مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

جديد وتراه كما فعل ذلك ابتداء ، وقد ورد في الخبر : إن لله تعالى ينزل قطرا فيكون ذلك أصلا لخلقة الأجسام وهو قادر على اختراع ما يشاء. وكيف لا ، وقد قال علماؤكم المتقدمون من أهل الهند وغيرهم. عمر العالم ستة وثلاثون ألف سنة. وقالوا أيضا : خمسون ألفا على اختلاف بينهم في ذلك. وقالوا : ثلاثة وستون ألف سنة ثم يعاد جديدا ، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات ويرجع القطب اليماني شماليا والمعمور غامرا وبالعكس والبر بحرا والبحر برا.

فإن قالوا : هذا لا فائدة لكم فيه ، فإنه يلزم أن يبدل ثانيا.

قلنا : ذلك جائز في قدرة الله تعالى ، ولكن الرسل عليهم‌السلام أخبرت أنه لا يفعل ذلك وأن للعالم ثلاث حالات : حالة عدم تقدمت وحالة وجود نحن فيها وحالة إعادة.

مسألة : قالوا : أنكرنا وجود الجنة والنار يعني أن تكون لذاتهما وآلامهما محسوسة جسمانية.

قلنا : علة الاستحالة عندكم تأثير الطبائع في الأجسام بواسطة حركات الكواكب ، وقد قال قدماؤكم إن للعالم تحويلا. وأخبرت به الرسل عليهم‌السلام وتتابعت على ذلك ، فتلك القضية بخلاف هذه ، فبم تنكرون على من يزعم أن هذه القضية كما اقتضت أسبابها الفناء تقتضي أسباب تلك البقاء وتكون الحكمة فيها أن تكون غرضا مقصود البقاء في الأجسام ، وكيف لا. وقد قال الجماهير منكم بل الإطباق على ذلك أن جوهر الشمس لا يقبل البقاء ، واتفقتم على أن جوهر النفس لا يقبل الفناء والجسم عندكم ، وإن تركب وكان تركيبه حادثا فجواهره قديمة ولم يتوال نصب الأسباب على جهة تقتضي البقاء. ثم الجنة والنار عبارتان عن قطرين يكون أحدهما فيه قصور الذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والثمار ثم لمن استقر فيها بقاء بلا موت وواجد هذه اللذات أبدا لا يألم ولا يحزن ولا يجوع ولا يظمأ ولا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ، والآخر على الضد من هذا وهو النار وبالله الهداية.

المعراج السابع

غرضنا فيه بيان معنى الموت ، وهل هو كمال أو نقصان ، فالموت فساد المزاج وقصور الجسم عن الانفعال للنفس لعدم الحس والحركة ، فمن زعم أن النفس قديمة زعم أنه ترك النفس البدن كالرجل ارتحل عن بيت أضيف فيه إلى داره وعلى الرسم المتقدم كمن لبس ثوبا حتى انقطع وتخرق عليه فسقط عنه الثوب وبقي عريانا منكشفا ، والملك الموكل بالموت موكل بسبب الموت وهو سوق الآلام وبعث النفس على الأسباب المهلكة ، فيكون الموت بواسطته ولا يبعد في العقل أن يكون للنفس ملائكة تتلقاها بالسخط والبشرى كما شهدت به الظواهر. وأما هل الموت كمال أو نقص؟ فحقيقة النقص الرجوع من الأعلى إلى الأدنى ، والكمال الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى فإن الإنسان إن كان يرتقي إلى الأعلى بسبب الموت فهو كمال. وذلك أنه

٨١

متردد في أطوار الخلقة من كونه ترابا وغذاء ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم تكون مولودا رضيعا ثم فطيما ثم غلاما ثم شابا ثم كهلا وجاهلا عالما وجمادا ثم حيا مدركا ، وما من منزلة من هذه المنازل إذا أضفناها إلى ما قبلها إلا وتجدها كمالا ، والإنسان لو جعل له عقل في بطن أمه لما رضي أن يتبدل بما سواها وذلك للألفة وينشد لهذا :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطّفل ساعة يولد

وإلّا فما يبكيه منها وإنّها

لأرحب ممّا كان فيه وأرغد

إذا باشر الدنيا استهلّ كأنّه

بما سوف يلقى من أذاها يهدّد

فلو لا عدم الألفة ووحشة التبدل لما بكى والنفس خوارة ، بل الشيخ الكبير على طول تجربته إذا رحل من داره إلى دار أخرى يجد ألما وسهرا وربما لم ينم وكذلك الغريب وإنما كانت الغربة مؤلمة لعدم الألفة حتى قال الشاعر في ذلك :

وحبّب أوطان الرّجال اليهم

مآرب قضّاها الشّباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم

عهود الصّبا فحنّوا لذلكا

وقال آخر :

