مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

فصل في الحذر من النفس

قال رحمه‌الله تعالى ورضي عنه : العائق الرابع النفس ثم عليك بالحذر من هذه النفس ، فإنها أضر الأعداء وعلاجها أعسر الأشياء لأنها عدو من داخل ، واللص إذا كان من أهل البيت عزت الحيلة فيه وعظم ضرره ولأنها أيضا عدو محبوب والإنسان عم عن عيب محبوبه لا يكاد يرى عيبه ولا يبصره ، ثم الحيلة في أمرها أن تلجمها بلجام التقوى والورع ليحصل لك فائدة الامتثال والانتهاء واعلم أنه لا يذل النفس ويكسر هواها إلا ثلاثة أشياء :

الأول : منعها عن شهوتها.

الثاني : حمل أثقال العبادات عليها.

الثالث : الاستعانة بالله تعالى عليها والتضرع إليه وإلا فلا يخلص من شرها إلا به سبحانه وتعالى.

فصل في بيان ما يؤاخذ العبد به من أعمال القلب وما لا

يؤاخذ به

اعلم : أن هاهنا أربعة أحوال للقلب قبل العمل بالجوارح.

أحدها : الخاطر وهو حديث النفس ثم الميل ثم الاعتقاد ثم الهم. فأما الخاطر : فلا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار ، وكذلك الميل وهيجان شهوة النفس ، لأنهما لا يدخلان تحت الاختيار ، أيضا وهما المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفا الله لأمّتي ما حدّثت به أنفسها». فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل. فأما الهم والعزم فلا يسميان حديث النفس.

وأما الثالث : وهو الاعتقاد ، وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن يكون اضطرارا أو اختيارا والأحوال تختلف فيه. فالاختياري منه يؤاخذ به والاضطراري لا يؤاخذ به.

وأما الرابع : وهو الهم بالفعل ، فإنه يؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن تركه خوفا من الله تعالى وندما على همه كتب له حسنة ، وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه لا خوفا من الله تعالى كتب عليه سيئة ، فإن همه فعل من القلب اختياري والدليل القاطع فيه : ما روي عن سيدنا ومولانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار. قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه» وهذا نص في أنه صار من أهل النار بمجرد الإرادة مع أنه قتل مظلوما فكيف يظن أنه لا يؤاخذ بالنية والهم كلما دخل تحت اختيار القلب فإنه مؤاخذ به إلا أن يكفره بحسنة ونقض العزم بالندم حسنة ، فلذلك كتبت حسنة وأما فوات المراد بعائق فليس بحسنة.

١٤١

الباب الحادي والعشرون

في بيان ما يجب رعايته من حقوق الله تعالى وهو ضربان

الأول : فعل الواجبات.

والثاني : ترك المحرمات ففعل كل واجب تقوى وترك كل محرم تقوى فمن أتى بخصلة منها فقد وفى نفسه بها ما رتب على تركها من شر الدنيا والآخرة مع ما يحصل له من نعيم الجنان ورضا الرحمن.

واعلم : أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بطاعته وطاعته فعل واجب أو مندوب وترك محرم أو مكروه. فمن تقواه تقديم ما قدم الله تعالى من الواجبات على المندوبات ، وتقديم ما قدمه من اجتناب المحارم المحرمات على ترك المكروهات ، بخلاف ما يفعله الجاهلون الذين يظنون أنهم إلى الله متقربون وهم منه متباعدون فيضع أحدهم الواجبات حفظا للمندوبات ، ويرتكب المحرمات تصونا على ترك المكروهات. فكم من مقيم على صور الطاعات مع انطواء قلبه على الرياء والغل والحسد والكبر والإعجاب بالعمل والإدلال على الله تعالى بالطاعات ، والتقوى قسمان أحدهما متعلق بالقلوب وهو قسمان :

الأول : واجب كإخلاص العمل والإيمان.

والثاني : محرم كالرياء وتعظيم الأوثان. والثاني منها : متعلق بالأعضاء الظاهرة كنظر العين وبطش الأيدي ومشي الأرجل ونطق اللسان. واعلم أنه إذا صحت التقوى أثمر الورع والورع ترك ما لا بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس ، والله تعالى أعلم.

فصل

اعلم : أن خيرات الدنيا والآخرة قد جمعت تحت خصلة واحدة وهي التقوى ، وتأمل ما في القرآن من ذكرها كم علق بها من خير وكم وعد عليها من ثواب وكم أضاف إليها من سعادة. ثم اعلم أن الذي يختص به هذا الشأن من أمر العبادة ثلاثة أصول :

الأول : التوفيق والتأييد أولا حتى تعمل وهو للمتقين ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا).

والثاني : إصلاح العمل وإتمام التقصير حتى يتم وهو للمتقين ، كما قال الله تعالى : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) [الأحزاب : ٧١].

والثالث : قبول العمل إذا تم وهو للمتقين ، كما قال الله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧]. ومدار العبادة على هذه الأصول الثلاثة التوفيق والإصلاح والقبول. وقد وعد الله تعالى ذلك كله على التقوى وأكرم به المتقي سأل أو لم يسأل فالتقوى هي الغاية

١٤٢

التي لا متجاوز عنها ولا مقصد دونها.

ثم اعلم أن حد التقوى في قول شيوخنا : هو تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق عنك مثله حتى يجعل العبد من قوة العزم على تركها ووقاية بينه وبين المعاصي. فإذا وطن قلبه على ذلك فحينئذ يوصف بأنه متق ، ويقال لذلك التوبة والعزم تقوى.

ثم اعلم أن منازل التقوى ثلاثة : تقوى عن الشرك ، وتقوى عن البدع ، وتقوى عن المعاصي الفرعية ، ثم الشرور ضربان أصلي وهو ما نهي عنه تأديبا كالمعاصي المحضة ، وشيء غير أصلي وهو ما نهي عنه تأديبا وهي فضول الحلال كالمباحات المأخوذة بالشهوات. فالأولى : تقوى فرض يلزم بتركها العذاب. والثانية : تقوى خير وأدب يلزم بتركها الحبس والحساب واللوم. فمن أتى بالأولى فهو في الدرجة الأولى من التقوى وتلك منزلة مستقيم الطاعة ، ومن أتى بالثانية : فهو في الدرجة العليا من التقوى فإذا جمع العبد بين اجتناب كل معصية وفضول ، فقد استكمل معنى التقوى وهو الورع الكامل الذي هو ملاك أمر الدين. وأما الذي لا بدّ منه هاهنا فهو مراعاة الأعضاء الخمسة فإنهن الأصول وهي : العين والأذن واللسان والبطن والقلب. فليحرص عليها بالصيانة لها عن كل ما يخاف منه ضررا من حرام وفضول وإسراف من حلال ، فإذا حصلت صيانة هذه الأعضاء فترجو أن تكفي سائر أركانه وتكون قد قمت بحق التقوى بجميع بدنك لله تعالى.

