مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

تم بحمد الله وعونه وحسن توفيقه والحمد لله وحده.

قال الشيخ محمد بن علي بن الساكن في كتاب دليل الطالب إلى نهاية المطالب. قال : فالطالب المجتهد إذا أراد لبس الخرقة فالواجب عليه أن يخلع الثوب الذي كان يلبسه في أيام العادة. وأحسن ما تلبس هذه الطائفة الصوف إذ هم منسوبون إليه ، قيل : إن أول من لبس الصوف آدم وحواء عليهما‌السلام ، وكان موسى وعيسى ويحيى عليهم‌السلام يلبسون الصوف ، وكان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف الأنبياء وكان يلبس عباءة كان مقدار ثمنها خمس دراهم وينبغي أن لا يلبس الصوف إلا من صفا من كدر النفس ، فقد قال الحسن البصري : بلغني أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تلبسوا الصّوف إلّا وقلوبكم نقيّة ، فإنه من لبس الصوف على دغل وغش قلاه جبار السماء فإذا لبسه وجب أن يقوم بوظائف حروفه ، وهي ثلاثة أما وظيفة الصاد فهي : الصدق والصفاء والصيانة والصبر والصلاح ، وأما وظيفة الواو فهي : الوصلة والوفاء والوجد ، وأما وظيفة الفاء فهي الفرح والتفجع فلو لبس المرقع وجب عليه أن يؤدي حق حروفه ، وهي أربعة : فحقّ الميم المعرفة والمجاهدة والمذلة ، وحق الراء : الرحمة والرأفة والرياضة والراحة ، وحقّ القاف : القناعة والقربة والقوة والقول الصدق ، وحق العين : العلم والعمل والعشق والعبودية ، وقد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلبس المرقع حيث قال لعائشة رضي الله عنها : " إن سرّك اللّحوق بي فإيّاك ومجالسة الموتى ولا تستبدلي ثوبا حتّى ترقعيه" ، انتهى والله أعلم.

٢٢١

الرسالة اللدنيّة

٢٢٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

الحمد لله الذي زين قلوب خواص عباده بنور الولاية ، وربى أرواحهم بحسن العناية ، وفتح باب التوحيد على العلماء العارفين بمفتاح الدراية ، وأصلي وأسلم على سيّدنا محمّد سيّد المرسلين صاحب الدعوة والرعاية ، ودليل الأمة إلى الهداية ، وعلى آله سكان حرم الحماية.

العلم الغيبي اللدني

اعلم أن واحدا من أصدقائي حكى عن بعض العلماء أنه أنكر العلم الغيبي اللدني الذي يعتمد عليه خواصّ المتصوفة ، وينتمي إليه أهل الطريقة ، ويقولون إن العلم اللدني أقوى وأحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعلم ، وحكي أن ذلك المدعي يقول : بأني لا أقدر على تصوير علم الصوفية ، لا أظن أن أحدا في العالم يتكلم في العلم الحقيقي من فكر وروية دون تعلم وكسب ، فقلت : كأنه ما اطلع على طرق التحصيل ، وما درى أمر النفس الإنسانية وصفاتها وكيفية قبولها لآثار الغيب وعلم الملكوت ، فقال صديقي : نعم إن ذلك الرجل يقول بأن العلم هو الفقه وتفسير القرآن والكلام وحسب ، وليس وراءها علم وهذه العلوم لا تتحصل إلا بالتعلم والتفقه ، فقلت : نعم فكيف يعلم علم التفسير فإن القرآن هو البحر المحيط المشتمل على جميع الأشياء وليس جميع معانيه وحقائق تفسيره مذكورة في هذه التصانيف المشهورة بين العوام ، بل التفسير غير ما يعلم ذلك المدعي ، فقال ذلك الرجل : لا يعدّ التفاسير إلا التفاسير المعروفة المذكورة والمنسوبة إلى القشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم ، فقلت : لقد بعد عن منهج الحقيقة ، فإن السلمي جمع شيئا في التفسير من كلمات المحققين شبه التحقيق ، وتلك الكلمات غير مذكورة في سائر التفاسير. وذلك الرجل الذي لا يعد العلم إلا الفقه والكلام. وهذا التفسير العامي كأنه ما علم أقسام العلوم وتفاصيلها ومراتبها وحقائقها وظواهرها وبواطنها ، وقد جرت العادة بأن الجاهل بالشيء ينكر ذلك الشيء ، وذلك المدعي ما ذاق شراب الحقيقة وما اطلع على العلم اللدني فكيف يقرّ بذلك ، ولا أرضى بإقراره تقليدا أو تخمينا ما لم يعرف ، فقال ذلك الصديق : أريد أن تذكر طرفا من مراتب العلوم وتصحيح هذا العلم وتعزيه أنت لنفسك وتقرّ على إثباته ، فقلت : إن هذا المطلوب بيانه عسير جدا ، لكن أشرع في مقدماته بحسب اقتضاء حالي وموافقة وقتي وما سنح بخاطري ، ولا أريد تطويل الكلام فإن خير الكلام ما قلّ ودلّ ، وسألت الله عزوجل التوفيق والإعانة وذكرت مطلوب صديقي الفاضل في هذا المفضول.

٢٢٣

فصل في شرف العلم

اعلم أن العلم تصور النفس الناطقة المطمئنة حقائق الأشياء وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة ، والعالم هو المحيط المدرك المتصور ، والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس ، وشرف العلم على قدر شرف معلومه ، ورتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم. ولا شك أن أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلّها هو الله الصانع المبدع الحقّ الواحد ، فعلمه هو علم التوحيد أفضل العلوم وأجلها وأكملها ، وهذا العلم ضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء كما قال صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام : " طلب العلم فريضة على كل مسلم". أمر بالسفر في طلب هذا العلم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " اطلبوا العلم ولو بالصّين". وعالم هذا العلم أفضل العلماء وبهذا السبب خصهم الله تعالى بالذكر في أجلّ المراتب ، فقال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]. فعلماء علم التوحيد الإطلاق هم الأنبياء وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وهذا العلم وإن كان شريفا في ذاته كاملا في نفسه لا ينفي سائر العلوم بل لا يحصل إلا بمقدمات كثيرة ، وتلك المقدمات لا تنتظم إلا من علوم شتى مثل علم السماوات والأفلاك وعلم جميع المصنوعات ، ويتولد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكر أقسامها في مواضعها.