أحبّ بلاد الله ما بين منعج

إليّ وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها

وعلى الجملة : فعلوم الشريعة بأسرها في الأمر والنهي محذرة هذا المقام ولذلك أمرت الرسل عليهم‌السلام الخلق بالإقبال عن الدنيا ورغب الزهاد في ترك الوطن والأهل والولد ورغد العيش. قال عليه‌السلام : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك في أهل القبور". وقال عليه‌السلام : " إنما الدنيا كظل شجرة استظل الرجل بها ثم زال عنها وتركها" ، فالمقصد الرياضة وتمرين النفس على الشدائد. وأن تمحى هذه الأمور عن النفس ، وأن تزال عنها الألفة ، وأن تكتسب بغضا لهذه الأمور ، فإذا ماتت وإن استبسأت ما حصلت فيه فلا تجد غيره فهي مضطرة إليه ، ثم لا تلبث إلا يسيرا وتفرح فرحا لا نهاية له ، وإذا كانت وضرة ومشغوفة بالمال والولد والإقبال على الشهوات والعكوف على الملاذ الدنيوية مع أنها سائقة إلى النفس مذهلا ومكربا وشاغلا عن الموت ، فإنه انتقال من ضد إلى ضد وهو هلكة فأمر الرب تعالى لطفا منه بالعباد أن يكون للعبد بين الضدين تدريج ، وقد جعل تعالى لذلك مثلا ظاهرا في الحياة الدنيا في الأزمنة ، فجعلها أربعة أقسام على ممر الشمس في بروجها ، فجعل أعدل الأزمنة تنبت فيه الأجسام وتنمو فيه الناميات وتتلون الألوان وتخرج الأرض زخرفها. وقد قال تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) [يونس : ٢٤]. فهذه المدة من الزمان كحال النبات للإنسان والربيع لا يصير بهذه المنزلة

٨٢

إلا بزمن متقدم عليه وهي النقلة الشتوية فإنها باردة رطبة تنزل فيها الأمطار وتسخن في الأرض وتختمر بها فهي كحال البداية للإنسان. فلو أن الله تعالى يخرج الخلق من الشتاء إلى الصيف بغير فصل الربيع لهلكوا عن آخرهم ، فإن الأبدان والنباتات استولى عليها البرد والرطوبة والنقلة الصيفية الغالب عليها المستولى فيها الحر واليبس. فلو خرجوا من البرد المفرط إلى الحر المفرط ومن الضد الذي هو الرطوبة إلى المضاد له وهو اليبس لكانت الهلكة. لكن الله تعالى لحكمته فصل يفصل فيه تناسب الفصلين معا فأوله بالبرودة وآخره بالحرارة على تدريج خفي لا تحس به الأجسام إلا بعد انقضائه ، وذلك بمر الشمس على الثمان والعشرين منزلة في المنطقة الوسطى التي تجري فيها الكواكب فلها مشرقان وهما منتهى تحركها في الأفق الشرقي ، في الطرفين ، فإذا انتهت نهايتها فيكون الجنوب في الآخر ويكون الشتاء بذلك الأفق الأضعف.

فحينئذ شعاعها في المواضع يجذب البلة وتتصاعد به أبخرة البحار ، وينعكس الحر في بطن الأرض ، ويسقط ورق الثمار لأن الماء ينجذب من أعاليها إلى أسفلها من حيث إن الأبخرة الحارة ينفيها البرد من أعلى الأرض فتطلب المركز ، فإذا استحرت الأرض استدعت الرطوبات فجذبت ما في النباتات ، فإذا زالت الرطوبات من الأوراق والأغصان غلب عليها اليبس فتكمشت وتساقطت ويكون الطرف الثاني ، ثم إذا غلب عليه الحر واليبس فيكون القيظ كيفما انجذبت الشمس على تدريج لأنها تقيم في كل برج شهرا وتقطع في كل يوم من البرج درجة والدرجة لا تحس وهي تسير ، فكلما انجذبت زاد حرها وفي ازدياد حرها تسخن الأرض وتتحلل الرطوبات وتسخن أغصان الأشجار من فوق ، فإذا استحر الغصن استدعى الماء وطلب رطوبة الجزء الذي تحته ويستدعيه الذي تحته من الذي تحته حتى يقع الاستدعاء من قاع الشجرة ، وتستدعيه الشجرة من الأرض الأرض بعضها من بعض ، فإذا حصل الماء في العود أذابته الشمس وجرى في العود بطبخها وبما تستمد من لطيف الماء ولطيف التراب يحيله الشمس ثمرة ، ثم تخرج ما في طبع ذلك العود من الثمرة بإذن الله تعالى.

والشكل يخرج بطبعه الذي ركبه فيه الفاطر العليم بواسطة حر الشمس في إقبالها وإدبارها ودخول الحر في الأرض عند إقبالها وإدبارها حسب ما تمر في البروج ، فالشمس جعلها البارئ سبحانه سبب الحرث والنسل وهي علة النباتات والحيوانات والمعادن ، إذ سبب المعادن أبخرة تحتقن في الأرض فيكون منها أدخنة كبريتية ، فيمر عليها نشع الماء في الأرض فتعقده وهذا مبرهن عند المشتغلين بعلوم التحليل والكيمياء ، فإنهم زعموا أن الزئبق ينعقد بإشمام رائحة الكبريت وإمداده من خارج بأن يذاب ويطرح عليه أو يغلى ويترك فيه. ثم عند اجتماع الماء والكبريت تكون مادة الجوهر في الأرض ، إما باعتدال امتزاج وصبغ فيكون منه الذهب. أو بإفراط فيكون منه النحاس ، أو بتقصير خفيف فتكون منه الفضة. هذه الحركة الشمسية متعلقة بالحركة الشرقية ، ومثال ذلك الرحى مع قطبها ، فإن القطب يقطع شبرا في شبر

٨٣

وآخر دائرة الحجر تقطع خمسة أشبار أو أكثر في الاستدارة ، فكذا الطواحين وكذلك الدوائر والسواقي ، فإن الدائرة العظمى المحركة للأحجار التي تدور بحركة الماء تقطع ما مسافته في الاستدارة عشرون ذراعا أو أكثر ، ورأس المغزل يقطع على استدارة دور الدينار والمدة واحدة ، وكذلك برهن أصحاب النظر في علم الأثقال والمقادير أن الحركة الكلية هي سبب حركة الأفلاك وأنها واحدة ، وكذلك نشاهد الثانية (هي الساقية) يدور الحمار فيها إلى جهة ويختلف دوران تلك الدوائر ، فالحمار يقطع على استدارة والقوس الأعظم الذي يكون عليه الطونس يقطع على استدارة في جهة أخرى ، ودوائر أخر تقطع في جهة أخرى.

