مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

وأما الوجود الخيالي : فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك فإنك تقدر على أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس ، وإن كنت مغمضا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج.

وأما الوجود العقلي : فهو أن يكون للشيء روح وحقيقة ومعنى فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته في خيال أو حسّ أو خارج كاليد مثلا ، فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهي القدرة على البطش ، والقدرة على البطش هي اليد العقلية ، وللقلم صورة ، ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم ، وهذا يتلقاه العقل من غير أن يكون مقرونا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية.

وأما الوجود الشبهي : فهو أن لا يكون نفس الشيء موجودا لا بصورته ولا بحقيقته ، لا في الخارج ، ولا في الحس ولا في الخيال ، ولا في العقل ، ولكن يكون الموجود شيئا آخر يشبهه في خاصة من خواصه ، وصفة من صفاته ، وستفهم هذا إذا ذكرت لك مثاله في التأويلات. فهذه مراتب وجود الأشياء.

فصل

اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات في التأويلات. أما الوجود الذاتي فلا يحتاج إلى مثال وهو الذي يجري على الظاهر ولا يتأوّل ، وهو الوجود المطلق الحقيقي ، وذلك كإخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العرش والكرسي والسماوات السبع فإنه يجري على ظاهره ولا يتأوّل إذ هذه أجسام موجودة في أنفسها أدركت بالحسّ والخيال أو لم تدرك. وأما الوجود الحسّي فأمثلته في التأويلات كثيرة ، واقنع منها بمثالين :

أحدهما : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنّة والنّار" ، فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض أو عدم عرض ، وأن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور ينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت ، ويكون ذلك موجودا في حسّهم لا في الخارج ، ويكون سببا لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك إذ المذبوح ميئوس منه. ومن يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشا في ذاته ويذبح.

المثال الثاني : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " عرضت علي الجنّة في عرض هذا الحائط" ، من قام عنده البرهان على أن الأجسام لا تتداخل ، وأن الصغير لا يسع الكبير حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنتقل إلى الحائط ، لكن تمثل للحس صورتها في الحائط حتى كأنه يشاهدها ولا يمتنع أن يشاهد مثال شيء كبير في جرم صغير ، كما نشاهد السماء في مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارا مفارقا لمجرد تخيل صورة الجنة إذ تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء في المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء في المرآة على سبيل التخيل.

٢٤١

وأما الوجود الخيالي : فمثاله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " كأنّي أنظر إلى يونس بن متّى عليه عباءتان قطوانيّتان يلبّي وتجيبه الجبال والله تعالى يقول له : لبّيك يا يونس" ، والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة في خياله إذ كان وجود هذه الحالة سابقا على وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد انعدم ذلك فلم يكن موجودا في الحال ، ولا يبعد أن يقال أيضا ، تمثل هذا في حسه حتى صار يشاهده كما يشاهد النائم الصور ، ولكن قوله : كأني أنظر ، يشعر بأنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظر ، والغرض التفهيم بالمثال لا عين هذه الصورة وعلى الجملة فكل ما يتمثل في محل الخيال فيصور أن يتمثل في محل الإبصار فيكون ذلك مشاهدة وقل ما يتميز بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل.

وأما الوجود العقلي فأمثلته كثيرة ، فاقنع منها بمثالين :

أحدهما : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " آخر من يخرج من النّار يعطى من الجنّة عشرة أمثال هذه الدّنيا" ، فإن ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت الحسّي والخيال ، ثم قد يتعجب فيقول : إن الجنة في السماء كما دلّت عليه ظواهر الأخبار ، فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيات ، وقد يقطع المتأول هذا التعجب فيقول المراد به تفاوت معنوي عقلي لا حسّي ولا خيالي ، كما يقال مثلا هذه الجوهرة أضعاف الفرس أي في روح المالية ، ومعناها المدرك دون مساحتها المدركة بالحس والتخيل.

المثال الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله تعالى خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا" ، فقد أثبت لله تعالى يدا ومن قام عنده البرهان على استحالة يد الله تعالى هي جارحة محسوسة أو متخيلة ، فإنه يثبت لله سبحانه يدا روحانية عقلية. أعني أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها. إن روح اليد ومعناها ما به يبطش ويفعل ويعطي ويمنع ، والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة ملائكته ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " أوّل ما خلق الله العقل فقال بك أعطي وبك أمنع" ، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ لا يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلا من حيث يعقل الأشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعليم ، وربما يسمى قلما باعتبار أنه تنقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحيا وإلهاما فإنه قد ورد في حديث آخر : " إنّ أوّل ما خلق الله تعالى القلم". فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقص الحديثان ، ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فيسمى عقلا باعتبار ذاته وملكا باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق ، وقلما باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي ، كما يسمى جبريل روحا باعتبار ذاته وأمينا باعتبار ما أودع من الأسرار ، وذا مرة باعتبار قدرته ، وشديد القوى باعتبار كمال قوته ، ومكينا عند ذي العرش باعتبار قرب منزلته ، ومطاعا باعتبار كونه متبوعا في حق بعض الملائكة ، وهذا القائل يكون قد أثبت قلما ويدا عقليا لا حسيا وخياليا وكذلك من ذهب إلى أن اليد عبارة عن

٢٤٢

صفة لله تعالى إما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون.

وأما الوجود الشبهي : فمثاله الغضب والشوق والفرح والصبر وغير ذلك مما ورد في حقّ الله تعالى ، فإن الغضب مثلا حقيقته أنه غليان دم القلب لإرادة التشفي وهذا لا ينفك عن نقصان وألم ، فمن قام عنده البرهان على استحالة ثبوت نفس الغضب لله تعالى ثبوتا ذاتيا وحسيا وخياليا وعقليا نزله على ثبوت صفة أخرى يصدر منها ما يصدر من الغضب كإرادة العقاب ، والإرادة لا تناسب الغضب في حقيقة ذاته ولكن في صفة من الصفات وتقارنها وأثر من الآثار يصدر عنها وهو الإيلام. فهذه درجات التأويلات.

فصل في المصدقين

اعلم أن كل من نزل قولا من أقوال صاحب الشرع على درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين ، وإنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني ، ويزعم أن ما قاله لا معنى له ، وإنما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو الكفر المحض والزندقة ، ولا يلزم كفر المؤولين ما داموا يلازمون قانون التأويل كما سنشير إليه وكيف يلزم الكفر بالتأويل ، وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه. فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه ، وأبعد التأويلات عن الحقيقة وأغربها أن تجعل الكلام مجازا أو استعارة هو الوجود العقلي والوجود الشبهي ، والحنبلي مضطر إليه وقائل به ، فقد سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون إن أحمد بن حنبل رحمه‌الله صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط :

أحدها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " الحجر الأسود يمين الله في الأرض".

والثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن".

والثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّي لأجد نفس الرّحمن من قبل اليمن".

فانظر الآن كيف أوّل هذا حيث قام البرهان عنده على استحالة ظاهرة ، فيقول : اليمين تقبل في العادة تقربا إلى صاحبها ، والحجر الأسود يقبل أيضا تقرّبا إلى الله تعالى فهو مثل اليمين لا في ذاته ولا في صفات ذاته ، ولكن في عارض من عوارضه فسمي لذلك يمينا. وهذا الوجود هو الذي سميناه الوجود الشبهي وهو أبعد وجوه التأويل ، فانظر كيف اضطر إليه أبعد الناس عن التأويل. وكذلك لما استحال عنده وجود الإصبعين لله تعالى حسّا إذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه إصبعين فتأوله على روح الإصبعين وهي الأصبع العقلية الروحانية. أعني أن روح الأصبع ما به يتيسر تقلب الأشياء. وقلب الإنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان ، وبهما يقلب الله تعالى القلوب ، فكنى الإصبعين عنهما. وإنما اقتصر أحمد بن حنبل رضي الله عنه على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر ، لأنه لم يكن ممعنا في النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في الاختصاص بجهة فوق وغيره مما لم يتأوله ، والأشعري والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا إلى تأويل ظواهر كثيرة ، وأقرب الناس إلى الحنابلة في أمور الآخرة الأشعرية وفقهم الله فإنهم قرروا فيها أكثر الظواهر إلا يسيرا ، والمعتزلة أشدّ منهم توغلا

٢٤٣

في التأويلات وهم مع هذا. أعني الأشعرية. يضطرون أيضا إلى تأويل أمور كما ذكرناه من قوله : إنه يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ، وكما ورد من وزن الأعمال بالميزان ، فإن الأشعري أوّل من وزن الأعمال فقال : توزن صحائف الأعمال ويخلق الله فيها أوزانا بقدر درجات الأعمال ، وهذا ردّ إلى الوجود الشبهي البعيد فإن الصحائف أجسام كتب فيها رقوم تدلّ بالاصطلاح على أعمال هي أغراض ، فليس الموزون إذا العمل بل محل نفش يدل بالاصطلاح على العمل. والمعتزلي تأوّل نفس الميزان وجعله كناية عن سبب به ينكشف لكل واحد مقدار عمله ، وهو أبعد عن التعسف في التأويل بوزن الصحائف ، وليس الغرض تصحيح أحد التأويلين ، بل تعلم أن كل فريق وإن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر إلى التأويل إلا أن يجاوز الحدّ في الغباوة والتجاهل ، فيقول : الحجر الأسود يمين تحقيقا ، والموت وإن كان عرضا فيستحيل فينتقل كبشا بطريق الانقلاب ، والأعمال وإن كانت أعراضا ، وقد عدمت فتنتقل إلى الميزان ويكون فيها أعراض هي الثقل ، ومن ينتهي إلى هذا الحد من الجهل فقد انخلع من ربقة العقل.

فصل في التأويل

فاسمع الآن قانون التأويل ، فقد علمت اتفاق الفرق على هذه الدرجات الخمس في التأويل ، وإن شيئا من ذلك من حيّز التكذيب ، واتفقوا أيضا على أن جواز ذلك موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر ، والظاهر الأوّل هو الوجود الذاتي فإن إذا ثبت تضمن الجمع. فإن تعذّر ، فالوجود الحسّي فإنه إن ثبت تضمن ما بعده. فإن تعذر ، فالوجود الخيالي أو العقلي. وإن تعذر ، فالوجود الشبهي المجازي ولا رخصة للعدول عن درجة إلى ما دونها إلا بضرورة البرهان فيرجع الاختلاف على التحقيق إلى البراهين. إذ يقول الحنبلي : لا برهان على استحالة اختصاص الباري بجهة فوق. ويقول الأشعري : لا برهان على استحالة الرؤية. وكأن كل واحد لا يرضى بما ذكره الخصم ولا يراه دليلا قاطعا. وكيف ما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه بأن يراه غالطا في البرهان. نعم يجوز أن يسميه ضالّا أو مبتدعا. أما ضالا فمن حيث إنه ضلّ عن الطريق عنده ، وأما مبتدعا فمن حيث إنه ابتدع قولا لم يعهد من السلف الصالح التصريح به. إذ المشهور فيما بين السلف أن الله تعالى يرى ، فقول القائل : لا يرى بدعة ، وتصريحه بتأويل الرؤية بدعة ، بل إن ظهر عنده أن تلك الرؤية معناها مشاهدة القلب ، فينبغي أن لا يظهره ولا يذكره لأن السلف لم يذكروه ، لكن عند هذا يقول الحنبلي إثبات الفوق لله تعالى مشهور عند السلف ، ولم يذكر أحد منهم أن خالق العالم ليس متّصلا بالعالم ولا منفصلا ولا داخلا ولا خارجا ، وأن الجهات الست خالية عنه وأن نسبة جهة فوق إليه كنسبة جهة تحت ، فهذا قول بدع إذ البدعة عبارة عن إحداث مقالة غير مأثورة عن السلف ، وعند هذا يتّضح لك أن هاهنا مقامين.

أحدهما : مقام عوام الخلق ، والحقّ فيه الاتّباع والكف عن تغيير الظواهر رأسا ، والحذر عن إبداع التصريح بتأويل لم تصرّح به الصحابة وحسم باب السؤال رأسا والزجر عن الخوض في الكلام والبحث ، واتّباع ما تشابه من الكتاب والسنّة ، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه

٢٤٤

سأل سائل عن آيتين متعارضتين فعلاه بالدرة ، وكما روي عن مالك رحمه‌الله أنه سئل عن الاستواء فقال : الاستواء معلوم ، والإيمان به واجب ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنه بدعة.