فاعلم أن العلم شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم ، حتى أن علم السحر شريف بذاته وإن كان باطلا ، وذلك أن العلم ضد الجهل ، والجهل من لوازم الظلمة ، والظلمة من حيّز السكون ، والسكون قريب من العدم ، ويقع الباطل والضلالة في هذا القسم ، فإذا الجهل حكمه حكم العدم ، والعلم حكمه حكم الوجود ، والوجود خير من العدم ، والهداية والحق والنور كلها في سلك الوجود ، فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل ، فإن الجهل مثل العمى والظلمة ، والعلم مثل البصر والنور ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) [فاطر : ١٩ و ٢٠]. وصرح سبحانه بهذه الإشارات فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩]. فإذا كان العلم خيرا من الجهل ، والجهل من لوازم الجسم ، والعلم من صفات النفس ، والنفس أشرف من الجسم ، وللعلم أقسام كثيرة نحصيها في فصل آخر. وللعالم في طلب العلم طرق عديدة نذكرها في فصل آخر. والآن لا يتعين عليك بعد معرفة فضل العلم إلا معرفة النفس التي هي لوح العلوم ومقرها ومحلها ، وذلك أن الجسم ليس بمحلّ للعلم لأن الأجسام متناهية ، ولا يتسع لكثرة العلوم بل لا يحتمل إلا النقوش والرقوم والنفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة ولا مزاحمة وملال وزوال ، ونحن نتكلم في شرح النفس على سبيل الاختصار.

فصل في شرح النفس والروح الإنساني

اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان من شيئين مختلفين : أحدهما : الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون والفساد المركب المؤلف الترابي الذي لا يتم أمره إلا بغيره ، والآخر : هو النفس الجوهري المفرد المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم للآلات والأجسام ، والله تعالى ركب الجسد من أجزاء الغذاء ورباه

٢٢٤

بأجزاء الرماد ، ومهد قاعدته وسوّى أركانه وعين أطرافه وأظهر جوهر النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المفيد. ولا أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء ، ولا القوة المحرّكة للشهوة والغضب ، ولا القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة ، والمبرزة للحسّ والحركة من القلب إلى جميع الأعضاء ، فإن هذه القوة تسمى روحا حيوانيا ، والحس والحركة والشهوة والغضب من جنده ، وتلك القوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف يقال لها روحا طبيعيا ، والهضم والدافع من صفاتها ، والقوة المصورة والمولدة والنامية وباقي القوى المنطبعة كلها خدام للجسد ، والجسد خادم الروح الحيواني لأنه يقبل القوى عنه ويعمل بحسب تحريكه وإنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفردي الذي ليس من شأنه إلا التذكر والتحفظ والتفكر والتمييز والروية ، ويقبل جميع العلوم ولا يملّ من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى ، الكل يخدمونه ويمتثلون أمره وللنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند كل قوم اسم خاص ، فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة ، والقرآن تسمية النفس المطمئنة والروح الأمري ، والمتصوفة تسميه القلب ، والخلاف في الأسامي والمعني واحد لا خلاف فيه. فالقلب والروح عندنا ، والمطمئنة كلها أسامي النفس الناطقة ، والنفس الناطقة ، هي الجوهر الحيّ الفعال المدرك ، وحيثما نقول الروح المطلق أو القلب فإنما نعني به هذا الجوهر ، والمتصوفة يسمون الروح الحيواني نفسا. والشرع ورد بذلك ، فقال: " أعدى عدوّك نفسك". وأطلق الشارع اسم النفس بل أكدها بالإضافة ، فقال : " نفسك الّتي بين جنبيك". وإنما أشار بهذه اللفظة إلى القوة الشهوانية والغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف بين الجنبين ، فإذا عرفت فرق الأسامي ، فاعلم أن الباحثين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبارات مختلفة ، ويرون فيه آراء متفاوتة ، والمتكلمين المعرفين بعلم الجدل يعدون النفس جسما ، ويقولون إنه جسم لطيف بإزاء هذا الجسم الكثيف ، ولا يرون الفرق بين الروح والجسد إلا باللطافة والكثافة وبعضهم يعدّ الروح عرضا ، وبعض الأطباء يميل إلى هذا القول ، وبعضهم يرى الدم روحا وكلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما طلبوا القسم الثالث ، واعلم أن الأقسام ثلاثة : الجسم والعرض والجوهر الفرد ، فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل موضوع في زجاجة القلب أعني ذلك الشكل الصنوبري المعلق في الصدر ، والحياة ضوء السراج والدم رهنه ، والحس والحركة نوره ، والشهوة حرارته ، والغضب دخانه ، والقوة الطالبة للغذاء الكائنة في الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات ، والإنسان هو جسم وآثاره أعراض ، وهذا الروح لا يهتدي إلى العلم ولا يعرف طريق المصنوع ولا حق الصانع ، وإنما هو خادم أسير يموت بموت البدن ، لو يزيد الدم ينطفئ ذلك السراج بزيادة الحرارة ، ولو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة وانطفاؤه سبب موت البدن ، وليس خطاب الباري سبحانه ولا تكليف الشارع لهذا الروح لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين ولا مخاطبين بأحكام الشرع ، والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا خاصا به ، وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح المطمئنة ، وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض لأنه من أمر الله تعالى كما قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*