واعلم أن علماء الآخرة رضي الله عنهم أجمعين قد ذكروا فيما يحتاج إليه العبد من هذا الأمر سبعين خصلة محمودة في أضدادها المذمومة ، ثم من الأفعال والمساعي الواجبة المحظورة نحو ذلك فنظرنا في الأصول التي لا بدّ من ذكرها في علاج القلب ، ولا غنية عنها البتة في شأن العبادة فرأينا أربعة أمور وهي آفات المجتهدين وفتن القلوب تعوق وتشين وتفسد ، وأربعة في مقابلتها فيها قوام العباد وانتظام العبادة وإصلاح القلوب. والآفات الأربع الأول : الأمل والاستعجال والحسد والكبر. والمناقب الأربع : قصر الأمل والتأني في الأمور والنصيحة للخلق والتواضع والخشوع. فهذه هي الأصول في علاج القلوب وفسادها ، فابذل المجهود في التحرز من هذه الآفات والتحصيل لهذه المناقب تكفي المؤنة وتظفر بالمقصود إن شاء الله تعالى.

فأما طول الأمل : فإنه العائق عن كل خير ، وطاعة الجالب لكل شر وفتنة الذي يوقع الخلق في جميع البليات.

واعلم أنه إذا طال أملك هاج لك منه أربعة أشياء :

الأول : ترك الطاعة والكسل تقول : سوف أفعل.

والثاني : ترك التوبة وتسويفها تقول : سوف أتوب.

والثالث : يجرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها تقول : أي شيء آكل وألبس فتهتم لها

١٤٣

وأقل ما في الباب أنه يشغل قلبك ويضيع عليك وقتك ويكثر عليك همك.

والرابع : القسوة في القلب والنسيان للآخرة ، لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الآخرة بل لا تذكر الموت ولا القبر ، فإذا يصير فكرك في الدنيا فيقسو قلبك من ذلك كما قال الله تعالى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد : ١٦]. وإنما رقة القلب وصفوه بذكر الموت والقبر وأحوال الآخرة.

وأما حد طول الأمل ، فقال العلماء : هو إرادة الحياة للوقت المتراخي بالحكم ، وقصر الأمل ترك الحكم فيه بقيده بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وعلمه في الذكر أو بشرط إصلاح في الإرادة. فإذا ذكرت حياتك بأنك تعيش بعد نفس أو ساعة ثانية بالحكم والقطع فأنت آمل وذلك منك معصية إذ هو حكم على الغيب ، فإن قيدته بالمشيئة والعلم لله تعالى بأن تقول : أعيش إن شاء الله تعالى ، فقد خرجت عن حكم الأمل ووصفت بقصر الأمل من حيث تركت الحكم فيه ، والمراد بالذكر ذكر القلب ثم المراد منه توطين القلب على ذلك والتثبيت للقلب عليه ، فافهمه راشدا ، ثم الأمل ضربان : أمل العامة وأمل الخاصة. فأمل العامة : هو أن يريد البقاء لجمع الدنيا والتمتع بها. فهذه معصية وضدها قصر الأمل. وأمل الخاصة : هو أن يريد البقاء لإتمام عمل خير فيه خطر ، وهو ما لا يستيقن الصلاح له فيه. فإنه ربما يكون خير معين لا يكون للعبد فيه أو في إتمامه صلاح بل يقع في أنه لا يقوم بهذا الخير ، فإذا ليس للعبد ابتداء في صلاة أو صوم أو غيرهما أن يحكم بأن يتمه إذ هو غيب ولا أن يقصد ذلك قطعا ، بل يقيده بالاستثناء وشرط الصلاح ليتخلص من عيب الأمل وضد هذا الأمل فيما قال العلماء : النية المحمودة لأن الناوي بالنية المحمودة يكون ممتنعا من الأمل فهذا حكمه ، وأما النية المحمودة : فهي الأصل الأصيل وقد ذكروا في حدها الجامع التام أنها إرادة أخذ عمل مبتدأ به قبل سائر الأعمال بالحكم مع إرادة إتمامه بالتفويض والاستثناء.

فإن قيل : لم جاز الحكم في الابتداء ووجب التفويض والاستثناء في الإتمام؟ فيقال : لفقد الخطر في الابتداء إذ هو حال الابتداء ليس بشيء متراخ عنك ولثبوت الخطر في الإتمام ، لأنه يقع في وقت متراخ ، ففيه خطران : خطر الوصول لأنك لا تدري هل لك في ذلك صلاح أم لا. فإذا حصلت الإرادة على هذه الشروط تكون حينئذ نيه محمودة مخرجة عن حكم الأمل وآفاته ، والله تعالى أعلم.

واعلم أن حصن تقصير الأمل هو ذكر هجوم الموت وأخذه على غفلة وغرة فاحتفظ بهذه الجملة فإن الحاجة ماسة إليها ودع عنك القيل والقال من غير طائل والله الموفق. وأما الاستعجال والترقي : فإنه الخصلة المفوتة للمقاصد الموقعة في المعاصي.

واعلم أن أصل العبادة وملاكها الورع والورع أصله النظر البالغ في كل شيء والبحث التام عند كل شيء هو بصدده من أكل وشرب ولبس وكلام وفعل. فإذا كان الرجل مستعجلا في الأمور غير

١٤٤

متأن متثبت متبين لم يقع منه نظر وتوقف في الأمور كما يجب ويسارع إلى أكل كل طعام فإنه يقع في الحرام والشبهة وإلى كل كلام فإنه يقع في الزلل وكذلك في كل أمر يفوته الورع وأي خير في عبادة بلا ورع فحق على العبد أن يهتم لإزالة هذه الآفة والله الموفق ، وأما حد العجلة : فهو المعنى الراتب في القلب الباعث على الإقدام على الأمر بأول خاطر دون التوقف وضدها الأناة وهي المعنى الراتب في القلب الباعث على الاحتياط في الأمور والتأني في اتباعها والعمل بها.

وأما التوقف : فضده التعسف والفرق بين التوقف والتأني أن التوقف يكون قبل الدخول في الأمر حتى يؤدي إلى كل جزء منه حقه.

وأما الحسد : فهو المفسد للطاعات الباعث على الخطيئات المورث للتعب والهم في غير فائدة ، بل مع كل وزر والموجب عمى القلب وكفى بالحاسد إضلالا وخسرانا أنه عدو لنعمة الله تعالى ومعاند لإرادته وساخط لقضائه. وأما حد الحسد : فهو إرادة زوال نعمة الله تعالى عن أخيك المسلم مما له فيه صلاح ، فإن لم ترد زوالها ولكن أردت لنفسك مثلها فهي غبطة ، فإن لم يكن له فيها صلاح فأردت زوالها عنه فذلك غيرة فهذا هو الفرق بين الخصال. وأما ضد الحسد : فالنصيحة وهي إرادة بقاء نعمة الله تعالى على أخيك المسلم فيما له فيه صلاح ، فإن اشتبه عليك الأمر فلا ترد زوال نعمة عن أحد من المسلمين ولا بقاءها إلا مقيدا بالتفويض إلى الله تعالى لتخلص من حكم الحسد وتحصل لك فائدة النصحية. وأما حصن النصيحة المانع من الحسد : فهو ذكر ما أوجبه الله من موالاة المسلمين ، وحصن هذا الحصن هو ذكر ما عظم الله تعالى من حقه ورفع قدره وما له عند الله تعالى من الكرامات في العقبى وما لك من الفوائد الدينية والدنيوية دنيا وأخرى والله الموفق.

