفة الله ومعرفة ما ليس بمحسوس وليس البدن من قوام ذاتك ، فانهدام البدن لا يعدمك فقد عرفت اليوم الآخر بالبرهان فإنه لا معنى له إلا أن لك يومين يوم حاضر أنت فيه مشغول بهذا البدن ، ويوم آخر أنت فيه مفارق لهذا الجسد ، وإذا لم يكن قوامك بالجسد وقد فارقته بالموت فقد حصل اليوم الآخر ، وإذا عرفت أنك إذا فارقت المحسوسات بمفارقة الجسد تلقيت إما نعمة هي معرفة الله تعالى التي هي خاصية ذاتك ومنتهى لذاتك بمقتضى طبعك الأصلي لو لم تمرض بالميل إلى الشهوات ، وإما عذابا بالحجاب عن الله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤]. وعرفت أن سبب المعرفة الذكر والفكر

٣٤٤

والإعراض عن غير الله تعالى ، وسبب المرض المانع عن ذكر الله معرفته الإقبال على الشهوات والحرص على الدنيا ، وعرفت أن الله تعالى قادر على أن يعرف عموم عباده ذلك بواسطة الكشف لبعض خواص عباده ، وعرفت أنه قد فعل ذلك فقد عرفت رسله بالبرهان وآمنت ، وإذا عرفت أن هذه التعريفات بالأنبياء إنما تكون في كسوة ألفاظ وعبارات توحى إليهم وتلقى في سمعهم إما في يقظة أو في منام ، فقد آمنت بالكتب ، وإذا عرفت أن أفعال الله تعالى منقسمة إلى ما فعله بواسطة وإلى ما فعله بغير واسطة وأن وسائطه مختلفة المراتب فالوسائط القريبة هم المقربون وعنهم يعبر بالملائكة ، لكن معرفة هذا بطريق البرهان عسير والقول فيه طويل فصدق الرسل في أخبارهم عنهم بعد أن عرفت صدق الرسل بالبرهان ، واكتف بذلك فإنه درجة من درجات الإيمان (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١].

فصل

كل ما يتوالد فلا يستحيل أن يتولد أصلا ، وما يتولد لا يستحيل أن يتوالد فقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [الدهر : ٢]. إنما عنى به الإنسان التوالدي ، وقوله : (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥]. عنى به الإنسان التولدي ، وقد تتولد العقارب من الباذورج ولباب الخبز والحيات من العسل والنحل من العجل والمنخنق المنكسر عظامه والبق من الخل وسام أبرص من القرنبيط والخنافس من البعرة ومن نوى النبق العقرب الجراوة ومن الشعر الحيات ومن الطين والمدر الفأر ومن طين أصول القصب الدائم والرطوبة الطير ولا سيما طير الماء وأمثال ذلك. كما ذكر في كتب الطلسمات وغيرها ، ثم يتوالد هذا المتولد ويبقى نوعه بالتوالد وانطباق دائرة معدل النهار على فلك البروج مما يدل على خراب العالم السفلي وتغييره للفصول. أعني الربيع والصيف والخريف والشتاء فلا يبقى الحرث والنسل كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٣٦]. يعني على الأرض ، فخلق الله تعالى آدم من تراب ثم حصل منه التوالد ونظير ذلك مشاهد ، وكذا الصنائع والحرف تحصل من طريق الإلهام ثم تستفاد وتتعلم ، وتحصل النار من المقدحة والزند ثم تقتبس بعد حصولها : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٨]. الذي خلق عند انفراج الدائرتين معدل النهار وفلك البروج الذي يتزايد ، الميل الذي خلق بينهما آدم من تراب ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، فمن شك في كيفية بدء الخلق ووضع الصانع الحكيم في التوالد والتولد ، فلينظر إلى المحسوسات التي ذكرناها ، وأما النشأة الأخرى وكيفية عود النفوس والأرواح إلى أشباحها فمذكورة في بابها.

فصل في المبدعات

المبدعات والمخلوقات أحدثها الله تعالى بالترتيب ، فهو الأول الذي لا أول قبله ومنه تحصل المبدعات بل الممكنات بأسرها ، ثم ينزل الترتيب من الأشرف فالأشرف حتى ينتهي إلى المادة

٣٤٥

التي هي أخس الأشياء ، ثم ابتدأ تعالى من الأخس عائدا إلى الأشرف حتى انتهى إلى الإنسان ويعود الإنسان عند زكاء نفسه إلى حيث قال : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٨]. ولذلك قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣]. أما الظاهر فمركوز في غرائز العقول أن للكل مبدأ وأن للحادث محدثا وللممكن موجودا واجبا ، أما الباطن فلأن وصفه الخاص لا يعرفه إلا هو وربما كان باطنا لغاية ظهوره ، كما أن الشمس التي هي في غاية البعد عن هذا المثال ظاهر وباهر وبسبب غاية ظهورها لا تدركها الحاسة المبصرة محاذاة ومقابلة.

والميزان : ما يعرف به حقائق الأشياء ويميز به صحيح العقيدة من الفاسد وهو الواسطة بين السماء والأرض حيث قال : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ* وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن : ٧. ١٠]. وذلك الميزان سر من أسرار الربوبية لا يعرفه إلا الراسخون في العلم ، والله أعلم.

الركن الثاني في معرفة الملائكة

الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافا يكون بين الأنواع.

مثال ذلك : القدرة فإنها مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفا اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائمة بغيرها ، فكذلك بين الملك والشيطان والجن اختلاف ومع ذلك ، فكل واحد جوهر قائم بنفسه وقد وقع الاختلاف بين الجن والملك فلا يدري أهو اختلاف بين النوعين كالاختلاف بين الفرس والإنسان ، أو الاختلاف في الأعراض كالاختلاف بين الإنسان الناقص والكامل ، وكذا الاختلاف بين الملك والشيطان ، وهو أن يكون النوع واحدا والاختلاف واقعا في العوارض ، كالاختلاف بين الخير والشرير ، والاختلاف بين النبي والولي ، والظاهر أن اختلافهم بالنوع والعلم عند الله تعالى ، وهذه الجواهر المذكورة لا تنقسم ، أعني أن محل العلم بالله تعالى واحد لا ينقسم ، فإن العلم الواحد لا يحل إلا في محل واحد وحقيقة الإنسان كذلك ، فالعلم والجهل بشيء واحد في محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين ، وإما أن هذا الجوهر غير منقسم وهل هو متحيز أم لا؟ فهذا الكلام عائد إلى معرفة الجزء الذي لا يتجزأ ، فإن استحال الجزء الذي لا يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ولا متحيز ، وإن لم يستحل الجزء الذي لا يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيزا وقد قال قوم : لا يجوز أن يكون غير منقسم ولا متحيز ، فإن الله تعالى غير منقسم ولا متحيز فما الذي يفصل هذا من ذلك ، وهذا غير مبرهن عليه لأنه ربما تباينا في حقيقة الذات ، وإن سلب عنهما الانقسام والتحيز والأمور المكانية وتلك سلوب والاعتبار بالحقائق لأن ما سلب عن الحقائق كالعرضين المختلفين بالحد والحقيقة أن الحالين في محل واحد ، فإن إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل لا يفيد تماثلهما ، فكذلك سلب الاحتياج إلى المحل والمكان لا يفيد