٢٢٥

ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٧ و ٢٨]. وأمر الباري تعالى ليس بجسم ولا عرض ، بل قوة إلهية مثل العقل الأول واللوح والقلم ، وهي الجواهر المفردة المفارقة للمواد بل هي أضواء مجردة معقولة غير محسوسة ، والروح والقلب بلساننا من قبل تلك الجواهر ، ولا يقبل الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت ، بل يفارق البدن وينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد في الشرع وقد صحّ في العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة ، والدلائل الواضحة أن الروح الناطق ليس بجسم ولا عرض ، بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد ، ونحن نستغني عن تكرير البرهان وتعديد الدلائل لأنها مقررة مذكورة. فمن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب اللائقة بذلك الفن. فأما في طريقنا فلا يتأتى بالبرهان بل نعول على العيان ونعتمد على رؤية الإيمان ، ولما أضاف الله تعالى الروح إلى أمره وتارة إلى عزته ، فقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩ ص : ٧٢]. وقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢]. والله تعالى أجلّ من أن يضيف إلى نفسه جسما أو عرضا لخستهما وتغيرهما وسرعة زوالهما وفسادهما ، والشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " الأرواح جنود مجنّدة" ، وقال : " أرواح الشّهداء في حواصل طيور خضر" ، والعرض لا يبقى بعد فناء الجوهر لأنه لا يقوم بذاته ، والجسم يقبل التحليل ، كما قيل : التركيب من المادة والصورة كما هو مذكور في الكتب ، فلما وجدنا هذه الآيات والأخبار والبراهين العقلية علمنا أن الروح جوهر فرد كامل حي بذاته يتولد منه صلاح الدين وفساده ، والروح الطبيعي والحيواني وجميع القوى البدنية كلها من جنوده ، وأن هذا الجوهر يقبل صور المعلومات وحقائق الموجودات من غير اشتغال بأعيانها وأشخاصها ، فإن النفس قادرة على أن تعلم حقيقة الإنسانية من غير أن ترى إنسانا كما أنها علمت الملائكة والشياطين ، وما احتاجت إلى رؤية أشخاصها إذ لا ينالهما حواس أكثر الناس ، وقال قوم من المتصوفة إن للقلب عينا كما للجسد ، فيرى الظواهر بالعين الظاهرة ، ويرى الحقائق بعين العقل ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ما من عبد إلا ولقلبه عينان" ، وهما عينان يدرك بهما الغيب ، فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا فتح عيني قلبه ليرى ما هو غائب عن بصره ، وهذا الروح لا يموت بموت البدن لأن الله تعالى يدعوه إلى بابه فيقول : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨]. وإنما هو يفارق ويعرض عن البدن ، فمن أعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية والطبيعية فيسكن المتحرك فيقال لذلك السكون : موت ، وأهل الطريقة. أعني الصوفية. يعتمدون على الروح والقلب أكثر اعتمادا منهم على الشخص. وإذا كان الروح من أمر الباري تعالى فيكون في البدن كالغريب ، ويكون وجهه إلى أصله ومرجعه. فينال الفوائد من جانب الأصل أكثر مما ينال من جهة الشخص إذا قوي ولم يدنس بأدناس الطبيعة. وإذا علمت أن الروح جوهر فرد وعلمت أن الجسد لا بدّ له من المكان. والعرض لا يبقى إلا بالجوهر. فاعلم أن هذا الجوهر لا يحلّ في محل ولا يسكن في مكان ، وليس البدن مكان الروح ولا محلّ القلب ، بل البدن آلة الروح وأداة القلب ومركب النفس. والروح ذاته غير متّصل بأجزاء البدن ولا منفصل عنه ، بل هو مقبل على البدن مفيد له مفيض عليه ، وأوّل ما يظهر نوره على الدماغ لأن الدماغ مظهره الخاص اتّخذ من مقدمه حارسا. ومن وسطه وزيرا

٢٢٦

ومدبرا ، ومن آخره خزانة وخازنا ، ومن جميع الأجزاء رجالا وركبانا ، ومن الروح الحيواني خادما ، ومن الطبيعي وكيلا ، ومن البدن مركبا ، ومن الدنيا ميدانا ، ومن الحياة بضاعة ومالا ، ومن الحركة تجارة ، ومن العلم ربحا ، ومن الآخرة مقصدا ومرجعا ، ومن الشرع طريقة ومنهجا ، ومن النفس الأمّارة حارسا ونقيبا ، ومن اللوامة منبها ، ومن الحواسّ جواسيس وأعوانا ، ومن الدين درعا ، ومن العقل أستاذا ، ومن الحس تلميذا ، والربّ سبحانه من وراء هذه كلها بالمرصاد ، والنفس بهذه الصفة مع هذه الآلة ما أقبلت على هذا الشخص الكثيف وما اتّصلت بذاته بل تنيله الإفادة ، ووجهها إلى بارئها وأمر بارئها بالاستفادة إلى أجل مسمى ، فالروح لا يشتغل في مدة هذا السفر إلا بطلب العلم لأن العلم يكون حليته في دار الآخرة" لأن حلية المال والبنين زينة حياة الدنيا ، فكما أن العين مشغولة برؤية المنظورات ، والسمع مواظب على استماع الأصوات ، واللسان مستعد لتركيب الأقوال ، والروح الحيواني مريد اللذات الغضبية ، والروح الطبيعي محب للذائذ الأكل والشرب ، كذلك الروح المطمئنة. أعني القلب. لا يريد إلا العلم ولا يرضى إلا به ويتعلم طول عمره. ويتحلّى بالعلم جميع أيامه إلى وقت مفاقته ، ولو قبل أمرا آخر دون العلم فإنما يقبل عليه لمصلحة البدن لا لمراد ذاته ومحبة أصله. فإذا علمت أحوال الروح ودوام بقائه وعشقه للعلم وشغفه به ، فيجب عليك أن تعلم أصناف العلم فإنها كثيرة ونحن نحصيها بالاختصار.

فصل في أصناف العلم وأقسامه

اعلم أن العلم على قسمين : أحدهما شرعي ، والآخر عقلي. وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها. وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠].

أما القسم الأول : وهو العلم الشرعي ، فينقسم إلى نوعين :

أحدهما : في الأصول وهو علم التوحيد. وهذا العلم ينظر في ذات الله تعالى وصفاته القديمة ، وصفاته الفعلية ، وصفاته الذاتية المتعدّدة بالأسامي على الوجه المذكور. وينظر أيضا في أحوال الأنبياء والأئمة من بعدهم والصحابة. وينظر في أحوال الموت والحياة وفي أحوال القيامة والبعث والحشر والحساب ، ورؤية الله تعالى وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولا بآيات الله تعالى من القرآن ، ثم بأخبار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية ، وأخذوا مقدمات القياس الجدلي والعادي ولواحقهما من أصحاب المنطق الفلسفي ، ووضعوا أكثر الألفاظ في غير مواضعها ، ويعبرون في عباراتهم بالجوهر والعرض والدليل والنظر والاستدلال والحجّة ، ويختلف معنى كل لفظ من هذه الألفاظ عند كل قوم حتى أن الحكماء يعنون بالجوهر شيئا ، والصوفية يعنون شيئا آخر ، والمتكلمون شيئا ، وعلى هذا المثال ، وليس المراد في هذه الرسالة تحقيق معاني الألفاظ على حسب آراء القوم ، فلا نسرع فيها. وهؤلاء القوم مخصوصون بالكلام في الأصول وعلم التوحيد ولقبهم المتكلمون ، فإن اسم الكلام اشتهر على علم التوحيد. ومن علم الأصول