وأما الكبر : فهو الخصلة المهلكة رأسا أما تسمع قول الله تعالى عن إبليس. (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤]. وأما حد الكبر : فاعلم أنه خاطر في رفع النفس واستعظامها والتكبر اتباع ما ينافي التواضع وكل واحد منهما عام وخاص ، فالتواضع العام هو الاكتفاء بالدون من الملبس والمسكن وما في معناهما والتكبر في مقابلته الترفع عن ذلك وهو معصية كبيرة.

واعلم أن حصن التواضع العام هو أن تذكر مبدأك ومنتهاك ، وما أنت عليه الآن من ضروب الآفات والأقذار ، وحصن التواضع الخاص هو ذكر عقوبة العادل عن الحق فهذه جملة كافية لمن استبصر والله تعالى الموفق.

الباب الثاني والعشرون

في بيان معنى حقيقة حسن الخلق وسوئه

اعلم أن السعادة كلها والباقيات الصالحات أجمعها التي تبقى معك إذا غرقت سفينتك في شيئين : الأول : سلامة القلب وطهارته من غير الله تعالى لقوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩]. والثاني : امتلاء القلب بمعرفة الله تعالى التي هي المقصودة من خلق العالم وبعثة

١٤٥

الرسل صلّى الله عليهم وسلّم ، وحسن الخلق : هو الجامع لهما ولا أعلم خصلة تزيد عليه في الفضل ، ولذلك امتدح الله تعالى به نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤]. وقال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠]. والكلم الطيب هو التوحيد والمعرفة والعمل الصالح هو طهارة القلب الرافعة لقدر التوحيد والمعرفة ، ومعنى الرفعة هو حضور القلب وتأثره بهما لينقاد خضوعا ومسكنة ومهابة. فحينئذ يكون قريبا من الله تعالى. فأما حقيقة حسن الخلق : فاعلم أن للإنسان صورة باطنة وهي التي بعثت الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقويمها وتزكيتها وكمال اعتدالها وذلك أن تصدر عنها الأخلاق المحمودة بسهولة بلا روية ولا فكر. وهذا هو معنى حقيقة حسن الخلق ، وسوء الخلق يكون بعكس ذلك. واعلم أن جملة الأخلاق المحمودة والمذمومة تصدر عن ثلاث صفات هن كالأمهات :

الصفة الأولى : العقل وقوته واعتداله بالعلم والحكمة وحقيقة الحكمة معرفة الحق من الباطل في الاعتقادات والصدق من الكذب في الأقوال والحسن من القبيح في الأفعال.

الصفة الثانية : قوة الغضب الدافعة للضرر وهي خلقت لذلك فكمالها واعتدالها أن تكون منقادة للحكمة إن أشارت الحكمة لها بالاسترسال استرسلت أو بالانقباض انقبضت كالكلب المعلم.

الصفة الثالثة : قوة الشهوة الجالبة للنفع وهي خلقت أيضا مطيعة للعقل فحسنها واعتدالها في إذعانها للحكمة. واعلم أن المطلوب من الأخلاق الاعتدال والوقوف على وسط الأمور لقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩]. فصار العدل من هذه الصفات الثلاث ركنا رابعا. فأما مثال الاعتدال في الصفات فاعلم أن قوة الحكمة لها إفراط وتفريط ووسط والوسط هو المحمود المسمى بالحكمة فبحسبها واعتدالها يصدر عنها التدبير وجودة الذهن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفس ، وأما إفراطها فيصدر عنه المكر والخداع والدهاء وشبه ذلك ، ومن تفريطها يصدر البله والغباوة والحمق والجنون. فأما الغباوة : فهي قلة التجربة والحمق صحة القصد مع فساد السلوك والجنون فسادهما جميعا. وأما قوة الغضب : فلها اعتدال يسمى الشجاعة يصدر عنه الكرم والنجدة وكظم الغيظ والوفاء بالعهد ، ولها إفراط يصدر عنه التكبر والعجب والاستشاطة وشبه ذلك ، ولها تفريط يصدر عنه المهانة والذلة والجزع والانقباض مع تناول الحق الواجب. وأما قوة الشهوة : فلها اعتدال يسمى العفة يصدر عنه السخاء والصبر والورع والمساعدة وقلة الطمع ، ولها إفراط يصدر عنه الحرص والشره وشبههما ، ولها تفريط يصدر عنه الحسد والمشاتمة والعتب وشبه ذلك ، فأمهات محاسن الأخلاق الحكمة والشجاعة والعفة والعدل المكمل لكل واحدة من الثلاث ، وما سوى ذلك فروع لهذه الأربعة ، ولم يبلغ كمال هذه الأربع إلا سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالله التوفيق.

١٤٦

فصل في بيان حد التواضع وحقيقته ونهايته وعلامته

وعلى الجملة فالتواضع متخلق بأخلاق الله تعالى وكفى بها شرفا في الآخرة وهو معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لله رفعه الله». فأما حد التواضع : فهو ضبط الأحوال والاختيار عن التفريط والإفراط فلا تتكبر ولا تتخاسس. وأما حقيقته : فهو الذل والإذعان والانقياد للحق بسهولة والحق يطلق على الله تعالى وعلى أمره. وأما نهايته : فهو أن لا يحس بالذل إذا مدح ولا يتألم بالذم إذا ذم لعلمه بحكمة الله سبحانه وتعالى وتوحده بالأفعال ، لأن العبد لا يحس بالذل بين يدي سيده وهذه طريقة الموحدين ، لأن المتواضع يرى لنفسه قدرا فيضعه والموحد لا يرى لنفسه قدرا حتى يضعه. فالمتواضع ضابط لأفعاله الاختيارية فلا يتكبر ولا يتخاسس ، وإن جرى عليه ذل من غير اختياره ، وطريقة الأولياء الرضى ووجدان اللذة ، لأنه جرى بقدر الله تعالى وعلمه وإرادته فهو لا يحس بالذل لقصور نظره على حكم الله تعالى وجميل فعله إنما يحس بالذل المتكبر الجاهل الغافل القاصر نظره على فعل الأفعال ، وكلما كان أكثر ذلا كان أكثر كبرا. وأما العلماء بالله تعالى فلا يشهدون لغير الله ولا يتهمونه في حكم من الأحكام ، بل يعرفون أن ذلك علامة كرامتهم.

