مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

والنائم ، ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الصبي في المهد.

وللسماع شروط كثيرة ، والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته ، وله مفهومات كثيرة كما للقرآن ، وروي عن أبي سفيان بن أبي الخير المنهى أنه حضر في مجلس زاهر بن أحمد السرخسي ، فكان أول حديث روي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ، فقام وقال : يكفيني هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره. فهكذا هو سماع الناس.

(وفرقة أخرى) اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة ، واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة ، إذ قوام الدين والسنة بعلم النحو واللغة ، فأفنوا أعمارهم في دقائق النحو واللغة. وذلك غرور عظيم ، فلو عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة الترك ، والمضيع عمره في لغة العرب كالمضيع عمره في لغة الترك والهند وغيرهم ، وإنما فارقهم من أجل ورود الشرع. وكفى من اللغة علم الغريب في الكتاب والسنة ، ومن النحو ما يتعلق بالكتاب والسنة ، وأما التعمق فيه إلى درجة لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه وصاحبه مغرور.

الصنف الثاني من المغرورين أصحاب العبادات والأعمال

والمغرورون منهم فرق كثيرة :

منهم من غروره في الصلاة.

ومنهم من غروره في تلاوة القرآن.

ومنهم من غروره في الحج.

ومنهم من غروره في الجهاد.

ومنهم من غروره في الزهد.

(ومنهم فرقة) أهملوا الفرائض واشتغلوا بالنوافل ، وربما تعمقوا فيها حتى يخرجوا إلى السرف والعدوان ، كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء ، فيبالغ ولا يرتضي الماء المحكوم بطهارته في الشرع ، ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة ؛ وإذا آل الأمر إلى أكل الحرام ، قدر الاحتمالات القريبة بعيدة ، وربما أكل الحرام المحض. ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أولى ، بدليل سير الصحابة رضي الله عنهم ، فقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية مع احتمال ظهور النجاسة ، وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال خوفا من الوقوع في الحرام.

(وفرقة أخرى) غلبت عليهم الوسوسة في نية الصلاة ، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة ، بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة ، وربما أخرج الصلاة عن الوقت ؛ وإن أتم تكبيرة الإحرام يكون في قلبه تردد في صحة نيته. وقد يتوسوس في التكبير حتى يغير صفة التكبير

٤٤١

لشدة الاحتياط ويفوته الاستماع للفاتحة ، ويفعل ذلك في أول الصلاة ثم يغفل في جميعها ، ولا يحضر قلبه ويغتر بذلك ، ولم يعلم أن حضور القلب في الصلاة هو الواجب ، وإنما غره إبليس وزين له ذلك وقال له : ذلك الاحتياط تتميز به عن العوام وأنت على خير عند ربك.

(وفرقة أخرى) غلبت عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة من مخارجها وكذلك سائر الأذكار ، فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء ، لا يهمه غير ذلك ، ولا يتفكر في أسرار فاتحة الكتاب ولا في معانيها ؛ ولم يعلم أنه لم يكلف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام ؛ وهذا غرور عظيم. ومثلهم من حمل الرسالة إلى مجلس السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها ، فأخذ يؤدي الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويعيدها مرة بعد أخرى ، وهو مع ذلك غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس ؛ فهذا لا شك أنه تقام عليه السياسة ، ويرد إلى دار المجانين ، ويحكم عليه بفقد العقل.

(وفرقة أخرى) اغتروا بتلاوة القرآن ، فيهدروا به هدرا ، ربما يختمون في اليوم والليلة ختمة ، وألسنتهم تجري به وقلوبهم تتردد في أودية الأماني والتفكر في الدنيا ، ولا تتفكر في معاني القرآن لينزجر بزواجره ، ويتعظ بمواعظه ، ويقف عند أوامره ونواهيه ، ويعتبر بمواضع الاعتبار منه ، ويتلذذ به من حيث المعنى لا من حيث النظم. فمن قرأ كتاب الله في اليوم والليلة مائة مرة ثم ترك أوامره ونواهيه ، يستحق العقوبة. وربما كان له صوت طيب ، فهو يقرأ ويتلذذ به ويغتر باستلذاذه ، ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله سبحانه وسماع كلامه ، وهيهات ما أبعده! إذ لذته في صوته ، فلو أدرك لذة كلام الله ما نظر إلى صوته وطيبه ، ولا تعلق خاطره به ؛ ولذة كلام الله إنما هي من حيث المعنى ؛ فهو في غرور عظيم.

(وفرقة أخرى) اغتروا بالصوم ، وربما صاموا الدهر وصاموا الأيام الشريفة ، وهم في ذلك لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة ، ولا خواطرهم عن الرياء ، ولا بطونهم عن الحرام عند الإفطار ولا من الهذيان بأنواع الفضول. فهؤلاء تركوا الواجب ، واتبعوا المندوب ، وظنوا أنهم يسلمون ، وهيهات! إنما يسلم من أتى الله بقلب سليم ؛ فهم مغرورون أشد الغرور.

(وفرقة أخرى) اغتروا بالحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال ، وربما ضيعوا الصلاة المكتوبة في الطريق ، وربما عجزوا عن طهارة الثوب والبدن ، ويتعرضون لمكس الظلمة حتى يؤخذ منه ، ولا يحترزون في الطريق من الرفث والخصام. وربما جمع بعضهم الحرام فأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به الرياء والسمعة ، فيعصي الله في كسب الحرام أولا ، وفي إنفاقه للرياء ثانيا. ثم يبلغ إلى الكعبة ويحضرها بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذميم الصفات ، وهو مع ذلك يظن أنه على خير من ربه ، وهو مغرور.

٤٤٢

(وفرقة أخرى) أخذت في طريق الخشية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وينكر أحدهم على الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه ، وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرئاسة والعزة ، وإذا باشر منكرا وأنكره عليه أحد غضب وقال : أنا المحتسب فكيف تنكر علي! وقد يجمع الناس في المسجد ، ومن تأخر عنه أغلظ عليه في القول. وربما عرض له الرياء والسمعة والرئاسة ، وعلامته أنه لو قام بالمسجد غيره تجرأ عليه ، ومنهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله ، ولو جاء غيره وأذن في وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال : لم آخذ حقي وزوحمت. ومنهم من يتقيد إمام مسجد يظن أنه خير ، وغرضه أن يقال إنه إمام مسجد كذا وكذا ؛ وعلامته أنه لو قدم غيره وإن كان أورع منه وأعلم ثقل عليه ذلك.

(وفرقة أخرى) جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهما ، ولم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا ظواهرهم وبواطنهم ، وربما كانت قلوبهم متعلقة ببلادهم ومنازلهم. وتراهم يتحدثون بذلك ويقولون جاورت بمكة كذا وكذا سنة. وهذا مغرور ، لأن الأقوم له أن يكون في بلده وقلبه متعلق بمكة. وإن جاور فليحفظ حق الجوار ؛ فإن جاور بمكة حفظ حق الله ، وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن يقدر على ذلك. وهؤلاء مغرورون بالظواهر ، فظنوا أن الحيطان تنجيهم ، وهيهات! وربما لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير. وما أصعب المجاورة في حق الخلق ، فكيف مجاورة الخالق! وما أحسن مجاورته بحفظ جوارحه وقلبه.

(وفرقة أخرى) زهدت في المال ، وقنعت من الطعام واللباس بالدون ، ومن المسكن بالمساجد ، وظنوا أنهم أدركوا رتبة الزهاد ، وهم مع ذلك راغبون في الرئاسة والجاه. والرئاسة إنما تحصل بأحد أشياء : إما بالعلم ، أو بالوعظ ، أو بمجرد الزهد ؛ فقد تركوا أهون الأمرين وبادروا إلى أعظم المهلكات ؛ لأن الجاه أعظم من المال ، ولو ترك أحدهم الجاه وأخذ المال كان إلى السلام أقرب.