المقام الثاني : بين النظار الذين اضطربت عقائدهم المأثورة المروية ، فينبغي أن يكون بحثهم بقدر الضرورة ، وتركهم الظاهر بضرورة البرهان القاطع ، ولا ينبغي أن يكفر بعضهم بعضا بأن يراه غالطا فيما يعتقده برهانا ، فإن ذلك ليس أمرا هينا سهل المدرك وليكن للبرهان بينهم قانون متّفق عليه يعترف كلهم به ، فإنهم إذا لم يتفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن ، وقد ذكرنا الموازين الخمسة في كتاب (القسطاس المستقيم) ، وهي التي لا يتصور الخلاف فيها بعد فهمها أصلا ، بل يعترف كل من فهمها بأنها مدارك اليقين قطعا ، والمحصلون لها يسهل عليهم عقد الإنصاف والانتصاف وكشف الغطاء ورفع الاختلاف ، ولكن لا يستحيل منهم الاختلاف أيضا إما لقصور بعضهم عن إدراك تمام شروطه. وإما في رجوعهم في النظر إلى محض القريحة والطبع دون الوزن بالميزان ، كالذي يرجع بعد تمام تعلم العروض في الشعر إلى الذوق لاستثقاله عرض كل شعر على العروض فلا يبعد أن يغلط ، وإما لاختلافهم في العلوم التي هي مقدمات البراهين ، فإن من العلوم التي هي أصول البراهين تجريبية وتواترية وغيرها ، والناس يختلفون في التجربة والتواتر فقد يتواتر عند واحد ما لا يتواتر عند غيره ، وقد يتولى تجربة ما لا يتولاه غيره. وإما لالتباس قضايا الوهم بقضايا العقل. وإما لالتباس الكلمات المشهورة المحمودة بالضروريات والأوليات كما فصلنا ذلك في كتاب (محكّ النظر) ، ولكن بالجملة إذا حصلوا تلك الموازين ، وحققوها أمكنهم الوقوف عند ترك العناد على موقع الغلط على يسر.

فصل في التأويل بغلبات الظنون

من الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن يبادر أيضا إلى كفره في كل مقام بل ينظر فيه ، فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد ومعماتها فلا نكفره ، وذلك كقول بعض الصوفية إن المراد برؤية الخليل عليه‌السلام الكوكب والقمر والشمس ، وقوله هذا ربي غير ظاهرها ، بل هي جواهر نورانية ملكية ونورانيتها عقلية لا حسيّة ولها درجات في الكمال. ونسبة ما بينها في التفاوت كنسبة الكواكب والقمر والشمس ، ويستدلّ عليه بأن الخليل عليه‌السلام أجلّ من أن يعتقد في جسم أنه إله حتى يحتاج إلى أن يشاهد أفوله. أفترى أنه لو لم يأفل أكان يتّخذه إلها ، ولو لم يعرف استحالة الإلهية من حيث كونه جسما مقدرا ، واستدلّ بأنه كيف يمكن أن يكون أوّل ما رآه الكوكب والشمس هي الأظهر وهي أول ما يرى : واستدل بأن الله تعالى قال أوّلا : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥]. ثم حكى هذا القول فكيف يمكن أن يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت له ، وهذه دلالات ظنية وليست براهين.

أمّا قوله ، هو أجلّ من ذلك ، فقد قيل إنه كان صبيا لما جرى له ذلك ولا يبعد أن يخطر لمن سيكون نبيا في صباه مثل هذا الخاطر ، ثم يتجاوزه على قرب ولا يبعد أن تكون دلالة

٢٤٥

الأفول على حدوث عنده أظهر من أدلّة التقدير والجسمية.

وأما رؤية الكوكب أوّلا فقد روي أنه كان محبوسا في صباه في غار وإنما خرج بالليل.

وأمّا قوله تعالى أوّلا : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فيجوز أن يكون الله تعالى قد ذكر حال نهايته ثم رجع إلى ذكر بدايته. فهذه وأمثالها ظنون يظنها براهين من لا يعرف حقيقة البرهان وشرطه. فهذا جنس تأويلهم. وقد تأوّلوا العصا والنعلين في قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢]. وقوله : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) [طه : ٦٩]. ولعلّ الظن في مثل هذه الأمور التي لا تتعلق بأصول الاعتقاد تجري مجرى البرهان في أصول الاعتقاد فلا يكفر فيه ولا يبدع. نعم إن كان فتح هذا الباب يؤدي إلى تشويش قلوب العوام فيبدع به خاصة صاحبه في كل ما لم يؤثر عن السلف ذكره ، ويقرب منه قول بعض الباطنة أن عجل السامري مؤول إذ كيف يخلو خلق كثير عن عاقل يعلم أن المتخذ من الذهب لا يكون إلها؟ وهذا أيضا ظن إذ لا يستحيل أن تنتهي طائفة من الناس إليه كعبدة الأصنام ، وكونه نادرا لا يورث يقينا.

وأمّا ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمّة فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع ، كالذي ينكر حشر الأجساد وينكر العقوبات الحسيّة في الآخرة بظنون وأوهام واستبعادات من غير برهان قاطع ، فيجب تكفيره قطعيا إذ لا برهان على استحالة ردّ الأرواح إلى الأجساد ، وذكر ذلك عظم الضرر في الدين فيجب تكفير كل من تعلّق به وهو مذهب أكثر الفلاسفة. وكذلك يجب تكفير من قال منهم إن الله تعالى لا يعلم إلا نفسه ، أو لا يعلم إلا الكلمات ، فأمّا الأمور الجزئية المتعلقة بالأشخاص فلا يعلمها لأن ذلك تكذيب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعا ، وليس من قبيل الدرجات التي ذكرناها فو التأويل إذ أدلة القرآن والإجبار على تفهيم حشر الأجساد وتفهيم تعلّق علم الله تعالى بتفصيل كل ما يجري على الأشخاص مجاوز حدا لا يقبل التأويل ، وهم معترفون بأن هذا ليس من التأويل ، ولكن قالوا : لما كان صلاح الخلق في أن يعتقدوا حشر الأجساد لقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي وكان صلاحهم في أن يعتقدوا أن الله تعالى عالم بما يجري عليهم ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم. جاز للرسول عليه‌السلام أن يفهمهم ذلك وليس بكاذب من أصلح غيره ، فقال ما فيه صلاحه وإن لم يكن كما قاله ، وهذا القول باطل قطعا لأنه تصريح بالتكذيب ، ثم طلب عذرا في أنه لم يكذب ، ويجب إجلال منصب النبّوة عن هذه الرذيلة ففي الصدق وإصلاح الخلق به مندوحة عن الكذب ، وهذه أول درجات الزندقة ، وهي رتبة بين الاعتزال وبين الزندقة المطلقة ، فإن المعتزلة يقرب منهاجهم من مناهج الفلاسفة إلا في هذا الأمر الواحد وهو أن المعتزلي لا يجوز الكذب على الرسول عليه‌السلام بمثل هذا العذر ، بل يؤول الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلافه ، والفلسفي لا يقتصر على مجاوزته للظاهر على ما يقبل التأويل على قرب أو على بعد.

