مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

بحيلة وتلبيس وإن لم يكن تلبيسا فغايته أنه فعل عجيب ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظا للقرآن.

قلت : فبرهاني إذا أيضا أني كما عرفت هذه الموازين فقد عرفت وأفهمت وأزلت الشك عن قلبك في صحته فيلزمك الإيمان بإمامتي كما أنك إذا تعلمت الحساب وعلمته من أستاذ فإنه إذا علّمك الحساب حصل لك علم بالحساب ، وعلم آخر ضروري بأن أستاذك حاسب وعالم الحساب ، وكذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أيضا في أنه حاسب ، وكذلك آمنت أنا بصدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق موسى عليه‌السلام لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية بمجردها ، فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ التباس كثير فلا يوثق به بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل. فإن التعارض في عالم الحسّ والشهادة كثير جدا ، لكني تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها جميع المعارف الإلهية بل أحوال المعاد. وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة ، كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن فوجدت جميعها موافقة لما في القرآن ، ولما في الأخبار فتيقنت أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق وأن القرآن حق ، وفعلت كما قال علي رضي الله عنه إذ قال : " لا تعرف الحق بالرجال أعرف الحق تعرف أهله". فكانت معرفتي بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورية كمعرفتك إذا رأيت رجلا غريبا يناظر في مسألة من مسائل الفقه ويحسن فيها ويأتي بالفقه الصحيح الصريح ، فإنك لا تتمارى في أنه فقيه ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين الحاصل بفقهه لو قلب ألف عصا ثعبانا لأن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس والطلسم وغيرها ولا يحصل العلم بالقرآن بينها وبين هذه الأشياء ، وكونها معجزة إلّا بعد بحث طويل ونظر دقيق ويحصل به إيمان ضعيف هو إيمان العوام والمتكلمين ، فأما إيمان أرباب المشاهدة الناظرين من مشكاة الربوبية كذلك تكون.

فقال : فأنا أيضا أشتهي أن أعرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما عرفته ، وقد ذكرت أن ذلك لا يعرف إلا بأن توزن جميع المعارف الإلهية بهذا الميزان وما اتّضح عندي أن جميع المعارف الدينية يمكن وزنها بهذه الموازين فيما أعلم ذلك؟

قلت : هيهات لا أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط ، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية وكل علم حقيقي غير وضعي ، فإني أميز حقّه عن باطله بهذه الموازين ، وكيف لا وهو القسطاس المستقيم والميزان الذي هو رفيق الكتاب والقرآن في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]. وأما معرفتك بقدرتي على هذا فلا تحصل لا بنصّ ولا بقلب العصا ثعبانا ، ولكن تحصل بأن تستكشف ذلك تجربة وامتحانا فمدعي الفروسية لا ينكشف صدقه حتى يركب فرسا ويركض ميدانا فسلني عما شئت من العلوم الدينية لأكشف لك الغطاء عن الحقّ فيه واحدا واحدا وأزنه بهذا الميزان وزنا يحصل لك علم ضروري بأن الوزن صحيح وأن

٢٠١

العلم المستفاد منه مستيقن ومن لم يجرب لم يعرف.

فقال : وهل يمكنك أن تعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية جميع الخلق فترفع الاختلافات الواقعة بينهم؟

قلت : هيهات لا أقدر عليه وكان إمامك المعصوم إلى الآن قد رفع الاختلافات بين الخلائق وأزال الإشكالات عن القلوب ، بل الأنبياء متى رفعوا الاختلاف ومتى قدروا عليه بل اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي. ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربّك ، أفأدعي أن أرد قضاء الله الذي قضى به الأزل أو يقدر إمامك أن يدعي ذلك فإن كان يدعيه فلم ادخره إلى الآن والدنيا طافحة بالاختلافات. وليت شعري رئيس الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سبب رفع الاختلافات بين الخلق أو سبب تأسيس اختلافات لا تنقطع أبد الدهر.

القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات

فقال : كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟

قلت : أن اصغوا إليّ ، رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالى ، ولكن لا حيلة في إصغائهم فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك ، فكيف يصغون إليّ وكيف يجتمعون على الإصغاء وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالوا مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، وكون الخلاف بينهم ضروريا تعرفه من كتاب جواب مفصل الخلاف وهو الفصول الاثنا عشر.

فقال : فلو أصغوا كيف كنت تفعل؟ قلت : كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله تعالى ، إذ قال : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥]. وإنما أنزل هذه الثلاث لأن الناس ثلاثة أصناف وكل واحد من الكتاب والحديد والميزان علاج قوم.

فقال : فمن هم وكيف علاجهم؟ قلت : الناس ثلاثة أصناف عوام وهم أهل السلامة البله وهم أهل الجنة ، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة ويتولد بينهم طائفة هم أهل الجدل والشغب فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة. أما الخواصّ فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها فيرتفع الخلاف بينهم على قرب وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال :

إحداها : القريحة النافذة والفطنة القوية وهذه عطية فطرية وغريزة جبلية لا يمكن كسبها.

والثانية : خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع فإن المقلد لا يصغي والبليد وإن أصغى فلا يفهم.

الثالثة : أن يعتقد في أني من أهل البصيرة بالميزان ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلم منك.

والصنف الثاني البله : وهم جميع العوام وهؤلاء هم الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق وإن كانت

٢٠٢

لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب بل شغلتهم الصناعات والحرف وليس فيهم أيضا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم عنه. فهؤلاء لا يختلفون ولكن يتخيرون بين الأئمة المختلفين فادعوا هؤلاء إلى الله بالموعظة كما أدعوا أهل البصيرة بالحكمة ، وأدعوا أهل الشغب بالمجادلة وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أوّلا ، فأقول لهم ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأعرابي جاءه فقال : علمين في غرائب العلم فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ليس أهلا لذلك ، فقال : وما ذا علمت في رأس العلم أي الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة اذهب فاحكم رأس العلم ثم ارجع لأعلمك من غرائبه. فأقول للعامي : ليس الخوض في الاختلافات من عشك فادرج فإياك أن تخوض فيه أو تصغي إليه فتهلك ، فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة ، وقد صرفت عمرك في غير العلم ، فكيف تكون من أهل العلم ومن أهل الخوض فيه ، فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك فكل كبيرة تجري على العامي أهون من أن يخوض في العلم فيكفر من حيث لا يدري. فإن قال : لا بدّ من دين أعتقده وأعمل به لأصل به إلى المغفرة والناس مختلفون في الأديان ، فبأيّ دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له : للدين أصول وفروع والاختلاف إنما يقع فيهما ، أما الأصول فليس عليك أن تعتقد فيها إلا ما في القرآن ، فإن الله تعالى لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه ، فعليك أن تعتقد أن لا إله إلا الله وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء إلى جميع ما ورد في القرآن واتّفق عليه الأئمة ، فذلك كاف في صحّة الدين وإن تشابه عليك شيء ، فقل : آمنا كل من عند ربنا واعتقد كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة واعتقاد أنه ليس كمثله شيء وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال فإنك غير مأمور به ولا هو على حد طاقتك ، فإن أخذ يتحذلق ويقول عليه وقد اختلف فيه الأشعرية والمعتزلة فقد خرج بهذا عن حدّ العوام إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل ، فإن الله لا يهلك قوما إلا يؤتيهم الجدل كذلك ورد الخبر ، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل الحوالة على الكتاب.