وهؤلاء مغرورون ، ظنوا أنهم من الزهاد في الدنيا وهم لم يعلموا معنى الدنيا ، وربما يقدم الأغنياء على الفقراء. ومنهم من يعجب بعلمه ، ومنهم من يؤثر الخلوة والعزلة وهو عن شروطها خال ، ومنهم من يعطى له المال فلا يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده ، وهو راغب في المال والناس ، خائف من ذمهم. ومنهم من شدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى يصلي في اليوم والليلة مثلا ألف ركعة ويختم القرآن ، وهو في جميع ذلك لا تخطر له مراعاة القلب وتفقده من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات. وربما يظن أن العبادات الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات ، وهيهات! ذرة من ذي تقوى ، وخلق واحد من خلق الأكياس ، أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح. ثم قد يغتر بقول من يقول له : إنك من أوتاد الأرض ، أو من أولياء الله وأحبابه ؛ فيفرح بذلك ويظهر له تزكية نفسه ، ولو شوتم يوما واحدا مرتين أو ثلاثا لكفر وجاهد من فعل ذلك به ، وربما قال لمن سبه : لا يغفر الله لك أبدا.

٤٤٣

(وفرقة أخرى) حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ؛ فترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل وأمثال هذه النوافل ، ولا يجد لصلاة الفرض لذة ولا خيرا من الله تعالى ، لشدة حرصه على المبادرة بها في أول الوقت ، وينسى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ما تقرّب المتقرّبون بأفضل من أداء ما افترضه الله عليهم".

وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور ، بل قد يتعين على الإنسان فرضان : أحدهما يفوت والآخر لا يفوت ، أو نفلان : أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته ، فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة ، وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائض كلها على النوافل ، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التي لا قائم بها على ما قام بها غيره ، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه ، وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد ، وتقديم نفقة الأبوين على الحج ، وتقديم الجمعة إذا حضر وقتها على العيد ، وتقديم الدين على فروض غيره. وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك ويتنبه ، ولكن الغرور في الترتيب دقيق خفي لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون في العلم.

الصنف الثالث من المغرورين أرباب الأموال

وهم فرق كثيرة :

(فرقة منهم) يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر والصهاريج للماء وما يظهر للناس ، ويكتبون أسماءهم بالآجر عليه ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم ، وهم يظنون أنهم استحقوا المغفرة بذلك ؛ وقد اغتروا فيه من وجهين :

أحدهما : أنهم اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشا والجاهات المحظورة ؛ فهؤلاء قد تعرضوا لسخط الله في كسبها ، فإذا عصوا الله في كسبها فالواجب عليهم التوبة ورد الأموال إلى أهلها إن كانوا أحياء ، وإلى ورثتهم إن لم يبق منهم أحد وانقرضوا. فإن لم يبق لهم ورثة فالواجب عليهم أن يصرفوها في أهم المصالح ، وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين ؛ فأي فائدة في بنيان يستغني عنه ويموت ويتركه؟ وإنما غلب على هؤلاء الرياء والشهرة ولذة الذكر.

والوجه الثاني : أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق وعلو الأبنية ، ولو كلف واحد منهم أن ينفق دينارا على مسكين لم تسمح نفسه بذلك ، لأن حب المدح والثناء مستكن في باطنه.

(وفرقة أخرى) ربما اكتسبوا المال الحلال ، واجتنبوا الحرام ، وأنفقوه على المساجد. وهم أيضا مغرورون من وجهين :

أحدهما : الرياء وطلب السمعة والثناء ؛ فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم

٤٤٤

أهم ، فإن المساجد كثيرة والغرض منها الجامع وحده فيجزئ عن غيره ، وليس الغرض بناء مسجد في كل سكة وفي كل درب ؛ والمساكين والفقراء محتاجون. وإنما خف عليهم دفع المال في بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس ، ولا يسمع في الثناء عليه من عند الخلق ، فيظن أنه يعمل لله وهو يعمل لغير الله (ونيته أعلم بذلك ، وإنما نيته عليه غضب ، وقال إنما قصدت الله عزوجل).

والثاني : أنه يصرف في زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهي عنها الشاغلة قلوب المصلين ، لأنهم ينظرون إليها فتشغلهم عن الخضوع في الصلاة عن حضور القلب وهو المقصود من الصلاة ؛ فكل ما طرأ في صلاتهم وفي غير صلاتهم فهو في ميزان الذي بناه ، إذ لا يحل تزيين المسجد بوجه. قال الحسين رضي الله عنه : لما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبني مسجده بالمدينة أتاه جبريل وقال : ابنه سبعة أذرع طولا في السماء فلا تزخرفه ، ولا تنقشه ، فهؤلاء رأوا المنكر معروفا واتكلوا عليه فهم مغرورون في ذلك.

(وفرقة أخرى) ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ، ومن الفقراء من عادته الشكر وإفشاء المعروف ، فيكرهون التصدق في السر ، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم خيانة عليهم وكفرانا للمعروف ، وربما تركوا جيرانهم جائعين ؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب ؛ يهوى لهم السفر ، ويبسط لهم في الرزق ، ويرجعون مجرمين مسلوبين يهوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال ، وجاره مأثور إلى جنبه فلا يواسيه ولا يتفقده.

(وفرقة أخرى) من أرباب الأموال ؛ يحتفظون بالأموال ويمسكونها بحكم البخل ، ويشتغلون بالعبادة البدنية التي لا يحتاجون فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن. وهم مغرورون ، لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم ، فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال ، فاشتغلوا بطلب فضائل وهم مشتغلون عنها. ومثلهم كمثل من دخلت في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك ، فاشتغل بطلب السكنجبين ليسكن به الصفراء ؛ ومن لدغته الحية كيف يحتاج إلى ذلك؟ وقيل لبشر الحافي : إن فلانا كثير الصوم والصلاة ؛ فقال : المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره ، إنما حال هذا إطعام الطعام للجائع والإنفاق على المساكين ، فهو أفضل له من تجويع نفسه ومن صلاته مع جمعه الدنيا ومنعه الفقراء.

(وفرقة أخرى) غلب عليها البخل ، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط ، ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الرديء الذين يرغبون عنه. ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في حوائجهم ، أو من يحتاجون إليه في المستقبل للاستئجار له في الخدمة ، ومن لهم فيه على الجملة غرض ، ويسلمونها إلى شخص يعينه واحد من الكبار ممن يستظهر بخشيته لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجته ، وكل ذلك مفسد للنية ومحبط للعمل ، وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع لله وهو فاجر ، إذ يطلب بعبادة الله غرضا من غيره. فهذا وأمثاله مغرورون بالأموال.

٤٤٥

(وفرقة أخرى) من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء ، اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم ، فاتخذوا ذلك عادة ، ويظنون أن لهم أجرا على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ ؛ فهم مغرورون ، لأن فضل مجالس الذكر إنما يحصل لكونها مرغبة في الخير ، فإن لم تهيج الرغبة فلا خير فيها. والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل ، فإن لم تبعث على العمل فلا خير فيها. وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ ، وربما تداخله رقة كرقة النساء فيبكي ، وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزال يصفر بين يديه ويقول : يا سلام سلم ، ونعوذ بالله ، وحسبي الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور. وإنما مثله كمثل المريض الذي يحضر مجالس الأطباء ويسمع ما يصفونه من الأدوية ولا يفعلها ولا يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك ؛ وكذلك الجائع الذي يحضر عند من يصف الأطعمة اللذيذة ، فكل وعظ لا يغير منك صفة تغييرا تتغير به أفعالك ، حتى تقبل إلى الله عزوجل وتعرض عن الدنيا وتقبل إقبالا قويّا وإن لم تفعل بذلك الوعظ كان زيادة حجة عليك ، فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا.

الصنف الرابع من المغرورين المتصوفة

وما أغلب الغرور على هؤلاء! وما المتصوفة من أهل هذا الزمان إلا من عصمه الله. اغتروا بالزي والمنطق والهيئة ، فشابهوا الصادقين من الصوفية في زيهم ، وهيئتهم ، وألفاظهم ، وآدابهم ، ومراسمهم ، واصطلاحاتهم ، وأحوالهم الظاهرة في السماع ، والرقص ، والطهارة ، والصلاة ، والجلوس على السجادة مع إطراق الرأس ، وإدخاله في الجيب كالمتفكر مع تنفيس الصعداء ، وفي خفض الصوت في الحديث ، وفي الصياح ، إلى غير ذلك. فلما تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك ينجيهم ، فلم يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة ، والرياضة ، والمراقبة للقلب ، وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الجلية والخفية ؛ وكل ذلك من منازل التصوف. ثم إنهم يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ، ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ، ويتحاسدون على النقير والقطمير ، ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه.