وأمّا الزندقة المطلقة ، فهو أن تنكر أصل المعاد عقليا وحسيّا ، وتنكر الصانع للعالم أصلا ورأسا.

وأمّا إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسيّة وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل العلوم فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء وظاهر ظني. والعلم عند الله. أن هؤلاء هم

٢٤٦

المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام : " ستفترق أمّتي بضعا وسبعين فرقة كلّهم في الجنّة إلّا الزّنادقة وهي فرقة". هذا لفظ الحديث في بعض الروايات وظاهر الحديث يدلّ على أنه أراد به الزنادقة من أمّته ، إذ قال : " ستفترق أمّتي" ، ومن لم يعترف بنبوّته ليس من أمّته والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع فليسوا معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض ، وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وينسبون الأنبياء إلى التلبيس فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة ، فإذا لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكرناه.

فصل في بيان الزندقة المطلقة

اعلم أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به يستدعي تفصيلا يفتقر إلى ذكر كل المقالات والمذاهب ، وذكر شبهة كل واحد ، ودليله ووجه بعده عن الظاهر ووجه تأويله ، وذلك لا يحويه مجلدات ولا تتسع لشرح ذلك أوقاتي فاقنع الآن بوصية وقانون.

أمّا الوصية : فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلّا الله محمّد رسول الله غير مناقضين لها. والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعذر أو غير عذر ، فإن التفكير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه.

وأمّا القانون : فهو أن تعلم أن النظريات قسمان : قسم يتعلق بأصول القواعد ، وقسم يتعلق بالفروع ، وأصول الإيمان ثلاثة : الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما عداه فروع. واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلّا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتواتر ، لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطاء المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة.

واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلّق بها لا يوجب شيء منه تكفيرا. فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب الإمامة ولا يلزم تكفيره ولا يلتفت إلى قوم يعظمون أمر الإمامة ويجعلون الإيمان بالإمام مقرونا بالإيمان بالله وبرسوله ، ولا إلى خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في الإمامة فكل ذلك إسراف إذ ليس في واحد من القولين تكذيب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا ، ومهما وجد التكذيب وجب التفكير وإن كان في الفروع. فلو قال قائل مثلا : البيت الذي بمكّة ليس الكعبة التي أمر الله تعالى بحجها فهذا كفر ، إذ قد ثبت تواترا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلافه ، ولو أنكر شهادة الرسول لذلك البيت بأنه الكعبة لم ينفعه إنكاره ، بل يعلم قطعا أنه معاند في إنكاره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، ولم يتواتر عنده ذلك ، وكذلك من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة ، وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر لأن هذا وأمثاله لا يمكن إلا بتكذيب الرسول أو إنكار التواتر ، والتواتر ينكره الإنسان بلسانه ولا يمكنه أن يجهله بقلبه. نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع ، فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجّة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصّلون لعلم أصول الفقه. وأنكر النظام كون الإجماع حجّة أصلا فصار كون الإجماع حجّة مختلف فيه فهذا حكم الفروع.

٢٤٧

وأما الأصول الثلاثة : وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ، ولم يتصور أن يقوم برهان على خلافه فمخالفته تكذيب محض. ومثاله ما ذكرناه من حشر الأجساد والجنّة والنار وإحاطة علم الله تعالى بتفاصيل الأمور وما يتطرق إليه احتمال التأويل ولو بالمجاز البعيد ، فينظر فيه إلى البرهان فإن كان قاطعا وجب القول به ، ولكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر لقصور فهمهم فإظهاره بدعة وإن لم يكن البرهان قطعيا لكن يفيد ظنا غالبا ، وكان مع ذلك لا يعلم ضرره في الدين كنفي المعتزلي الرؤية عن الله تعالى. فهذه بدعة وليس بكفر.

وأما ما يظهر له ضرر فيقع في محلّ الاجتهاد والنظر فيحتمل أن يكفر ويحتمل أن لا يكفر. ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين الله تعالى أسقطت عنه الصلاة وحلّ له شرب الخمرة والمعاصي وأكل مال السلطان. فهذا ممن لا شكّ في وجوب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر ، وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائة كافر إذ ضرره في الدين أعظم وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقا فإنه يمنع عن الإصغاء إليه لظهور كفره. وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع ، ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم إذ خصص عموم التكليفات بمن ليس له مثل درجته في الدين ، وربما يزعم أنه يلابس ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه بريء عنه. ويتداعى هذا إلى أن يدعي كل فاسق مثل حالة وينحلّ به عصام الدين. ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام ، بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم بالخلود في النار. فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية ، فتارة يدرك بيقين وتارة بظن غالب ، وتارة يتردد فيه ، ومهما حصل تردد فالوقف فيه عن التكفير أولى ، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ، ولا بدّ من التنبيه على قاعدة أخرى وهو أن المخالف قد يخالف نصا متواترا ويزعم أنه مؤول ، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلا في اللسان لا على بعد ولا على قرب ، فذلك كفر. وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه مؤول. مثاله : ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها. وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه ، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ، وإما أن يكون واحدا في نفسه وموجودا وعالما على معنى اتّصافه فلا. وهذا كفر صراح لأن حمل الوحدة على اتّحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب أصلا ، ولو كان خالق الوحدة يسمى واحدا لخلقه الوحدة لسمي ثلاثا وأربعا لأنه خلق الأعداد أيضا. فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبّر عنها بالتأويلات.

فصل النظر في التكفير

قد فهمت من هذه التكفيرات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور :

أحدها : أن النصّ الشرعي الذي عدل به عن ظاهره هل يحتمل التأويل أم لا؟ فإن احتمل فهل هو قريب أم بعيد؟ ومعرفة ما يقبل التأويل ، وما لا يقبل التأويل ليس بإلهين بل لا يستقلّ

٢٤٨

به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها ، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومنهاجها في ضروب الأمثال.

الثاني : في النصّ المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالإجماع المجرد ، فإن ثبت تواترا فهو على شرط التواتر أم لا؟ إذ ربما يظن المستفيض تواترا ، وحدّ التواتر ما لا يمكن الشكّ فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرها ، وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوّة ، فهل يتصور أن يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار؟ وشرط التواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن ، أمّا في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ وأحوال القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات. إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع الكثير رابطة في التوافق لا سيّما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ، ولذلك ترى الروافض يدّعون النصّ على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، في الإمامة لتواتره عندهم ، وتواتر عند خصومهم في أشياء كثيرة خلاف ما تواتر عندهم لشدة توافق الروافض على إقامة أكاذيبهم واتّباعها.