قالوا : ولما كانت الشمس حارة نارية الجوهر جعلت الحكمة الإلهية والتقدير الرباني لها نظيرا على مضادة طبعها إذ لو دام الحر المفرط لأحرق فسخن الله تعالى القمر يمر ببرده فيبرد ما استحر فيكون النامي معتدلا بينهما ، ثم جعلت حركته سريعة لأن حركته لو ساوت حركة الشمس لما وصل نفعه إلى الناميات إلا بعد فسادها ، وكذلك أيضا لم يصل حر الشمس إلا بعد فسادها انفعل عنه وكانت حركته سريعة. قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥]. وهذا أيضا غرض آخر يخص النفوس الحية ، فإن الشمس هي النور الذي به تخرج الحيوان من القوة إلى الفعل ولها في النفوس البشرية تأثير بديع ، فبالنور قوام الكل وجعل القمر مرآة يقبل ضياءها بالليل ويعيده على الخلق حتى لا يفقدونه ليلهم ولا نهارهم. وربما توهم المتوهم أن الأفق قد يخلو من نور الشمس وهذا توهم فاسد ، والأفق معمور بأنوار الشمس والسماوات والأرض لا تغيب عنها طرفة عين ، وإنما ينكر الناس ذلك بالإضافة إلى حالهم في كون الشمس في مقابلتهم على وجه أفقهم إذ يكون النور في عنفوانه كثيرا ، فلا يزال القرص يبعد عن أرضهم وتقل الأنوار ، فحال النور عند العصر بخلاف حاله عند الظهر ، وحاله عند المغرب بخلاف حاله عند العصر ، وحاله عند مغيب الشفق بخلاف حاله عند المغرب ، وحاله نصف الليل بخلاف حاله عند مغيب الشفق. وهو أبعد ما يكون النور من ذلك الأفق ، ولذلك تكون الظلمة وتضعف رؤيته للإنسان في ذلك الوقت ، ولكن مع ذلك إذا لم يكن بينه وبين السماء حائل من سقف أو سحاب يبصر ، فإن النور لا ينعدم وهو مع ضعفه ينتفع به ، فإن نور الكواكب مع الشمس وهي واقعة على الأرض ، فإذا قربت الشمس من جهة المشرق زاد النور من جهة المشرق فلا تزال كذلك حتى تشتد فيكون فجرا أولا ، فإذا كثر كان فجرا ثانيا ، فإذا تزايد كان إسفارا ، فإذا طلع القرص كان نهارا.

وأما في الليالي المقمرة فيكبر جرم القمر ولقربه من الأرض يتسع النور فيه وينعكس أو بعده منها ، وإذا كان منها على أربع عشرة منزلة كان ضوءه. قالوا : وفي خاصية القمر جذب الرطوبات والشمس تحلل وهذه الكواكب إنما تؤثر في العناصر الدائرة بالأرض لأنها تناسبها في اللطافة وتقرب من المنفعلات من وجهة أخرى ، فهي واسطة بين الحيوانات والنباتات

٨٤

والمعادن تناسب الكواكب بالبساطة والمنفعلات بالكثافة ، وقد قالوا : إن المنفعلات تنفعل من هذه العناصر وإن الحيوانات والمعادن هي أنفس الهواء والماء والنار والأرض ، لكنهم قالوا ذلك إنما يكون على طريق الدور ، فإذا تكونت ثم فسدت عادت عناصر فهي يستحيل بعضها إلى بعض ، ولذلك قالوا سمي عالم الكون والفساد. ولا يبعد أن تكون شعاعات الكواكب هي المؤثرة ، وهذه العناصر واسعة بين المؤثرات وبينها ، والله تعالى أعلم. فإنها أبعد عن قبول الفساد ، وآية ذلك أن شعاعات الكواكب هي من الشمس ومن أنفسها أيضا فلو كانت تنقص أو تزيد لقبلت الكون والفساد ولظهر ذلك عليها.

وقد زعم القدماء أن النار المحدقة بالأرض إنما هي من الأدخنة والقتارات الصاعدة والأهوية المحرقة والهواء من البخارات المتحللة من الأرض والماء على حسب ما تكلموا على ذلك في استقصاءات ، وأيضا فلا يتجه أن تتحرك هذه العناصر دون مباشرة وذلك عند هبوب الرياح وتموج الهواء والله أعلم.

وقد ذكر القدماء أن الأمطار والثلوج والرياح إنما تكون حسب ما تكون النيرات في مواضع مخصوصة من بروج مخصوصة ، فلتكن أشعتها التابعة لحركتها هي الممتزجة لهذه العناصر المحركة لها ، ثم لنفوس النيرات محركات حسب ما تتحرك وتترقى في الحركة إلى الحركة الكلية كما سبق. وقد زعم الأوائل أن تلك الحركة عن شوق واختيار عقلي مستند إلى مشيئة البارئ تعالى وإرادته فهو البارئ المبدع الخالق المصور لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، فهو مرتب الكل أحسن ترتيب ومقدره أكمل تقدير ، والكل متصرفون جارون على منهاج ذلك الترتيب المحكم والتقدير المتقن لا يزيد ذرة ولا ينقص ذرة ، كذلك ينقرض الأولون ويتبعهم الآخرون والسماء كما هي ونجومها ، والأرض بما فيها من الحيوانات والنباتات وغير ذلك لم تطرأ عليها شيء ينكرونه ، ولا تزال كذلك حتى يعيده بارئه تعالى تارة أخرى كما بدأ حيث قال تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩]. فالعالم بأسره كالشخص الإنسي البشري ذو عمر ومبدأ وآخر ، وقد تقدم مرارا أن الله سبحانه خلق الإنسان على صورة العالم ، فأوله بشر ضعيف على تدريج كما سبق في المعراج الأول.