وأما الفروع فأقول : لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه فقد اتفقت الأئمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع ، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والزنى والسرقة والخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام ، والفرائض كلها واجبة فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلي وليس بعامي ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف. أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذا ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم هيهات ما أشبه ضعف عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف على الموت وله علاج متفق عليه بين الأطباء وهو يقول قد اختلف الأطباء في بعض الأدوية أنها حارّة أو باردة وربما افتقرت إليه يوما فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع الخلاف فيه. نعم لو رأيتم صالحا قد فرغ من حدود

٢٠٣

التقوى كلها. وقال : ها أنا تشكل علي مسائل فإني لا أرى أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم بالليل في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك ، فأقول له : إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ مما يتفق عليه فتوضأ من كل ما فيه خلاف فإن كل من لا يوجبه يستحبه ، وانو الصوم بالليل في رمضان فإن من لا يوجبه يستحبه ، فإن قال : هو ذا يثقل علي الاحتياط ويعرض لي مسائل تدور بين النفي والإثبات ، وقال : لا أدري أأقنت في الصبح أم لا وأجهر بالتسمية أم لا ، فأقول له : الآن اجتهد مع نفسك وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك كما لو كنت مريضا وفي البلد أطباء فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك فيكفيك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك ، فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه فإن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك أجران. وإن أخطأ فله عند الله في ذلك أجر واحد ، وكذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد". ورد الله تعالى الأمر إلى أهل الاجتهاد وقال تعالى لتعليمه الذين يستنبطونه منهم وارتضى الاجتهاد لأهله وقال تعالى لتعليمه الذين يستنبطونه منهم وارتضى الاجتهاد لأهله إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي ، قال : ذلك قبل أن أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذن له فيه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله». ففهم من ذلك أنه مرضي به من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ وغيره ، كما قال الأعرابي إني هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال : أعتق رقبة ففهم أن التركي أو الهندي لو جامع أيضا لزمه الإعتاق وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله فإن غير ذلك مقدور عليه ولا تكليف بما لا يطاق بل كلفوا ما يظنونه صوابا ، كما لم يكلفوا الصلاة بثوب طاهر بل بثوب يظنونه أنه طاهر ، فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم القضاء إذ نزع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعله في أثناء الصلاة لما أنبأه جبريل أن عليه قذرا ولم يعد الصلاة ولم يستأنف ، وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة بل إلى جهة يظن أنها القبلة بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر واحد. ولم يكلفوا أداء الزكاة إلى الفقير بل إلى من ظنوا فقره لأن ذلك لا يعرف باطنه ولم يكلف القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم بل من يظنون صدقه ، وإذا جاز سفك دم بطن يحتمل الخطأ وهو ظن صدق الشهود فلم لا تجوز الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد ، وليت شعري ما ذا يقول رفقاؤك في هذا؟ يقولون إذا اشتبهت عليه القبلة يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها ، أو يقول اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد إذ لا يعرف أدلّة القبلة وكيفية الاستدلال بالكواكب أو الجبال والرياح.

قال : لا شك في أنه يأذن له في الاجتهاد ثم لا يؤثمه إذا بذل مجهوده وإن أخطأ أو صلّى

٢٠٤

إلى غير القبلة.

قلت : فإذا كان من جعل القبلة خلفه معذورا مأجورا فلا يبعد أن يكون من أخطأ في سائر الاجتهادات معذورا ، فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم مصيبون ما عند الله وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين ، فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن يتعاندوا ، وأن يتعصب بعضهم مع بعض لا سيّما والمصيب لا يتعين وكل واحد منهم يظن أنه مصيب كما لو اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد فحقهما أن يصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي غلبت على ظنه وأن يكف إنكاره وإعراضه واعتراضه على صاحبه لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه. أما استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه ، وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على اعتقاد أنه لا يتصور منه الخطأ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورا ، وهذا لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يتصور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونا في سر الاستبصار ، وأما ما لا تتغير فيه الشرائع فليس فيه اختلاف ، وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتباع السنة وقد ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن.

وأما الصنف الثالث : وهم أهل الجدل فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحقّ ، وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم لكن أرفق وأجادل بالتي هي أحسن ، وكذلك أمر الله تعالى رسوله ، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول التي يسلمها الجدلي وأستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد ، وإلى ذلك الحدّ فإن لم يقنعه ذلك لتشوّقه بفطنته إلى مزيد كشف رقيته إلى تعليم الموازين فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه ولجاجه وعناده عالجته بالحديد ، فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني الكتاب ليفهم منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث ، فالكتاب للعوام ، والميزان للخواص ، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم دون أهل الجدل ، وأعني بأهل الجدل طائفة فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام ولكن قياستهم ناقصة إذا كانت الفطرة كاملة ، لكن في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد ، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق وتكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وفي آذانهم ووقرا ، لكن لم تهلكهم إلا كياستهم الناقصة ، فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير ، وفي الخبر : أن أكثر أهل الجنة البله وأن عليين لذوي الألباب ، ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله وأولئك أصحاب النار ويزع الله السلطان ما لا يزع بالقرآن ، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين في كتاب الله تعالى فعلاه بالدرة ، وكما قال مالك رضي الله