فهؤلاء غرورهم ظاهر ، فمثلهم كمثل عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال والمقاتلين ثبتت أسماؤهم في الديوان ، فتزيت بزيهم ، ووصلت إلى الملك ، فعرضت على ميزان العرض فوجدت عجوز سوء ، فقيل لها : أما تستحي في استهزائك بالملك؟ اطرحوها حول الفيل! فطرحت حول الفيل فركضها حتى قتلها.

(وفرقة أخرى) زادت على هؤلاء في الغرور ، إذ صعب عليها الاقتداء في بذالة الثياب والرضا بالدون في المطعم والمنكح والمسكن ، وأرادت أن تتظاهر بالتصوف ، ولم تجد بدّا من التزيي بزيهم ، فتركت الخز والإبريسم وطلبت المرقعات النفيسة والفوط الرفيعة

٤٤٦

والسجادات المصوغات ، وقيمتها أكثر من قيمة الخز والإبريسم. ولا يجتنبون معصية ظاهرة فكيف بالباطنة! وإنما غرضهم رغد العيش وأكل أموال السلاطين ، وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير. وضرر هؤلاء على المسلمين أشد من ضرر اللصوص ، لأن هؤلاء يسرقون القلوب بالزي ، فيقتدي بهم غيرهم فيكونون سبب هلاكهم ، فإن اطلع على فضائحهم فيظنون أن أهل التصوف كذلك ، فيصرحون بذم الصوفية على الإطلاق.

(وفرقة أخرى) ادعت علم المكاشفة ، ومشاهدة الحق ، ومجاوزة المقامات ، والوصل والملازمة في عين الشهود ، والوصول إلى القرب ؛ ولا يعرف ذلك والوصول إليه إلا باللفظ والاسم ، فتلقف من الألفاظ الطامة كلمات ، فهو يرددها وهو يظن أن ذلك من أعلى علم الأولين والآخرين. فهو ينظر إلى الفقهاء والمقرئين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلا عن العوام ، حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك حياكته ويلازمهم أياما معدودة ، فيتلقف تلك الكلمات الزائفة فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحي ، ويخبر عن أسرار ، ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء ، فيقول في العباد : أجراء متعبون ؛ ويقول في العلماء : إنهم بالحديث محجوبون ، ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من القربين ، وهو عند الله من الفجار المنافقين ، وعند أرباب القلوب من الحمقاء الجاهلين ؛ لم يحكم قط علما ، ولم يهذب خلقا ، ولم يرتب علما ، ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان ، ولو اشتغل بما ينفعه كان أحسن له.

(وفرقة أخرى) جاوزت هؤلاء ، فأحسنت الأعمال وطلبت الحلال ، واشتغلت بتفقد القلب ، وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب ، من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. فمنهم من يدعي الوجد ويحب الله ، ويزعم أنه وإله بالله ، ولعله قد يخيل بالله خيالات فاسدة هي بدعة أو كفر ، فيدعي حب الله قبل معرفته ، وذلك لا يتصور قط. ثم إنه لا يخلو قط ما يفارقه ما يكرهه الله ، وإيثار هوى نفسه على أوامر الله ، وعن ترك بعض الأمور حياء من الخلق ؛ ولو خلا بنفسه لما تركها حياء من الله ، وليس يدري أن كل ذلك يناقض الحب. وبعضهم يميل إلى القناعة والتوكل ، فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح التوكل ، وليس يدري أن ذلك بدعة لم تنقل عن الصاحبة وسلف هذه الأمة ، وقد كانوا أعلم بالتوكل منه ، ما فهموا من التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد ، بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله لا على الزاد ، وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واثق به.

وما مقام من المقامات المنجية إلا وفيه غرور قد اغتر بها قوم ؛ وقد ذكرنا مداخل الآفات فيها في ربع المنجيات من كتاب الإحياء.

(وفرقة أخرى) ضيقت على أنفسها أمر القوت ، حتى طلبت منه الحلال الخالص ، وأهملت

٤٤٧

تفقد القلب والجوارح من غير هذه الخصلة الواحدة.

ومنهم من استعمل الحلال في مطعمه وملبسه ومكسبه ويتعمق في ذلك ، ولم يدر أن الله لم يرض من العباد إلا بالكمال في الطاعات ، فمن اتبع البعض وأهمل البعض فهو مغرور.

(وفرقة أخرى) ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة ، فقصدوا لخدمة الصوفية ، فجمعوا قوما وتكلفوا خدمتهم ، واتخذوا ذلك شبكة لحطام الدنيا وجمعا للمال ؛ وإنما غرضهم التكثير والتكبير ، وهم يظهرون الخدمة والتواضع ، ويطلبون أن غرضهم الارتفاق وغرضهم الاستتباع ، ويظهرون أن غرضهم الخدمة ، وهم يجمعون الحرام والشبهات لينفقوا عليهم فتكثر أتباعهم وينتشر بتلك الخدمة ذكرهم. ومنهم من يأخذ من أموال السلاطين وينفق عليهم ، ومنهم من يأخذ من أموال السلاطين والظلمة لينفق ذلك بطريق الحج على الصوفية ، ويزعم أن غرضه البر والإنفاق. والباعث للجميع إنما هو الرياء والسمعة ، وذلك إهمالهم لجميع أوامر الله ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه ؛ ومثال الذي ينفق المال الحرام في طريق الحج ، كمن يعمر مسجدا ويطينه بالعذرة وغيرها من النجاسات ويزعم أن قصده العمارة.

(وفرقة أخرى) اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها ، فصاروا يتعمقون فيها ، فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علما وحرفة لهم ؛ فهم في جميع أحوالهم مشتغلون بالتحفظ من عيوب النفس باستنباط دقيق الكلام في آفاتها ، فيقولون : هذا في النفس عيب ، والغفلة عن كونه عيبا عيب ، ويستعفون فيه بكلمات مسلسلة ، فضيعوا في ذلك أوقاتهم ، لأنهم وقعوا مع أنفسهم ولم يتعلقوا بخالقهم. ومثلهم من اشتغل بأوقات الحج وعوائقه ولم يسلك طريق الحج ، وذلك لا يغنيه عن الحج ؛ فهو مغرور.

(وفرقة أخرى) جاوزت هذه المرتبة وابتدؤوا سلوك الطريق وانفتحت لهم أبواب المعرفة ، فلما شموا من مبادئ المعرفة رائحة ، تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبتهم غرائبها ، فتعلقت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها ، وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم. وذلك غرور ، لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية ، فمن وقف مع كل أعجوبة وتقيد قصرت خطاه وحرم الوصول إلى المقصد ، ومثال ذلك كمن قدم على ملك فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار ، ولم يكن قد رآها قبل ذلك ولا رأى مثلها ، فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذي يكون فيه لقاء الملك ، فانصرف خائبا.

(وفرقة أخرى) جاوزت هؤلاء ولم تلتفت إلى ما يفيض عليها من الأنوار في الطريق ، ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ، ولم يلتفتوا إليها ولا عرجوا عليها ، بل أخذوا جادين في السير ، فلما قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلوا ، فوقفوا ولم يتعدوا ذلك ، فغلطوا ؛ فإن لله سبحانه وتعالى سبعين حجابا من نور وظلمة ، ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب إلا ويظن أنه قد وصل ؛ وإليه الإشارة بقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه‌السلام : (فَلَمَّا جَنَّ

٤٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سرّ العالمين وكشف ما في الدّارين

خطبة الكتاب

الحمد لله الأول في ربوبيته ، والقديم في أزليته ، والحكيم في سلطنته ، والكريم في عزته ، لا شبيه له في ذاته وصنعته ، ولا نظير له في مملكته ، صانع كل شيء مصنوع بقدرته ، المتكلم بكلامه الأزليّ ليس بخارج من صفته ، أحمده على نعمته ، وأستعين به على دفع نقمته ، هو الله ربي وحده لا شريك له الواحد في ربوبيته ، الذي يختص من يشاء برحمته ، ختم الأنبياء بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وعترته.