فأول ما يخلق الله تعالى مادة يتكون منها ، ثم يخلق فيه الروح الحيواني ولا يزال تدريج فيه قليلا قليلا وكذلك النفس الناطقة فيه تظهر قواها شيئا فشيئا ، فأضعفها حالة الرضيع لا يزال ينمو إلى أن يشب فتخلق له الأوهام والظنون فتكون عنده كالقوة العقلية ، فإذا كبر قليلا خلقت فيه القوة الهيولانية وهو العقل الغريزي وهي المبادي الأول ، وهذا في العادة من الخمسة عشر إلى الثمانية عشر عاما ، ثم لا تزال كذلك حتى يخلق فيه العقل النظري وهو أن يدرك الأمور الجائزة والمستحيلة فهي كعيون تفتح في قلبه ، ومثاله الإنسان في بيت مظلم فإذا قابله السراج على بعد

٨٥

نظر نظرا ضعيفا فلا يزال السراج يقرب منه ونظره يكثر إلى أن يتصل به فيقوى نظره نظرا كليا ، فلو اتفق أن يتخذ السراج به حتى يكون في دماغه ملابسا لقواه لكان أكثر ، فكذلك فافهم أن القوة النفسية لا تزال تتزايد إلى ما لا نهاية ، فليميز ما بين النبي والصبي من الدرجات فالنفس آخذة في الكمال من حين تخلق إلى حين موتها ، فالموت إذا كمال الأجسام لأن النفوس تنزع المادة وتلحق بأفق الملائكة وهي الجنة العليا وهي جنة الملائكة ، فإن كانت نفسا شقية كان كمالا باعتبار تخليصها عن المادة ونقصانا من حيث تتخلف عن الجنبة العليل فلا تزال كئيبة حزينة على جسمها وملاذها وحواسها ، فإنها لم تعهد تركه قط ولم ترتض ذاتها على ترك الملاذ وكانت حين نزعها كثيبة على البدن فلا تزال في حسرة وندامة وألم ونهش وعقارب وحيات وسلاسل وأغلال أبد الآبدين ودهر الداهرين إلا من شاء ربك (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧]. فإذا واجب على كل من رزقه الله تعالى عقلا وميز بارئه ونفسه أن يسعى في حيلة الخلاص وليكن في أثناء الحيل الدنيوية والأخروية وذلك هو السعيد المطلق ، وليكن في الدنيا كمن امتحنه سلطان زمانه وبعثه إلى أرض يكرهها ويكره أهلها وأغذيتهم ولغتهم ، فإذا حصل بينهم علم أنه متى اعتزلهم وتركهم قتلوه وعذبوه ، وإن خالطهم كفوا عنه فيكون أبدا يعاملهم بظاهرة فيكلمهم ويأكل معهم ، ولكن قلبه وهمته وعشقه لقطره الذي خرج منه ، فإذا أخرجه الملك من بينهم ورده إلى قطره كان فرحا على مفارقتهم مسرورا لقطره ، فلو عكف عليهم وصرف همته إليهم ثم بعث إليه لكان خروجه خروجا كدرا ، فإنه ربما عشق نساءهم وسيرتهم فلا يزال معذبا وهذا غاية البيان في معنى الموت ، وقد فهمت العالم بأسره وحقائقه فإن أنت استعملت ذهنك وفكرتك حتى انفهم لك ذلك كنت ربانيا ونعم العبد لبارئك ، وناسبت الملائكة فوقعت المحبة والألفة بينكما ، وإن أنت لم تعبأ به ولم تعول عليه أو علمت ظاهره دون باطنه فما أقل نفعك به وما أعظم حسرتك. أعاذنا الله وإياك من ذلك هذا تمام السبعة المعارج التي تستعمل فيها القوة الفكرية وهي نهاية الغرض الذي أوردناه ، وربما تقربنا إلى الله تعالى ورغبنا فيما عنده في أن ننبه على الأشياء التي تكون ميزانا ومرآة للقوة المفكرة حتى لا تغلط في أكثر تصرفاتها ، فإن خلاف الناس قد كثر ومذاهبهم جمة لا تنحصر ، ومن عول على أخذ العلم عن إمام لا سيما مذهب الإمامية ، فإنهم زعموا أن الأرض لا تخلو طرفة عين من إمام قائم لله تعالى بحجة يخرج الخلق من التخمين إلى اليقين وينجيهم من ظلمات الشكوك ، فعلى مذهبهم لا يضر إن سافر الإنسان عن الإمام وزال عن بلده والمسائل أبدا لا تنحصر ، فيحتاج أن يراجعه في كل دقيق وجليل. وحق هذا التنبيه أن يكون مستقبلا بنفسه مستوعبا في أسفار كثيرة ومجلدات عديدة ، ولكن صادفت بالرغبة أيها الأخ قلبا مشتغلا مشتبك الفكر ولسانا كليلا قد تخمر بين أمور متنافرة وبقي معلقا بين الدنيا والآخرة ، فإن تلافاه الله سبحانه بدعاء الصلحاء وضراعة الأصدقاء والأصفياء ، وإلا قلّ أشياؤه وعاش معيشة ضنكا في دنياه ، والله سبحانه ينفع بعضا ببعض بعزته.