٣٤٦

اشتراك الشيئين ، ويمكن إن تشاهد هذه الجواهر. أعني جواهر الملائكة وإن كانت غير محسوسة ، وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل التمثل كقوله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم: ١٧]. وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرى جبريل في صورة دحية الكلبي. القسم الثاني أن يكون لبعض الملائكة بدن محسوس ، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها ، فكذلك بعض الملائكة ، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفا على إشراق نور النبوة كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوف عند الإدراك على إشراق نور الشمس ، وكذا في الجن والشياطين.

فصل في وقوع مزاج قريب من مزاج آخر

وقوع مزاج من مزاج غير مستحيل ، فنسبة نفس مزاج واحد هو قريب إلى مزاج آخر إلى نفس ذلك المزاج نسبة مقارنة ، فإن كان لإنسان مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات صاحب ذلك المزاج وحدث بعده مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات صاحب ذلك المزاج وحدث بعده مزاج آخر قريب منه ، وذلك عند الأدوار والتشكلات الفلكية مثال ذلك حدث مزاج وتشكل الفلك على هيئة مخصوصة ، ثم عادت تلك التشكلات بأسرها عودا يمكن لها وإن لم يكن بالنسبة المخصوصة ، إلى مبدأ واحد ، فحدث مزاج آخر استحق المزاج الحادث نفسا أخرى لتلك النفس مع النفس المفارقة التي كانت للمزاج المناسب له مناسبة لها ، فلا تتعلق النفس المفارقة بهذا المزاج تعلقا كليا لاستحالة تصرف النفسين في بدن واحد ، فتتعلق بذلك المزاج تعلقا دون تعلق تلك النفس الحادثة معه ، فتزداد خيرا إن كانت خيرة وشرا إن كانت شريرة ، ولذلك يقال لكل إنسان جني يشاكله ويعاونه أو شيطان يغويه ويضله ، وإن حدث مزاجان في زمان واحد في بدنين أو في مكانين وحدثت لهما نفسان كانتا تربين ففي الأبدان تربان وفي النفوس تربان ، وكل من تكون مناسبة الأرواح المفارقة إلى روحه أكثر حدث به من تلك الاتصالات أنواع من الأخلاق ، فيكون عرافا كاهنا أو صاحب تنجيم أو غير ذلك ، وربما كانت القوة الوهمية بعد المفارقة بحيث يصير لها العالم المحسوس بدنا ولا تتعداه إلى العالم الأعلى ، فتطالع الأسباب الجزئية في هذا العالم فتستفيد النفس البدنية المتصلة بها معرفة ما والشرير منها في غاية الشر ، لأنها خرجت عن المادة ، فالشرير شيطان والخير من الطبقة الناقصة جن والجن والشياطين علائق يتمسك بها البشر وأفعال روحانية هي مولدات لأفعال طبيعية ، والخلاص عن المادة دليل كمال القوة سواء كانت تلك القوة قوة رداءة أو قوة خير ، وأما القاعدة عن اليمين والشمال فقالوا فيهما ما قالوا ، والحق أن هذا سر إنما يعرفه الأنبياء والمرسلون عليهم‌السلام ، وملائكة السماوات المدبرون المتصرفون في أجرام السماوات لا يعلم أعداد تلك الأجرام إلا الله تعالى ، كما قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: ٣١]. وملك الموت هو الملك الذي يأمره الله تعالى بقبض الأرواح متضمنا تفريق المزاج الذي استحق قبول تلك النفس مثاله مثال مطفئ السراج بالنفخ، والنفخ

٣٤٧

نفخان : نفخ يوقد كما قال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١]. ونفخ يطفئ كما قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨]. وقال تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨].

الركن الثالث في المعجزات وأحوال الأنبياء عليهم‌السلام

تسبيح الحصى ، وقلب العصا حية تسعى ، وكلام البهائم وكلام الشاة التي قالت للنبي عليه الصلاة والسلام حين سمتها اليهودية لا تأكل مني فإني مسمومة ، وأمثال ذلك على ثلاثة أقسام : القسم الأول الحسي ، والثاني الخيالي والثالث العقلي.

القسم الأول : الحسي ، وهو أن يخلق الله العلم والحياة والقدرة في الحصى حتى يتكلم. وفي البهيمة العقل والقدرة والنطق وذلك ليس بمحال فإن الله تعالى قادر على أن يخلق في الباذروج حياة وقدرة وسما ، ويخلق منه عقربا ، ويخلق من نوى النبق كذلك. ويخلق من لحوم البقر ، النحل ، ومن النطفة الإنسان وسائر الحيوانات من موادها ، فهو قادر على أن يخلق بإعجاز نفس نبوية في الحصاة حياة وقدرة ، ومن شاهد خلق الحية النضناضة من شعر امرأة ويحس ولا يتعجب من قلب الشعر حية ، فكيف يتعجب من قلب العصا حية ، والخشب كان ذا نفس نامية نباتية ، والشعر لم يكن قط ذا نفس ، والأجسام متماثلة فكما جاز ذلك في أجسام الناس جاز ذلك في سائر الأجسام ، وإن كان الجسم الإنساني بسبب اعتدال المزاج قابلا لهذه الأشياء ، فكل جسم مستعد لقبول المزاج المعتدل. وإن كان الاعتدال موقوفا على الحرارة والرطوبة ، فليس يمتنع أن يكون كل جسم قابلا للحرارة والرطوبة ويكون دعاء النبي وهمته يؤثران في كينونة هذه الأشياء من غير مهلة ومدة ، وإن جرت العادة أن يخلق الله تعالى مثل هذه الأشياء في مدة وبذلك يظهر شرف الأنبياء وخرق العادة ليس بمحال مثال ذلك : الشمس والنار ، فإن ما يحصل من تأثير الشمس في المائعات وغيرها إنما يحصل بمدة على سبيل التدريج ، وما يحصل من إسخان النار يكون دفعة فلم استحال أن يكون تأثير مراد الأنبياء على وجه تكون نسبة إسخان النار إلى إسخان الشمس.