أما بعد :

فلما رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة ، وسألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتابا معدوم المثل لنيل مقاصدهم واقتناص الممالك وما يعينهم على ذلك ، استخرت الله فوضعت لهم كتابا ، وسميته بكتاب" سر العالمين وكشف ما في الدارين" وبوّبته أبوابا ، ومقالات وأحزابا ، وذكرت فيه مراتب صوابا ، وجعلته دالا على طلب المملكة وحاثا عليها ، وواضعا لتحصيلها أساسا جامعا لمعانيها ، وذكرت كيفية ترتيبها وتدبيرها ، فهو يصلح للعالم الزاهد ، وشريك شرك المالك بتطييب قلوب الجند وجذبهم إليه بالمواعظ. فأول من استحسنه وقرأه علي بالمدرسة النظامية سرّا من الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر رجل من أرض المغرب يقال له محمد بن تومرت من أهل سلمية ، وتوسمت منه الملك. وهو كتاب عزيز لا يجوز بذله ، لأن تحته أسرارا تفتقر إلى كشف ، إذ طباع العالم نافرة عنها ، وتحته علوم عزيزة وإشارات كثيرة دالة على غوامض أسرار لا يعرفها إلا فحول الحكماء. فالله يوفقك للعمل به فإنه دال على كل ما تريد إن شاء الله تعالى.

ترجمة الأبواب وهي ثلاثون مقالة

فصل

اعلم أن الملك عظيم وعقيم ، عليه وقع الاشتباك والمناقشة بين الصالح والطالح ، والخاسر والرابح ، فمنه يتشعب الحسد وكل عرض وغرض مزعزع. فلا بد من أصل ومرتبة ،

٤٤٩

وتحصيل وصبر ، وجمع أموال لبلوغ الآمال. وأمّ الغرر في تحصيله هو علو الهمة ، كما قال معاوية رضي الله تعالى عنه : همّوا بمعالي الأمور لتنالوها! فإني لم أكن للخلافة أهلا فهممت بها فنلتها. وقد سرت بك قصص الأولين ، فانظر في أخبارهم وآثارهم! فما بلغ أحد درجة الملك بأب وأم غير قليل ، وكم نزع الملك من يد وارث مستحق مثل بيت نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وسنتلو عليك نبذا من قصة ذي القرنين : وهو صعب بن جبل ، وأبوه نساج واسم أمه هيلانة : كان يتيما في بني حمير ، سمعت أمه ببيت الصنائع في مدينة قسطنطين فحملت ابنها إلى ذلك البيت ، فشاهد صورة الملك فوق الصنائع فقالت أمه : يا بني اختر منها ما تريد! فوضع يده على تاج الملك فانتهرته مرارا فلم ينته ، فنظر إليها يونان فقال لها : أنت هيلانة وهذا ابنك صعب بن جبل؟ فقالت : نعم ، فقال : آخذ عهد ذي القرنين وزمامه على أني وذريتي في أمانك ، فأنت الملك الذي تسحب ذيلك بطريق التملك شرقا وغربا. فحملته أمه الى أرض بابل كاتمة أمره ، فكان من بدوّ أمره وشواهد سعادته ثلاث منامات رآهن في ثلاث ليال : فأولهن أنه رأى كأن الأرض صارت خبزا فأكلها ، وفي الثانية رأى كأنه قد شرب البحار وأكل طينها ، وفي الثالثة رأى كأنه رقي في السماء فقد نجومها ورماهن إلى الأرض ، وركب الشمس وسحب ناصية القمر ، فلما اجتمع بالخضر عليه‌السلام فسره عليه فبشره بنيل الملك الأعظم ، وستصحب نبيّا وحكيما وكم من مثله إن اعتبرت ، فاركب بسر علوّ الهمة وحصل الانتهاء ليتم لك كيمياؤها ، وصيّر عندك نديما كاتما مطلعا على كتبها ـ أعني بها كتب سر العالمين ـ ثم حصل أرباب صناعة التقليب الذين هم علماء تقلب الكيمان قادرين على صبغ الأحمر والأبيض ، فإن كنت قليل الحجال ضعيف العضد وقليل المال فكن كثير الفضل والعلم ، واتخذ لنفسك زاوية على طريق التزهد ، واجذب إليك تلاميذ وكثّر عددهم ، واتخذ طريق الكرامات لينصبوا إليك ، واستهو الكبار ، واسلك طريق الصلاح وزنها لنفسك ، واختل فإذا هب نسيم سعادتك فاكشف لتلاميذك ما الناس عليه من الفسق والفجور وارتكاب ما لا يجوز من كل أمر منكر ، وأمر أصحابك تستهوي وتجذب كل طائفة منهم لطائفة قوم آخرين ، فإذا استقوت شرذمتك فخذ الخواص من الناس باللين والموعظة ، والمعاندين بالجدل ، وأولي الغلظة بالغلظة ، ألم تر إلى بدو الإسلام (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] فلما وصل إلى قمة السعادة قر سيفه (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] وعند الضعف والمسالمة أخذ الجزية والصلح (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١] وعند ربح السعادة ، وارتفاع أطناب خيم الإرادة (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] فكن أيها الطالب للملك على هذه الوتائر ، وخاطب الناس على قدر عقولهم ، وأظهر العدل ، واحترم أولي الفضل ، وأشبع الجند ، واجبر الكسير ، وأنصف ولو من نفسك ، وأشبع حجّابك وحكامك وعمالك فإن لم تفعل سرت الرشوة إلى بطلان الحق وتعطيله ، وفشا ظلمك في

٤٥٠

الرعية ، ومالت القلوب عنك ، وربما ذهبت باطنا وظاهرا. واعلم أن المظلوم له همة تكون وافية في عكس أغراضك ، مثل همم أرباب الاستقامة ، فإنها مؤثرة في الفلك لاستجلاب ماء الغمام. وسأتلو عليك قصة السلطان ابن سملتكين وقد نفذ رسولا إلى ملك الهند وقال : ما سبب طول أعماركم مع جحودكم للصانع وتكذيبكم للرسل والوسائط ، ونحن قصار الأعمار مع تصديقنا وإيماننا؟ فقال ملك الهند لرسوله : انظر إلى هذه الشجرة التي فوقها ثمرة ، لا أعطيك الجواب حتى تنقطع. ثم أمر بالإدرار عليه وحسن الإقامة ، فضاق صدره وتعلقت همته بقلعها ، فلم يك إلا مدة قريبة إذ سمع هزة وقعت والناس يهرعون ، ومشى معهم ، فإذا الشجرة واقعة والملك مفكر ، فلما بصر الملك بالرسول قال له : اذهب فهذا جوابك ، وقل للسلطان هذه همة واحدة أثرت في قلع شجرة مثمرة ، فكيف همم جماعة من المظلومين لا تؤثر في قلع الظالمين! إذ دعاء المظلوم محمول فوق الغمام ، وقد ورد في بعض الكتب السالفة : أنا الظالم إن لم أنتقم من الظالم. واعلم أن العدل وبسط باع السلطنة بالهيبة مثل القتل والصلب والقطع يثمر الأمن وتمهيد الأرض وطمأنينة قلوب الرعية ، إذ السلطان ظل ربه في الأرض وملجؤها ، يأوي إليه كل مظلوم. ولا تستهب وضع الشيء في مكانه إذ" القتل أنفى للقتل"(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] وكان عمرو بن العاص صحابيّا بدريّا نبه معاوية رضي الله عنه وجسره على فظائع الأفعال بقصائده اللامية والنونية التي قال فيها :

معاويّ في الخلق لا نفد له

معاويّ إنّي لم أبايعك فلته

فينا ولو مرّة في الدّهر واحده

وكم للشّيخ عندي من خزايا

تدلّ لها المغازي والمخازي

وطريق آخر في استدعاء المملكة وترتيبها وهو بذل الأموال ، وطريق آخر وهو بالسيف معقود ، لكنه مفتقر إلى ترك الشح مع الجند وإجلاء دعوة المظلوم ، ولا يتعرض إلى الشقوص الموقوفة.