٢٠٥

عنه لما سئل عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء حقّ ، والإيمان به واجب ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنه بدعة ، وحسم بذلك باب الجدال. وكذلك فعل السلف كلهم وفي فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى ، فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى الحق وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الحق ، وذلك بأن دعوة الخواص إلى الحكمة بتعليم الميزان حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة ، فإن من معه ميزان فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا لا نهاية له ، ولو لا اشتمال القرآن على الموازين لما صحّ تسمية القرآن نورا لأن النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره وهو نعت الميزان ، ولما صدق قوله : ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، فإن جميع العلوم غير موجودة في القرآن بالتصريح ، ولكن موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها ، فبهذا أدعو الخواص ودعوت العوام بالموعظة الحسنة بالإحالة على الكتاب والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة لله تعالى ، ودعوت أهل الجدل بالمجادلة التي هي أحسن فإن أبى عرضت عن مخاطبته وكففت شره ببأس السلطان والحديد المنزل مع الميزان ، فليت شعري الآن يا رفيقي بم يعالج إمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة؟ أيعلم العوام فيكلفهم ما لا يفهمون ، ويخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالحجة ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كثرة محاجة الله تعالى في القرآن مع الكفار؟ فما أعظم قدرة إمامك إذ صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده وهم لا يقبلون قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتقليد ولا يقنعون بقلب العصا ثعبانا ، بل يقولون وهو فعل غريب ، ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله وفي العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحيّر فيه العقول ولا يقوى على تمييز المعجز عن السحر والطلسم إلا من عرف جميعها ، وجملة أنواعها ليعلم أن المعجز خارج عنها كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه‌السلام إذ كانوا من أئمة السحرة. ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه من قوله كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في قوله إني حاسب. فهذه هي المعرفة اليقينة التي بها يقنع أولو الألباب وأهل البصائر ولا يقنعون بغيرها البتّة وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق القرآن وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك ، وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن ، فمن أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم ، وما الذي جلّ من إشكالات الدين وعن ما ذا كشف عن غوامضه. قال الله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١]. وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم فأرني ما ذا اقتبسته من غوامض العلوم من إمامك إلى الآن ، وما الذي يتعلمون منه؟ وليت شعري ما الذي تعلمت من إمامك المعصوم أرني ما رأيتها :

٢٠٦

ما يسدى بي رتسدى أوف

خرابن وقلب يا وفوت

فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام ثم أرى المستجيب أمامك بعد الاستجابة على جهله الذي كان قبله لم يحل له الإمام عقدا بل ربما عقد له حلّا ولم تفده استجابته له علما بل ربما زاد به طغيانا وجهلا.

فقال : قد طالت صحبتي مع رفقائي ، ولكن ما تعلمت منهم شيئا إلا أنهم يقولون عليك بمذهب التعليم ، وإياك والرأي والقياس فإنه متعارض مختلف.

قلت : فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم ثم لا يشتغلوا بالتعليم فقل لهم : قد دعوتموني إلى التعليم فاستجبت فعلموني ما عندكم.

فقال : ما أراهم يزيدونني على هذا شيئا.

قلت : فإني قائل أيضا بالتعليم وبالإمام ويبطلان الرأي والقياس وأنا أزيدك على هذا لو أطقت ترك التقليد تعليم غرائب العلوم وأسرار القرآن ، فاستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها كما استخرجت منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى كيفية انشعاب العلوم كلها منه في كتاب جواهر القرآن ، لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إلى كتاب سوى القرآن ، فمنه أستخرج جميع أسرار العلوم. وبرهاني عن ذلك لساني وبياني ، وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني أفتراني أولى بأن أتعلم من رفقائك أم لا؟

القول في تصاوير الرأي والقياس وإظهار بطلانهما

فقال : أما الانقطاع عن الرفقاء والتعليم منك فربما يمنعني منه ما حكيته لك من وصية والدتي حين كانت تموت ، ولكني أشتهي أن تكشف عن وجه فساد الرأي والقياس فإني أظنك تستضعف عقلي فتلبس علي فتسمي القياس والرأي ميزانا وتتلو علي وفق ذلك قرآنا ، وأنا أظنه أنه بعينه القياس الذي يدعيه أصحابك.

قلت : هيهات ، فها أنا أشرح لك ما أريده وأراوده بالرأي والقياس. أما الرأي والقياس فمثاله قول المعتزلة : يجب على الله سبحانه وتعالى رعاية الأصلح لعباده وإذا طولبوا بتحقيقه لم يرجعوا إلى شيء إلا أنه رأي استحسنوه بعقولهم من مقايسة الخالق على الخلق وتشبيه حكمته بحكمتهم ، ومستحسنات العقول هي الرأي الذي لا أرى التعويل عليه فإنه ينتج نتائج تشهد موازين القرآن بفسادها كهذه المقالة فإني إذا وزنتها بميزان التلازم.

قلت : لو كان الأصلح واجبا على الله تعالى لفعله ومعلم أنه لم يفعله ، فدلّ على أنه غير واجب فإنه لا يترك الواجب ، فإن قيل : سلمت أنه لو كان واجبا لفعله ، ولكن لا أسلم أنه لم يفعله ، فأقول : لو فعل الأصلح لخلقهم في الجنة وتركهم فيها فإن ذلك أصلح لهم ومعلوم أنه لم يفعل ذلك فدلّ على أنه لم يفعل الأصلح. وهذه أيضا نتيجة من ميزان التلازم والآن

٢٠٧

الخصم بين أن ينكر ويقول تركهم في الجنة فيشاهد كذبه ، أو يقول كان الأصلح لهم أن يخرجوا إلى الدنيا دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يقول لآدم يوم يكشف عن الخطايا : أخرج يا آدم نصيب النار ، فيقول: كم ، فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين كما ورد في الخبر الصحيح ويزعم أن ذلك أصلح لهم من خلقهم في الجنة وتركهم فيها لأن نعيمهم إذ ذاك لا يكون لسعيهم واستحقاقهم فتعظم المنة عليهم والمنة ثقيلة ، وإذا سمعوا وأطاعوا كان ما أخذوه جزاء وأجرة لا منه فيها ، وأنا أنزه سمعك ولساني عن حكاية مثل هذا الكلام فضلا عن الجواب عنه. فانظر فيه لترى قبائح نتائج الرأي كيف هي وأنت تعلم أن الله تعالى ينزل الصبيان إذا ماتوا في منزل من الجنة دون منازل البالغين المطيعين ، فإذا قالوا : إلهنا أنت لا تبخل بالأصلح لنا والأصلح لنا أن تبلغنا درجتهم ، فيقول الله ، على زعم المعتزلة : كيف أبلغكم درجتهم وقد بلغوا وتعبوا وأطاعوا وأنتم متم صبيانا ، فيقولون : أنت أمتنا فحرمتنا طول المقام في الدنيا ومعالي الدرجات في الآخرة فكان الأصلح لنا والأصلح بنا أن تبلغنا درجتهم ، أو أن لا تميتنا ، فلم أمتنا؟ فيقول الله تعالى ، على رأي المعتزلة : إني قد علمت أنكم لو بلغتم لكفرتم واستحققتم النار خالدين فيها ، فعلمت أن الأصلح لكم الموت في الصبا ، وعند هذا ينادي الكفار البالغون من دركات النار يصطرخون ويقولون : أما علمت أنا إذا بلغنا كفرنا فهلا أمتنا في الصبا فإنا راضون بعشر عشر درجات الصبيان فعند هذا لا يبقى للمعتزلي جواب يجيب به عن الله تعالى ، فتكون الحجة للكفار على الله سبحانه ، تعالى الله عن قول الظالمين علوّا كبيرا ، نعم لفعل الأصلح سر يستمد من معرفة سر الله تعالى في القدر ، ولكن المعتزلي لا ينظر من ذلك الأصل فإنه لا يطلع ببضاعة الكلام على ذلك السر فمن هذا خبط خبط عشواء واضطربت عليه الآراء فهذا مثال الرأي الباطل عندي.