القسم الثاني : العقلي ، وهو قول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤]. وهو شهادة كل مخلوق ومحدث على خالقه وموجوده كشهادة البناء على الباني والكتابة على الكاتب ، ويقال لذلك لسان الحال والمتكلمون يقولون هذه دلالة الدليل على المدلول ، والحمقى من الناس لا يعرفون هذه الرتبة ولا يقرون بها.

القسم الثالث : الخيالي ، أن لسان الحال يصير مشاهدا محسوسا على سبيل التمثيل. وهذه خاصية الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، كما أن لسان الحال يتمثل في المنام لغير الأنبياء ويسمعون صوتا وكلاما كما يرى في منامه ، أن جملا يكلمه أو فرسا يخاطبه أو ميتا يعطيه شيئا أو يأخذ بيده أو يسلب منه شيئا أو تصير إصبعه شمسا أو قمرا أو يصير ظفره أسدا أو غير ذلك مما يراه النائم في

٣٤٨

منامه ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرون ذلك في اليقظة وتخاطبهم هذه الأشياء في اليقظة ، فإن المتيقظ لا يميز بين أن يكون ذلك نطقا خياليا أو نطقا حسيا من خارج ، والنائم إنما يعرف ذلك بسبب انتباهه والتفرقة بين النوم واليقظة ، ومن كانت له ولاية تامة تفيض تلك الولاية أشعتها على خيالات الحاضرين حتى أنهم يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه ، والتمثل الخيالي أشهر هذه الأقسام والإيمان بهذه الأقسام كلها وأجمعها واجب.

فصل في الشفاعة

وأما شفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء ، فالشفاعة عبارة عن نور يشرق من الحضرة الإلهية على جوهر النبوة ينشر منها إلى كل جوهر استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن وكثرة الذكر بالصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثاله نور الشمس إذا وقع على الماء فإنه ينعكس منه إلى موضع مخصوص من الحائط لا إلى جميع المواضع ، وإنما اختص ذلك الموضع لمناسبة بينه وبين الماء في الموضع وتلك المناسبة مسلوبة على سائر أجزاء الحائط ، وذلك الموضع هو الذي إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية إلى الأرض مساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من الماء إلى قرص الشمس بحيث لا يكون أوسع منه ولا أضيق. مثال ذلك لائح وهذا لا يمكن إلا في موضع مخصوص من الجدار ، فكما إن المناسبات الوضعية تقتضي الاختصاص بانعكاس النور فالمناسبات المعنوية العقلية أيضا تقتضي ذلك في الجواهر المعنوية ، ومن استوى عليه التوحيد فقد تأكدت مناسبته مع الحضرة الإلهية فأشرق عليه النور من غير واسطة ، ومن استولت عليه السنن والاقتداء بالرسول ومحبة أتباعه ولم ترسخ قدمه في ملاحظة الوحدانية لم تستحكم مناسبته إلا مع الواسطة ، فافتقر إلى واسطة الماء المكشوف للشمس إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة في الدنيا ، فالوزير الممكن في قلب الملك المخصوص بالعناية قد يغضي الملك عن هفوات أصحاب الوزير يعفو عنهم لا لمناسبة بين الملك وأصحاب الوزير ، لكن لأنهم يناسبون الوزير المناسب للملك ، ففاضت العناية عليهم بواسطة الوزير لا بأنفسهم ، ولو ارتفعت الواسطة لم تشملهم العناية أصلا ، لأن الملك لا يعرف أصحاب الوزير واختصاصهم به إلا بتعريف الوزير وإظهار الرغبة في العفو عنهم فيسمى لفظه في التعريف وإظهاره الرغبة في العفو عنهم فيسمى لفظه في العريف إظهار شفاعة على سبيل المجاز ، وإنما الشفيع مكانته عند الملك وإنما اللفظ لإظهار الغرض والله مستغن عن التعريف ، ولو عرف الملك حقيقة اختصاصه بالوزير لاستغنى عن اللفظ وحصل العفو بشفاعة لا نطق فيها ولا كلام ، والله تعالى عالم به ، فلو أذن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام في التلفظ بما هو معلوم عند الله تعالى لكانت ألفاظهم ألفاظ الشفعاء ، وإذا أراد الله تعالى أن يمثل حقيقة الشفاعة بمثال يدخل في الحس والخيال لم يكن ذلك التمثيل إلا بألفاظ مألوفة بالشفاعة ويدل على ذلك انعكاس النور بطريق المناسبة ، وإن جميع ما ورد في الأخبار عن استحقاق الشفاعة

٣٤٩

متعلق بما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام من صلاة عليه أو زيارة لقبره أو جواب المؤذن والدعاء له عقيبه وغير ذلك مما يحكم علاقة المودة والمحبة والمناسبة معه.

الركن الرابع في أحوال ما بعد الموت

فصل في عذاب القبر

في عذاب القبر ، النفس إذا فرقت البدن حملت القوة الوهمية معها كما ذكرناها ، وتتجرد عن البدن منزهة ليس يصحبها شيء من الهيئات البدنية ، وهي عند الموت عالمة بمفارقتها عن البدن وعن دار الدنيا متوهمة نفسها الإنسان المقبور الذي مات ، وعلى صورته كما كان في الدنيا يتخيل ويتوهم وتتخيل بدنها مقبورا ويتخيل الآلام الواصلة إليها على سبيل العقوبات الحية على ما وردت به الشرائع الصادقة ، فهذا عذاب القبر ، وإن كانت سعيدة تتخيله على صورة ملائمة على وفق ما كانت تعتقده من الجنات والأنهار والحدائق والغلمان والولدان والحور العين والكأس من المعين ، فهذا ثواب القبر فلذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : " القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران". فالقبر الحقيقي هذه الهيئات ، وعذاب القبر وثوابه ما ذكرناهما ، والنشأة الأخرى خروج النفس عن غبار هذه الهيئات كما يخرج الجنين من القرار المكين ، كما قال تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٩]. وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [يس : ٨٠]. دليل ظاهر ومثال بيّن لهذه النشأة.