٢٢٧

التفسير ، فإن القرآن من أعظم الأشياء وأبينها وأجلّها وأعزّها. وفيه من المشكلات الكثيرة ما لا يحيط بها كل عقل إلا من أعطاه الله تعالى فهما في كتابه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ما من آية من آيات القرآن إلّا ولها ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن" ، وفي رواية إلى تسعة. وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لكلّ حرف من حروف القرآن حدّ ولكلّ حدّ مطلع" ، والله تعالى أخبر في القرآن عن جميع العلوم وجلي الموجودات وخفيها وصغيرها وكبيرها ومحسوسها ومعقولها. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩]. وقال تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩]. وإذا كان أمر القرآن أعظم الأمور فأي مفسر أدى حقه ، وأي عالم خرج عن عهدته ، نعم كل واحد من المفسرين شرع في شرحه بمقدار طاقته ، وخاض في بيانه بحسب قوة عقله ، وقدر كنه علمه ، فكلهم قالوا ، وبالحقيقة ما قالوا ، وعلم القرآن يدل على علم الأصول والفروع والشرعي والعقلي. ويجب على المفسر أن ينظر في القرآن من وجه اللغة ، ومن وجه الاستعارة ، ومن وجه تركب اللفظ ، ومن وجه مراتب النحو ، ومن وجه عادة العرب ، ومن وجه أمور الحكماء ، ومن وجه كلام المتصوفة حتى يقرب تفسيره إلى التحقيق ، ولو يقتصر على وجه واحد ويقنع في البيان بفن واحد لم يخرج عن عهده البيان ، ويتوجه عليه حجّة الإيمان وإقامة البرهان ، ومن علم الأصول أيضا علم الأخبار. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفصح العرب والعجم ، وكان معلما يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وكان عقله محيطا بجميع العلويات والسفليات ، فكلّ كلمة من كلماته بل لفظة من ألفاظه يوجد تحتها بحار الأسرار وكنوز الرموز ، فعلم أخباره ومعرفة أحاديثه أمر عظيم ، وخطب جليل. لا يقدر أحد أن يحيط بعلم الكلام النبوي إلا أن يهذب نفسه بمتابعة الشارع ، ويزيل الاعوجاج عن قلبه بتقويم شرع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أراد أن يتكلم في تفسير القرآن وتأويل الأخبار ويصيب في كلامه ، فيجب عليه أوّلا تحصيل علم اللغة والتبحر في فن النحو ، والرسوخ في ميدان الإعراب ، والتصرف في أصناف التصريف ، فإن علم اللغة سلم ومرقاة إلى جميع العلوم ، ومن لم يعلم اللغة فلا سبيل له إلى تحصيل العلوم. فإن من أراد أن يصعد سطحا عليه تمهيد المرقاة أولا ثم بعد ذلك يصعد ، وعلم اللغة وسيلة عظيمة ، ومرقاة كبيرة ، فلا يستغني طالب العلم عن أحكام اللغة ، فعلم اللغة أصل الأصول ، وأوّل علم اللغة معرفة الأدوات ، وهي بمنزلة الكلمات المفردة ، وبعدها معرفة الأفعال مثل الثلاثي والرباعي وغيرهما ، ويجب على اللغوي أن ينظر في أشعار العرب. وأولاها وأتقنها أشعار الجاهلية. فإن فيها تنقيحا للخاطر ، وترويحا للنفس ومع ذلك الشعر والأدوات والأسامي يجب تحصيل علم النحو فإنه لعلم اللغة بمنزلة ميزان القبان للذهب والفضة. والمنطق لعلم الحكمة والعروض للشعر ، والذراع للأثواب ، والمكيال للحبوب ، وكل شيء لا يوزن بميزان لا يتبين فيه حقيقة الزيادة والنقصان. فعلم اللغة سبيل إلى علم التفسير والأخبار ، وعلم القرآن والأخبار دليل على علم التوحيد ، وعلم التوحيد هو الذي لا تنجو نفوس العباد إلّا به ولا تتخلص من خوف المعاد إلّا به ، فهذا تفصيل علم الأصول.

٢٢٨

النوع الثاني : من العلم الشرعي هو علم الفروع. وذلك أن العلم إما أن يكون علميا ، وإما أن يكون عمليا ، وعلم الأصول هو العلمي ، وعلم الفروع هو العملي ، وهذا العلم العملي يشتمل على ثلاثة حقوق :

أوّلها : حقّ الله تعالى وهو أركان العبادات مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والأذكار والأعياد والجمعة وزوائدها من النوافل والفرائض.

وثانيها : حق العباد وهو أبواب العادات ويجري في وجهين : أحدهما : المعاملة مثل البيع والشركة والهبة والقرض والدين والقصاص وجميع أبواب الديات ، والوجه الثاني : المعاقدة مثل النكاح والطلاق والعتق والرق والفرائض ولواحقها ، ويطلق اسم الفقه على هذين الحقين. وعلم الفقه علم شريف مفيد عام ضروري لا يستغني الناس عنه لعموم الضرورة إليه.

وثالثها : حقّ النفس ، وهو علم الأخلاق ، والأخلاق إما مذمومة ويجب رفضها وقطعها ، وإما محمودة ويجب تحصيلها وتحلية النفوس بها ، والأخلاق المذمومة والأوصاف المحمودة مشهورة في كتاب الله تعالى وأخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من تخلّق بواحد منها دخل الجنة.

وأما القسم الثاني : من العلم فهو العلم العقلي وهو علم معضل مشكل يقع فيه خطأ وصواب. وهو موضوع في ثلاث مراتب :

المرتبة الأولى : وهو أوّل المراتب العلم الرياضي والمنطقي. أمّا الرياضي فمنه الحساب وينظر في العدد والهندسة وهي علم المقادير والأشكال والهيئة أعني علم الأفلاك والنجوم وأقاليم الأرض ، وما يتصل بها ، ويتفرع عنه علم النجوم وأحكام المواليد والطوالع ، ومنه علم المسبقي الناظر في نسب الآثار ، وأما المنطقي فينظر في طريق الحدّ والرسم في الأشياء التي تدرك بالتصور ، وينظر من طريق القياس والبرهان في العلوم التي تنال بالتصديق ، ويدور علم المنطق على هذه القاعدة يبتدئ بالمفردات ثم بالمركبات ، ثم بالقضايا ، ثم بالقياس ، ثم بأقسام القياس ، ثم مطلب البرهان وهو نهاية علم المنطق.

المرتبة الثانية : وهو أوسطها العلم الطبيعي ، وصاحبه ينظر في الجسم المطلق ، وأركان العالم وفي الجواهر والأعراض ، وفي الحركة والسكون ، وفي أحوال السماوات والأشياء الفعلية والانفعالية ، ويتولد من هذا العلم النظر في أحوال مراتب الموجودات وأقسام النفوس والأمزجة ، وكمية الحواس ، وكيفية إدراكها لمحسوساتها ، ثم يؤدي إلى النظر في علم الطب وهو علم الأبدان والعلل والأدوية والمعالجات وما يتعلق بها ، ومن فروعه علم الآثار العلوية ، وعلم المعادن ، ومعرفة خواصّ الأشياء ، وينتهي إلى علم صنعة الكيمياء وهي معالجة الأجساد المريضة في أجواف المعادن.