وأمّا ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحلّ والعقد في صعيد واحد ، فيتّفقوا على أمر واحد اتّفاقا بلفظ صريح ، ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم ، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض فيأخذ فتاويهم في زمام واحد بحيث تتفق أقوالهم اتّفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده ، ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر؟ لأنه من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتّفاق ولا يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك ، وهذا غامض أيضا.

الثالث : النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر ، أو هل بلغه الإجماع؟ إذ كل من يولد لا تكون الأمور عنده متواترة ، ولا موضع الإجماع عنده متميز عن مواضع الخلاف ، وإنما يدرك ذلك شيئا فشيئا ، وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنّفة في الاختلاف والإجماع للسلف ، ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين إذ لا يحصل تواتر الإجماع به ، وقد صنّف أبو بكر الفارسيرحمه‌الله كتابا في مسائل الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض المسائل ، فإذا من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذّب فلا يمكن تكفيره. والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير.

الرابع : النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرائط البرهان أم لا؟ ومعرفة شرط البرهان لا يمكن شرحها إلا في مجلدات ، وما ذكرنا في كتاب (القسطاس المستقيم) ، وكتاب (محكّ النظر) أنموذج منه وتكل قريحة أكثر فقهاء الزمان عن قصّ شروط البرهان على الاستيفاء ، ولا بدّ من معرفة ذلك فإن البرهان إذا كان قاطعا رخص في التأويل وإن كان بعيدا. فإذا لم يكن قاطعا لم يرخص إلا في تأويل قريب سابق إلى الفهم.

٢٤٩

الخامس : النظر في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم لا؟ فإن ما لا يعظم ضرره في الدين فالأمر فيه أسهل وإن كان القول شنيعا وظاهر البطلان كقول الإمامية المنتظرة أن الإمام مختف في سرداب فإنه ينتظر خروجه ، فإنه قول كاذب ظاهر البطلان شنيع جدا ، ولكن لا ضرر فيه على الدين إنما الضرر على الأحمق المعتقد لذلك إذ يخرج كل يوم من بلده لاستقبال الإمام حتى يدخل فيرجع إلى بيته خاسئا ، وهذا مثال. والمقصود أنه لا ينبغي أن يكفر بكل هذيان وإن كان ظاهر البطلان. فإذا فهمت أن النظر في التكفير موقوف على جميع هذه المقامات التي لا يستقلّ بآحادها المبرزون علمت أن المبادر إلى تكفير من يخالف الأشعري أو غيره جاهل مجازف ، وكيف يستقلّ الفقيه بمجرد الفقه بهذا الخطب العظيم وفي أي ربع من أرباع الفقه يصادف هذه العلوم ، فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك ، فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس ولو ينكث من الأيدي من لا يدري لقلّ الخلاف بين الخلق.

فصل في حكم عوام المسلمين

من أشدّ الناس علوا وإسرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلّتنا التي حررناها فهو كافر ، فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أوّلا ، وجعلوا الجنة وفقا على شرذمة يسيرة من المتكلمين ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيا ، إذ ظهر لهم في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصر الصحابة رضي الله عنهم حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل ، ولو اشتغلوا به لم يفهموه ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المجرّدة والتقسيمات المرتبة فقد أبدع حدّ الإبداع ، بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده عطية وهدية من عنده. تارة ببينة من الباطن لا يمكنه التعبير عنها ، وتارة بسبب رؤيا في المنام ، وتارة بمشاهدة حال رجل متديّن وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته ، وتارة بقرينة حال. فقد جاء أعرابي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاحدا به منكرا ، فلمّا وقع بصره على طلعته البهية زادها الله شرفا وكرامة ، فرآها يتلألأ منها أنوار النبوّة ، قال : والله ما هذا بوجه كذاب. وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم ، وجاء آخر إليه عليه الصلاة والسلام وقال : أنشدك الله ، الله بعثك نبيا؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إي والله ، الله بعثني نبيا. فصدقه بيمينه وأسلم ، وهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشغل واحد منهم بالكلام وتعليم الأدلّة ، بل كان يبدو نور الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد إشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وتلاوة القرآن وتصفية القلوب ، فليت شعري متى نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن الصّحابة رضي الله عنهم إحضار أعرابي أسلم وقوله له الدليل على أن العالم حادث أنه لا يخلو عن

٢٥٠

الأعراض ، وما لا يخلو عن الحوادث حادث ، وإن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة زائدة عن الذات لا هي هو ولا هي غيره ، إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين.

ولست أقول لم تجر هذه الألفاظ ، ولم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ ، بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف ، وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب ، وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرها ، نعم ، لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلّة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حقّ بعض الناس ، ولكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضا نادر ، بل الأنفع الكلام الجاري في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن. فأمّا الكلام المحرر على رسم المتكلمين فإنه يشعر نفوس المستمعين بأن فيه صنعة جدل ليعجز عنه العامي لا لكونه حقا في نفسه. وربّما يكون ذلك سببا لرسوخ العناد في قلبه ، ولذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين ولا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره ، ولا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة ولا على العكس. وتجري هذه الانتقالات بأسباب أخر حتى في القتال بالسيف ، ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه المجادلات ، بل شدّدوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال ، وإذا تركنا المداهنة ومراقبة الجانب صرحنا بأن الخوض في الكلام حرام لكثرة الآفة فيه إلا لأحد شخصين :

رجل : وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلام ريب وعظي ولا بخبر نقلي عن رسول الله فيجوز أن يكون القول المرتب الكلامي رافعا شبهته ودواء له في مرضه ، فيستعمل معه ذلك ويحرس عنه سمع الصحيح الذي ليس به ذلك المرض فإنه يوشك أن يحرك في نفسه إشكالا ويثير له شبهة تمرضه وتستنزله عن اعتقاده المجزوم الصحيح.