فصل

قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من مات فقد قامت قيامته" ، الفاء هنا للتعقيب يعني قامت قيامة الميت عند موته. مثال ذلك : من سرق نصابا كاملا من حرز ، فقد استحق قطع يده ، وهذا عقاب لا يتأخر عن هذا الفعل. وقال تعالى أيضا : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [الأنفال : ١٦]. والقيامة الكبرى ميعاد عند الله تعالى لا يجليها لوقتها إلا هو ، وعلمها عند الله ، والأوقات والأزمنة وإن كان فيها تشابه فلكل واحد منها خواص ببعض أنواع الوجود يعتبر ذلك في أوقات الحرث والنسل وغيرهما ، وعند المتكلمين يرجع ذلك إلى مشيئة الله تعالى ، فإنه تعالى يخصص وقتا يوجد فيه موجودا بإرادته ومشيئته مع أن الأوقات متشابهة بالإضافة إلى القدرة وإلى ذات القديم سبحانه وتعالى ، والفلاسفة يقولون : إن مبادئ الحوادث حركات الأفلاك ، وإن أدوارها مختلفة ، وكل شكل من تشكلات مباين غيره من التشكلات مقرر ذلك في براهين أقليدس ، إذ كل تشكل وكل عودة كل من تلك التشكلات لا تعود بعينها ، وبذلك يبطلون دعوى المنجمين في التجربة لكل عودة وتشكل من تشكلات الفلك ، فيجوز أن يتجدد دور مباين لسائر الأدوار تحدث فيه الحيوانات غريبة الشكل لم ير مثلها قبلها قط ، وإذا ألقينا حجرا في الماء يحدث فيه شكل مستدير تكون استدارة هذا الشكل مناسبة لعمقه

٣٥٠

وكلما ازداد عمقه ازدادت تلك الدائرة ، فإذا ألقينا حجرا آخر قبل تمام هذه الدائرة لم يلزم أن تكون حركة الماء في النوبة الثانية كحركته في النوبة الأولى ، لأن الماء في الأولى ساكن وفي الأخرى متحرك ، فإن تشكيل الحجر للمتحرك خلاف تشكيله للساكن ، فتخلف الأشكال مع تساوي الأسباب لامتزاج أثر السابق باللاحق. وهب أن تشكلا للمتحرك وافق شكلا آخر فكيف يكون مقومات الثوابت والاوجات وسائر الجواهر على مثل ما كان عليه في التشكل الأول ، فلا يستحيل أن يكون في التقدير الأزلي للأدوار دور يخالف هذه الأدوار يقتضي نمطا من نظام الوجود والإبداع على خلاف النمط المعهود ، ولا يستحيل أن يكون ذلك النمط بديعا لم يسبق له نظير ، ولا أن يكون حكمه باقيا لا يلحقه مثل الدور السابق المنسوخ. فيبقى النمط الحاصل من الإبداع مستمرا في جنسه ، وإن كانت تتبدل أحواله فيكون ميعاد ميعاد القيامة الكبرى حصول ذلك التشكل الغريب من الأسباب العالمية ، فيكون سببا كليا جامعا لجميع الأرواح ، فيعم حكمها كافة الأرواح فتكون قيامة عامة مخصوصة بوقت لا تتسع القوة البشرية لمعرفتها. أعني لمعرفة وقتها ولا الأنبياء المرسلون عليهم الصلاة والسلام ، فإن الأنبياء أيضا يكشف لهم ما يكشف بقدر احتمالهم وقبولهم ، فإذا لم يقم برهان كلامي ولا فلسفي على استحالته وجب التصديق به إذا ورد الشرع به تشريحا لا يتطرق إليه الاحتمال والتأويل ، وقد صرح الشرع به تصريحا ضروريا يجب الأيمان به ولا يمكن تأويله ، وكما جاز أن يحدث دور بشكل يحدث بسببه أنواع من الحيوانات لم يعهد مثلها ، فكذلك يجب أن يحدث زمان يحشر فيه الموتى وتجمع أجزاؤهم وتعود إلى أشباحهم أرواحهم ، فكما أن الجاهل يتأمل فصل الشتاء ويتعجب إن يحصل فيه نبات وثمال إذا ورد فصل الربيع عاين ذلك وبين زماني الفصلين بعد في هذه الدار ، فكذلك بين زمان النشأة الأولى التي تحصل للإنسان بالتناسل ، وزمان النشأة الأخرى التي تحصل للإنسان بالإحياء والإعادة بعيد لا يقاس أحدهما على الثاني.

فصل في إعادة النفس إلى البدن

عود النفس إلى البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة أمر ممكن غير مستحيل ، ولا ينبغي أن يتعجب منه ، بل التعجب من تعلق النفس بالبدن في أول الأمر أظهر من تعجب عودها إليه بعد المفارقة ، وتأثير النفس في البدن تأثير فعل وتسخير. ولا برهان على استحالة عود هذا وصيرورة هذا البدن مستعدا مرة أخرى لقبول تأثيره وتسخيره. بقي هاهنا تعجب من ضعفاء العقول ، وهو أن ذلك الاستعداد الإنساني يحصل قليلا قليلا بالتدريج من نطفة في قرار مكين ثم من علقة إلى تمام الخلقة ، وإذا لم يكن كذلك لا يقبل استعداد قبول التسخير ودفع هذا التعجب. إنا قد بينا أن ما هو ممكن بالتدريج إنما هو التوالد ، وأما التولد فلا يكون بالتدرج بل حدوثه ممكن دفعة واحدة. ألا ترى أن الفأر الذي يتوالد يكون بالتدريج وباجتماع الذكر والأنثى وبعد حمل وسفاد ، وأن التولدي منه يكون دفعة فإنه لم يوجد قط مدر ولا تراب بعضه