وقد أشار بعض الأئمة رحمهم‌الله تعالى إلى أن المعرفة لا توجد إلا في قلوب المتواضعين الذين صار الذل صفتهم الذاتية فهم بقدرة الله تعالى ونظره ينقلبون إن رفعوا إلى السماء لم يزدادوا في نفوسهم كمالا وإن خفضوا إلى منتهى الخفض لم يجدوا في أنفسهم نقصا كذلك ، لأنهم مسلوبو الإرادة والاختيار لعلمهم أن الكمال المطلق فيما حكم الله تعالى به وقضاه فيهم ، ولأنهم يجدون المزيد من الله تعالى في أحوالهم بذلك فهو رتب المقربين. وأما الصالحون فتواضعهم على قدر معرفتهم بنفسهم وربهم. وأما علامة التواضع : فهو أن لا يأنف من الحق إذا أمر به ، فإن وجد في نفسه ألفة من ذلك فهو متكبر عن قبول الحق وذلك معصية كبيرة ، والله تعالى أعلم.

الباب الثالث والعشرون

في بيان معنى الفكر ومقدماته ولواحقه

فمقدماته مساع وتيقظ وذكر ولواحقه العلم ، لأن من سمع تيقظ ، ومن تيقظ تذكر ، ومن تذكر تفكر ، ومن تفكر علم ، ومن علم عمل إن كان علما يراد للعمل ، وإن كان علما يراد لذاته سعد والسعادة غاية المطلب.

أما السماع : فحقيقته الانتفاع بالمسموع من حكمة أو موعظة وما يضاهيهما ، وشرطه الاستماع وهو الإصغاء وهو واجب في استماع كل علم هو فرض عين مدركه السمع ومستحب فيما سواه في العلوم المحمودة ويحرم فيما حرم الشارع من المحرمات ويكره فيما يكره استماعه.

وأما اليقظة : فحقيقتها انتباه القلب للخير. وعلامة الانتباه : القومة والنهوض عن ورطة

١٤٧

الفترة ، والقومة واجبة على الفور في الأوامر والنواهي الفورية وهي متعلقة بكل مقام.

وأما التذكر : فهو تكرار المعارف على القلب لتثبت وترسخ.

وأما التفكر : فهو أن تجمع بين علمين مناسبين للعلم الذي أنت طالبه بشرط عدم الشك فيهما وفراغ القلب من غيرهما ويحدق النظر فيهما تحديقا بالغا فلم يشعر إلا وقد انتقل القلب من الميل الخسيس إلى الميل النفيس إحضارا لمعرفتين يسمى تذكرا والتذكر يتعلق بالعقد والقول والفعل والترك وهو واجب فيما يجب تذكره ، ويحرم بتذكر المعاصي إن أدى إلى استجلابها. وحصول المعرفة الثالثة المقصود من هاتين المعرفتين يسمى تفكرا ، والتفكر واجب عند الشك وعند ورود الشبهة وعند علاج الأمراض الواجب إزالتها من القلوب.

وأما العلم فيندرج في خمسة أقسام :

الأول : من العلوم الواجبة علم أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

الثاني : علم العبادات المتعلقة بالأبدان والأموال.

الثالث : علم ما يتعلق بالحواس الخمس اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر.

الرابع : علم الأخلاق المذمومة الواجب إزالتها من القلوب.

الخامس : علم الأخلاق المحمودة الواجبة لله تعالى على القلوب.

الباب الرابع والعشرون

في بيان معنى التوبة ويضاف إليها الفرار والإنابة والإخبات

لأنهن من ثمراتها

أما التوبة : فحقيقتها الرجوع من المعصية إلى الطاعة ، ومن الطريق البعيدة إلى الطريق القريبة وتنتظم من علم وحال وعمل.

وكذلك كل مقام فالعلم هو الأصل الذي هو عقد من عقود الإيمان بالله تعالى أو لله تعالى ، والحال ما ينشأ عنها من المواجيد ، والعمل هو ما تنشئه المواجيد على القلوب والجوارح من الأعمال ، ويتقدم التوبة واجبان :

الواجب الأول : معرفة الذنب المرجوع عنه أنه ذنب.

الواجب الثاني : أنه لا يستبد بالتوبة بنفسه ، لأن الله تعالى هو خالقها في نفسها ومسير أسبابها ، وهو من الإيمان بالله تعالى لتعلقه بالقدرة ، والثاني من الإيمان له لتعلقه بأخباره.

وأما أركانها فأربعة : علم وندم وعزم وترك والقدر الواجب من الندم ما يحث على الترك.

وأما الفرار : فحقيقته الهرب من المعصية إلى الطاعة ، وهذا هو الفرار الواجب المبني على

١٤٨

أصل الإيمان ورجوع العبد من الشواغل الملهية إلى الله تعالى ، ومن الحسن إلى الأحسن هو أيضا توبة ورجوع ، وبه كمال السعادة في الآخرة ، وهذا هو الفرار الواجب المبني على كمال الإيمان ، وعلى هذا فلا نهاية لمراتب التوبة ومراقيها وهذا هو الإنابة لأن حقيقة الإنابة تكرار الرجوع إلى الله تعالى وإن لم يتقدمه ذنب.

وأما الإخبات : فهو الإذعان والانقياد للحق بسهولة.

واعلم أن التوبة نصح من كل ذنب لا دون ذنب ، والله تعالى أعلم.

الباب الخامس والعشرون

في بيان الصبر ويضاف إليه الرياضة والتهذيب لأنهما من

ثمراته

أما علمه : فهو تصديق الله تعالى فيما أخبرنا به من عداوة النفس والشيطان والشهوات للعقل والمعرفة والملك الملهم للخير ، وأن القتال بينهم دائم فمن خذل جند الشيطان ونصر حزب الله أدخله جنته وهذا واجب لأنه من الإيمان بالله تعالى.

وأما الحال الناشئ عن هذا الإيمان ، فهو ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى والقدر الواجب منه تقويته بالوعد والوعيد إلى أن يغلب حزب الله تعالى جند الشيطان «ألا إنّ حزب الله هم الغالبون».

وأما الرياضة : فهو تمرين النفس على الخير ونقلها من الخفيف إلى الثقيل باللطف والتدريج إلى أن يرتقي إلى حالة يصير ما كان عنده من الأحوال والأعمال شاقا سهلا هينا.

وأما التهذيب : فهو امتحان النفس واختيار أحوالها في دعوى المقامات هل صدقت أو كذبت ، وعلامة اعتدال مقام الصبر أن تصدر عنه الأعمال بسهولة بلا مانع ولا منازع. والله تعالى الموفق.

الباب السادس والعشرون

في الخوف ، ويضاف إليه الحزن والقبض والإشفاق والخشوع

لأنهن من أنواعه وكذلك الورع لأنه من ثمراته

أما علمه : فهو مطالعة صفات الألوهية وتعلقها بالتقريب والإبعاد والإسعاد والإشقاء من غير وسيلة ولا سابقة ، وهذا الخوف يراد لذاته ويجب اعتقاده لأنه من الإيمان بالله تعالى ينتفع بهذا الخوف من أخرجته رؤية كثرة الأعمال إلى الإدلال والأمن من مكر الله إذ لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون.