وأما مثال القياس فهو إثبات الحكم في شيء بالقياس على غيره كقول المجسمة إن الله تعالى وتقدس عن قولهم جسم. قلنا : لم؟ قالوا : لأنه فاعل صانع فكان جسما قياسا على سائر الصناع والفاعلين ، وهذا هو القياس الباطل ، كما قلنا : لم قلتم إن الفاعل كان جسما لأنه فاعل ، وذلك لا يقدر على إظهاره مهما وزن بميزان القرآن فإن ميزانه هو الميزان الأكبر من موازين التعادل ، وصورة وزنه أن يقال : كل فاعل جسم والبارئ تعالى فاعل فهو أيضا جسم ، فنقول : نسلم أن البارئ تعالى فاعل ، ولكن لا نسلم الأصل الأوّل وهو أن كل فاعل جسم فمن أين عرفتم ذلك؟ وعند هذا لا يبقى لهم إلا الاعتصام بالاستقراء والقسمة المنتشرة وكلاهما لا حجّة فيه. أما الاستقراء فهو أن يقول تصفحت الفاعلين من حائك وحجام وإسكاف وخياط ونجار وفلان وفلان فوجدتهم أجساما فقلت إن كل فاعل جسم ، فيقال له : تصفحت كل الفاعلين أو شذّ عنك فاعل ، فإن قال : تصفحت البعض ، فلا يلزم منه الحكم على الكل ، وإن قال : تصفحت الكل ، فلا نسلم له ذلك فليس كل الفاعلين معلوما عنده.

٢٠٨

كيف وهل تصفح في جملة ذلك فاعل السماوات والأرض فإن لم يتصفح الكل بل البعض لم يلزم الكل ، وإن تصفح فهل وجد جسما ، فإن قال : نعم ، فيقال له : فإذا وجدت ذلك في مقدمة قياسك فكيف جعلته أصلا تستدلّ به عليه فجعلت نفس وجدانك دليل ما وجدته وهذا خطأ ، بل ما هو في تصفحه إلا كمن يتصفح الفرس والإبل والفيل والحشرات والطيور فيراها تمشي برجل وهو لم ير الحية والدود فيحكم بأن كل حيوان يمشي برجل ، وكمن يتصفح الحيوانات فيراها عند المضغ جميعها تحرك الفك الأسفل ، فيحكم بأن كل حيوان يحرك عند المضغ الفك الأسفل وهو لم ير التمساح فإنه يحرك الفك الأعلى وهذا لأنه يجوز أن يكون ألف شخص من جنس واحد على حكم ويخالف الألف واحد وهو لا يفيد برد اليقين فهو القياس الباطل ، وأما اعتصامه بالقسمة المنتشرة فكقوله : سبرت أوصاف الفاعلين فكانوا أجساما لكونهم فاعلين أو لكونهم موجودين أو كيت وكيت ، ثم يبطل جميع الأجسام فيقول فيلزم من هذا أنهم أجسام لكونهم فاعلين ، وهذه هي القسمة المنتشرة التي بها يزن الشيطان مقاييسه وقد ذكرنا بطلانها ، فقال : أظن أنه إذا بطل سائر الأقسام تعين القسم الذي أراده ، وأرى هذا برهانا قويا عليه تعويل أكثر المتكلمين في عقائدهم فإنهم يقولون في مسألة رؤية الباري تعالى مرئي لأن العالم مرئي ، وباطل أن يقال إنه مرئي لأنه ذو بياض لأن السواد يرى ، وباطل أن يرى لكونه جوهرا لأن العرض يرى وباطل أن يكون عرضا لأن الجوهر يرى ، وإذا بطلت الأقسام بقي أنه يرى موجودا فأريد أن تكشف لي عن فساد هذا الميزان كشفا ظاهرا لا أشك فيه ، فقلت : فأنا أورد في ذلك مثالا حقا لم ينتج من قياس باطل وأكشف الغطاء عنه ، فأقول : قولنا : العالم حادث حق ، ولكن قول القائل إنه حادث لأنه مصور قياسا على البيت وسائر الأبنية المصورة قول باطل لا يفيد العلم بحدوث العالم إذ يقال ميزانه الحق أن يقال كل مصور حادث أو العالم مصور ، فيلزم منه أنه حادث ، والأصل الآخر مسلم لكن قولك كل مصور حادث لا يسلمه الخصم ، وعند هذا يعدل إلى الاستقراء فيقول : استقريت كل مصور فوجدته حادثا كالبيت والقدح والقميص وكيت وكيت ، وقد عرفت فساد هذا وقد يرجع إلى السبر ، فيقول : البيت حادث فنسبر أوصافه وهو أنه جسم وقائم بنفسه وموجود ومصور ، وهذه أربع صفات وقد بطل تعليله بكونه جسما وقائما بنفسه وموجودا فثبت أنه معلل بكونه مصورا وهو الرابع. فيقال له : هذا باطل من وجوه كثيرة وأذكر منها الأربعة :

الأول : أنه إن سلم لك بطلان الثلاث فلا تثبت العلّة التي طلبتها ، فلعل الحكم معلل بعلّة قاصرة غير عامة ولا متعدية ككونه مثلا بيتا ، فإن ثبت كون البيت غير محدث أيضا فلعلّ الحكم معلل بالمعنى القاصر على ما ظهر كونه حادثا إذ يمكن تقدير وصف خاص يجمع الجميع ولا يتعدى.

الثاني : أنه إنما يصح إذا تم السبر على الاستقصاء بحيث لا يتصور أن يشذّ منه قسم ، وإذا لم يكن حاصرا بين النفي والإثبات دائرا تصور أن يشذ منه قسم وليس الاستقصاء الحاصر أمرا هينا ، والغالب أنه

٢٠٩

لا يهتم به المتكلمون والفقهاء بل يقولون إن كان فيه قسم آخر فأبرزه ، وربما قال الآخر لا يلزمني إبرازه وطال اللجاج فيه ، وربما استدل القائس وقال : لو كان فيه قسم آخر لعرفناه ولعرفته ، فعدم معرفتنا تدلّ على نفي قسم آخر إذ عدم رؤيتنا الفيل في مجلسنا تدلّ على نفي ولا يدري قطّ هذا المسكين أنه لم نعهد قط فيلا حاضرا لم نره ثم رأيناه وكم رأينا معاني حاضرة عجزنا جميعا عن إدراكها ثم تنبهنا لها بعد مدة فلعلّ فيه قسما آخر شذ عنّا لسنا نتنبه له الآن وربما لم نتنبه له طول عمرنا.