والثاني : شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت الإيمان بأنوار اليقين ، يريد أن يحصل هذه الصنعة ليداوي بها مريضا إذا وقعت له شبهة ، وليفحم بها مبتدعا إذا نبغ وليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع اغواءه ، فتعلم ذلك بهذا العزم كان من فروض الكفايات ، وتعلم قدر ما يزيل به الشكّ ويدرأ الشبهة في حقّ المشكل فرض عين ، إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه. والحقّ الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام واشتمل عليه القرآن اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلّته ، بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جدا مشرف على التزاول بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها وتمام تأكده بلزومه العبادة والذكر ، فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى وتطهير الباطن عن كدورات الدنيا وملازمة ذكر الله تعالى دائما تجلت له أنوار المعرفة وصارت الأمور التي كان قد أخذها تقليدا عنده كالمعاينة والمشاهدة ، وذلك حقيقة المعرفة التي لا تحصل إلا بعد انحلال عقدة الاعتقادات وانشراح الصدر بنور الله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ

٢٥١

يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [النور : ٢٢]. كما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى شرح الصدر فقال : " نور يقذف في قلب المؤمن" ، فقيل : وما علامته؟ قال : " التّجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا المتهالك عليها غير مدرك حقيقة المعرفة ولو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعا.

فصل في بعث النار

لعلّك تقول أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية. والشارع صلوات الله عليه هو الذي ضيق الرحمة على الخلق دون المتكلم ، إذ قال عليه‌السلام : " يقول الله تعالى لآدم عليه‌السلام يوم القيامة : يا آدم ابعث من ذرّيتك بعث النّار. فيقول : يا رب من كم؟ فيقول : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". وقال عليه الصلاة والسلام : " ستفترق أمّتي على نيف وسبعين فرقة ، النّاجية منها واحدة".

الجواب : أن الحديث الأوّل صحيح ، ولكن ليس المعنى به أنهم كفار مخلدون بل إنهم يدخلون النار ويعرضون عليها ويتركون فيها بقدر معاصيهم ، والمعصوم من المعاصي لا يكون في الألف إلّا واحدا ، وكذلك قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] ، ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه ويجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة كما وردت به الأخبار ، وتشهد له الأخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة الله تعالى ، وهي أكثر من أن تحصى.

فمنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : فقدت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فابتغيته فإذا هو في مشربه يصلي ، فرأيت على رأسه أنوارا ثلاثة فلما قضى صلاته ، قال : مهيم من هذه؟ قلت : أنا عائشة يا رسول الله ، قال : أرأيت الأنوار الثّلاثة؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : إنّ آت أتاني من ربّي فبشّرني أنّ الله تعالى يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب ، ثمّ أتاني في النّور الثّاني آت من ربّي فبشّرني أنّ الله تعالى يدخل الجنّة من أمّتي مكان كلّ واحد من السّبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب ، ثم أتاني في النور الثالث آت من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب فقلت : يا رسول الله لا تبلغ أمتك هذا ، قال : يكمّلون لكم من الأعراب ممّن لا يصوم ولا يصلّي ، فهذا وأمثاله من الأخبار الدالّة على سعة رحمة الله تعالى كثير ، فهذا في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، وأنا أقول : إن الرحمة تشتمل كثيرا من الأمم السالفة وإن كان أكثرهم يعرضون على النار ، إما عرضة خفيفة حتى في لحظة أو ساعة ، وإمّا في مدة حتى يطلق عليهم اسم بعث النار ، بل أقول : إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى. أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك ولم تبلغهم الدعوة ، فإنهم ثلاثة أصناف : صنف لم يبلغهم اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا فهم معذورون ، وصنف

٢٥٢

بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم وهم الكفار الملحدون. وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته ، بل سمعوا أيضا منذ الصبا أن كذابا ملبسا اسمه محمّد ادّعى النبوّة ، كما سمع صبياننا أن كذابا يقال له المقفع بعثه الله تحدى بالنبوّة كاذبا ، فهؤلاء عندي في أوصافه في معنى الصنف الأوّل فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه ، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب.

وأمّا الحديث الآخر ، وهو قوله : الناجية منها واحدة. فالرواية مختلفة فيه. فقد روي الهالكة منها واحدة ولكن الأشهر تلك الرواية ، ومعنى الناجية هي التي لا تعرض على النار ، ولا تحتاج إلى الشفاعة بل الذي تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار فليس بناج على الإطلاق وإن انتزع بالشفاعة من مخاليبهم. وفي رواية : كلّها في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة. ويمكن أن تكون الروايات كلها صحيحة فتكون الهالكة واحدة هي التي تخلد في النار ، ويكون الهالك عبارة عمن وقع اليأس من صلاحه لأن الهالك لا يرجى له بعد الهلاك خير وتكون الناجية واحدة وهي التي تدخل الجنة بغير حساب ولا شفاعة لأن من نوقش الحساب فقد عذب فليس بناج إذا ، ومن عرض للشفاعة فقد عرض للمذلة فليس بناج أيضا على الإطلاق ، وهذان طريقان وهما عبارتان عن شرّ الخلق وخيره. وباقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين : فمنهم من يعذب بالحساب فقط ، ومنهم من يقرب من النار ثم يصرف بالشفاعة ، ومنهم من يدخل النار ثم يخرج على قدر خطاياهم في عقائدهم وبدعتهم وعلى كثرة معاصيهم وقلتها. فأمّا الهالكة المخلدة في النار مع هذه الأمّة فهي فرقة واحدة وهي التي كذبت وجوزت الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمصلحة.

وأمّا من سائر الأمم ، فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه وصفته ومعجزته الخارقة للعادة كشقّ القمر وتسبيح الحصى ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدّى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه ، فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه وتولّى ولم ينظر فيه ولم يتأمّل ولم يبادر إلى التصديق ، فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر ، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين ، بل أقول من قرع سمعه هذا فلا بدّ أن تنبعث به داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فإن لم تنبعث هذه الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا وخلوّه عن الخوف وخطر أمر الدين وذلك كفر ، وإن انبعثت الداعية فقصر في الطلب فهو أيضا كفر بل ذو الإيمان بالله واليوم الآخر من أهل كل ملّة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة ، فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضا مغفور له ثم له الرحمة الواسعة ، فاستوسع رحمة الله تعالى ولا تزن

٢٥٣

الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية.

واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة أو في حالة يغبطها إذ لو خيّر بينها وبين الإماتة والإعدام مثلا لاختارها ، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر ، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الآخرة نادر ، فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالها ، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك ولو لا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى ، حيث قال : " أوّل ما خطّ الله في الكتاب الأوّل أنا الله لا إله إلّا أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، فله الجنّة".

واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة وشمولها بأسباب ومكاشفات سوى ما عندهم من الأخبار والآثار ، ولكن ذكر ذلك يطول. فأبشر برحمة الله وبالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح ، وبالهلاك المطلق إن خلوت عنهما جميعا ، وإن كنت صاحب يقين في أصل التصديق وصاحب خطأ في بعض التأويل ، أو صاحب شكّ فيهما ، أو صاحب خلط في الأعمال ، فلا تطمع في النجاة المطلقة.

واعلم ، أنك بين أن تعذب مدة ثم تخلى ، وبين أن يشفع فيك من تيقنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره ، فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء فإن الأمر في ذلك مخطر.

فصل

قد ظنّ بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع ، وأن الجاهل بالله كافر والعارف به مؤمن ، فيقال له : الحكم بإباحة الدم والخلود في النار حكم شرعي لا معنى له قبل ورود الشرع ، وإن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بالله هو الكافر ، فهذا لا يمكن حصره فيه لأن الجاهل بالرسول وبالآخرة أيضا كافر ، ثم إن خصص ذلك بالجهل بذات الله تعالى بجحد وجوده أو وحدانيته ولم يطرده في الصفات فربما سوعد عليه ، وإن جعل المخطئ في الصفات أيضا جاهلا أو كافرا لزمه تكفير من نفى صفة البقاء وصفة القدم ، ومن نفى الكلام وصفا زائدا على العلم ، ومن نفى السمع والبصر زائدا على العلم ، ومن نفى جواز الرؤية ، ومن أثبت الجهة وأثبت إرادة حادثة لا في ذاته ولا في محل وتكفير المخالفين فيه ، وبالجملة يلزمه التكفير في كل مسألة تتعلق بصفات الله تعالى وذلك حكم لا مستند له ، وإن خصص ببعض الصفات دون بعض لم يجد لذلك فصلا ومردا ، ولا وجه له إلا الضبط بالتكذيب ليعم المكذب بالرسول وبالمعاد ، ويخرج منه المؤول ، ثم لا يبعد أن يقع الشكّ والنظر في بعض المسائل من جملة التأويل أو التكذيب حتى يكون التأويل بعيدا ويقضى فيه بالظن وموجب الاجتهاد ، فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية.

٢٥٤

فصل

من الناس من قال إنما أكفر من يكفرني من الفرق ، ومن لا يكفرني فلا. وهذا لا مأخذ له ، فإن قال قائل علي رضي الله عنه أولى بالإمامة إذا لم يكن كفرا فبأن يخطئ صاحبه ، ويظن أن المخالف فيه كافر لا يصير كافرا ، وإنما هو خطأ في مسألة شرعية. وكذلك الحنبلي إذا لم يكفربإثبات الجهة فلم يكفر بأن يغلط أو يظن أن نافي الجهة مكذب وليس بمتأول. وأما قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إذا قذف أحد المسلمين صاحبه بالكفر فقد باء به أحدهما". معناه أن يكفره مع معرفته بحاله فمن عرف من غيره أنه مصدق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يكفره فيكون المكفر كافرا. فأما إن كفره لظنه أنه كذب الرسول فهذا غلط منه في حال شخص واحد ، إذ قد يظن به أنه كافر مكذب وليس كذلك وهذا لا يكون كفرا. فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيه على أعظم الغور في هذه القاعدة وعلى القانون الذي ينبغي أن يتبع فيه ، فاقنع به والسلام.

٢٥٥

أيها الولد

٢٥٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

الحمد لله ربّ العالمين ، والعاقبة للمتّقين ، والصلاة والسلام على نبيّه محمّد وآله أجمعين.

اعلم ، أن واحدا من الطلبة المتقدّمين لازم خدمة الشيخ الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبي حامد محمّد بن محمّد الغزالي قدّس الله روحه واشتغل بالتحصيل وقراءة العلم عليه حتى جمع من دقائق العلوم ، واستكمل من فضائل النفس ، ثم إنه فكر يوما في حال نفسه وخطر على باله ، فقال : إني قرأت أنواعا من العلوم ، وصرفت ريعان عمري على تعلمها وجمعها. فالآن ينبغي أن أعلم أي نوعها ينفعني غدا ويؤانسني في قبري وأيها لا ينفعني حتى أتركه ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع" ، فاستمرّت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجّة الإسلام محمّد الغزالي رحمة الله تعالى عليه استفتاء ، وسأل عنه مسائل والتمس منه نصيحة ودعاء ، وقال : وإن كان مصنفات الشيخ كالإحياء وغيره يشتمل على جواب مسائلي لكن مقصودي أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي وأعمل بما فيها مدى عمري إن شاء الله تعالى ، فكتب الشيخ هذه الرسالة إليه في جوابه ، والله أعلم.

اعلم أيها الولد المحب أطال الله بقاءك بطاعته ، وسلك بك سبيل أحبائه أن منشور النصيحة يكتب من معدن الرسالة عليه‌السلام إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة لك في نصيحتي ، وإن لم يبلغك منه فقل لي ما ذا حصلت في هذه السنين الماضية.

أيها الولد : من جملة ما نصح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته قوله : " علامة إعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وإنّ امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهّز إلى النّار" ، وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم.

أيها الولد : النصيحة سهلة والمشكل قبولها لأنها في مذاق متبعي الهوى مرة إذ المناهي محبوبة في قلوبهم وعلى الخصوص لمن كان طالب العلم الرسمي مشتغل في فصل النفس ومناقب الدنيا ، فإنه يحسب أن العلم المجرّد له سيكون نجاته وخلاصه فيه ، وإنه مستغن عن العمل. وهذا اعتقاد الفلاسفة. سبحان الله العظيم لا يعلم هذا القدر أنه حين حصل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجّة عليه آكد ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه".

٢٥٧

وروي أن الجنيد قدّس الله سره رئي في المنام بعد موته ، فقيل له : ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال : طاحت تلك العبارات ، وفنيت تلك الإشارات وما نفعنا إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل.

أيها الولد : لا تكن من الأعمال مفلسا ، ولا من الأحوال خاليا وتيقن أن العلم المجرد لا يأخذ اليد ، مثاله : لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى ، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟ فمن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب ، فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلّمها ولم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل ، ومثله أيضا لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجبين والكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالها (شعر) :

گر مى دو هزار رطل همى پيمائى

تا مى نخورى نباشدت شيدائي

ولو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب ، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] ، (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة : ٨٢] ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف : ١٠٧ و ١٠٨] ، (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [الفرقان : ٧٠]. وما تقول في هذا الحديث: " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا". والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى إن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ، لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته لأن رحمة الله قريب من المحسنين ، ولو قيل أيضا يبلغ بمجرد الإيمان ، قلنا : نعم ، لكن متى يبلغ؟ وكم من عقبة كؤود يقطعها إلى أن يصل؟ فأوّل تلك العقبات عقبة الإيمان ، وأنه هل يسلم من سلب الإيمان أم لا؟ وإذا وصل ، هل يكون خائنا مفلسا؟ وقال الحسن البصري : يقول الله تعالى لعباده يوم القيامة : ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم.