٣٥١

فأر وبعضه بالقوة قريب إلى حجم الفأر ، وكذلك الذباب الذي يتولد في الصيف من العفونات يكون دفعة ولم توجد عفونة تغيرت عن حالها وصارت بالقوة قريبة إلى أن تستحيل ذبابا من غير مهلة وتدريج ، والنشأة الثانية تولديه من تلك الأجزاء التي كانت في الأصل وإن تفرقت وانخلعت صورها فيرد الله تعالى واهب الصور تلك الصور إلى موادها ويحصل المزاج الخاص مرة أخرى ، ولها نفس حدثت عند حدوث ذلك المزاج ابتداء فتعود بالتسخير والتصرف إليها مع العلاقة التي بينهما ، مثال ذلك راكب سفينة قد غرقت وتفرقت أجزاؤها ، وانتقل الراكب بالسباحة إلى جزيرة ، ثم ترد تلك الأجزاء بعينها إلى الهيئة الأولى وتوطد وتؤكد عاد إليها راكب السفينة وأجراها وتصرف فيها كما شاء ، ولا يجب إن يستحق هذا الحشر وجميع الأجزاء والمزاج المجدد نفسا أخرى ، فإن حدوث المزاج يستحق حدوث نفس له ، أما أعود المزاج إلى الحالة الأولى فلا يستحق إلا عود النفس إلى الحالة الأولى ، وأما ظن من ظن أن الأجزاء الأرضية لا تفي بذلك فظن ووهم لا اعتبار بهما ، فمن قاس الإنسان والأجزاء الأرضية التي فيها بأجزاء الأرض ، وأي مهندس استخرج بالمساحة ذلك الحد ، وأما الاختلاف الراجع إلى ذلك في الكتب الإلهية في التوراة : إن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة ، وإن أهل النار كذا أو أزيد ثم يصيرون شياطين ، وفي الإنجيل أن الناس يحشرون ملائكة لا يطعمون ولا ينامون ولا يشربون ولا يتوالدون ، وفي القرآن أن الناس يحشرون كما خلقهم الله تعالى أول مرة كما قال تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأسراء : ٥١]. وسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠]. وقول عزيز صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية منه : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [البقرة : ٢٥٩]. ومكث أصحاب الكهف وهو قوله تعالى: (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ) إلى قوله : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ). [الكهف : ١٩ و ٢١]. دلائل على أن هذه النشأة كائنة ممكنة يجب الإيمان بها ، وكان في قديم الدهر فيها اختلاف الناس والأنبياء عليهم‌السلام يثبتون تلك بالبراهين والأمثلة المحسوسة ، والتعجب من النشأة الأولى أكثر من الأخرى إلا أن النشأة الأولى محسوسة مشاهدة معتادة فسقط التعجب ، فإنا لو سمعنا أن إنسانا حرك نفسه فوق امرأة كما يحرك الممخض وخرج من أجزائه شيء مثل زبد سيال فيخفي ذلك الشيء في بعض أعضاء المرأة ويبقى مدة على هذه الحالة ثم يصير علقة ، ثم العلقة تصير مضغة ، ثم المضغة تصير عظاما ، ثم تكسى العظام لحما ، ثم يحصل فيه الحركة ، ثم يخرج من موضع لم يعهد خروج شيء منه على حالة لا يهلك أمه ولا يشق عليها في ولادته ، ثم يفتح عينيه ويحصل في ثدي الأم شيء مثل شراب مائع لم يكن قبل ذلك فيها ويغتذي به الطفل إلى أن يصير هذا الطفل بالتدريج صاحب صناعات واستنباطات ، بل ربما هذا الشيء الذي أصله نطفة وهو عند الولادة أضعف خلق الله يصير عن قريب ملكا جبارا قهارا يملك أكثر العالم ويتصرف

٣٥٢

فيه ، فإن التعجب من ذلك أكثر وأوفر من التعجب من النشأة الأخرى ، والأصل أن كل شيء لم يشاهده الإنسان ولم يعرف سببه يحصل له منه التعجب ، والتعجب هيئة تحصل للإنسان عند مشاهدة شيء لم يشاهده قبل ذلك أو سماع شيء لم يعرف سببه ولم يسمعه قبل ذلك.

فصل

تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور ، وبالموت ينكشف الغطاء كما قال الله تعالى: (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ص : ٢٢]. ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده وهي مقادير تلك الآثار ، وأن بعضها أشد تأثيرا من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى إن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد ، فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ومثاله في العالم المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والاسطرلاب لحركات الفلك ، والأوقات والمسطرة للمقادير ، والخطوط والعروض لمقادير حركات الأصوات ، فالميزان الحقيقي وإذا مثله الله عزوجل للحواس مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها ، فحقيقة الميزان وحده موجودة في جميع ذلك وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم مما يقدره من صنوف التشكيلات والتصديق بجميع ذلك واجب.

فصل في الحساب

والحساب جمع متفرقات المقادير وتصريف مبلغها وما من إنسان إلا وله أعمال متفرقة نافعة وضارة ومقربة ومبعدة لا تعرف فذلكتها وقد لا تحصر آحاد متفرقاتها ، فإذا حصرت المتفرقات وجمع مبلغها كان حسابا ، فإن كان في قدرة الله تعالى أن يكشف في لحظة واحدة للعالمين متفرقات أعمالهم ومبلغ آثارها فهو أسرع الحاسبين ، ومعلوم أن في قدرته ذلك فإذن هو أسرع الحاسبين قطعا. وسئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : كيف يحاسب الله الخلق في لحظة من غير تشويش ولا غلط؟ فقال رضي الله عنه : كما يرزقهم مع سائر الحيوانات بلا تشويش ولا غلط.

فصل في الصراط

الصراط حق. وما قيل إنه مثل الشعرة في الدقة ، فهو ظلم في وصفه ، بل أدق من الشعر ، بل لا مناسبة بين دقته ودقة الشعر ، وحدته وحدة السيف ، كما لا مناسبة في الدقة بين الخط الهندسي الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من الظل ولا من الشمس ، وبين دقة الشعر ودقة الصراط مثل دقة الخط الهندسي الذي لا عرض له أصلا لأنه على مثال الصراط المستقيم ، والصراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقي بين الأخلاق المتضادة ، لذلك قد بيّن الله بهذا الدعاء في سورة الفاتحة حيث قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]. وقال في حق المصطفى صلوات الله عليه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]. وقال

٣٥٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق". وقال تعالى شأنه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤]. مثال ذلك السخاوة بين التبذير والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، والاقتصاد بين الإسراف والإقتار ، والتواضع بين التكبر والدناءة ، والعفة بين الشهوة والخمود ، فهذه الأخلاق لها طرف إفراط وطرف تقصير وهما مذمومان والوسط ليس من الإفراط ولا من التقصير فهو على غاية البعد من كل طرف ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " خير الأمور أوساطها" مثال ذلك الوسط الخط الهندسي الفاصل بين الظل والشمس لا من الظل ولا من الشمس ، والتحقيق في ذلك أن كمال الآدمي في المشابهة بالملائكة وهم منفكون عن هذه الأوصاف المضادة ، وليس في إمكان الإنسان الانفكاك عنها بالكلية ، فكلفه الله تعالى بما يشبه الانفكاك ، وإن لم يكن حقيقة الانفكاك وهو الوسط فإن الفاتر لا حار ولا بارد ، والعودي لا أبيض ولا أسود ، فالبخل والتبذير من صفات الإنسان ، والمقتصد السخي كأنه لا بخيل ولا مبذر ، فالصراط المستقيم وهو الوسط الحق بين الطرفين الذي لا ميل له إلى أحد الجانبين وهو أدق من الشعر ، فالذي يطلب غاية البعد من الطرفين يكون على الوسط ، ولو فرضنا حلقة حديد محماة بالنار وقعت نملة فيها وهي تهرب بطبعها من الحرارة فلا تموت إلا على المركز لأنه الوسط الذي هو غاية البعد من المحيط المحرق ، وتلك النقطة لا عرض لها ، فإذا الصراط المستقيم هو الوسط بين الطرفين ولا عرض له. فهو أدق من الشعر ، ولذلك خرج عن القدرة البشرية والوقوف عليه فلا جرم بورود أمثالنا النار بقدر ميله عنه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) [مريم : ٧١]. وقال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) [النساء : ١٢٩]. فإن العدل بين المرأتين في المحبة والوقوف على درجة متوسطة لا ميل فيه إلى إحداهما كيف يدخل تحت الإمكان؟ فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم الذي يحكي الله تعالى حقيقته عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣]. مرّ على صراط الآخرة مستويا من غير ميل لأنه في هذا العالم عود نفسه التحفظ عن الميل ، فصار ذلك وصفا طبيعيا له فإن العادة طبيعية خامسة. هذا حق قطعا كما ورد به الشرح وجاء في الحديث : " يمرّ المؤمن على الصّراط كالبرق الخاطف".