الثالث : أنا وإن سلمنا الحصر فلا يلزم من إبطال ثلاث ثبوت رابع بل التركيب الذي يحصل من أربعة يزيد على عشرة وعشرين إذ يحتمل أن تكون العلّة آحاد هذه الأربعة أو اثنين منها أو ثلاثة منها ، ثم لا يتعين الاثنان منها ولا الثلاثة ، بل يتصور أن تكون العلّة كونه موجودا أو جسما أو موجودا وقائما بنفسه أو جسما موجودا وقائما بنفسه وموجودا أو موجودا وبيتا أو بيتا ومصورا أو بيتا قائما بنفسه أو بيتا وجسما ، أو جسما ومصورا ، أو جسما وقائما بنفسه أو جسما وموجودا أو قائما بنفسه وموجودا ، فهذه بعد تركيبات الاثنين فقس على هذه التركيبات من الثلاث ، واعلم أن الأحكام تتوقف على وجود أسباب كثيرة مجتمعة فليس يرى الشيء لكون الرائي ذا عين إذ لا يرى بالليل ولا لاستتارة المرئي بالشمس إذ لا يرى الأعمى ولا لهما جميعا إذ لا يرى الهواء ، ولكن جملة ذلك مع كون المرئي متلونا وأمور أخر هذا حكم الوجود ، أما حكم الرؤية في الآخرة فحديث آخر.

الرابع : أنه إن سلم الاستقصاء وسلم الحصر في أربعة وتركنا التركيب فإبطال ثلاثة لا يوجب تعلق الحكم بالرابع مطلقا بل بانحصار الحكم في الرابع ، ولعلّ الرابع ينقسم قسمين ، والحكم يتعلق بأحدهما. أرأيت لو قسم أوّلا وقال : أما كونه جسما أو موجودا أو قائما بنفسه أو مصورا مثلا بصورة مربعة ، أو مصورا بصورة مدورة ثم أبطل الأقسام الثلاثة لم يتعلق الحكم بالصورة مطلقا ، بل ربما اختصّ بصورة مخصوصة ، فتسبب الغفلة عن مثل هذه الدقائق خبط المتكلمون وكثر نزاعهم إذا تمسكوا بالرأي والقياس ، وذلك لا يفيد برد اليقين ، بل يصلح للأقيسة الفقهية الظنية ولإمالة قلوب العامة إلى صوب الصواب ، والحق فإنه لا يمتد فكرهم إلى الاحتمالات البعيدة ، بل ينجزم اعتقادهم بأسباب ضعيفة. أما ترى العامي الذي به صداع يقول له غيره استعمل ماء الورد فإني إذا كان بي صداع فاستعملته انتفعت به ، كأنه يقول هذا صداع فينفعه ماء الورد قياسا على صداعي فيميل قلب المريض إليه فيستعمله ولا يقول له أثبت أوّلا أن ماء الورد يصلح لكل صداع كان من البرودة أو من الحرارة أو من أبخرة المعدة ، وأنواع الصداع كثيرة فاثبت أن صداعي كصداعك ومزاجي كمزاجك وسني كسنك وصناعتي كصناعتك وأحوالي كأحوالك ، فإن جميع ذلك يختلف به العلاج فإنّ طالب تحقيق هذه الأمور ليس من شأن العوام لأنهم لا يتشوقون إليها ولا من شأن المتكلمين لأنهم وإن تشوفوا إليها على خلاف العوام فلا يهتدون إلى الطرق المفيدة برد اليقين ، وإنما هي من شنشنة قوم عرفوها من أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم قوم اهتدوا بنور الله إلى ضياء القرآن ، وأخذوا منه الميزان بالقسط والقسطاس المستقيم فأصبحوا قوامين لله بالقسط.

فقال : الآن هذا يلوح لي مخايل الحق وتباشيره من كلامك فهل تأذن لي في أن أتبعك

٢١٠

على أن تعلمني مما علمت رشدا؟

قلت : هيهات إنك لا تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.

قال : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.

قلت : أتظن أني نسيت اتعاظك بنصيحة رفقائك ووالدتك ومن نبض عليه عرق من عروق التقليد فلا تصلح لصحبتي ولا أصلح لصحبتك ، فاذهب عني فهذا فراق بيني وبينك فإني مشغول بتقويم نفسي عن تقويمك ، وبالتعليم من القرآن عن تعليمك ، فلا تراني بعد هذا ولا أراك ، فلا تسع أوقاتي أكثر من هذا الإصلاح الفاسد والضرب في الحديد البارد ، وقد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على محمّد نبيّنا سيّد المرسلين.

فهاكم إخواني قصتي مع رفيقي تلوتها عليكم بعجرها وبجرها لتقضوا منها العجب وتنتفعوا في إثبات هذه المحادثات بالتفطن لأمور هي أجلّ من تقويم مذهب التعليم ، فلم يكن ذلك من غرضي ، ولكن إياك أعني واسمعي يا جارة ، والتماسي من المخلصين قبول معذرتي عند مطالعة هذه المحادثات فيما آثرته في المذاهب من العقد والتحليل وأبدعته في الأسامي من التغيير والتبديل ، واخترعته في المغاني من التخييل والتمثيل. فلي تحت كل واحد من ذلك غرض صحيح وسر عن ذوي البصائر صريح ، وإياكم أن تغيروا هذا النظام وتنتزعوا هذه المعاني من هذه الكسوة فقد علمتكم كيف يوزن المعقول بالإسناد إلى المنقول ليكون القول منهما أسرع إلى القبول ، وإياكم أن تجعلوا المعقول أصلا والمنقول تابعا ورديفا ، فإن ذلك شنيع منفر ، وقد أمركم الله سبحانه بترك الشنيع والمجادلة بالأحسن ، وإياكم أن تخالفوا الأمر فتهلكوا وتهلكوا وتضلوا وتضلوا ، وما ذا تنفع وصيتي وقد اندرس الحق وانكسر البثق ، وانتشرت الشناعة وطارت في الأقطار ، وصارت ضحكة في الأمصار ، فإن قوما اتّخذوا هذا القرآن مهجورا وجعلوا التعليمات النبوية هباء منثورا ، وكل ذلك من قصور الجاهلين ودعواهم في نصرة الدين منصب العارفين. وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمهتدين

٢١١

منهاج العارفين

٢١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

الحمد لله الذي نوّر قلوب العارفين بذكره ، وأنطق ألسنتهم بشكره ، وعمر جوارحهم بخدمته ، فهم في رياض الأنس يرتعون وإلى أوكار المحبة يأوون ، ذكرهم فذكروه ، وأحبهم فأحبوه ، ورضي عنهم فرضوا عنه رأس مالهم الافتقار ونظام أمرهم الاضطرار ، علمهم دواء الذنوب ، وعرفهم طب القلوب ، فهم مصابيح أنوار حجته ، ومفاتيح خزائن حكمته ، إمامهم القمر الطالع ، وقائدهم النور الساطع ، سيد الموالي والعرب محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ، والثمرة الزاكية من الشجرة المباركة ، التي أصلها التوحيد ، وفروعها التقوى ، (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور : ٣٥]. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠]. صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة تلوح في السّماوات آثارها وتعلو في جنان الخلد أنوارها ، وتطيب في مشاهد الأنبياء أخبارها ، وعلى آله الطاهرين وأصحابه المطهرين.