٨٦

السعادة ضربان سعادة مطلقة وسعادة مقيدة

فأما السعادة المطلقة ، ما اتصلت في الدنيا إلى ما لا نهاية له. والمقيدة ، ما كانت مقصورة على حال أو زمان. وكل سعادة فبسبب والسبب من أنواع الحجج ، فأما السعادة المقيدة فتحصل بأربعة أسباب : أعلى الأسباب العلمية احترازا عن الحرف والصناعات وهي إما سفسطة ، وإما خطابة ، وإما جدل ، وإما شعر ، أما السفسطة فنهايتها وغرضها لا مقصودها أن تؤلف قياسا وتنظم حجة تشبه الحق ، وليست بحق بنفسها لتغلب خصمك من حيث لا يشعر ، كما أنك إذا قلت : أليس النجار صانعا ، فيقول : نعم ، فتقول : أليس هو جسما؟ فيقول : أليس البارئ سبحانه صانعا؟ فتقول : نعم ، فيقول : فهو إذا جسم. فهذا قياس مؤلف ولكنه فاسد وسفسطة ومباهتة ، ودخل من الفساد قوله : فكل صانع جسم فإنه خطأ ، وإلا فما الدليل عليه؟ فنهاية سعادة هذا التمويه على الخصم وهي منقسمة إلى التلبيس في النظم كما قدمناه ، وإلى التلبيس في شبه الحروف والأسماء ، كما إذا قلت : العين تبصر والدينار عين فالدينار يبصر فهذا غلط من جهة اشتراك الاسم وحده أن تقول حد الدينار غير حد العين فهما مختلفان في الحد والحقيقة ، وكذلك في النقط مثل قوله تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) [الأعراف : ١٥٦]. ومن أساء ، واستيعاب هذا يحتاج إلى مجلدة ، وأما الخطابة ، فغرضها إقناع للسامع بما تسكن نفسه إليه سكونا تاما من غير أن تبلغ اليقين ، وهذا كما يفعله الخطيب من الناس ، فإنه ينظم كلاما عذبا مشجعا يذكرهم الموت ويفزعهم ويخوفهم ، وغرضه الإيقاع في نفسهم. وأما الشاعر ، فغرضه الإيقاع في النفس وتحريك القوة الشهوانية والغضبية بأن يشبه الأشياء بعضها ببعض كقول القائل:

هو البحر غص فيه إذا كان راكدا

على الدّرّ واحذره إذا كان مزبدا

فهذا إذا سمعه الممدوح انبسطت له نفسه ، لأنه شبه جوده واتساعه بالبحر ، وأنه ذو صولة كالبحر ، وقد يحرك الشاعر القوة الغضبية كقول القائل :

لو كان يخفى عن الرّحمن خافية

من العباد خفت عنه بنو أسد

وكقول بعض الشعراء ينفر زوجته عن النكاح :

فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا

أغمّ القفا والوجه جعد الأنامل

حتى أن الإنسان يشبه له الشيء الحسن بالقبيح فينافره ، كما إذا قيل له وقد شرب في محجمته خرجت من كور الزجاج فيقال له بها يمص الدم للمجذوم والمبروص فينافرها ولا يشرب بها ، وكما إذا أرسل عليه حبل ثم قيل له : عليك نفر ، وقيل له : إن هذا العسل أصفر كأنه عذرة نفر من ذلك واستبشعه ، فهذا غرض الخطابة والشعر ، وأما الجدل فغايته غلبة من يخاطبه بأشياء مشهورة كما قال تعالى لليهود : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦]. فإنه علم في العادة أن المحب يحب لقاء الحبيب ،

٨٧

وتأليف القياس فيه أن يقال : إن كنت تحب لقاء زيد فأنت صديقه لكنك تحب لقاءه فأنت إذا صديقه ، فيجيء البيان فيه على وفق المقدمة. ونظم القياس لليهود أن يقال : إن كان اليهودي يحب لقاء الله تعالى فهو ولي ، لكنه يكره لقاء الله تعالى فإذا ليس هو بولي ، وكما قال إبراهيم عليه‌السلام للذي حاجّه (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ). فغاية هذه العلوم موقوفة على منافع دنيوية إلا أن تصرف إلى الآخرة ، كما فعلت الأنبياء عليهم‌السلام في خطاباتهم وجدلهم ، فالدنيا ركاب الآخرة وهي مضرة إذا طلبت لنفسها ، ونافعة إذا طلبت للآخرة فإذا مقدار سعادة هذه العلوم ما يقصد مقدار بها.

وأما العلوم التي يطلب بها السعادة العلمية النافعة فتنقسم إلى أربعة أقسام : طبيعية ورياضية وسياسية وإلهية ، والغرض بالطبيعية معرفة العالم وتركيبه ومزاجه ومعرفة النباتات والحيوان والمعادن والأمراض والأمزجة وصلاحها وفسادها ، وهو خادم معين كالخبز والغذاء للإنسان وكذلك هو مع تلك العلوم.

وأما الرياضيات فأربعة أنواع : الهندسة والحساب والمنطق والنجوم فأما الهندسة : فمقصودها معرفة الأطوال والكميات والمقادير وهي آلة يستعان بها. والحساب غرضه معلوم. والمنطق غرضه تمييز الأمور العقلية من المحسوسات وتمييز البرهان من الشك في الاعتقاد. وأما علم النجوم فمقصوده معرفة الأفلاك وحركاتها وكواكبها وسائر أحكامها ، وفائدته معرفة الكائنات.