وأما الخوف المراد لغيره ، فهو قسمان. أحدهما : خوف سلب النعمة وهو يحث على الأدب ورؤية المنة. والثاني : خوف العقوبات المرتبة على الجنايات ، والقدر الواجب منه ما يحث على ترك المحظورات وفعل الواجبات. وأما حاله ، فهو تألم القلب وانزعاجه بسبب

١٤٩

توقع مكروه أو على فائت. فإن كانا محمودين كان له حكمهما في الوجوب والاستحباب ، وإن كانا مكروهين له حكمهما في الحظر والكراهة.

وأما حقيقة القبض : فهو يطرق القلب تارة يعلم سببه فحكمه حكم الحزن ، وما لم يعلم سببه فهو عقوبة للمريدين لسبب إفراطهم في البسط.

وأما حقيقة الإشفاق : فهو اتحاد الخوف بالرجاء واعتدالهما ، وأما حقيقة الخشوع : فهو سكون القلب والجوارح وعدم حركتهما لما عاين القلب من عظيم أو مفزع.

وأما حقيقة الورع : فهو مجانبة الشيء حذرا من ضرره ، والله تعالى أعلم.

الباب السابع والعشرون

في بيان الرجاء ، ويضاف إليه الرغبة ، لأنها من أنواعه وكذلك البسط لأنه من ثمراته

أما علمه : فهو أيضا مطالعة الصفات القديمة التي يصدر عنها كل ما ساء وسر ونفع وضر ، فمن عرف هذا من صفاته خافه ورجاه ، وهذا هو الرجاء المقصود لذاته ، لأنه لا يتوقع بحسنة ولا يندفع بسيئة إنما ينشأ عن فضل الله تعالى لمن سبقت له السعادة ، ويندفع بهذا الرجاء من أخرجه الخوف إلى القنوط.

وأما الرجاء المراد لغيره : فهو ما يحث على تكثير الطاعات ، فإن لم يحث على تكثير الطاعات كان تمنيا ، لأن حقيقة الرجاء هو ارتياح القلب وانشراحه لانتظار محبوب تقدمت أسبابه.

وأما الرغبة : فهي استيلاء هذا الحال على قلب الراجي حتى كأنه يشاهد به المأمول فهي كمال الرجاء ومنتهى حقيقته.

وأما البسط : فهو انشراح القلب وانفتاح طريق الهدى له بروح الرجاء.

الباب الثامن والعشرون

في بيان الفقر ، ولواحقه التبتل والفناء والتجريد

أما الفقر : فهو الفقد والاحتياج ، ولكن الاحتياج على ضربين : مطلق ومقيد.

أما المطلق : فهو احتياج العبد إلى موجد يوجده وإلى بقاء بعد الإيجاد وإلى هداية إلى موجده وهذا هو الفقر إلى الله تعالى ، لأن الله هو موجده ومبقيه وهاديه إليه وهذا الفقر واجب لأنه من الإيمان بالله ولله.

وأما الحال الذي ينشأ عن هذه المعرفة : فهو شهود العبد لفقره وحاجته إلى الله تعالى على الدوام.

وأما الاحتياج المقيد : فهو احتياج العبد إلى الوسائل التي تقوم بها ذاته ويستعان على تحصيلها بالمال والمال هو المفقود المحتاج إليه ، فالفقر المطلق يراد لذاته لتعلقه بالله تعالى ، والمقيد يراد لغيره وهو التبتل والانقطاع إلى الله وهما الوسيلة للغنى بالله وهو تعلق القلب به

١٥٠

سبحانه وتعالى ، والغنى بالله تعالى وسيلة إلى تجريده عما سوى الله تعالى ، ولا يجب من التجريد إلا اعتقاد تجريد القديم عن الحادث ، والله تعالى أعلم.

الباب التاسع والعشرون

في بيان الزهد ، ويضاف إليه الإيثار والفتوة ، لأنهما من أخلاقه

وكذلك مقام المراد ، لأنه من مواريثه

أما العلم الذي هو سبب الزهد في الدنيا : فهو من الإيمان لله تعالى وهو قوله تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٦. ١٧]. وأما الحال الناشئ عن هذا العلم : فهو انصراف الإرادة عن الدنيا لاستعظام ما عند الله. وأما سبب الزهد فيما سوى الله تعالى من نعيم الجنة وغيرها ، فهو إضافة حقارة الوجود إلى جلال الله تعالى وكماله ، وهذا هو الزهد المراد لذاته وهو من الإيمان بالله تعالى لتعلقه بالجلال والكمال ، والزهد الذي قبله مراد لغيره وهو فراغ القلب لهذه المعرفة ، والقدر الواجب من الزهد المراد لغيره ما يحث على الفراغ لأوقات الواجبات والزهد لا يتعلق إلا بالمباح. ومن شرطه أن يكون مقدورا عليه.

وأما ثمرته : فهو الإيثار وهو أعلى درجات السخاء ، لأن السخاء هو بذل ما لا يحتاج إليه سمحا لا تكلفا ، والإيثار هو بذل ما هو محتاج إليه سمحا بغير عوض ولا غرض إلا لتخلقه بأخلاق الله سبحانه وتعالى.

وأما الفتوة : فهي ترجع إلى أخلاق المروءة ، فمن قام بواجب الشرع وواجب المروءة فهو الفتى ، ومن شارك أبناء الدنيا فيما هم فيه فلا فتوة له ولا مروءة. وأما مقام المراد ، فهو الذي وقف على حقيقة الأمر بغير منازع ولا مدافع ولم يشغله عن الله تعالى شيء ، والله أعلم.

الباب الثلاثون

في بيان المحاسبة ، ولواحقها الاعتصام والاستقامة ، لأنهما

الثمرة المقصودة

أما المحاسبة فحقيقتها تفقد ما مضى وما يستقبل وهي واجبة بإجماع الأمة. أما العلم الحامل عليها : فهو الإيمان بمحاسبة الله تعالى. وهذه المحاسبة توجب الاعتصام والفرق بين الاعتصام والاستقامة أن الاعتصام هو التمسك بكتاب الله تعالى والحفظ لحدوده والاستقامة هي الثبات والاعتدال عن الميل إلى طرفي الأمر المعتصم به والاستقامة مرادة لذاتها ولغيرها. أما كونها لذاتها فلأنها وسيلة إلى الدخول في مقام الجمع من وادي التفرقة ، والله تعالى أعلم.

١٥١

الباب الحادي والثلاثون

في بيان الشكر ، ولواحقه السرور ، لأنه من أحواله والحكمة

لأنها من أعماله

أما العلم الذي هو سبب الشكر : فهو أن تعلم أن النعم كلها من الله تعالى وحده. وهذا واجب ، لأنه من الإيمان بالله تعالى قال الله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣]. وشكر المنعم واجب وهو من الإيمان. وأما الحال الناشئ عن هذا العلم فهو الفرح والسرور بأنعم الله فهذا الفرح شكر بنفسه ، لأنه مراد لذاته وهو واجب لأنه من الإيمان بالله تعالى وهو ثمرة الإيمان بالله تعالى. وأما عمل الشكر : فهو مراد لذاته ولغيره أما كونه مرادا لذاته فلأن العمل باستعمال النعمة فيما خلقت له من تمام الحكمة. وأما كونه مرادا لغيره فلحفظ النعم الموجودة والزيادة عليها. وعلى الجملة ، فالشكر هو استعمال النعمة فيما خلقت له فمن اعتدلت له أحواله حتى وضع كل شيء موضعه كان حكيما لأن الحكمة وضع كل شيء محله علما كان أو عملا وبالله التوفيق.