أيها الولد : ما لم تعمل لم تجد الأجر.

حكي أن رجلا من بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين سنة فأراد الله تعالى أن يجلوه على الملائكة فأرسل الله إليه ملكا يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق به دخول الجنة ، فلما بلغه قال العابد : نحن خلقنا للعبادة فينبغي لنا أن نعبده ، فلما رجع الملك قال : إلهي أنت أعلم بما قال ، فقال الله تعالى : إذا هو لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع الكرم لا نعرض عنه ، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا". وقال علي رضي الله عنه : (من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن ، ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو مستغن). وقال الحسن رحمه‌الله تعالى : (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب). وقال : علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من اتّبع هواه وتمنّى على الله تعالى الأماني".

٢٥٨

أيها الولد : كم من ليال أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب وحرمت على نفسك النوم ، لا أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك. وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمّارة بالسوء ، فطوبى لك ثم طوبى لك. ولقد صدق من قال شعرا :

سهر العيون لغير وجهك ضائع

وبكاؤهنّ لغير فقدك باطل

أيها الولد : عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.

أيها الولد : أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام ، والخلاف والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال ، إني رأيت في إنجيل عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال : من ساعة أن يوضع الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل الله بعظمته منه أربعين سؤالا ، لله أوّله يقول عبدي طهرت منظر الخلق سنين وما طهرت منظري ساعة وكل يوم ينظر في قلبك يقول : ما تصنع لغيري وأنت محفوف بخيري ، أما أنت أصم لا تسمع.

أيها الولد : العلم بلا عمل جنون ، والعمل بغير علم لا يكون.

واعلم أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي ، ولا يحملك على الطاعة ، ولن يبعدك غدا عن نار جهنم ، وإذا لم تعمل اليوم ولم تدارك الأيّام الماضية تقول غدا يوم القيامة ، فارجعنا نعمل صالحا ، فيقال : يا أحمق أنت من هناك تجيء.

أيها الولد : اجعل الهمة في الروح ، والهزيمة في النفس ، والموت في البدن لأن منزلك القبر ، وأهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم ، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد ، وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه : هذه الأجساد قفص الطيور ، واصطبل الدوابّ ، فتفكر في نفسك من أيهما أنت ، إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل ارجعي إلى ربك تطير صاعدا إلى أن تقعد في أعالي بروج الجنان ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " اهتزّ عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ". والعياذ بالله إن كنت من الدواب ، كما قال الله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]. فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار ، وروي أن الحسن البصري رحمه‌الله تعالى أعطى شربة ماء بارد فأخذ القدح وغشي عليه وسقط من يده ، فلما أفاق قيل له : ما لك يا أبا سعيد؟ قال : ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.

أيها الولد : لو كان العلم المجرد كافيا لك ولا تحتاج إلى عمل سواه ، لكان نداء : هل من سائل ، هل من مستغفر ، هل من تائب ضائعا ، بلا فائدة. وروي أن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذكروا عبد الله بن عمر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : " نعم الرّجل هو ،

٢٥٩

لو كان يصلّي باللّيل" وقال عليه‌السلام لرجل من أصحابه : " يا فلان لا تكثر النوم بالليل ، فإنّ كثرة النوم بالليل يدع صاحبه فقيرا يوم القيامة".

أيها الولد : ومن الليل فتهجد به : أمر ، وبالأسحار هم يستغفرون شكر ، والمستغفرون بالأسحار ذكر ، قال عليه‌السلام : " ثلاثة أصوات يحبّها الله تعالى : صوت الدّيك ، وصوت الّذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار". قال سفيان الثوري ، رحمة الله تعالى عليه : إن الله تبارك وتعالى خلق ريحا بالأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار ، وقال أيضا : إذا كان أوّل الليل ينادي مناد من تحت العرش : ألا ليقم العابدون فيقومون ويصلون ما شاء الله ، ثم ينادي مناد في شطر الليل : ألا ليقم القانتون ، فيقومون ويصلون إلى السحر ، فإذا كان السحر نادى مناد : ألا ليقم المستغفرون ، فيقومون ويستغفرون ، فإذا طلع الفجر نادى مناد : ألا ليقم الغافلون فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم.

أيها الولد : روي في وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال : يا بني لا يكونن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم ، ولقد أحسن من قال شعرا :

لقد هتفت في جنح ليل حمامة

على فنن وهنا وإنّي لنائم

كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا

لما سبقتني بالبكاء الحمائم

وأزعم أنّي هائم ذو صبابة

لربي فلا أبكي ، وتبكي البهائم

أيها الولد : خلاصة العلم أن تعلم أن الطاعة والعبادة ما هي.

اعلم : أن الطّاعة والعبادة متابعة الشارع في الأوامر والنواهي ، بالقول والفعل. يعني كل ما تقول وتفعل وتترك ويكون باقتداء الشرع ، كما لو صمت يوم العيد وأيام التشريق تكون عاصيا ، أو صلّيت في ثوب مغصوب وإن كانت صورة عبادة تأثم.

أيها الولد : ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقا للشرع إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة ، وينبغي لك أن لا تغتر بالشطح وطامات الصوفية لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة لا بالطامات والترهات.

واعلم ، أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة ، حتى لا تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيي قلبك بأنوار المعرفة.

واعلم ، بأن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول إن لم تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي ، وإلا فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية ، وكل ما يكون ذوقيا لا يستقيم وصفه بالقول كحلاوة الحلو ومرارة المر لا يعرف إلا بالذوق. كما حكي أن عنينا كتب إلى صاحب له أن عرفني لذة المجامعة كيف تكون ، فكتب له في جوابه : يا فلان إني كنت حسبتك عنينا فقط. الآن عرفت أنك عنين وأحمق. لأن هذه اللذة ذوقية إن تصل إليها تعرف ، وإلا لا يستقيم وصفها بالقول والكتابة.

٢٦٠