المرتبة الثالثة : وهي العليا ، هي النظر في الموجود ، ثم تقسيمه إلى الواجب والممكن ، ثم

٢٢٩

النظر في الصانع وذاته وجميع صفاته وأفعاله وأمره وحكمه وقضائه وترتب ظهور الموجودات عنه ، ثم النظر في العلويات والجواهر المفردة والعقول المفارقة والنفوس الكاملة ، ثم النظر في أحوال الملائكة والشياطين ، وينتهي إلى علم النبوات وأمر المعجزات وأحوال الكرامات ، والنظر في أحوال النفوس المقدسة وحال النوم واليقظة ومقامات الرؤيا ، ومن فروعه علم الطلسمات والنيرنجات وما يتعلّق بها ، ولهذه العلوم تفاصيل وأعراض ومراتب ، تحتاج إلى شرح جلي ببرهان بهي ولكن الاقتصار أولى.

فصل في علم الصوفية

اعلم أن العلم العقلي مفرد بذاته ويتولّد منه علم مركب يوجد فيه جميع أحوال العلمين المفردين ، وذلك العلم المركب علم الصوفية ، وطريقة أحوالهم ، فإن لهم علما خاصا بطريقة واضحة مجموعة من العلمين وعلمهم يشتمل على الحال ، والوقت والسماع ، والوجد والشوق ، والسكر والصحو ، والإثبات ، والمحو ، والفقر ، والفناء ، والولاية ، والإرادة ، والشيخ ، والمريد ، وما يتعلق بأحوالهم مع الزوائد والأوصاف والمقامات. ونحن نتكلم في هذه العلوم الثلاثة في كتاب خاص إن شاء الله تعالى ، والآن ليس قصدنا إلا تعديد العلوم وأصنافها في هذه الرسالة ، وقد اختصرناها وعددناها على طريق الاختصار والإيجاز ، ومن أراد الزيادة وشرح هذه العلوم فليرجع إلى مطالعة الكتب ، ولما انتهى الكلام في بيان تعديد أصناف العلوم ، فاعلم أنت يقينا أن كل فن من هذه الفنون ، وكل علم من هذه العلوم ، يستدعي عدة شرائط لينتقش في نفوس الطالبين ، فبعد تعديد العلوم يجب عليك أن تعرف طرق التحصيل فإن لتحصيل العلم طرقا معينة نحن نفصلها (إن شاء الله).

فصل في بيان التحصيل للعلوم

اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين ، أحدهما : التعليم الإنساني ، والثاني : التعليم الرباني.

أما الطريق الأول : فطريق معهود ، ومسلك محسوس ، يقرّ به جميع العقلاء ، وأما التعليم الرباني فيكون على وجهين ، أحدهما : من خارج وهو التحصيل بالتعلم ، والآخر : من داخل وهو الاشتغال بالتفكر ، والتفكر من الباطن بمنزلة التعلم في الظاهر ، فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي ، والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي ، والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العلماء والعقلاء ، والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الأرض ، والجوهر في قعر البحر ، أو في قلب المعدن ، والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء من القوة إلى الفعل. والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل ، فنفس المتعلم تتشبه بنفس المعلم وتتقرب إليه بالنسبة ، فالعالم بالإفادة كالزارع والمتعلم بالاستفادة كالأرض. والعلم الذي هو بالقوة كالبذر ، والذي بالفعل كالنبات فإذا كملت نفس المتعلم تكون كالشجرة

٢٣٠

المثمرة أو كالجوهر الخارج من قعر البحر ، وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم وطول المدة ، وتحمل المشقة والتعب وطلب الفائدة ، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثرة التعلم ، فإن نفس القابل تجد من الفوائد بتفكر ساعة ما لا تجد نفس الجامد بتعلم سنة ، فإذن بعض الناس يحصلون العلوم بالتعلم وبعضهم بالتفكر ، والتعلم يحتاج إلى التفكر ، فإن الإنسان لا يقدر أن يتعلم جميع الأشياء الجزئيات والكليات وجميع المعلومات ، بل يتعلم شيئا ويستخرج بالتفكر من العلوم شيئا وأكثر العلوم النظرية والصنائع العلمية استخرجها نفوس الحكماء بصفاء ذهنهم ، وقوة فكرهم ، وحدّة حدسهم من غير زيادة تعلم وتحصيل ، ولو لا أن الإنسان يستخرج بالتفكر شيئا ، من معلومه الأوّل لكان يطول الأمر على الناس ولما كانت تزول ظلمة الجهل عن القلوب لأن النفس لا تقدر أن تتعلم جميع مهماتها الجزئية والكلية بالتعليم ، بل بعضها بالتحصيل وبعضها بالنظر كما يرى عادات الناس ، وبعضها يستخرج من ضميره بصفاء فكره ، وعلى هذا جرت عادة العلماء وتمهدت قواعد العلوم. حتى أن المهندس لا يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول عمره ، بل يتعلم كليات علمه وموضوعاته ، ثم بعد ذلك يستخرج ويقيس. وكذلك الطبيب لا يقدر أن يتعلم جزئيات أدواء الأشخاص وأدويتهم بل يتفكر في معلوماته الكلية. ويعالج كل شخص بحسب مزاجه. وكذلك المنجم يتعلم كليات النجوم ثم يتفكر ويحكم بالأحكام المختلفة. وكذلك الفقيه والأديب. وهكذا إلى بدائع الصنائع فواحد وضع آلة الضرب وهو العود بتفكره ، وآخر استخرج من تلك الآلة آلة أخرى. وكذلك جميع الصنائع البدنية والنفسانية أوائلها محصلة من التعلم والبواقي مستخرجة من التفكر ، وإذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر وكيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب فينشرح قلبه وتنفتح بصيرته فيخرج ما في نفسه من القوة إلى الفعل من غير زيادة طلب وطول تعب.