وأما الإلهيات فمقصوده أربعة أشياء العلم بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

وأما السياسة فمقصوده تهذيب النفس في جلب منفعة ودفع مضرة ما عاجلة. والخلق مع سائر هذه العلوم وهي معهم إما كالغذاء لهم وإما كالدواء والرسل مبعوثون لتبيين الجميع ومقاديرها في السعادة على ما ذكرنا لكن تختلف أشخاص الناس وحالاتهم على اختلاف قرائحهم وغرائزهم ومقدار قبولهم وعقولهم والتقسيم يأتي على هذه النسبة فنقول : أما ما هو كالغذاء فكالعلوم الإلهية فلا غناء بأحد منها فإن سائر هذه العلوم دورانها على بيانه والخالق هو الأصل ولا حال لمن جهل باريه وأما ما هو كالدواء فيخص ويعم في بعض العلوم السياسية وهي ما تعلق منها بفروض الأعيان ، فعلى كل شخص أن يعرف هذا في العلم السياسي ، وأما في غيره من العلوم فيستعمل الإنسان منه مقدار حاجته إن احتاج إليه ، وإلا فالاشتغال بما يفيد أحسن إذ الإنسان ذو شغل كثير. وأما ما هو كالداء فهو يضر بالنسبة إلى حالات الأشخاص وهو كل شيء متى أوصلناه إلى شخص وجدناه يضربه فهو دواء في حقه ، فإن العسل وإن كان حلوا عند من أفرط عليه البلغم ، فهو مر عند من أفرطت عليه المرة الصفراء إذ هو في حقه داء. والعلوم إنما هي بالإضافة فلقد يوجد الله تعالى :

خلق تضرّ الحقائق بهم

كما تضرّ رياح الورد بالجعل

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدّثوا النّاس بما يفهمون». وقال عيسى عليه‌السلام : لا تعلقوا الدّرّ في أعناق

٨٨

الخنازير :

فمن منح الجهّال علما أضاعه

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

فإن قلت : هذا لا شك فيه غير أن العلوم الإلهية يختلف فيها وقد كثرت فرق الإسلاميين فعلى رأي من أعول. فاعلم يا أخي أنك متى كنت ذاهبا إلى تعرف الحق بالرجال من غير أن تتكل على بصيرتك فقد ضل سعيك ، فإن العالم من الرجال إنما هو كالشمس أو كالسراج يعطي الضوء ، ثم انظر ببصرك فإن كنت أعمى فما يغني عنك السراج والشمس فمن عول على التقليد هلك هلاكا مطلقا.

فإن قلت : فكيف الخلاص فيه؟ فهذا الآن حديث يطول ويحتاج إلى إطناب وإسهاب ، وقد أعلمتك أني مشتغل مبدد لشمل النفس كليل الخاطر ، ولكن لتعلم أن الأوصاف الراجعة إلى الله تعالى تنقسم إلى ثلاثة أقسام : إما وصف يجب له ، وإما مستحيل عليه ، وإما جائز في حكمه فلا يتلقف أحد الجائزين بسبب إلا من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل واجب ، أو مستحيل فخذه من جهة العقل.

فإن قلت : ذلك اطلب فمن أين آخذه وكيف أتوصل إليه؟ فأقول : سأبين لك منه مقدارا يليق بهذه العجالة.

فإن قلت : وكيف أصنع أيضا في فروع الأحكام وهي الأمور السياسية ، فقد اختلفت الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم؟ فأقول : فإذا الاشكال من جهة الخلاف في أصول الدين وفروعه ، وقد كشف العي في أصول الدين ووعدتك بالباقي ، وأما الخلاف في الفروع فلك فيه حيلتان : إحداهما أن تعرف أصول الفقه وأحكام الشريعة معرفة دون تقليل ، ثم تعمل بما علمته وتترك الناس جانبا خالفت أو وافقت فهذه حيلة وقد جعلت في ذلك كتابا سميته (برسالة الأقطاب) تختص بأصول الفقه خاصة على الطريق البرهاني ، فإن شئت فاحفظها واحفظ أحكام الحديث والسنة أو تكون عندك كتبها وذلك منحصر في ثلاثة أسفار : أما أحكام الحديث فقد جمعها الزبدوني وأحكمها الفرائض لإسماعيل القاضي وغيره ، وأحكمها الأحكام لأبي الحسن الطبري الملقب بشفاء العليل ، وبأصول الفقه تهتدي إلى ما غاب عنك. فإن تعذر هذا عليك فعليك بجملة ثانية وهو أن تنظر كل مختلف فتصير إلى الطرف الأكمل. مثال ذلك مذهب أبي حنيفة في التوضؤ بالنبيذ ، فاستعمل أنت مذهب مالك في تركه فهو أحوط ، وكذلك مذهب الشافعي في التوجيه والبسملة وقراءة أم القرآن في الصلاة فاستعمله فهو أحوط من مذهب مالك فيه ، فهاتان حيلتان لطريق الكمال. فإن عجزت عنهما فعليك بتقليد إمام واحد فاعمل على مذهبه ، فإحكام الظاهر يسير الخطب قد فهمت هذا وإنما المشكل علي هو أمر الأمور العقلية حتى أميز فيها الحق من الباطل ، فقد علمت من هذا طريق الخلاص في الفروع ، فاعلم أن الأمور التي تخوض فيها قوة المفكرة ترجع إلى أربعة أقسام : معقولات

٨٩

ومحسوسات ومقبولات ومشهورات.

فأما المعقولات : فما لا يدرك إلا بالعقل على التجريد كعلمنا أن الضدين لا يجتمعان ، وأن الشيء لا يصح أن يكون متحركا ساكنا في حال واحدة وأن الواحد قبل الاثنين ، وأن الحادث له أول وأن ما كان مع الحوادث معية زمانية فهو حادث فكل ما لا تدريه إلا من جهة العقل.