باب البيان نحو المريدين

يدور على ثلاثة أصول : الخوف والرجاء والحب ، فالخوف : فرع العلم ، والرجاء : فرع اليقين ، والحب : فرع المعرفة ، فدليل الخوف الهرب ، ودليل الرجاء الطلب ، ودليل الحب إيثار المحبوب ، ومثال ذلك الحرم والمسجد والكعبة ، فمن دخل حرم الإرادة أمن من الخلق ، ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها في معصية الله تعالى ، ومن دخل الكعبة أمن قلبه أن يشتغل بغير ذكر الله عزوجل. فإذا أصبح العبد لزمه أن ينظر في ظلمة الليل ونور النهار ويعلم أن أحدهما إذا ظهر عزل صاحبه عن الولاية ، فكذلك نور المعرفة إذا ظهر عزل ظلمة المعاصي عن الجوارح ، فإن كانت حالته حالة يرضاها لحلول الموت شكر الله تعالى على توفيقه وعصمته ، وإن كانت حالته حالة يكره معها الموت انتقل عنها بصحة العزيمة وكمال الجهد وعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، كما أنه لا وصول إليه إلا به فندم على ما أفسد من عمره بسوء اختياره واستعان بالله على تطهير ظاهره من الذنوب وتصفية باطنه من العيوب ، وقطع زنار الغفلة عن قلبه ، وأطفأ نار الشهوة عن نفسه ، واستقام على طريق الحق وركب أمطية الصدق ، فإن النهار دليل الآخرة ، والليل دليل الدنيا ، والنوم شاهد الموت ، والعبد قادم على ما أسلف ونادم على ما خلّف ، يقول الله عزوجل : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣].

٢١٣

باب الأحكام

وإعراب القلوب على أربعة أنواع : رفع وفتح وخفض ووقف ، فرفع القلب في ذكر الله تعالى ، وفتح القلب في الرضاء عن الله تعالى ، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله تعالى ، ووقف القلب في الغفلة عن الله تعالى ، فعلامة الرفع ثلاثة أشياء : وجود الموافقة ، وفقد المخالفة ، ودوام الشوق ، وعلامة الفتح ثلاثة أشياء : التوكّل والصدق واليقين ، وعلامة الخفض ثلاثة أشياء : العجب والرياء والحرص وهو مراعاة الدنيا وعلامة الوقف ثلاثة أشياء : زوال حلاوة الطاعة ، وعدم مرارة المعصية ، والتباس الحلال.

باب الرعاية

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " طلب العلم فريضة على كلّ مسلم" ، وهو علم الأنفاس ، فيجب أن يكون نفس المريد شكرا أو عذرا ، فإن قيل : ففضل وإن رد فعدل فطائع الحركة بالتوفيق ، والسكوت بالعصمة ولا يستقم ذلك له إلا بدوام الافتقار والاضطرار.

ومفتاح ذلك

ذكر الموت لأن فيه راحة من الحبس ونجاة من العدو وقوامه برد العمر إلى يوم واحد ولن يلتئم ذلك إلا بالتفكر في الأوقات ، وباب الفكر الفراغ ، وسبب الفراغ الزهد. وعماد الزهد التقوى ، وسنام التقوى الخوف ، وزمام الخوف اليقين ، ونظام اليقين الخلوة والجوع ، وتمامها الجهد والصبر وطريقهما الصدق ، ودليل الصدق العلم.

باب النية

لا بدّ للعبد من النية في كل حركة وسكون : " فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ونية المؤمن خير من عمله". والنية تختلف على حسب اختلاف الأوقات ، وصاحب النية نفسه منه في تعب ، والناس منه في راحة وليس شيء على المريد أصعب من حفظ النية.

باب الذكر

اجعل قلبك قبلة لسانك ، واشعر عند الذكر حياء العبودية وهيبة الربوبية ، واعلم بأن الله تعالى يعلم سر قلبك ويرى ظاهر فعلك ويسمع نجوى قولك ، فاغسل قلبك بالحزن وأوقد فيه نار الخوف ، فإذا زال حجاب الغفلة عن قلبك كان ذكرك به مع ذكره لك. قال الله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥]. لأنه ذكرك مع الغناء عنك وأنت ذكرته مع الفقر إليه ، فقال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨]. فيكون اطمئنان القلب في ذكر الله له ووجله في ذكره الله ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). [الأنفال : ٢] والذكر ذكران ذكر خالص بموافقه القلب في سقوط النظر إلى غير الله ، وذكر صاف بفناء الهمة عن الذكر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

٢١٤

باب الشكر

وفي كل نفس من أنفاس العبد نعمة لله تتجدد عليه يلزمه القيام بشكرها. وأدنى الشكر أن يرى النعمة من الله تعالى ويرضى بما أعطاه ولا يخالفه بشيء من نعمه ، وتمام الشكر في الاعتراف بلسان السر أن الخلق كلهم يعجزون عن أداء شكره على أصغر جزء من نعمه وإن بلغوا غاية المجهود ، لأن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها ، فيلزمك على كل شكر شكر إلى ما لا نهاية له ، فإذا تولى الله العبد حمل عنه شكره فرضي عنه بيسير وحطّ عنه ما يعلم أنه لا يبلغه ويضعفه (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء : ٢٠].

باب اللباس

اللباس نعمة من الله على عبده يستر به البشرة ولباس التقوى ذلك خير ، وخير لباسك ما لا يشغل سرك عن الله تعالى ، فإذا لبست ثوبك فاذكر محبة الله الستر على عباده فلا تفضح أحدا من خلقه بعيب تعلمه منه واشتغل بعيب نفسك فاستره بدوام الاضطرار إلى الله تعالى في تطهيره ، فإن العبد إذا نسي ذنبه كان ذلك عقوبة له وازداد به جزءا على المعاصي ، ولو انتبه من رقدة الغفلة لنصب ذنوبه بين عيني قلبه نصبا ولبكى عليه بجفون سره واستولى عليه الوجل فذاب حياء من ربه ، وما دام العبد يرجع إلى حول نفسه وقوتها انقطع عن حول الله وقوته ، فاطرح همتك بين يدي الخوف والرجاء : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩].

باب القيام

فإذا قمت من فراشك فأقم قلبك عن فراش البطالة ، وأيقظ نفسك عن نوم الجهالة ، وانهض بكلك إلى من أحياك ، وردّ إليك نفسك ، وقم بفكرك عن حركتك وسكونك ، واصعد بقلبك إلى الملكوت الأعلى ، ولا تجعل قلبك تابعا لنفسك فإن النفس تميل إلى الأرض ، والقلب يميل إلى السماء واستعمل قول الله عزوجل : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

باب السواك

واستعمل السواك فإنها مطهرة للفم مرضاة للرب ، وطهر ظاهرك وباطنك عن دنس الإساءة ، وأخلص أعمالك عن كدر الرياء والعجب ، واجل قلبك بصافي ذكره ، ودع عنك ما لا ينفعك بل يضرك.