الطريق الثاني : وهو التعليم الرباني على وجهين :

الأول : إلقاء الوحي وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها وتتمسك بجود مبدعها وتعتمد على إفادته وفيض نوره ، والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليّا. وينظر إليها نظرا إلهيا ويتخذ منها لوحا. ومن النفس الكلي قلما وينقش فيها جميع علومه ، ويصير العقل الكلي كالمعلم ، والنفس القدسية كالمتعلم ، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر ، ومصداق هذا قوله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء : ١١٣]. الآية. فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة ، وبيان هذا يوجد في قصّة آدم عليه‌السلام والملائكة ، فإنهم تعلموا طول عمرهم ، وحصلوا بفنون الطرق كثيرا من العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات ، وآدم عليه‌السلام ما كان عالما لأنه ما تعلم وما رأى معلما فتفاخرت

٢٣١

الملائكة وتجبروا وتكبروا فقالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠]. ونعلم حقائق الأشياء ، فرجع آدم عليه‌السلام إلى باب خالقه ، وأخرج قلبه عن جملة المكونات وأقبل بالاستعانة على الربّ تعالى فعلمه جميع الأسماء : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣١]. فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٣١]. فصغر حالهم عند آدم. وقل علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم فغرقوا في بحر العجز (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢]. فقال تعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٢]. فأنبأهم آدم عليه‌السلام عدّة مكنونات العلم ومستترات الأمر ، فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبي المتولّد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة ، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحقّ الرسل ، وأغلق الله باب الوحي من عهد سيدنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاتم النبيين ، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم وكان يقول : " أدبني ربي فأحسن تأديبي" ، وقال لقومه : أنا أعلمكم وأخشاكم من الله تعالى ، وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى لأنه حصل عن التعليم الرباني ، وما اشتغل قطّ بالتعلم والتعليم الإنساني. قال تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥].

الوجه الثاني : هو الإلهام ، والإلهام تنبيه النفس الكلية للنفس الجزئية الإنسانية على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي والإلهام هو تعريضه ، والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا ، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا ، والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري ، وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف ، وذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية الأولى الذي هو في الجواهر المفارقة الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليه‌السلام ، وقد بيّن أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى إلى الباري تعالى من النفس الكلية. والنفس الكلية أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات فمن إفاضة العقل الكلي يتولّد الإلهام ومن إشراق النفس الكلية يتولد الإلهام ، فالوحي حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء. فأما علم الوحي فكما أن النفس دون العقل فالولي دون النبي فكذلك الإلهام دون الوحي فهو ضعيف بنسبة الوحي قوي بإضافة الرؤيا والعلم علم الأنبياء والأولياء. فأما علم الوحي فخاض بالرسل موقوف عليهم كما كان لآدم وموسى عليهما‌السلام وإبراهيم ومحمّد صلّى الله عليهما وسلّم وغيرهم من الرسل ، وفرّق بين الرسالة والنبوة. فالنبوة قبول النفس القدسية حقائق المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والقابلين ، وربما يتفق القبول لنفس من النفوس ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب ، والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية كما كان للخضر عليه‌السلام حيث أخبر الله تعالى عنه ، فقال : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥]. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : " أدخلت لساني في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم مع كل باب ألف باب ، وقال : لو وضعت لي وسادة وجلست عليها لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم

٢٣٢

ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم." وهذه مرتبة لا تنال بمجرد التعلم الإنساني ، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني ، وقال أيضا رضي الله عنه يحكي عن عهد موسى عليه‌السلام أن شرح كتابه أربعون حملا فلو يأذن الله في شرح معاني الفاتحة لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك ، يعني أربعين ووقرا ، وهذه الكثرة والسعة والانفتاح في العلم لا يكون إلا لدنيا إلهيا سماويا. فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح ، فيظهر فيها أسرار بعض المكنونات وانتقش فيها معاني تلك المكنونات فتعبر النفس عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدني وما لم يبلغ الإنسان هذه المرتبة لا يكون حكيما لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩]. وذلك لأن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعليم فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.

واعلم أن الوحي إذا انقطع. وباب الرسالة إذا انسدّ استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وتكميل الدين ، كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣]. وليس من الحكمة إظهار زيادة الفائدة من غير حاجة. فأما باب الإلهام فلا ينسدّ ، ومدد نور النفس الكلية لا ينقطع لدوام ضرورة النفوس وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير ، وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة والدعوة واحتاجوا إلى التذكير والتنبيه لاستغراقهم في هذه الوساوس وانهماكهم في هذه الشهوات فالله تعالى أغلق باب الوحي وهو آية العباد وفتح باب الإلهام رحمة وهيأ الأمور. ورتب المراتب ليعلموا أن الله لطيف بعباده يرزق من يشاء بغير حساب.

فصل في مراتب النفوس في تحصيل العلوم

اعلم أن العلوم مركوزة في جميع النفوس الإنسانية وكلها قابلة لجميع العلوم وإنما يفوت نفسا من النفوس حظها منه بسبب طارئ وعارض يطرأ عليها من خارج ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " خلق الناس حنفاء فاحتالتهم الشياطين". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " كلّ مولود يولد على الفطرة" الحديث فالنفس الناطقة الإنسانية أهل لإشراق النفس الكلية عليها ومستعدة لقبول الصور المعقولة عنها بقوة طهارتها الأصلية وصفاتها ، ولكن يمرض بعضها في هذه الدنيا. ويمتنع عن إدراك الحقائق بأمراض مختلفة وأعراض شتى ، ويبقى بعضها على الصحة الأصلية بلا مرض وفساد. يقبل أبدا ما دامت حية ، والنفوس الصحيحة هي النفوس النبوية القابلة للوحي والتأييد القادرة على إظهار المعجزة والتصرف في عالم الكون والفساد ، فإن تلك النفوس باقية على الصحّة الأصلية ، وما تغيّرت أمزجتها بفساد الأمراض وعلل الأعراض فصار الأنبياء أطباء النفوس ودعاة الخلق إلى صحة الفطرة.