وأما المحسوسات : فما تدريه من جهة الحواس الخمس كالفرق بين الألوان والفرق بين الطعوم وبين الملموسات ، والفرق بين المسموعات ، والفرق بين المشمومات ، والفرق بين المذوقات.

وأما المشهورات : فهي العادات الراجعة إلى عادات الخلق والبلاد والأمم والأزمنة ، كعادة الناس في اللباس والفرح والأغاني والأحاديث والسير الكريمة كترك الظلم وبر الوالدين وشكر المنعم والكف عن الجار والنصفة من الظالم وإفشاء السلام التي هي الآن متممات الأحكام الشرعية ، وهي من قبل الرسل تعقل. وقد كانت العرب وسائر الأمم السالفة كالهند وغيرهم يستنون بذلك. وعلى الجملة : لكل أمة ملك يحمي من الظلم وبذلك قوام العالم.

أما المقبولات : فما أخذ من طريق الأخبار وهو كل ما يخبر به العدل الثقة أو الثقات فمتى ورد عليك شيء من أي علم كان وفرع سمعك ، أو أورد عليك فانظر وسل من أي قبيل هو من هذه الأربعة أقسام. فأما العقليات فلا تتبدل أحكامها عما هي عليه في العقل. والمحسوسات لا تتبدل ولكن يتطرق إليها الغلط بآفات تحدث في الآلات الجسمانية.

وأما المقبولات والمشهورات ، فغير موثوق بها فإنها تختلف باختلاف الأمم والبلاد وحالات الأشخاص ، فألحق كل قبيل بقبيله وميزه من سواه فلا تغلط أبد الآباد ، فما قام عندك من دليل عقل أو حس على شيء وتصححت أجزاء حده وبرهانه وتبرهن لك البرهان على صحة تلك الأجزاء والبرهان تبرهن به على مطلوبك فهو برهان حق ، وما ورد عليك مما سوى ذلك فأنزله على مرتبته فلا تعد شيئا من حده ولا تجعل المقبول معقولا ولا المعقول مقبولا ولا المشهور محسوسا ولا المحسوس مشهورا. ثم انظر كيف مأخذ المقبول مثل أن القرآن معجزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتعلم قطعا أن هذا القرآن مأخوذ عن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الكائن بمكة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك تعلم وجوده وسيرته المستفيضة.

وأما الأحكام ، فمآخذها مقبولة ولا يلزم أن تبرهن لنا لأن الخلق محتاجون إليها ، ولو أدركوا الأحكام بعقولهم لما كانت فائدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا لم يكن في عقولهم استقلال بها أولا فكذلك آخرا إذا اتصلت بهم ، فلذلك لم يطلب أن يقوم على الأحكام برهان.

وهذا منتهى ما أردنا أن نشير به من المدخل إلى العلوم الإلهية وننبه به على الأسرار الروحانية فإن ساعد الدهر السليم ، والغريزة المعتدلة على إلحاق ما في معناه به كفي

٩٠

المسترشد وإلا تشوق إلى المطالعة ، والرب تبارك وتعالى المسئول أن يلم الشعث ويجبر الصدع وينير البصيرة ويجري على اللسان الصدق ويختم بالخير ، ويجعلنا به وله فيما نأتي ونذر ، وأن يتجاوز عنا إذا وفدنا إليه محتاجين إلى عفوه ، فقراء إلى فضله ، منقطعين عن الأهل والوطن ، مخلفين الأبناء ، مبعدين عن الآباء. قد حيل بيننا وبين القريب والصاحب ونفانا الموالي والأقارب ، إذا برقت العين وجفت الشفة ويبست القدم وحيث لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون. لا يستجيب لمن دعاه لا يرى شق الجيوب عليه حين وفاته. أذكركم الله تعالى إخواني وأوصيكم به فكونوا به ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. ثم الصلاة والسلام على نبي الرحمة وشفيع الأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ، والحمد لله رب العالمين.

٩١

روضة الطالبين

و

عمدة السّالكين

٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الكتاب

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي تغمده الله برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته :

الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنيران محبته ، واستوفى هممهم وأرواحهم بالشوق إلى لقائه ومشاهدته ، ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته حتى أصبحوا من نسيم روح الوصال سكرى وأصبحت قلوبهم من ملاحظة الجلال والهيبة حيرى ، فلم يروا في الكونين إلا إياه ، وإن سنحت لأبصارهم صور عبرت إلى المصور بصائرهم ، وإن قرعت أسماعهم نغمة سبقت إلى المحبوب سرائرهم ، وإن ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مهيج أو مشوق لم يكن انزعاجهم إلا إليه ولا طربهم إلا به ، ولا قلقهم إلا عليه ، ولا حزنهم إلا فيه ، ولا شوقهم إلا إلى ما لديه ، ولا انبعاثهم إلا له ، ولا ترددهم إلا حواليه فمنه سماعهم ، وإليه استماعهم فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم. أولئك الذين اصطفاهم لولايته واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته ، وصلّى الله على المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته وسلّم تسليما.

أما بعد : فقد ألفت هذا الكتاب ليتمسك به طالب الحق ويستعين به على سلوكه إن شاء الله تعالى ، وأستعين في ذلك بالله تعالى من الخلل والزلل وهو خير ناصر ومعين وإياه أسأل أن ينفع به إنه قريب مجيب وسميته : (روضة الطالبين وعمدة السالكين) وفيه أبواب ومقدمة وفصول :

الباب الأول :

في بيان أركان الدين.

الباب الثاني :

في بيان معنى الأدب.

الباب الثالث :

في بيان معنى السلوك والتصوف.