ولتجعل للرعية والسواد في كل يوم مدة لمطالعة أحوالهم ، فقد يتشعب الظلم مع الغفلة لا سيما مع الحجّاب والعمال ، ولتنظر في مخازي الكتاب فما كذبت بنت كسرى إذ سمته ديوانا ، ولتنظر في وقت العشيّ ما كتبه الكتّاب بالنهار ، لا يتم عليه حيل أرباب الدساتير ، فكم من مظلوم عن حقه صدّ لغفلة الملك عنه. فإذا أردت أن لا تنحجب عنك حال فامنع الكلام ، وأمر بأخذ القصاص ، ووقع فيها بما تراه والله تعالى أعلم.

باب [وهو المقالة الثانية] الترتيب في قعود الملك وسياسته ونومه وليلته

إذا صليت صبحك تقعد في ذكر الله تعالى إلى طلوع الشمس ، ثم تأمر أهل دارك ومن حولك بما تريده من حوائجك من مأكل ومشرب ، ثم تركب لتسمع أو يلقاك محجوب أو تلبي مظلوما أو تطلع على الحوادث ، ثم تعود وأنت محفوف بالقعقعة والسلاح والتحرز من طمع الأعداء ، ثم تقعد في دار

٤٥١

عيد لك لكشف المظالم وسماع الرسل : تترك الناس صفين يمينا وشمالا والوسط مفتوح لئلا يحجب عنك منظور وصاحب حاجة وتسأل عمن تنكره ، ولا تستخدم من لا تعرفه إلا بخبرة أو ضمان أو تسليم إلى عقيدة. وليكن لك جماعة من أرباب العلم والعقل والتجارب في الرأي والمشورة ، ووزراء خير لا فسقة ، فمن ليس بأمين لنفسه فكيف على سواه؟ ثم تنهض من مجلسك في الظهر ، وليكن للملك عين في الديوان لما يجري فإذا دخل منزله بسط الطعام ومد الخوان للجند والإخوان. وليكن كثير التعهد والتفقد وجبر القلوب المنكسرة. وليكن على الطبيخ أمين ما أساء إليه ، فإن القلع ثمر الإساءة ، ثم يأخذ طعم الطبيخ طابخه ، ثم حامله ، ثم واضعه عند الملك ، يغمس اللقمة في جميعه ، فقد مات شهريار بن ذار بنصف تفاحة قطعت ، وقد مات شاسان بنصف قدح شراب سلم شريكه مع عطبه ، وقد سمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذراع مشويّ للسر في محبته له لقرب المشرع من المسعى ، وقد سمّ أبو لؤلؤة السكّينة التي قتل بها ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وسمّ عبد الرحمن بن ملجم سيفا ضرب به قمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وسمّت حصار بنت خوجة بنت كعب الغساني زوجها الحسن بن علي رضي الله عنهما ، وكان الأصل أنه شاء يوما حبّ عنب غير مغسول.

وكم مثل ذا في الدهر ما ليس يحصر

وتحترز من السموم في طعامك وشرابك ولباسك ومنامك حتى منديل فراشك ، وليكن خارج العالم مجردا مسودا مداخلا في معرفة غوامض أحوالهم بالترسل والتجسس وكشف علوم من البلاد بجواسيس شارحة متنكرة مختلفة مثل فقير وصوفيّ وتاجر وطبيب وكتبة ، وقد كان المأمون له أصحاب خير يستجلبون له أخبارا من الطريقة. هكذا سنن الملوك.

فصل وهو المقالة الثالثة

ويستحب للملك سهر أول الليل إلى نصفه لقضاء المهمات والقصص المستورات ، ونوم النهار عون على سهر الليل يذهب تعب السهر ، والحمام من غير إطالة محبوب ، والتعهد بالأشربة الموافقة للأمزجة. وليحترز من تزوير العلائم ويمتحن ويستدرك ، فالخطوط تشتبه ، فأول داهية عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت من توقيع محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما وهي مذكورة في سير الناس يتداول بها القصاص. ولا يفضل السراري والنساء ، فقد يحصل من مراجيح الغيرة ما لا طاقة به ، فكم محمول على الغيرة ثمرتها أعظم من ثمرة الحسد. ويجب على الملك أن يكون وحيدا لا أحد له من حيث السياسة ، ولا يركن إلى الأمن من خوف الذم ، فبرهان الشعر ظاهر من قوله :

فلم تزل قلّة الإنصاف قاطعة

بين الأنام ولو كانوا ذوي رحم

ويجب عليه التعهد لأصحاب أبيه ولو كان فقيرا ، ومراعاة أصحابه الذين كانوا معه قبل سلاسل التمليك ، فمن لطافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كانت تتردد إليه امرأة يهودية فنهض لها قائما فقالت له في ذلك عائشة رضي الله عنها : أتقوم لامرأة يهودية قائما؟ قال : " هذه كانت تتردّد

٤٥٢

إلينا في زمن خديجة رضي الله عنها وحسن العهد من الإيمان" وبزيادة الشعر قادح.

لا تلق في بئر شربت زلالها

قذرا فمنه يقال إنك غادر

باب [وهو المقالة الرابعة] في ترتيب الخلافة والمملكة

اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن أمرها إليه ، فمنهم من زعم أنها بالنص ، ودليلهم قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الى قوله : (أَلِيماً) [الفتح : ١٦] وقد دعاهم أبو بكر رضي الله عنه إلى الطّاعة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجابوه. وقال بعضالمفسرين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) [التحريم : ٣] قال في الحديث : " إنّ أباك هو الخليفة من بعدي" وقالت امرأة : إذا فقدناك فإلى من نرجع؟ فأشار إلى أبي بكر رضي الله عنه ولأنه أمّ بالمسلمين على بقاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإمامة عماد الدين. هذا جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص ، ثم تأولوا لو كان علي أول الخلفاء لا نسحب عليه ذيل الفتى ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب. ولا يقدح في كونه رابعا كما لا يقدح في نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان آخرا. والذين عدلوا عن هذه الطريق زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء على زعمكم وأهويتكم ، فقد وقع الميزان في الخلافة والأحكام مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى ، قالوا لأزواجه : لمن الخلافة؟ فبهذا تعلقوا وهذا باطل ، ولو كان ميراثا لكان العباس ، لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم عيد غدير خمّ باتفاق الجميع وهو يقول : " من كنت مولاه فعليّ مولاه" فقال عمر : بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مولى ، فهذا تسليم ورضى وتحكيم. ثم بعد هذا غلب الهوى لحب الرئاسة ، وحمل عمود الخلافة وعقود النبوة وخفقان الهوى في قعقعة الرايات واشتباك ازدحام الخيول وفتح الأمصار ، وسقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأول ، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. ولما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قبل وفاته : " ائتوا بدواة وبيضاء لأزيل لكم إشكال الأمر وأذكر لكم من المستحقّ لها بعدي" قال عمر رضي الله عنه : دعوا الرجل فإنه ليهجر ، وقيل يهدر. فإذا بطل تعلقكم بتأويل النصوص فعدتم إلى الإجماع : وهذا منصوص أيضا ، فإن العباس وأولاده ، وعليّا وزوجته وأولاده لم يحضروا حلقة البيعة ، وخالفكم أصحاب السقيفة في متابعة الخزرجي. ودخل محمد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال : يا بني ائت بعمك لأوصي له بالخلافة! فقال : يا أبت أكتب على حق أو باطل؟ فقال : على حق ، فقال : وصّ بها لأولادك إن كان حقا ، أو لا فقد مكنتها بك لسواك ، ثم خرج إلى علي. فجرى قوله على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قوموني لست خيركم. أفقال هزلا أو جدّا أو امتحانا؟ فإن كان هزلا فالخلفاء منزهون عن الهزل ، وإن قاله جدّا فهذا نقض للخلافة ، وإن قاله امتحانا ... (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الأعراف : ٤٣] فإذا ثبت هذا فقد صارت إجماعا منهم وشورى بينهم. هذا الكلام في