وأما النفوس المريضة في هذه الدنيا الدنيئة فصارت على مراتب ، بعضهم تأثر بمرض

٢٣٣

المنزل تأثرا ضعيفا. ودقّ غمام النسيان في خواطرهم فيشتغلون بالتعلّم. ويطلبون الصحة الأصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة ، وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتعليم ويطلبون الصحة الأصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة. وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتحصيل والتصحيح جميع أيامهم ، ولا يفهمون شيئا لفساد أمزجتهم ، لأن المزاج إذا فسد لا يقبل العلاج ، وبعضهم يتذكرون وينسون ويرتاضون ويذلون أنفسهم ويجدون نورا قليلا وإشراقا ضعيفا ، وهذا التفاوت إنما ظهر من إقبال النفوس على الدنيا واستغراقها بحسب قوتها وضعفها كالصحيح إذا مرض ، والمريض إذا صح ، وهذه العقدة إذا انحلت تقر النفوس بوجود العلم اللدني وتعلم أنها كانت عالمة في أول الفطرة وصافية في ابتداء الاختراع ، وإنما جهلت لأنها مرضت بصحبة هذا الجسد الكثيف ، والإقامة في هذا المنزل الكدر والمحل المظلم ، وأنها لا تطلب بالتعلم إيجاد العلم المعدوم. ولا إبداع العقل المفقود ، بل إعادتها العلم الأصلي الغريزي وإزالة طريان المرض بإقبالها على زينة الجسد وتمهيد قاعدته ونظم أساسه ، والأب المحب المشفق على ولده إذا أقبل على رعاية الولد ، واشتغل بمهماته ينسى جميع الأمور ويكتفي بأمر واحد وهو أمر الولد ، فالنفس لشدة شغفها وشفقتها أقبلت على هذا الهيكل واشتغلت بعمارته ورعايته والاهتمام بمصالحه ، واستغرقت في بحر الطبيعة بسبب ضعفها وجزئيتها فاحتاجت في أثناء العمر إلى التعلم طلبا لتذكار ما قد نسيت ، وطمعا في وجدان ما قد فقدت وليس التعلم إلا رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في ضميرها إلى الفعل طلبا لتكميل ذاتها ونيل سعادتها ، وإذا كانت النفوس ضعيفة لا تهتدي إلى حقيقة جوهريتها تتمسك وتعتصم بمعلم مشفق عالم وتستغيث به لعينها على طلب مرادها ومأمولها كالمريض الذي يكون جاهلا بمعالجته ويعلم أن الصحة الشريفة محمودة مطلوبة. فيرجع إلى طبيب مشفق ، ويعرض حاله عليه ويأوي إليه ليعالجه ويزيل عنه مرضه. وقد رأينا عالما يمرض بمرض خاص كالرأس والصدر فتعرض نفسه عن جميع العلوم وينسى معلوماته وتلتبس عليه ويستتر في حافظته وذاكرته جميع ما حصل في سابق عمره وماضي أيامه. فإذا صحّ عاد الشفاء إليه يزول النسيان عنه وترجع النفس إلى معلوماتها فتتذكر ما قد نسيت في أيام المرض ، فعلمنا أن العلوم ما فنيت وإنما نسيت وفرق بين المحو والنسيان بالناس فإن المحو فناء النقوش والرسوم ، والنسيان التباس النقوش فيكون كالغمام أو السحاب الساتر لنور الشمس عن أبصار الناظرين لا كالغروب الذي هو انتقال الشمس من فوق الأرض إلى أسفل. فاشتغال النفس بالتعلم هو إزالة المرض العارض عن جوهر النفس لتعود إلى ما علمت في أول الفطرة وعرفت في بدء الطهارة. فإذا عرفت السبب والمراد من التعلم وحقيقة النفس وجوهرها فاعلم أن النفس المريضة تحتاج إلى التعلم وإنفاق العمر في تحصيل العلوم. فأما النفس التي يخف مرضها وتكون علّتها ضعيفة وشرّها دقيقا

٢٣٤

وغمامها رقيقا ومزاجها صحيحا ، فلا تحتاج إلى زيادة تعلم وطول تعب بل يكفيها أدنى نظر وتفكر لأنها ترجع به إلى أصلها ، وتقبل على بدايتها وحقيقتها وتطلع على مخفياتها فيخرج ما فيها من القوة إلى الفعل ويصير ما هو مركوز فيها حلية لها فيتم أمرها ويكمل شأنها وتعلم أكثر الأشياء في أقل الأيام وتعبر عن المعلومات بحسن النظام ، وتصير عالمة كاملة متكلمة تستضيء بإقبال على النفس الكلية وتفيض باستقبال على النفس الجزئية وتتشبه من طريق العشق بالأصل. وتقطع عرق الحسد وأصل الحقد وتعرض عن فضول الدنيا وزخارفها ، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة فقد علمت ونجت وفازت ، فهذا هو المطلوب لجميع الناس.

فصل في حقيقة العلم اللدني وأسباب حصوله

اعلم أن العلم اللدني وهو سريان نور الإلهام يكون بعد التسوية كما قال الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٧]. وهذا الرجوع يكون بثلاثة أوجه :

أحدها : تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.

والثاني : الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار إلى هذه الحقيقة ، فقال : " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من أخلص لله أربعين صباحا أظهر الله تعالى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".

والثالث : التفكر ، فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط الفكر ينفتح عليها باب الغيب كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التصرف ينفتح عليه أبواب الربح ، وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران ، فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب ، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيّدا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة". وشرائط التفكر نحصيها في رسالة أخرى إذ بيان التفكر وكيفيته وحقيقته أمر مبهم يحتاج إلى زيادة شرح وتفسير بعون الله تعالى. والآن نختم هذه الرسالة ، فإن في هذه الكلمات كفاية لأهلها : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠]. والله وليّ المؤمنين وعليه التكلان ، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، وبه ثقتي في كل آن وحين والحمد لله ربّ العالمين.

٢٣٥

فصل التفرقة

٢٣٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

قال الإمام العالم العامل أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه : أحمد الله تعالى استسلاما لعزّته واستتماما لنعمته ، واستغناما لتوفيقه ومعونته وطاعته ، واستعصاما من خذلانه ومعصيته ، واستدرارا لسوابغ نعمته وأصلي على محمّد عبده ورسوله وخير خليقته ، انقيادا لنبوته ، واستجلابا لشفاعته ، وقضاء لحقّ رسالته ، واعتصاما بيمين سريرته ونقيته ، وعلى آله وأصحابه وعترته.

أما بعد : فإني رأيتك أيها الأخ المشفق ، والصديق المتعصب موغر الصدر ، منقسم الفكر لما فرغ سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين ، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين ، والمشايخ المتكلمين ، وأن العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر ، فهوّن أيها الأخ المشفق المتعصب على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ، واستحقر من لا يحسد ولا يقذف ، واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف فأي داع أكمل وأعقل من سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قالوا : إنه مجنون من المجانين ، وأيّ كلام أجلّ وأصدق من كلام ربّ العالمين ، وقد قالوا : إنه أساطير الأوّلين ، وإياك أن تشتغل بخصامهم وتطمع في إفحامهم فتطمع في غير مطمع ، وتصوت في غير مسمع ، أما سمعت ما قيل :

كلّ العداة قد ترجى سلامتها

إلّا عداوة من عاداك عن حسد

ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس ، لما تلي على أجلهم رتبة آيات اليأس ، أو ما سمعت قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥]. وقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ و ١٥]. وقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧]. وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام : ١١١]. واعلم أن الفكر والإيمان وحدهما ، والحقّ والضلال وسرهما ، لا ينجلي للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما ، بل إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدنيا أولا ، ثم صقلت بالرياضة الكاملة ثانيا ، ثم نورت بالذكر الصافي ثالثا ، ثم عذبت بالفكر الصائب رابعا ، ثم زينت بملازمة حدود الشرع خامسا ،

٢٣٧

حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة ، وصارت كأنها مرآة مجلوّة ، وصار مصباح الإيمان في زجاجة قلبه مشرق الأنوار ، يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار. وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم ومعبودهم سلاطينهم ، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم ، وشريعتهم رعونتهم ، وإرادتهم جاههم وشهواتهم ، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم ، وذكرهم وساوسهم ، وكنزهم سواسهم ، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم ، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان ، أبإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا لقبولها أم بكمال علمي ، وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهما؟ هيهات هيهات هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى ، أو ينال بالهوينا؟ فاشتغل أنت بشأنك ولا تضيع فيهم بقية زمانك : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا* ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) [النجم : ٢٩ و ٣٠].