فصل في الجنان

اللذات المحسوسة الموجودة في الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق بها لإمكانها ، وهي كما تقدم حسي وخيالي وعقلي.

أما الحسي ، فبعد رد الروح إلى البدن كما ذكرنا ، وأما الكلام في أن بعض هذه اللذات مما لا يرغب فيها مثل اللبن والإستبرق والطلح المنضود والسدر المخضود ، فهذا مما خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة ، وفي كل صنف وكل إقليم مطاعم ومشارب وملابس تختص بقوم دون قوم ، ولكل واحد في الجنة ما يشتهيه كما قال تعالى :

٣٥٤

(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) [فصلت : ٣١]. وربما يعظم الله تعالى في الآخرة شهوة لا تكون تلك الشهوة معظمة في دار الدنيا ، كالنظر إلى ذات الله تعالى ، فإن الشهوة والرغبة الصادقة فيها في الآخرة دون الدنيا.

وأما الخيالي ، فلا يخفى إمكانه ولذته كما في النوم إلا أنه مستحقر لانقطاعه عن قريب ، فلو كانت دائمة لم يدرك فرق بين الخيالي والحسي لأن التذاذ الإنسان بالصور من حيث انطباعها في الخيال والحس لا من حيث وجودها من خارج ، فلو وجد من خارج ولم يوجد في حسه بالانطباع فلا لذة ، ولو بقي المنطبع في الحس وعدم الخارج لدامت اللذة وللقوة المتخيلة قدرة على اختراع الصور في هذا العالم ، إلا أن صورها المخترعة متخيلة وليست محسوسة ولا منطبعة في القوة والباصرة ، فلذلك لو اخترع صورة جميلة في غاية الجمال وتوهم حضورها ومشاهدتها لم تعظم لذاته لأنه ليس يصير مبصرا كما في النوم ، فلو كانت له قوة على تصويرها في القوة الباصرة كما له قوة على تصويرها في القوة المتخيلة لعظمت لذته ونزلت منزلة الصور الموجودة من خارج ، ولا تفارق الآخرة الدنيا في هذا المعنى إلا من حيث كمال القدرة على تصوير الصورة في القوة الباصرة ، وكل ما يشتهيه يحضر عنده في الحال فتكون شهوته بسبب تخليه وتخليه بسبب إبصاره أي بسبب انطباعه في القوة الباصرة فلا يخطر بباله شيء يميل إليه إلا ويوجد في الحال أي يوجد بحيث يراه ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : " إن في الجنة سوقا تباع فيه الصور" ، والسوق عبارة عن اللطف الإلهي الذي هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب المشيئة ، وانطباع القوة الباصرة بها انطباعا ثابتا إلى دوام المشيئة لا انطباعا هو معرض للزوال من غير اختيار كما في النور في هذا العالم ، وهذه القدرة أوسع وأكمل من القدرة على الإيجاد خارج الحس ، لأن الموجود من خارج مشغوفا به محجوبا عن غيره ، وأما هذا فيتسع اتساعا لا ضيق فيه ولا منع حتى إذا اشتهى مشاهدة الشيء مثلا ألف شخص في ألف مكان في حالة واحدة ، لشاهدوه كما خطر ببالهم في أماكنهم المختلفة ، وأما الإبصار الحاصل عن شخص الشيء الموجود من خارج الحس لا يكون إلا في مكان واحد ، وحمل أمر الآخر على ما هو أوسع وأتم للشهوات وأوفق بها أولى ولا نقص في قدرة الإيجاد.

وأما الوجه الثالث : وهو الوجود العقلي ، فأن تكون هذه المحسوسات أمثلة للذات العقلية التي ليست بمحسوسة ، لكن العقليات تنقسم إلى أنواع كثيرة مختلفة اللذات كالحسيات ، فتكون الحسيات أمثلة لها وكل واحد يكون مثالا للذة أخرى مما رتبته في العقليات توازي رتبة المثال في الحسيات فإنه لو رأى في المنام الخضرة والماء الجاري والوجه الحسن والأنهار المطردة باللبن والعسل والخمرة ، والأشجار المزينة بالجواهر واليواقيت واللآلي ، والقصور المبنية من الذهب والفضة ، والسرر المرصعة بالجواهر ، والغلمان الماثلين بين يديه للخدمة ، لكان المعبر يفسر ذلك بالسرور ولا يحمله على نوع واحد ، بل يحمل كل واحد على نوع آخر

٣٥٥

من أنواع السرور وقرة العين يرجع بعضه إلى سرور العلم وكشف المعلومات ، وبعضه إلى سرور الملكة ونفاذ الأمر ، وبعضه إلى سرور العلم وكشف المعلومات ، وبعضه إلى سرور الملكة ونفاذ الأمر ، وبعضه إلى قهر الأعداء ، وبعضه إلى مشاهدة الأصدقاء ، وإن شمل الجميع اسم اللذة والسرور فهي مختلفة المراتب مختلفة الذوق لكل واحدة مذاق يفارق الآخر ، فكذلك اللذات العقلية ينبغي أن تفهم كذلك ، وإن كان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فجميع هذه الأقسام ممكنة فيجوز أن يجمع بين الكل لواحد ، ويجوز أن يكون نصيب كل واحد بقدر استعداده. فالمشغوف بالتقليد والجمود على الصور الذي لم تنفتح له طرف الحقائق تمثل له هذه الصور واللذات ، والعارفون المستصغرون لعالم الصور واللذات المحسوسة يفتح لهم من لطائف السرور واللذات العقلية ما يليق بهم ويشفي شرهم وشهوتهم إذ حد الجنة أن فيها لكل امرئ ما يشتهيه ، وإذا اختلفت الشهوات لم يبعد أن تختلف العقليات واللذات ، والقدرة واسعة والقوة البشرية عن الإحاطة بعجائب القدرة قاصرة والرحمة الإلهية ألقت بواسطة النبوة إلى كافة الخلق القدر الذين احتملته أفهامهم ، فيجب التصديق بما فهموه والإقرار بما وراء منتهى الفهم في أمور تليق بالكرم الإلهي ولا تدرك بالفهم البشري وإنما يدرك ذلك في معقد صدق عند مليك مقتدر.