٤٥٣

الصدر الأول ، أما في زمن علي رضي الله عنه ومن نازعه فقد قطع المشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم طول كمّ الخلافة بقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الأخرى منهما" والعجب كل العجب من حق واحد كيف ينقسم ضربين ، والخلافة ليست بجسم ينقسم ، ولا بعرض يتفرق ، ولا بجوهر يحد ، فكيف يوهب ويباع. وفي حديث أبي حازم : أول حكومة تجري في المعاد بين علي ومعاوية فيحكم الله لعليّ بالحق والباقون تحت المشيئة. وقول المشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار بن ياسر : " تقتلك الفئة الباغية" فلا ينبغي للإمام أن يكون باغيا. والإمامة لا تليق لشخصين كما لا تليق الربوبية لاثنين. إنما الذين بعدهم طائفة تزعم أن يزيد لم يكن راضيا بقتل الحسين ، فسأضرب لك مثلا في ملكين اقتتلا فملك أحدهما أفتراه يقتله العسكر على غير اختيار صاحبها إلا غلطا؟ ومثل الحسين لا يحتمل حاله الغليظة لما جرى من القتال والعطش وحمل الرأس إجماعا من جماهير المشيرين. وقالت الأمة المغنية حيث مدحت عليا في غنائها ، أفتراه قتلها بغضا لعلي أم لها؟ وقول يزيد بن معاوية لعلي بن الحسين زين العابدين : أنت ابن الذي قتله الله ، قال : أنا ابن الذي قتله الناس ، ثم تلا قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] أفتراك يا يزيد تجعل لربك جزاء جهنم وتخلد فيها وتغضبه عليه وتلعنه وتعد له عذابا أليما؟ فإن قلت إن هذه البراهين معطلة لا يحكم بصحتها حاكم الشرع ، فنقول في حججكم مثل ما تقولون. ثم إجماع الجماهير بشتم علي ألف شهر على المنابر أمركم الكتاب أم السنة أم الرسول؟ ثم الذين من بعدهم ممن غيرهم أخذوها نصّا أم سنة أم إجماعا؟ لكن قد أخذوها بسيف أبي مسلم الخراساني ، فانظروا إلى قطع أعمالكم بسيف المشرع حيث قال لكم : " الخلافة بعدي ثلاثون ثم يتولى ملكا جبروت" بقوله للعباس رضي الله عنه : " يا أبا الأربعين ملكا" ولم يقل خليفة. والملوك كثير واحد في زمانه فيا أيها الطالب للملك حصل الإله وحمل الإله وابذل واصبر واحذر واقرب وطول واحتمل وصالح حتى تقدر والله تعالى أعلم.

فصل وهي المقالة الخامسة

إذا أردت ترتيب ملك في الملك فاشتهر رجال الدول بعد تحصيلك المال ، ثم تابع وشايع ، وأدلك بعضا على بعض للجذب فهو كما قال المتقدمون :

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فعقبى كلّ خافقة سكون

واجعل قواعد المملكة على الكبار على هيئة ترتيب الجسور والقناطر لتجوز عليها ، أن تناول أغراضك ، فإن وجدت مشاركا فداوه بأنواع المعالجة وآخر الدواء الكيّ ، ثم انظر إلى دستور عدد الجند وعدد القرباء ومعرفة الداخل والخارج والزيادة ، واستعرض الجيش في سنتك ثلاث مرات ، واجعل طلائعك أربعمائة نفر من أمنائك. وإذا أردت الغزو فأشع الخبر ، فإذا وجدت أو طفقت إلى مضاق ترتب جيشك صفوفا وراء صفوف ، وحمل مع أصحابك ليبذلوا السيف في الصف المنهزم من أصحابك ، وكن مشرفا عليهم من نشز ولو نصبت أعلامك زورا من غير حمل ، وادخر لنفسك

٤٥٤

أجود الخيل والرجال ، واعلم أن من خامرك في الأول هو يخامرك في الآخر ويؤفك معك ، وبددها وإن شئت في العسكر ، وأبرك كمينا من أجود رجالك ، فإذا وجدت الفيء في القتال فاستجرّ الأعداء إلى قريب الكمين ، وليكن بينكم علامة ، فإذا عزمت إلى قتال قومك فعجل ولا تطل في مكث مكان خوف الفشل والمفاسخة كما عمل ذو القرنين في عسكر دارا فأفشلهم وبذلهم وفسخهم وبرطلهم. فتقدم واعلم وكن بذالا لا متأخرا ، وانظر في دساتير الرحيل فكثّر إن شئت وقلّل ، وليكن لك عين على معرفة القائلين والغم على من قاتل ، واعزل عن الجبان على الهوينا ، ثم احتسب على خزائنك وخزانك بمعرفة ما فيها وما ينقص ويزداد. وإن لم يكن لك بد من التزويج فاستبد إلى أموال ورجال ودين وجمال ، وإن كان الشرع قد أمر بذات الدين. واعلم أن الملك بغير جواسيس وأخذ أخباره كالجسد الذي لا روح فيه. وحصل آلات الحصون مما يحتاج إليه في الضيق فإنك لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. ولا تتم لهيئة الرعية واختلاف الجند. وامنع الفقهاء عن الكلام في الفتن ، وأمر نوابك أن ينظروا ما عند الخلق من الأطعمة في المحل ، ولا تمنع الناس من تحصيل الأطعمة فإنه لك وللناس عند الحاجة. وانظر فيمن امتنع عن الزراعة إن كان لفقر فقوّة وإن كان لظلم فانصره ، كما قال ملك الهند : أنا أفرح لكثرة دجاج البلد ، فإنه فرع الأمارة. واغتم لكثرة الخاطبين خوفا من ظلم المقاطع ، وقد كان ذو القرنين يحوي دساتيره على أعداء الغرباء وتسلم عليه المرأة بقدر من اللبن فإذا رآه سمنا ضحك لجودة الربيع ، وكان يقول أنا أمسك الفلاح إذا أخذ مثله وأميل المقطع فأخذ معناه إنما المقطع بالخير فإن لم يجده انتقل ، والملك بفلاحه إذ هو خزّانه وبه يسطو ويجيد وينعم ويطلق وينظر في الخزائن والأمراء. وإذا قدر على تبديل الطعام بغيره فليفعل ، فقد كان المأمون يستعرض السلاح والآلات مثل الخيم والمجانيق حتى قال لأمير دوابه : رتب مخاليك كما ترتب معاليك.

فصل وهو المقالة السادسة

في ترتيب الولاة

لا ترتب في الحصون إلا وليّا شفيقا رفيقا بالخلق ، ولا تكلفه ثقلا فتستقضه من بلدك ، وأشبعه وجند الحصن ، وانظر في مراكز خيره ومائة وحرسه وسوره ، وتذلل حراسك في البروج ، وطف بنفسك أيها الوالي على أعلى سورك ، ولا تخالط جندك بالليل خوف المخامرة ، واسأل عن أعدائك ولا تحقر القليل فإن الذبابة تقتل جملا ، وكم من عقرب أمات الأفعى لسعها كما قيل :

ولا تحقرن أبدا صغيرا فربما

تموت الأفاعي من سموم العقارب

واحذر من مكر ذي الإحن فقد قيل :

وإنّ الجرح ينغض بعد حين

إذا كان البناء على فساد

ولا يكون الوالي شريب خمر ، وهكذا الأمير ، فلو حضر في مجالسهم فليحاكم بالجلاب ، ففي

٤٥٥

الخمر بلايا وآفات وزلازل عقل وحدوث بلايا وإظهار حقود ، إذ صاحب الملك مرموق بالحسد ، قال النجاشي لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف سيرة نبيكم في الأكل مع أصحابه؟ فقال : يأكل على الأرض ، فقال : ذلك تواضع لجذب قلوب أصحابه ، فقال النجاشي : لو كان ملكا لأكل وحده على خوانه في مجمع معروف له ، وزبادي مخصوصة. ثم الورق إن كان مقطعا فمعروف ، وإن كان ذهبا فشهر بشهر. ولا بأس بالسلام عليه وهو موصول بهم والمعاهدة لرسل الملك وإقامة ناموسه عند الغرباء والمنشدين والقصاد. وكان سليمان يقسم أسبوعه بعضه للجند وبعضه للقضايا وبعضه للعبادة وتذكار الحكم والنساء ، كما يقول : يا أرباب المملكة عليكم بأهل العلم والصلاح ، فإنهم يرشدونكم إذا ضللتم ، ويعرفونكم إذا جهلتم ، ويستعطفونكم إذا غضبتم ، وينفقونكم إذا حرمتم. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب :

فلا تصحب أخا الجهل

وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى

حليما حين آخاه

يقاس المرء بالمرء

إذا ما المرء ماشاه

وللشيء على الشيء

مقاييس وأشباه

وللقلب على القلب

دليل حين يلقاه

وليقلّ الملك المنادمة والمسامرة والقليل من الهزليات والمضحكات ، وليكن وزيره قابلا قائلا بالعلم والصلاح ، منزّلا للناس في طبقاتهم ، فلا تنظروا في حسن البزة مع عموم الجهل ، فقد نقل إلينا أن بهلولا دخل إلى مجلس هارون فجلس في أدنى المجلس فقال له هارون : ارفع رأسك إلى صدر المجلس! فقال البهلول : مجلسي يفنى فأين صدره؟ ثم أنشد :

كن رجلا وارض بصفّ النعال

لا يطلب الصدر بغير الكمال

فإن تصدّرت بلا آلة

جعلت ذاك الصّدر صفّ النعال

ومن جملة قبول الملك أن يختار لنفسه طعاما يخصه ، وقد كان المأمون يحب المأمونية ، ومهلب العراق يحب المهلبية ، وكان بنو أمية يكثرون من أكل الهرايس والزلابيا ، ولم يغسلوا اللحم ، بل يكشفون الجلد فيأخذون من تحت الجلد ما يختارون فيتداوون الأيدي بزفر اللحم. وقد روى أبو طالب المكي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " شكوت إلى أخي جبريل حين ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهرايس فوجدت لظهري بها خيرا". وقد كان ذو القرنين يحب الزرباح لتسكينها للخلط الصفراوي ، ووجد بخارا حارّا تولد عن صفراء ، فانزعج له جبينه فمزج بالبطيخ ماء وعسلا وخلّا فشربه فقال : سكن جبيني ، فسمي بذلك الاسم ، وكان يخلط خشن الدقيق وناعمه فيتخذ له منه خبزا ، فقال الحكيم من جوشك :

أراد الخبز الجريش للمعدة الضعيفة أو الحلقة البلغمية أجود وأعود ، والخبز السميد يورث الخفق وهذا مشاهد عيانا من عمل الفقاع.

٤٥٦

فصل وهو المقالة السابعة

في ترتيب حاشية الدولة

يستحب للفرّاش أن يكون رشيقا ، خفيف النفس ، ظاهر القوة ، طيب الريح ، عارفا بترتيبه الخبز والخضروات ، كامل العدة ؛ وهكذا تقول في الطباخ والشاربيّ ، ويكون دار شربة كامل المشارب من الماء البارد والأشربة والفقاع السك السكنجبيني ، وشربه نافع بإذن الله تعالى على الريق ، وهو محمص للطعام مفتح للجوف. واعلم أن آداب أهل التصوف في المآكل والمشارب هي آداب الملوك ؛ وترك إبراهيم بن أدهم كبر الملك. ومسك آداب الطعام والائتدام بالحوامض أولى. والركابية والسعاة خفاف السرعة شباب ، وهكذا جميع المقاتلين والشيوخ المعنية بالرأي. ويحط العسكر في نشز من الصدر أولى للتحصين واغتنام الأهوية. والخمول في الشتاء أجمل ، والتهيئة لما يختاره في الصيف ، ورحل السلطان لقلاقل السفر عند نزول الشمس في السرطان ، وسكونه عند نزولها آخر القوس ، إذ فصول السنة أربعة : فمن نصف حزيران إلى نصف أيلول صيف ، ثم إلى نصف كانون الأول خريف ، ثم إلى نصف آذار شتاء ، ثم إلى نصف حزيران ربيع ، وهكذا أقسام منازل الشمس ، والخبر النبوي يؤيده : " إذا انتصفت الشّهور تغيّرت الدّهور". فإن ركب بعد صلاة العصر وإلا قعد لكشف المظالم أو لكتب القصص وهو يسمعهم في عزلة ، كان السابقون من الملوك إذا قعدوا للسلام يقعدون وراء شباك ويدخل من شاء إليهم خوف الاغتيال في المزاحمة ، ويفتش على غوامض ما يجري حتى يكون له صاحب خبر في البلد يرفع الغثّ والسمين. ويستحب أن يطالع كتب الطب والتواريخ وشاهنامة العجم وقصص التابعين للعجم والديلم مثل ما جرى للشهرباز درستم زاد وكان النبي يومئذ سليمان عليه‌السلام فأوقع الوقائع بينهم حتى هلك بعضهم ببعض. وليكن مع الملك جنود لحذر ما يجري ، وحفظه في الحمّام فكثير هلكوا فيه ، وحمّام داره أجمل. وعليكم بكتم مرضه وموته حتى يستقر الملك فيمن شاء الله من عباده بعد البيعة والمتابعة وتقرير القواعد. وكن أيها الملك مسارعا في الثناء والثواب فإنه الذكر المخلد ، وأكثر ما تنظر في كتب ابن أبي الدنيا ، وتواريخ الطبري ، ومذهب الشافعي ، أو ما تختار من المذاهب. ولا تظهر البدعة ولو كانت فيك ، كالأكاسرة وسوبويه هلكوا بمتابعة الأهواء. وللنعم أجنحة الأجر فقوها بالشكر. واجعل بينك وبين الله طريقا إلى الصلاح ، فقد حكي أن ملكا قمع ملك الموت عنانه فقبضه على ما يريد ، وأن ملكا صالحا أتاه ملك الموت فأسرّ إليه في أذنه فقال : مرحبا بك فأنت أطيب القادمين وخير النازلين وأحب المنتظرين فافعل ما أمرت به! فقال ملك الموت : لا أقبضك إلا على ما تختار ، فتوضأ وسجد فقبضه في سجوده والله تعالى أعلم.

ومن لطائف الحكايات الملكية أن محمود بن بويه لما ملك أرض العراق أعطى ألف دينار

٤٥٧

لفرّاش له ، وقال : اذهب إلى مدينة أصفهان إلى شارع السلطان ففي صدر الدرب بيت فيه شيخ وعجوز ، ادخل إليهما فسلم عليهما وقل لهما ابنكما يقول لكما كيف أنتما من وحشة فراقه! فلما وصل إليهما فأخبرهما قال : خذ ما جئت به لك ، قال الغلام : أنتما فقيران وبكما حاجة إليه ، فقال الشيخ : غنى النفس باق ، ثم تنفس وتمثل بهذه الأبيات :

علي ثياب لو يقاس جميعها

بفلس لكان الفلس منهن أكثرا

وفيهن نفس لو تقاس ببعضها

نفوس الورى كانت أجلّ وأكبرا

وما ضرّ نصل السيف إخلاق عهده

إذا كان عضبا حيث وجّهته فرى

ويستحب أن يكون مغنّي الملك مغنيّا نديّ الصوت شجيا ، لا خارجا ولحانا ، عالما بالأصوات ثقيلها وخفيفها وهزجها ورملها وصوفيها ، وأصواتها الثقال مثل قول أبي الشيص :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك فليلمني اللوم

ومثل قول أبي نواس في الوزن :

شرك النّفوس وعصمة ما مثلها

للمطمئنّ وعقلة المستوفز

إن طال لم يهلك وإن هي أوجزت

ودّ المحدث أنّها لم توجز

وفي المستهل والعمل شعر عاشق بني عامر مجنون ليلى :

خليليّ قوما في عطالة فانظرا

أنار .......................