الباب الثاني والثلاثون

في بيان التوكل ولواحقه التفويض والتسليم والثقة والرضى

لأنهن من آدابه

أما العلم الحامل على التوكل : فهو أن تعلم أن الله قائم بنفسه وأنه مقيم لغيره ، ثم تعلم سعة علمه وحكمته وكمال قدرته.

وأما الحال الناشئ عن هذا العلم : فهو اعتماد القلب على الله تعالى وسكونه ، وعدم اضطرابه لتعلقه بالله تعالى ، ولا يجب على من علم التوكل وحاله إلا ما يكف عن الأسباب المحظورة. والتوكل مع شرفه منخفض الرتبة عن التفويض والتسليم ، لأن غايته طلب جلب النفع ودفع الضر ، والتفويض والتسليم حقيقتهما الانقياد والإذعان للأمر والنهي وترك الاختيار في جملة ما حكم الله تعالى به.

وأما الثقة : فمعناها الربط على القلب وعدم الانفصام على ما حواه من التصديقات وهي حالة مكملة لجميع المقامات والأحوال.

وأما الرضى : فإنما يكون بعد المقضي به ، والتفويض والتسليم يكون قبل المقضي به والقدر الواجب من الرضى هو أن يكون راضيا بعقله وإن كان كارها بطبعه ، لأن الكراهية لا تدخل تحت اختيار العبد ، فمن كره بعقله شيئا مما امتحن الله تعالى به عباده في الدنيا والآخرة أو شكا بلسانه أثم وخرج عن واجب الرضى وبالله التوفيق.

١٥٢

الباب الثالث والثلاثون

في بيان النية ويضاف إليها القصد والعزم والإرادة لأنهن من

توابعها

فأما النية : فهي الوسيلة بعد الإيمان إلى السعادة العظمى في الأولى والعقبى ، فإذا عرفت هذا وجب عليك فهم حقيقتها أو تحصينها مما يشوبها من الحظوظ الدنيوية وجوبا وعن الأغراض والأعواض الأخروية استحبابا. فأما النية : فهي عبارة عن تمييز الأغراض بعضها عن بعض. فأما القصد : فهو جمع الهمة نحو الغرض المطلوب والعزم هو تقوية القصد وتنشيطه ، والإرادة تصرف الموانع المثبطة.

الباب الرابع والثلاثون

في بيان الصدق ، ويضاف إليه الانفصال والاتصال والتحقيق والتفريد. لأنهن من علاماته

أما الصدق في حق الله تعالى ، فهو وصف ذاتي راجع إلى معنى كلامه.

وأما الصدق في وصف العبد : فهو استواء السر والعلانية والظاهر والباطن ، وبالصدق يتحقق جميع المقامات والأحوال حتى أن الإخلاص مع جلالته يفتقر إلى الصدق والصدق لا يفتقر إلى شيء ، لأن حقيقة الإخلاص في العبادة هو إرادة الله تعالى بالطاعة ، فقد يراد الله تعالى بالصلاة مثلا ولكنه غافل من حضور القلب فيها والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة ، مع حضوره مع الله تعالى فكل صادق مخلص وليس كل مخلص صادقا. وهذا معنى الانفصال والاتصال ، لأنه انفصل عن غير الله تعالى واتصل بالحضور بالله تعالى.

وأما التحقيق : فهو تمييز المقامات والأحوال بعضها من بعض وتخليصها من الأغيار والشوائب.

وأما التفريد : فهو وقوف العبد مع الله تعالى بلا علم ولا حال لشهوده تفرد الله تعالى بإيجاد كل موجود وشمول قدرته كل مقدور.

الباب الخامس والثلاثون

في بيان الرضى

قال الحارث : الرضى سكون القلب تحت جريان الحكم. وقال ذو النون : الرضى سرور القلب بمر القضاء. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا». وقال عليه‌السلام : «إنّ الله بحكمته جعل الرّوح في الرضى واليقين ، وجعل الهمّ والحزن في الشّكّ والسخط». وقال الجنيد : الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلوب ، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا ، وليس الرضا والمحبة كالخوف والرجاء فإنهما حالان لا يفارقان العبد في الدنيا والآخرة ، لأنه في الجنة لا يستغني عن الرضا والمحبة. وقال ابن عطاء : الرضا

١٥٣

سكون القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد أنه اختار له الأفضل فيرضى له وهو ترك السخط ، وقال أبو تراب : ليس ينال الرضا من الله من الدنيا في قلبه مقدار. وقال سري : خمس من أخلاق المقربين الرضا عن الله تعالى ، فيما تحب وتكره والحيلة بالتحبب إليه ، والحياء من الله تعالى ، والأنس به ، والوحشة فيما سواه. وقال الفضيل : الرضا أن لا يتمنى فوق منزلته شيئا. وقال ابن سمعون : الرضى بالحق والرضى به والرضا عنه الرضى به مدبرا ومختارا والرضى عنه قاسما ومعطيا ، والرضى له إلها وربا.

سئل أبو سعيد : هل يجوز أن يكون راضيا ساخطا؟ قال : نعم يجوز أن يكون راضيا عن ربه ساخطا على نفسه وعلى كل قاطع يقطعه عن الله تعالى.

وقال بعضهم للحسن بن علي رضي الله عنهما إن أبا ذر يقول : الفقر أحب إليّ من الغنى ، والسقم أحب إليّ من الصحة. فقال : رحم الله أبا ذر. أما أنا فأقول من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها الله.

وقال علي عليه‌السلام : من جلس على بساط السؤال لم يرض عن الله في كل حال. وقال الشبلي بين يدي الجنيد : لا حول ولا قوة إلا بالله قال قولك هذا إذا ضيق صدر. فقال : صدقت فقال ضيق الصدر ترك الرضى بالقضاء ، وهذا قاله الجنيد تنبيها منه على أصل الرضى ، وذلك لأن الرضى يحصل لانشراح القلب وانفساحه وانشراح القلب من نور اليقين ، فإذا تمكن النور من الباطن اتسع الصدر وانفتح عين البصيرة وعاين حسن تدبير الله تعالى فينتزع السخط والضجر ، لأن انشراح القلب يتضمن حلاوة الحب وفعل المحبوب بوقوع الرضى عند المحب الصادق ، لأن المحب يرى أن الفعل من المحبوب مراده. كما قيل : وكل ما يفعل المحبوب محبوب فالقوم يكرهون خدمة الأغيار ويأبون مخالطتهم أيضا. فإن من لا يحب طريقهم ربما استضر بالنظر إليهم أكثر مما ينتفع بهم.