فصل

أما التقرب لمشاهدة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام ، فإن المقصود منه الزيارة والاستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أزواج الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام ، والعبارة عن هذا الإمداد الشفاعة ، وهذا يحصل من جهتين : الاستمداد من هذا الجانب والإمداد من الجانب الآخر ، ولزيارة المشاهد أثر عظيم في هذين الركنين. أما الاستمداد فهو بانصراف همة صاحب الحاجة باستيلاء ذكر الشفيع والمزور على الخاطر حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك ، ويقبل بكليته على ذكره وخطوره بباله وهذه الحالة سبب منه لروح ذلك الشفيع ، أو المزور حتى تمده تلك الروح الطيبة بما يستمد منه ، ومن أقبل في الدنيا بهمته وكليته على إنسان في دار الدنيا ، فإن ذلك الإنسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه ويخبره بذلك ، فمن لم يكن في هذا العالم فهو أولى بالتنبيه وهو مهيأ لذلك التنبيه ، فإن اطلاع من هو خارج عن أحوال العالم إلى بعض أحوال العالم ممكن ، كما يطلع في المنام على أحوال من هو في الآخرة أهو مثاب أو معاقب ، فإن النوم صنو الموت وأخوه ، فبسبب النوم صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم نكن مستعدين في حالة اليقظة لها ، فكذلك من وصل إلى الدار الآخرة ومات موتا حقيقيا كان بالاطلاع على هذا العالم أولى وأحرى ، فأما كلية أحوال هذا العالم في جميع الأوقات لم تكن مندرجة في سلك معرفتهم ، كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة في معرفتنا في منامنا عند الرؤيا ولآحاد المعارف معينات ومخصصات منها

٣٥٦

همة صاحب الحاجة وهي استيلاء صاحب تلك الروح العزيزة على صاحب الحاجة ، وكما تؤثر مشاهدة صور صورة الحي في حضور ذكره وخطورة نفسه بالبال ، فكذلك تؤثر مشاهدة ذلك الميت ومشاهدة تربته التي هي حجاب قالبه ، فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهده ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده ، ومن ظن أنه قادر على أن يحضر في نفس ذلك الميت عنده غيبة مشهدة كما يحضر عند مشاهدة مشهده ، فذلك ظن خطأ ، فإن للمشاهدة أثرا بيّنا ليس للغيبة مثله ، ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الاستعانة أيضا جزافا ولا تخلو من أثر ما كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : " من صلّى علي مرّة صلّيت عليه عشرا"." ومن أجاب المؤذّن حلّت له شفاعتي"." ومن زار قبري حلّت له شفاعتي". فالتقرب بقالبه الذي هو أخص الخواص له وسيلة تامة متقاضية للشفاعة والتقرب بولده الذي هو بضعة منه ، ولو بعد توالد وتناسل ، والتقرب بولده الذي هو بضعة منه ، ولو بعد توالد وتناسل ، والتقرب بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه وبعله وعضادته والتقرب بعادته وسيرته والتقرب بكل ما له منها مناسبة إليه تقرب موجب للقرب إليه مقتض لشفاعته ، فإنه لا فرق عند الأنبياء في كونهم في دار الدنيا وفي كونهم في دار الآخرة لا في طريق المعرفة ، فإن آلة المعرفة في الدنيا الحواس الظاهرة وفي العقبى آلة يعرف بها الغيب إما في كسوة مثال ، وإما على سبيل التصريح ، وأما الأحوال الآخر في التقرب والقرب والشفاعة فلا تتغير ، والركن الأعظم في هذا الباب الإمداد والاهتمام من جهة الممد ، وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بذلك المدد ، فإنه لو وضع شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عضادته أو سوطه على قبر عاص أو مذنب نجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب ، وإن كان في دار إنسان أو بلدة لا يصيب تلك الدار وأهلها وتلك البلدة وسكانها ببركاتها بلاء ، وإن لم يشعر بها صاحب الدار وساكن البلدة ، فإن اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو به منسوب ، ودفع المكاره والأمراض والعقوبات مفوضة من جهة الله تعالى إلى الملائكة ، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه عن غيره ، كما كان في حال حياته ، فإن تقرب الملائكة بروحه المقدسة بعد موته أزيد من تقربه به في حال حياته.

وقد حكي أن أبا طاهر الهجري القرمطي رفع إنسانا على عنقه حتى يجر ميزاب الكعبة ، فمات الإنسان على عاتقه وخرّ هو ميتا ، وأن جماعة من المصريين نقبوا في جدار روضة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصدوا إخراج شخصه ونقله إلى مصر كان ذلك في نصف الليل ، فسمع أهل المدينة صوتا من الهواء احفظوا نبيكم معاشر المسلمين ، احفظوا نبيكم فأوقدوا السراج بل أوقدوا السرج والشموع والمشاعل. ورأوا ذلك النقب في الجدار وحوله جماعة من المصريين موتى.

ونقل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غرس غصنا رطبا في قبر إنسان وقال : رفع الله تعالى عن صاحبه العذاب ما دام هذا الغصن رطبا ، وذلك من بركات يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل من أطاع سلطانا وعظمه ، فإذا دخل بلده ورأى فيها

٣٥٧

سهما من جعبة ذلك السلطان أو سوطا له فإنه يعظم تلك البلدة ، فالملائكة عليهم‌السلام يعظمون النبي ، فإذا رأوا ذخائره في دار أو بلدة أو قبر عظموا صاحبه وخففوا عليه العذاب ، ولذلك السبب ينفع الموتى أن توضع على قبورهم المصاحف ، ويتلى القرآن على رءوس قبورهم ، ويكتب القرآن على قراطيس وتوضع القراطيس في أيدي الموتى ، فهذه أنواع المناسبات على حسب حال من يريد أن يسوي كل مسموع ومشروع على قضية معقولة ، والأصل في ذلك أن وراء ما يتصوره العقلاء أمورا ورد الشرع بها ولا يعلم حقائقها إلا الله تعالى والأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين عباده ، وإن اجتمع الحذاق وتفكروا في الشكل الموضوع على مناسبة الإعداد لسهولة الولادة حالة الطلق ما عرفوا تلك الخاصية. فكيف يطمع الإنسان أن يعرف حقائق ما ورد به الشرع من الأوامر والنواهي والأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك ، والعقل ضعيف وتصرفه مختصر بالإضافة إلى تلك العجائب ، والخواص. قد قررت يا أخي طيب الله عيشك بعض ما يمكن التلويح إليه على وفق ما انتهت فطانتي إليه ، وأوصيك ومن معك بالإيمان بهذه الأشياء التي ورد الشرع بتصحيحها دون التوقف فيها ، ونعوذ بالله من التوقف ، وسأهدي إليك من بعد أن وفقني الله تعالى عالقا مضنونا آخر اسمه المضنون به على غير أهله أحق وأولى من هذا المصنف فإن في هذا مسائل قررتها في عدة مواضع ومسائل لم أقررها إلا في ذلك المصنف. أما المضنون الموجود فقد كان عزيمتي على تقرير أشياء فيه لم أقررها في شيء من كتبي ، اللهم إلا في إحياء العلوم ، فإن علي تقرير أشياء فيه تلويحات وإشارات إلى رموز لا يعرفها إلا أهلها والله المعين الهادي وهو حسبنا وإليه المرجع والمصير.