باب التبرز

وإذا تبرزت لقضاء وطر فاعتبر ، فإن الراحة في إزالة النجاسة ، واستنج ونكس رأس همتك ، وأغلق باب الكبر ، وافتح باب الندم ، واجلس على بساط الندامة ، واجتهد في إيثار أمره واجتناب نهيه والصبر على حكمه ، واغسل شرك بترك الغضب والشهوة ، واستعمل الرغبة والرهبة فإن الله تعالى مدح قوما فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء : ٩٠].

٢١٥

باب الطهارة

وإذا تطهرت ففكر في صفوة الماء ورقته وتطهيره وتنظيفه ، فإن الله تعالى جعله مباركا فقال: (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) [ق : ٩]. فاستعمله في الأعضاء التي فرض الله عليك تطهيرها ولتكن صفوتك مع الله كصفوة الماء ، فاغسل وجه قلبك عن النظر إلى غير الله ، واغسل يدك عن الامتداد إلى غيره وامسح رأسك عن الافتخار بغيره ، واغسل رجليك عن السعي لغيره ، واحمد الله على ما ألهمك من دينه.

باب الخروج

فإذا خرجت من منزلك إلى مسجدك ، فاعلم أن لله تعالى حقوقا عليك يلزمك أداؤها. من ذلك السكينة والوقار والاعتبار بخلق الله برهم وفاجرهم ، قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). وغض بصرك عن نظر الغفلة والشهوة ، وأفش السلام مبتدئا ومجيبا ، وأعن من استعانك على الحقّ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر إن كنت من أهله وأرشد الضال.

باب دخول المسجد

فإذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قصدت بيت ملك عظيم قدره لا يقبل إلا الطاهر ولا يصعد إليه إلا الخالص ، ففكر في نفسك من أنت ولمن أنت وأين أنت ومن أي ديوان يخرج اسمك ، فإذا استصلحت نفسك لخدمته فادخل فلك الإذن والأمان ، وإلا فقف وقوف مضطرب قد انقطعت عنه الحيل وانسدّت عنه السبل ، فإذا علم الله من قلبك الالتجاء إليه أذن لك فتكون أنت بلا أنت ، والله يرحم عبده ويكرم ضيفه ويعطي سائله ويبر المعرض عنه ، فكيف المقبل إليه.

باب افتتاح الصلوات

فإذا استقبلت بوجهك القبلة استقبل بوجهك الحقّ ولا تنبسط فلست من أهل الانبساط ، واذكر وقوفك بين يديه يوم العرض الأكبر ، وقف على قدمي الخوف والرجاء ، وارفع قلبك عن النظر إلى الدنيا والخلق ، وأرسل همتك إليه فإنه لا يرد الآبق ولا يخيب السائل. فإذا قلت الله أكبر فاعلم أنه لا يحتاج إلى خدمتك له وذكرك إياه لأن الحاجة من جبلة الفقراء وذلك سمة الخلق والغنى عن صفات ذاته ، وإنما وظف على عبيده وظائف ليقربهم بها إلى عفوه ورحمته ويبعدهم بها من سخطه وعقوبته. قال الله عزوجل : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦]. وقال عزّ من قائل : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧]. الآية. واشكر الله إذ جعلك أهلا للوقوف بين يديه فإنه (أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [المدثر : ٥٦]. أهل أن يتقيه خلقه فيغفر لمن اتّقاه.

٢١٦

باب القراءة

قال الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل : ٩٩].

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ١٠٠].

(أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج : ٤].

واذكر عهد الله عليك وميثاقه في وحيه وتنزيله ، وانظر كيف تقرأ كلامه وكتابه فرتّل وتدبّر ، وقف عند وعده ووعيده وأمثاله ومواعظه وأمره ونهيه ومحكمه ومتشابهه ، وإني لأخشى أن تكون إقامتك حدوده غفلة من تضييعك حدوده. قال الله عزوجل : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٥].

باب الركوع

واركع ركوع خاشع لله بقلبه خاضعا بجوارحه ، واستوف ركوعك وانحط عن همتك في القيام بأمره ، فإنك لا تقدر على أداء فرضه إلا بعونه. ولا تبلغ دار رضوانه إلا برحمته ، ولا تستطيع الامتناع من معصية إلا بعصمته ، ولا تنجو من عذابه إلا بعفوه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لن يدخل الجنّة أحد بعمله". قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : " ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمته".

باب السجود

واسجد لله سجود عبد متواضع علم أنه خلق من تراب يطؤه جميع الخلق ، وأنه ركب من نطفة يستقذرها كل واحد ، فإذا فكر في أصله وتأمل تركيب جوهره من ماء وطين ازداد لله تواضعا ويقول في نفسه : ويحك لم رفعت رأسك من سجودك؟ لم لم تمت بين يديه ، وقد جعل الله السجود سبب القرب إليه؟ فقال تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ). فمن اقترب منه بعد من كل شيء سواه ، واحفظ صفة سجودك في هذه الآية : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٥٥]. واستعن بالله عن غيره ، فإنه روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : قال الله تبارك وتعالى : (لا أطّلع على قلب عبد فأعلم منه حب العمل بطاعتي إلا توليت تقويمه وسياسته).

باب التشهد

والتشهد ثناء ، وشكر له ، وتعرض لمزيد فضله ودوام كرامته ، فاخرج عن دعواك وكن له عبدا بفعلك كما أنت عبد له بقولك ، فإنه خلقك عبدا وأمرك أن تكون له عبدا كما خلقك : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦].

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨].

٢١٧

فاستعمل العبودية في الرضى بحكمته ، واستعمل العبادة في النزول تحت أمره ، وصلّ على حبيبه عقب الثناء عليه ، فإنه وصل محبته بمحبته وطاعته بطاعته ومتابعته بمتابعته ، فقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١]. وقال : ([مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ]) [النساء : ٨٠]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠]. وأمر رسوله بالاستغفار لك ، فقال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩]. وأمرك بالصلاة عليه ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦]. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من صلّى علي واحدة صلّى الله عليه بها عشرا وعامله بالفضل". فقال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الانشراح : ٤]. ثم أمره بمعاملته بالعدل فقال لغيره : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠]. وقال له : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الانشراح : ٧ و ٨].

باب السلام

السلام من أسماء الله تعالى أودعه خلقه ليستعملوا معناه في معاملته ومعاشرة خلقه ، فإذا أردت السلامة فليسلم منك صديقك وارحم من لا يرحم نفسه فإن الخلق بين فتن ومحن ، إما مبتلى بالنعمة ليظهر شكره ، وإما مبتلى بالشدة ليظهر صبره ، قال الله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ* كَلَّا) [الفجر : ١٥. ١٧]. فالكرامة في طاعته والهوان في معصيته ومن ركب الهوى أهانه الله.