فإن تك نارا فهي في جنب ملتقّى

من الرّيح يذروها ويصفقها صفقا

لأمّ عديّ أوقدتها طمّاعة

لأوبة سفر أن يكون لها وفقا

وحطّ بها رحلي قليلا فإنّها

لأول أطلال عرفت به العشقا

وليكن المغني عالما بطريق الأغاني ، مطلعا على كتاب الموسيقى الموضوع للرئيس أبي علي بن سينا ، وقد شرحناه في : " كتاب السبيل لأبناء السبيل" وسأذكر لك نكتة منه فأقول كما قيل : إن لدوران الفلك أصواتا لو سمعها عاقل أو لبيب لما ثبت ، ومنها أخذ موسى ترجيع النغمات من المربع والمسدس والمثمن ، والنصارى عملوا ببعضه ، فالألحان للروم ، والتجنيس للعراق ، والزقالق للعجم ، والطبول للزنج أو الحبشة ، والبوق لليهود ، وهو سبعون دستا مثل دستان الرحيل يقول في وزنه : اركب فأنت المظفر. اركب فالله أكبر. ودستان الحرب والنزول وغيره. وقال سقراط : اشتباك نغمات الأصوات من هياكل العبادات تحل وتعقد في الأفلاك الدائرة ، مثل همة إصابة العين والسحر والاستسقاء وسنذكرها في مواضعها. وكن مع الملك كما قال بعض الحكماء :

إذا خدمت الملك فالبس

من التوقّي أشدّ ملبس

وادخل إذا ما دخلت أعمى

واخرج إذا ما خرجت أخرس

٤٥٨

فصل وهو المقالة الثامنة

يعقد الوزير في دسته وحاجبه على رأسه ، ولا يلاصقه أحد في المنعة ، وكتابه لديه والمجلس ملآن هيبة ووقارا. والحوائج إلى الحاجب ، والرفع إلى الكتاب ، والاطلاع إلى الوزير ، ورفع الأمر إلى الملك ، فأول ما يبدأ بمصالح الحاشية بعد الملك والوزير حتى إلى التقليد ، وقيل لا يحضر الملك الجمعة إلا في مكان معزول في مقصورة له خاصة ، وأصحابه في دائرة المقصورة من خارج ، والباب مغلق ، وعنده من يكون إليه ، ويخرج هو وأصحابه في آخر الناس في باب له. وليكن له يومان في الأسبوع للختم والزيارة ، ثم يقرأ له بعد الصبح فلا يعجلون حتى يفرغ الآخر ، ثم يقرأ التوبة فإذا فرغوا وعظ وأنشد المنشد ، ثم يقرؤون : قل هو الله أحد ، والمعوذتين ، والفاتحة ، والم إلى المفلحون. ثم يختم الإمام بتصديقه حقيقة ويدعو للملك والمسلمين. وليكن للملك في الأسبوع خلوة عبادة وتذكار ، والنظر في الحساب والأموال ، والنظر في دساتير البلاد. والله أعلم.

فصل وهو المقالة التاسعة

في ترتيب الخباز والطباخ والقصاب

لا يكن القصاب عدوا في الدين فإنه لا يتحرى من النجاسة ، وهكذا الخباز والطباخ ، ويتفقد المعاجن وآلات الطبخ والدقيق واللحم. وليكن الطباخ عالما بصناعته وعنده كتب الطبائخ لكشاجم ، والأشربة والأدهان والحلاوات والريح الطيب والالوان الغريبة ، وأحسن المآكل وأطيبها وأنفعها وأقواها للعافية ، وهو لحم مرضوض مقلوّ مرشوش بالمياه الحامضة يحشى به العجين فيقلى. وأطيب الحلاوات ما كثر خبزه. وأنفع الهرايس لمن به حرارة المزاج ، وهو اللون النوني من البزرة يقلى ، وقد هجرت الألوان الظريفة باستيلاء الترك واتخاذهم السنبرشح والعرائس والسالة والطظماج والسسترك والبورك المعمول باللحم والحوائج الحادة المعمولة في العجين.

فإذا كنت ذا فنون في طلب الطبائخ فاتجه لكتبها ، وقد ذكرنا طرفا منها في آخر كتاب السبيل ، وإذا أردت العقلية فعليك بكتاب المقاصد وكتاب النجاة للرئيس ، وإن شئت فيه الغاية القصوى فاطلع على الكتب الأصولية الدينية خاصة كتب شيخنا إمام الحرمين مثل" المحيط"" والإرشاد" ، ومن كتبنا النافعة في ذلك" كتاب الاقتصاد في الاعتقاد" ، " وكتاب قواعد العقائد" من أول" كتاب الإحياء"" والرسالة القدسية". وإذا أردت الطب فكثير ، وأنفعها ما عمل به من الكتب. واطلع على جميع العلوم الشرعية لتعلم الحق من الغيّ والهوى والله تعالى أعلم.

ثم نرجع إلى تحرير مقامات العمال :

لا تستخدم في العمالة إلا عارفا بفنون الحساب والجبر والمقابلة والمساحة ، بحيث لو قيل

٤٥٩

له : ما تقول في أرض ذات زوايا لا يقدر حفظها بحائط ولا قصب؟ قال : تذرع بالذراع والشبر. ويمتحن في علم الحساب كما يمتحن الكتاب ، والرسالة والأجوبة وكتب الدساتير ، فإن ولعت برسالة ابن عباد والصابي فلا بأس بأخذ الزبد. وليكن صاحب الإنشاء كثير الفضل والتوقف في الديوان في الزمان القصير وفي الزمان الطويل إلى النزول من الركوب ، ثم يحاسبهم على ما إليهم ، ويستوعب من كل القرباء ، ويسأل عن المظالم ، ولا يكن ملوما ولا ضجورا ، ولا صخابا ولا طياشا ولا لقابا ، وقالوا يجوز له لعب الشطرنج ولا يلعب بالزهر ، لأنه يخرق الحرمة بالقمار ، فقد ذكر أن أزدشير لما أخرج النرد قيل له : ما يستحق إلا قطع اليد ، قال : سأقطعها بتركه. كما قيل للحجاج بن يوسف وقد شكي إليه من أكل التراب : ألق عليه من همتك وعزيمتك! فلم يأكله بعدها أبدا.

واعلم أيها الملك أن علو الهمة مع الصبر حتى في الصفوف واختلافه في الثمن كل ذلك بالهمة والخدمة ، ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه :

بقدر الكدّ تكتسب المعالي

ومن طلب العلا سهر الليالي

تروم العزّ ثم تنام ليلا

يخوض البحر من طلب اللآلي

لنقل الصخر من قلل الجبال

أحبّ إليّ من منن الرجال

وقالوا للفتى في الكسب عار

فقلت العار في ذلّ السؤال

إذا عاش الفتى ستين عاما

فنصف العمر تمحقه الليالي

وربع العمر يمضي ليس يدرى

أيقضي في يمين أو شمال

وربع العمر أمراض وشيب

وشغل بالتفكر والعيال

فحب المرء طول العمر قبح

وقسمته على هذا المثال

فصل وهو المقالة العاشرة

اعلم أيها الملك إذا أردت معاندة الملك فاعتبر جيشك وخلصه من المواطاة والنفاق ، ثم زن مالك فإن قدرت على مشاركته فلا تبدده بالغي ، وقلل ذلك وافتح له أبوابا موجبة ، وإن خفته ولا طاقة لك به فمل إلى مصالحته فالزمان يدور كالكواكب ، وحبّب من قدرت من أصحابه ولو برشوة ، وفاسخهم وألق بينهم ، وكاتب بعضهم على بعض ، وإن خفت أحدا من دولتك فداهن وسلم وتواضع ، فربما تجد الأمل ، وإذا كشر الزمان فاصبر لعضه فلا بد أن يبتسم لك. وإن عزمت على حصار مكان فأوقع الخلاف في الحصن ، كتب سليمان إلى رستم : " أما بعد فإني لأخشى عليك من مخامرة الذين معك ، فربما يسلمونك لأعدائك" ثم كتب إلى كبار أصحاب رستم : " خافوا على أنفسكم ، وهذه خطة إليّ في اغتيالكم ، وقد زعم أنكم نافقتموه ، فإن سلم حصنه إلى شهرباز فلا تكون الدائرة إلا عليكم". فلما قام القتال بينهما فروا جميعا إلى شهرباز ، وكمن

٤٦٠