فصل في حقيقة الكفر والإيمان

فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك ، وصدر من هو في حالك ، ممن لا تحركه غواية الحسود ، ولا تقيده عماية التقليد ، بل تعطشه إلى الاستبصار لحزازة إشكال آثارها فكر ، وهيجها نظر ، فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحدّ الكفر فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غير بليد ، قد قيّده التقليد فهو أعمى من العميان ، فلا تضيع بإصلاحه الزمان ، وناهيك حجّة في إفحامه ، مقابلة دعواه بدعوى خصومه ، إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقا وفصلا ، ولعل صاحبه يميل من سائر المذاهب إلى الأشعري ، ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي ، فاسأله من أين يثبت له أن يكون الحق وفقا عليه حتى قضى بكفر الباقلاني إذ خالفه في صفة البقاء لله تعالى ، وزعم أنه ليس هو وصفا لله تعالى زائدا على الذات ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحقّ وفقا على أحدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه! أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان ومكيال قدر درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخص للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقلانسي وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه بعض المتعصبين زاعما أنهما جميعا متوافقان على دوام الوجود ، والخلاف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لا يوجب التشديد ، فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن الله تعالى عالم محيط بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات ، وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائدة ، فما الفرق بين الخلافين ، وأي مطلب أجل وأخطر من صفات الحقّ سبحانه وتعالى في النظر في نفيها وإثباتها؟ فإن قال : إنما أكفّر المعتزلي

٢٣٨

لأنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائدة العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحدّ والحقيقة ، والحقائق المختلفة تستحيل أن توصف بالاتّحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله لا يستبعد من الأشعري قوله : إن الكلام صفة زائدة قائمة بذات الله تعالى ومع كونه واحدا هو توراة وإنجيل وزبور وقرآن ، وهو أمر ونهي وخبر واستخبار ، وهذه حقائق مختلفة كيف لا وحدّ الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ولا يتطرق ذلك إلى الأمر والنهي فكيف تكون حقيقة واحدة يتطرق إليها التصديق والتكذيب ولا يتطرق فيجتمع النفي والإثبات على شيء واحد فإن تخبط في جواب هذا أو عجز عن كشف الغطاء فيه ، فاعلم أنه ليس من أهل النظر وإنما هو مقلد ، وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ، ولو كان أهلا له كان مستتبعا لا تابعا ، وإماما لا مأموما ، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد وطالب لصلاح الفاسد. وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر. ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفا على واحد من النظار بعينه ، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب. أما الكفر ، فلأنه نزله منزلة النبيّ المعصوم من الزلل الذي لا يثبت الإيمان إلا بموافقته ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته ، وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر وأن لا ترى في نظرك إلا ما رأيت وكل ما رأيته حجّة ، وأي فرق بين من يقول قلدني في مجرد مذهبي ، وبين من يقول قلدني في مذهبي ودليلي جميعا وهل هذا إلا التناقض.

فصل في الكفر

لعلك تشتهي أن تعرف حدّ الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين ، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض ، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق ، وتطويل اللسان في أهل الإسلام وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول لا إله إلّا الله محمّد رسول الله صادقين بها غير مناقضين لها فأقول:

الكفر هو تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام في شيء مما جاء به ، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به ، فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه الصلاة والسلام ، والبرهمي كافر بالطريق الأولى لأنه أنكر مع رسولنا المرسل سائر الرسل ، وهذا لأن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص. وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى ، والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية ، وكلهم مشركون فإنهم مكذبون للرسول فكل كافر مكذب للرسول ، وكل كافر مكذب فهو كافر فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة.

فصل

اعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور لأن كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه

٢٣٩

إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش ، والأشعري يكفره زاعما أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شيء ، والأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له ، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ، ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف حدّ التكذيب والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك علوّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا.

فأقول : التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر ، وحقيقة الاعتراف بوجوه ما أخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ولأجل الغفلة عنهما نسبت كل فرفة مخالفها إلى التكذيب فإن الوجود ذاتي وحسّي وخيالي وعقلي وشبهي ، فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق. فلنشرح هذه الأصناف الخمسة ولنذكر مثالها في التأويلات.

أما الوجود الذاتي فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحسّ والعقل ، ولكن يأخذ الحسّ والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدراكا وهذا كوجود السماوات والأرض والحيوان والنبات وهو ظاهر بل هو المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنى سواه.

وأما الوجود الحسّي : فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما لا وجود له خارج العين فيكون موجودا في الحسّ ويختصّ به الحاس ، ولا يشاركه غيره ، وذلك كما يشاهده النائم بل كما يشاهده المريض المتيقظ إذ قد تتمثل له صورة ولا وجود لها خارج حسّه حتى يشاهدها كما يشاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسّه ، بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحّة صورة جميلة محاكية لجواهر الملائكة ، وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم وذلك لشدة صفاء باطنهم. كما قال تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧]. وكما أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل عليه‌السلام كثيرا ، ولكن ما رآه في صورته إلا مرتين وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها وكما يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، وقد قال" من رآني في النوم فقد رآني حقا ، فإن الشيطان لا يتمثّل بي" ، ولا تكون رؤيته بمعنى انتقال شخصه من روضة المدينة إلى موضع النائم ، بل هي على سبيل وجود صورته في الحسّ النائم فقط ، وسبب ذلك وسره طويل ، وقد شرحناه في بعض الكتب فإن كنت لا تصدق به فصدق عينك ، فإنك تأخذ قبسا من نار كأنه نقطة ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خطا من نار ، وتحركه حركة مستديرة فتراه دائرة من نار ، والدائرة والخط مشاهدان وهما موجودان في حسّك لا في خارج عن حسك ، لأن الموجود في الخارج هي نقطة في كل حال ، وإنما تصير خطا في أوقات متعاقبة فلا يكون الخط موجودا في حالة واحدة وهو ثابت في مشاهدتك في حالة واحدة.

٢٤٠