ورد في الخبر : المؤمن مرآة المؤمن. فأي وقت ظهر من أحدهم أثر التفرقة نافروه ، لأن التفرقة تظهر بظهور النفوس وظهور النفوس من تضييع حق الوقت. فأي وقت ظهرت نفس الفقير علموا خروجه من دائرة الجمعية وحكموا له بتضييع حكم الوقت وإهمال السياسة وحسن الرعاية فيعاد بالمناقشة إلى دائرة الجمعية.

الباب السادس والثلاثون

في بيان النهي عن الغيبة

قال الله عزوجل : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات : ١٢].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلا كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقم الرجل ، فقال بعض القوم : ما أعجز فلانا : «أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه».

١٥٤

وقيل : أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه‌السلام : «من مات تائبا من الغيبة فهو آخر رجل يدخل الجنة ، ومن مات مصرا عليها فهو أول من يدخل النار».

وقيل : دعي إبراهيم بن أدهم إلى دعوة فحضر فذكروا رجلا لم يأتهم بالغيبة.

فقال إبراهيم : إنما فعل بي هذا نفسي حيث حضرت موضعا يغتاب فيه الناس فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام.

وقيل : مثل الذي يغتاب الناس كمثل من نصب منجنيقا يرمي به حسناته شرقا وغربا.

وقيل : يؤتى العبد يوم القيامة كتابه فلا يرى فيه حسنة. فيقول : أين صلاتي وصيامي وطاعتي؟ فيقال : ذهب عملك باغتيابك الناس ، وقيل : من اغتيب بغيبة غفر الله له نصف ذنوبه.

وقيل : يعطى الرجل كتابه بيمينه فيرى فيه حسنات لم يعملها ، فيقال : هذا بما اغتابك الناس وأنت لم تشعر.

وقيل للحسن البصري : إن فلانا اغتابك فبعث إليه طبقا فيه حلوى وقال : بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك فكافأتك.

وعن الجنيد قال : كنت ببغداد في مكان أنتظر جنازة أصلي عليها فلقيت فقيرا عليه أثر النسك يسأل الناس ، فقلت في نفسي : لو عمل هذا عملا يصون به نفسه كان أجمل به. فلما انصرفت إلى منزلي وكان لي شيء من الورد بالليل فلما قضيته ونمت رأيت ذلك الفقير جاءوا به على خوان ممدود ، وقالوا لي : كل لحمه فقد اغتبته فكشف لي عن الحال ، فقلت : ما اغتبته إنما قلت في نفسي. فقيل : ما أنت ممن يرضى منك بمثله اذهب واستحلله فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته يلتقط من الماء أوراقا من البقل مما يتساقط من غسل البقل ، فسلمت عليه ، فقال : يا أبا القاسم تعود؟ فقلت : لا فقال : غفر الله لنا ولك.

الباب السابع والثلاثون

في بيان الفتوة

الفتى من تخلى عن تدبير نفسه وماله وولده ووهب الكل لمن له الكل بل ليس له ما يهب فإنها ذهبت في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١]. تخلق بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠]. ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله تعالى شيئا إلا جمعه ، وما ترك الفحشاء والمنكر من معصة الله تعالى شيئا إلا جمعه. فتوة العامة بالأموال ، وفتوة الخاصة بالأموال والأفعال ، وفتوة خاص الخواص بهما وبالأحوال ، وفتوة الأنبياء بهما وبالأسرار ، وهو الذي ليس في باطنه دعوى ولا في ظاهره تصنع ومراءاة ، وسره الذي بينه وبين الله تعالى لا يطلع عليه صدره ، فكيف الخلق. ومن شأن الفتى النظر إلى الخلق بعين الرضى وإلى نفسه بعين السخط ومعرفة حقوق من هو فوقه ومثله ودونه ولا يتعرض لإخوانه بزلة أو حقرة أو كذب ، وينظر إلى الخلق كأنهم أولياء غير مستقبح منهم

١٥٥

إلا ما خالف الشرع مع أن ذلك ينسبه إلى الشيطان ذنبا لا إلى أخيه المسلم. فكيف إلى الله عزوجل مع أنه يغيره بيده ، فإن لم يستطع فبقلبه والإياس من الخلق وترك السؤال والتعريض وكتمان الفقر وإظهار الغنى وترك الدعوى وكتمان المعنى واحتمال الأذى ، وأن يؤثر مراد غيره على هواه خلقا وفعلا ، وأن لا يزال في حاجة غيره ويعطي بلا امتنان ولا يطالب أحدا بواجب حقه ويطالب نفسه بحقوق الناس ويرى الفضل لهم ويلزم نفسه التقصير في جميع ما يأتي به ، ولا يستكثر ما يأتي به ، ومن شأن الفتى ترك كل ما للنفس فيه حظ ، ويستوي عنده المدح والذم من العامة ، ومن شأنه الصدق والوفاء والسخاء والحياء وحسن الخلق وكرم النفس وملاطفة الإخوان ومجانبة سماع القبيح من الأصدقاء ، وكرم العهد بالوفاء والتباعد عن الحقد والحسد والغش ، ومن شأنه الحب والبغض في الله والتوسعة على الإخوان من ماله وجاهه إن أمكنه. وترك الامتنان عليهم بذلك وصحبة الأخيار ومجانبة الأشرار ، ويكون خصما على نفسه لربه ولا يكون له خصما غيرها فيجتهد في كسر هواها ، لأنه قيل : الفتى من كسر الأصنام وهي صنم الإنسان.

ومن شأن الفتى أن لا ينافر فقيرا لفقره ، ولا يعارض غنيا لغناه ، ويعرض عن الكونين ، ويستوي عنده المقيم والطارئ ، ومن يعرف ومن لا يعرف ، ولا تمييز بين الولي والكافر من جهة الأكل ، ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويسر المحبة وإذا كان في عشرة فلا يتغير إن كان ما أتى به عشيره أقل أو أكثر ، وأن لا يحمّر وجه أحد فيما لم يندبه الشرع إليه. ولا يربح على صديق وما خرج عنه لا يرجع فيه وإن أعطى شكر وإن منع صبر ، بل إن اعطى آثر وإن منع شكر الفتوة أن لا يشتغل بالخلق عن الحق ، وفتوة العارف بمعروفه ، وفتوة غيره بمعتاده ومألوفه.

فصل في السخاء

السخاء : تقديم حظوظ الإخوان على حظك مطلقا دنيويا وأخرويا والمبادرة إلى الإعطاء قبل السؤال وترك الامتنان بما أعطى وتعجيله وتصغيره وتستيره ، بل بذل النفس والروح والمال على الخلق على غاية الحياء ، وأن يكره أن يرى ذلّ السؤال في وجوه المسلمين وسخاء النفس بما في أيدي الناس أكبر من سخائها بالبذل ومروءة القناعة ، والرضى أكبر من مروءة العطاء وأكبر من ذلك كله السخاء بالحكمة.