٣٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الأجوبة الغزاليّة في المسائل الأخروية

المضنون الصغير

سئل الشيخ الإمام الأجل الزاهد السيد حجة الإسلام زين الدين مقتدي الأمة قدوة الفريقين أبو حامد محمد بم محمد بن محمد العزالي قدس الله روحه ونوره ضريحه عن معنى قوله تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢]. ما التسوية وما النفخ وما الروح؟

فقال : التسوية فعل في المحل القابل للروح ، وهو الطين في حق آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج ، فإنه كما لا يقبل النار يابس محض كالتراب والحجر ولا رطب محض كالماء ، بل لا تتعلق النار إلا بمركب من يابس ورطب ولا كل مركب ، فإن الطين مركب ولا تشتعل فيه النار ، بل لا بدّ بعد تركيب الطين الكثيف من تردد في أطوار الخلقة حتى يصير نباتا لطيفا ، فتثبت فيه النار وتشتعل فيه ، وكذلك الطين بعد أن يفشئه الله خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتا ، فيأكله الآدمي فيصير دما فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان صفوة الدم الذي هو أقرب إلى الاعتدال ، فيصير نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فتزداد عند ذلك اعتدالا ، ثم ينضجها الرحم بحرارته فتزداد تناسبا حتى تنتهي في الصفاء. واستواء نسبة الأجزاء إلى الغاية فتستعد لقبول الروح وإمساكها ، كالفتيلة التي تستعد عند شرب الدهن لقبول النار وإمساكها ، فالنطفة عند تمام الاستواء والصفاء تستحق باستعدادها روحا يدبرها ويتصرف فيها ، فتفيض إليها من جود الجواد الحق الواهب لكل مستحق ما يستحقه ، ولكل مستعد ما يقبله على قدر قبوله واحتماله من غير منع ولا بخل ، فالتسوية عبارة عن هذه الأفعال المرددة لأصل النطفة في الأطوار السالكة بها إلى صفة الاستواء والاعتدال.

فصل

وسئل ما النفخ؟

فقال : النفخ عبارة عما أشعل نور الروح في فتيلة النطفة وللنفخ صورة ونتيجة أما صورته ، فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب القابل للنار ، فالنفخ سبب الاشتعال ، وصورة النفخ الذي هو سبب في حق الله تعالى محال والمسبب غير محال ، وقد يكنى بالسبب عن الفعل الذي يحصل المسبب عنه على سبيل المجاز ، وإن لم يكن الفعل المستعار له على صورة الفعل المستعار منه كقوله تعالى : (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ)

٣٥٩

[المجادلة : ١٤]. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٣٦]. والغضب عبارة عن نوع تغير في الغضبان يتأذى به ونتيجته الهلاك للمغضوب عليه وإيلامه فعبر عن نتيجة الغضب بالغضب ، وعن نتيجة الانتقام بالانتقام ، وكذلك عبر عما ينتج نتيجة النفخ بالنفخ وإن لم يكن على صورة النفخ.

فقيل له : فما السبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة.

قال : هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل. أما صفة الفاعل فالجود الإلهي الذي هو ينبوع للوجود على ماله قبول الوجود فهو فياض بذاته على كل حقيقة أوجدها ، ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل للاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما ، فالقابل للاستنارة وهي الملونات دون الهواء الذي لا لون له وأما صفة القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل بالتسوية ، كما قال : سويته ، ومثاله صقالة الحديد ، فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها لا تقبل الصورة وإن كانت محاذية فلوحاتها الصورة واشتعل الثقيل بتصقيلها فكلما حصل الصقال حدثت فيها الصورة المحاذية من ذي الصور المحاذية ، فكذلك إذا حصل الاستواء في النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق ، بل إنما حدث الروح الآن لا قبله لتغير المحل بحصول الاستواء الآن لا قبله ، كما أن الصور فاضت من ذي الصورة على المرآة في حكم الوهم من غير حدث في الصورة ، ولكن كان لا يحصل من قبل لا لأن الصورة ليست مهيأة لأن تطبع في المرآة ، لكن لأن المرآة لم تكن صقلية قابلة للصور.

فقيل له : فما الفيض؟

فقال : لا ينبغي أن تفهم من الفيض هنا ما تفهم من فيضان الماء من الإناء على اليد ، فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء من الماء عن الإناء واتصاله باليد ، بل افهم منه ما تفهمه من فيضان نور الشمس على الحائط ، ولقد غلط قوم في نور الشمس أيضا ، فظنوا أنه ينفصل شعاع من جرم الشمس ويتصل بالحائط وينبسط عليه وهو خطأ ، بل نور الشمس سبب لحدوث شيء يناسبه في النورية وإن كان أضعف منه في الحائط المتلون كفيضان الصور على المرآة من ذي الصورة ، فإنه لي لله س بمعنى انفصال جزء من صورة الإنسان واتصاله بالمرآة بل على معنى أن صورة الإنسان مثلا سبب لحدوث صورة تماثلها في المرآة المقابلة للصوره وليس فيهما اتصال وانفصال إلا السببية المجردة ، وكذلك الوجود الإلهي سبب لحدوث نور الوجود في كل ماهية قابلة وجود فيعبر عنه بالفيض.

فصل

قيل له : قد ذكرت التسوية والنفخ ، فما الروح وما حقيقته ، وهل هو حالّ في البدن حلول الماء في الإناء ، أو حلول العرض في الجوهر ، أم هو جوهر ، قائم بنفسه؟ فإن كان جوهرا قائما بنفسه فمتحيز هو أم غير متحيز؟ وإن كان متحيزا فما مكانه أهو القلب أو الدماغ أو موضع آخر؟ وإن لم يكن متحيزا فكيف يكون جوهرا غير متحيز؟

٣٦٠