باب الدعاء

وأحفظ آداب الدعاء وانظر من تدعو وكيف تدعو ولما ذا تدعو ولما ذا تسأل ، والدعاء استجابة الكل منك للحق وإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تشترط الإجابة. قال مالك بن دينار : أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطئ الحجر ، ولو لم يأمر الله سبحانه بالدعاء لوجب علينا أن ندعوه ولو لم يشترط لنا الإجابة لكنا إذا أخلصنا له الدعاء تفضل بالإجابة. فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرط الدعاء. قال الله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [الفرقان : ٧٧]. وقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠]. وسئل أبو يزيد البسطامي عن اسم الله الأعظم ، فقال : فرّغ قلبك من غيره وادعه بأي أسمائه شئت ، وقال يحيى بن معاذ : اطلب صاحب الاسم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لا يستجيب الله الدّعاء من قلب لاه فإذا أخلصت فأبشر بإحدى ثلاث : إمّا أن يجعل لك ما سألت ، وإمّا أن يدّخر لك ما هو أعظم منه ، وإمّا أن يصرف عنك من البلاء ما لو صبّه عليك لهلكت وادع دعاء مستجير لا دعاء مشير" ، روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : " قال الله تبارك وتعالى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين". وقال أبو الحسين الورّاق : دعوت الله مرة فاستجاب دعائي فنسيت الحاجة فاحفظ حق الله عزوجل عليك في

٢١٨

الدعاء ولا تشتغل بحظك فإنه أعلم بمصلحتك.

باب الصوم

فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات ، فإن الصوم فناء مراد النفس وفيه صفاء القلب وضمارة الجوارح والتنبيه على الإحسان إلى الفقراء والالتجاء إلى الله والشكر على ما تفضل به من النعم وتخفيف الحساب ، ومنّة الله في توفيقك للصوم أعظم من أن تقوم بشكرها ومن صومك أن تطلب منه عوضا.

باب الزكاة

وعن كل جزء من أجزائك زكاة واجبة لله ، فزكاة القلب التفكر في عظمته وحكمته وقدرته وحجّته ونعمته ورحمته ، وزكاة العين النظر بالعبرة والغض عن الشهوة ، وزكاة الأذن الاستماع إلى ما فيه نجاتك ، وزكاة اللسان النطق بما يقربك إليه ، وزكاة اليد القبض عن الشر والبسط إلى الخير ، وزكاة الرجل السعي إلى ما فيه صلاح قلبك وسلامة دينك.

باب الحج

والمريد إذا حج يعقد النية خوف الرد ، واستعد استعداد من لا يرجو الإياب ، وأحسن الصحبة ، وتجرد عند الإحرام عن نفسه ، واغتسل من ذنبه ، ولبس ثوب الصدق والوفاء ، ولبى موافقة للحق في إجابة دعوته ، وأحرم في الحرم من كل شيء يبعده عن الله تعالى ، وطاف بقلبه حول كرسي كرامته ، وصفا ظاهره ، وباطنه عند الوقوف على الصفا ، وهرول هربا من هواه ولم يتمنّ على الله تمني ما لا يحل له واعترف بالخطإ بعرفة ، وتقرب إلى الله بمزدلفة ، ورمى الشهوات عند رمي الجمرات ، وذبح هواه وحلق الذنوب ، وزار البيت معظما صاحبه ، واستلم الحجر رضاء بقضائه ، وودع ما دون الله في طواف الوداع.

باب السلامة

واطلب السلامة فليت من طلبها وجدها فكيف لمن تعرض للبلاء ، والسلامة قد عزت في هذا الزمان وهي في الخمول ، فإن لم تكن في الخمول ، فالعزلة وليست كالخمول فإن لم تكن عزلة فالصمت وليس كالعزلة ، فإن لم تكن في صمت فالكلام بما ينفع ولا يضر وليس كالصمت ، وإن أردت السلامة فلا تنازع الأضداد ولا تنافس الأشكال كل من قال أنا فقل أنت ، وكل من قال لي فقل لك ، والسلامة في زوال العرف ، وزوال العرف في فقد الإرادة ، وفقد الإرادة في ترك دعوى العلم فيما استأثر الله به من تدبير أمرك. قال الله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦]. وقال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السجدة : ٥].

٢١٩

باب العزلة

صاحب العزلة يحتاج إلى عشرة أشياء : علم الحق والباطل والزهد واختيار الشدة واغتنام الخلوة والسلامة والنظر في العواقب وأن يرى غيره أفضل منه ويعزل عن الناس شره ولا يفتر عن العلم ، فإن الفراغ بلاء ولا يعجب بما هو فيه ويخلو بيته من الفضول ، والفضول ما فضل عن يومك لأهل الإرادة ، ما فضل عن وقتك لأهل المعرفة ، ويقطع ما يقطعه عن الله تعالى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحذيفة بن اليمان : " كن حلس بيتك". وقال عيسى ابن مريم عليه‌السلام : أملك لسانك وليسعك بيتك وأنزل نفسك منزلة السبع الضاري والنار المحرقة ، وقد كان الناس ورقا بلا شوك فصاروا شوكا بلا ورق ، وكانوا أدواء يستشفى بهم فصاروا داء لا دواء له. قيل لداود الطائي: ما لك لا تخالط الناس؟ فقال : كيف أخالط من يتبع عيوبي كبير لا يعرف الخلق وصغير لا يوقر ، من استأنس بالله استوحش من غيره. وقال الفضيل : إن استطعت أن تكون في موضع لا تعرف ولا تعرف فافعل. وقال سليمان : همي من الدنيا أن ألبس عباءة وأكون بقرية ليس فيها أحد يعرفني ولا غذاء لي ولا عشاء ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يأتي زمان المتمسّك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر وله أجر خمسين منكم". وفي العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب وسقوط حقوق الخلق وإغلاق أبواب الدنيا وكسر سلاح الشيطان وعمارة الظاهر والباطن.

باب العبادة

أقبل على أداء الفرائض ، فإن سلم لك فرضك فأنت أنت ، واطلب بالنوافل حفظ الفرائض وكلما ازددت عبادة فازدد شكرا وخوفا. قال يحيى بن معاذ : عجبت لطالب فضيلة تارك فريضة ومن كان عليه دين فأهدى إلى صاحب الدين مثل حقه كان مطالبا بالحق إذا حلّ الأجل. وقال أبو بكر الورّاق : ابذل في هذا الزمان أربعة على أربعة : الفضائل على الفرائض ، والظاهر على الباطن ، والخلق على النفس ، والكلام على الفعل.

باب التفكر

تفكر في قوله عزوجل : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الدهر : ١]. واذكر كيف أحوالك واعتبر بما مضى من الدنيا على ما تراه ، هل أبقت على أحد ، وما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لم يبق من الدّنيا إلّا بلاء وفتنة". وقيل لنوح عليه‌السلام : " كيف وجدت الدنيا يا أطول الأنبياء عمرا؟ قال : كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر". والفكرة أبو كل خير وهي مرآة تريك الحسنات والسيئات.

٢٢٠