الباب الثامن والثلاثون

في بيان مكارم الأخلاق

قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

معناه تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك. وتصل من قطعك ، وتعرض عمن جهل عليك ، وتحسن إلى من أساء إليك ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا بمكارم الأخلاق يقول : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». ومن السخاء إفشاء السّلام. وإطعام الطعام ، وصلة الأرحام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، ونيل المكارم باجتناب المحارم. مكارم الأخلاق من أعمال أهل

١٥٦

الجنة قول لطيف يتبعه فعل شريف. مكافأة المحسن بأكثر من إحسانه. صاحب مكارم الأخلاق هو الذي لا يحوجك أن تسأله ولا يزال يعتذر ضد اللئيم الذي لا يزال يفتخر ، والتغافل عن زلل الإخوان والمسارعة إلى قضاء حوائجهم ، وطرح الدنيا لمن يحتاج إليها.

الباب التاسع والثلاثون

في بيان القناعة

قال الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧]. قال كثير من المفسرين : الحياة الطيبة في الدنيا القناعة : والقناعة موهبة من الله عزوجل. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القناعة كنز لا يفنى». وعنه عليه الصلاة والسّلام : «من أراد صاحبا فالله يكفيه. ومن أراد مؤنسا فالقرآن يكفيه ، ومن أراد كنزا فالقناعة يكفيه ، ومن أراد واعظا فالموت يكفيه ، ومن لم يكفه هذه الأربع فالنار تكفيه». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كن ورعا تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما ، وأقل من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب». وقيل في قوله تعالى : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) [الحج : ٥٨]. يعني القناعة.

وقال وهب : إن العز والغنى خرجا يجولان فلقيا القناعة فاستقرا فيها.

وفي الزبور : «القانع غني وإن كان جائعا». وفي التوراة : «قنع ابن آدم فاستغنى اعتزل الناس فسلم ، ترك الحسد فظهرت مروءته ، تعب قليلا فاستراح طويلا». وقيل : وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع : «العز في الطاعة ، والذل في المعصية ، والهيبة في قيام الليل ، والحكمة في البطن الخالي ، والغنى في القناعة».

وقال بعضهم : انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص. وقيل : من تبعت عيناه إلى ما في أيدي الناس طال حزنه. وقيل : إن أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال له صاحبه : نعلق الثياب في جدران الكروم فقال : لا تغرز الوتد في جدران الناس ، فقال : نعلقه في الشّجر. فقال لا ، لأنه يكسر الأغصان. فقال : نبسطه على الحشيش. فقال لا ، لأنه علف الدواب ، ثم ولّى بظهره للشمس والقميص على ظهره حتى جفّ جانبه ، ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.

الباب الأربعون

في بيان السائل

من سأل وعنده قوت يومه فقد قطع الطريق على الضعفاء والمساكين ، من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت شمله وأمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ، ومن جعل الهموم هما واحدا كفاه الله

١٥٧

هم الدنيا والآخرة ، ومن تشعبت عليه الهموم لم يبال الله تعالى في أي أوديتها هلك ، جميع الدنيا من أولها إلى آخرها ما تساوي غم ساعة ، فكيف بعمرك القصير مع قليل يصيبك منها ، من رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه ووسعه عليه من اكتفى عن السؤال فقد أعطي خير النوال ، من احتجت إليه هنت عليه. إذا أردت أن تعيش حرا فلا تلزم مؤنة نفسك غيرها والزم القناعة ، كيف يليق بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد ، ولو يعلم الناس ما في المسألة ما سأل أحد شيئا. ولو يعلم الناس ما في حق السائل ما حرموا من سألهم أبدا ، لو صدق السائل ما قدس من رده. ما من رجل سأل رجلا حاجة فقضاها أو لم يقضها إلا غار ماء وجهه أربعين يوما.

الباب الحادي والأربعون

في بيان الشفقة على خلق الله تعالى

اعلم أن الشفقة على خلق الله تعالى تعظيم لأمر الله تعالى ، وذلك أن تعطيهم من نفسك ما يطلبون وأن لا تحملهم ما لا يطيقون ، وأن لا تخاطبهم بما لا يعلمون ، ولا بما يعلمون ، وأن يسرك ما يسرهم ، وأن يحزنك ما يحزنهم وفكرك في كيفية تحصيل منفعتهم الدينية والدنيوية إليهم ، وكيفية دفع ما يضرهم في دينهم ودنياهم حتى لو سقط الذباب على وجه أحدهم لوجدت لها ألما في قلبك ، وأن تكون لأن تحفظ قلب مؤمن شرعا أحب إليك من كذا وكذا حجة وغزوة ، وأن تختار عز أخيك على عزك وذل نفسك على ذل أخيك.

الباب الثاني والأربعون

في بيان آفة الذنوب

طوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه ، قيل : أعظم الذنوب من ظلم من لم يعرفه ولم يره. من أطاع الله تعالى سخر له كل شيء ، ومن عصاه سخره لكل شيء وسلط عليه كل شيء ، لو لم يكن في الإصرار على الذنب من الشؤم إلا أن يكون كل ما يصيبه فهو عقوبة من سعة أو من ضيقة أو صحة أو سقم لكان كافيا ، ولو لم يكن في ترك المعصية إلا ضد ذلك لكان كافيا. إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. ليست اللعنة سوادا في الوجه أو نقصا في المال إنما اللعنة في أن لا يخرج من ذنب إلا وقع في مثله أو شر منه. لا تكن في التوبة أعجز منك في الذنب ما أنكرت من تغير الزمان والإخوان والزوجات ، فالذنوب أورثت ذلك حتى في خلق الدابة وفأر البيت ، ونسيان القرآن ، أو شيء من العلم ، أو نقل تلاوته من الأحرار ، والعقوبة موضوعة للشدة والمشقة ، فعقوبة كل من حيث يشترك حتى الاحتلام وقد تكون عقوبة الذنب ذنبا مثله إذا عظم كثواب الطاعة. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

١٥٨

الباب الثالث والأربعون

في صفة صلاة أهل القرب

إذا دخلت في الصلاة فانس الدنيا وأهلها وأقبل على الله تعالى إقبالك عليه يوم القيامة ، واذكر وقوفك بين يدي الله ليس بينك وبينه ترجمان وهو مقبل عليك تناجيه وتعلم بين يدي من أنت واقف فإنه الملك العظيم.

وقيل لبعضهم : كيف تكبر التكبيرة الأولى؟ فقال : ينبغي إذا قلت : الله أكبر أن يكون مصحوبك في الله التعظيم مع الألف. والهيبة مع اللام والمراقبة والفرق مع الهاء.

واعلم أن من الناس من إذا قال الله أكبر غاب في مطالعة العظمة ، وصار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلاة ، ثم يلقي الخردلة فما يخشى من الوسوسة وحديث النفس وما يتخايل في الباطن هو من الكون الذي صار بمنزلة الخردلة وألقيت فكيف تزاحم الوسوسة مثل هذا العبد ، والله تعالى أعلم.

جعلنا الله وإياكم من عباده المقربين وعلمائه العاملين وأصفيائه المخلصين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وقائد الغر المحجلين ، وعلى آله وصحبه المقربين وأزواجه الطيبين الطاهرين وذريته المخلصين ، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، والحمد لله رب العالمين.

١٥٩

قواعد العقائد

في

التوحيد

١٦٠