الباب الرابع :

في بيان الوصول والوصال.

الباب الخامس :

في بيان معنى التوحيد والمعرفة.

الباب السادس :

في بيان النفس والروح والقلب والعقل.

الباب السابع :

في بيان معنى المحبة.

الباب الثامن :

في بيان معنى الأنس بالله تعالى.

٩٣

الباب التاسع :

في بيان معنى الحياء والمراقبة.

الباب العاشر :

في بيان معنى القرب.

الباب الحادي عشر :

في بيان شرف العلم ووجوب طلبه.

الباب الثاني عشر :

في بيان معنى الأسماء الحسنى.

الباب الثالث عشر :

في بيان الاعتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة.

الباب الرابع عشر :

في بيان صفات الله تعالى.

الباب الخامس عشر :

في بيان معنى حقيقة الإخلاص.

الباب السادس عشر :

في الرد على من أجاز الصغائر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الباب السابع عشر :

في بيان الخواطر وأقسامها.

الباب الثامن عشر :

في بيان معنى آفات اللسان.

الباب التاسع عشر :

في البطن وحفظه.

الباب العشرون :

في بيان الشيطان ومخادعاته.

الباب الحادي والعشرون :

في بيان ما تجب رعايته.

الباب الثاني والعشرون :

في بيان معنى حسن الخلق وسوئه.

الباب الثالث والعشرون :

في بيان معنى الفكر.

الباب الرابع والعشرون :

في بيان معنى التوبة.

الباب الخامس والعشرون :

في بيان الصبر.

الباب السادس والعشرون :

في بيان الخوف.

الباب السابع والعشرون :

في بيان الرجاء.

الباب الثامن والعشرون :

في بيان الفقر.

الباب التاسع والعشرون :

في بيان الزهد.

الباب الثلاثون :

في بيان المحاسبة.

الباب الحادي والثلاثون :

في بيان الشكر.

الباب الثاني والثلاثون :

في بيان التوكل.

الباب الثالث والثلاثون :

في النية.

الباب الرابع والثلاثون :

في بيان الصدق.

٩٤

الباب الخامس والثلاثون :

في بيان الرضا.

الباب السادس والثلاثون :

في بيان النهي عن الغيبة.

الباب السابع والثلاثون :

في بيان الفتوة.

الباب الثامن والثلاثون :

في بيان مكارم الأخلاق.

الباب التاسع والثلاثون :

في بيان القناعة.

الباب الأربعون :

في بيان السائل.

الباب الحادي والأربعون :

في الشفقة على خلق الله تعالى.

الباب الثاني والأربعون :

في بيان آفة الذنوب.

الباب الثالث والأربعون :

في صفة صلاة أهل القرب.

المقدمة في تمهيد الكتاب

اعلم أن انقطاع الخلق عن الحق بوقوفهم مع الخلق ومع أنفسهم ورؤيتهم أفعالهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة باختلاف أهويتهم التي نفوس البشر مجبولة عليها وحب الجاه والمال والدنيا والرئاسة والشهرة وطول الأمل والتسويف والشح والهوى والعجب وفحش أغذيتهم من المطعم والمشرب والملبس وفساد دنياهم وغلبة الشهوات النفسانية على قلوبهم. وترك مجاهدة النفس وإهمالها ترفع في شهواتها ورعونتها والتزين للناس والتلبس بالأوصاف المذمومة نحو الغل والحقد والحسد والجهل والحمق والرياء والنفاق ، وانبعاث الجوارح في غير طاعة الله تعالى كالعين والسمع واللسان واليد والرجل : (كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦]. والكسل والبلادة والغفلة وغير ذلك مما يبعد عن الله تعالى.

فصل في أن ما سوى الحق حجاب عنه

اعلم أن الوقوف مع الخلق والنفس حجاب عن الحق ورؤية الأفعال شرك ، لأن أفعال العباد مضافة الى الله تعالى خلقا وإيجادا والى العبد كسبا ليثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية ، فحين تعلق العبد بشيء ما يوجده الاقتدار الإلهي يسمى كسبا. هذا مذهب أهل السنة ، فقدرة العبد عند مباشرة العمل لا قبله فحينما يباشر العمل يخلق الله تعالى له اقتدارا عند مباشرته فيسمى كسبا. فمن نسب المشيئة والكسب الى نفسه فهو قدري ، ومن نفاهما عن نفسه فهو جبري ، ومن نسب المشيئة الى الله تعالى والكسب الى العبد فهو سني صوفي رشيد ، وفيه كلام طويل ليس هذا موضعه ، سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وأما الانحراف عن العقيدة الصحيحة ، فلغلبة الأهواء على القلوب والتعصب لمذهب أهل البدع. قال بعض الأئمة : رب أقوام تنجيهم عقائدهم مع قلة عملهم ، ورب أقوام تهلكهم عقائدهم

٩٥

مع كثرة عملهم ، وحب الجاه والمال والدنيا سم قاتل ، والرئاسة والشهرة يورثان الكبر والدخول في الدنيا وهما فساد الدين. قال بعضهم : ما عملت عملا واطّلع عليه الناس إلا أسقطته.

وأما طول الأمل : فإنه يمنع من حسن العمل ويصد عن الحق والتسويف من أعظم جنود الشيطان ، وأما الشح والهوى وإعجاب المرء بنفسه : فهن من المهلكات ...

وأما فحش الغذاء : فإنه يظلم القلب ويورث القسوة والبعد عن الله تعالى ، وطيب الغذاء ينور القلب ويورث الرقة والقرب من الله عزوجل. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] والطيبات هي الحلال : أطب مطعمك ومشربك وما عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار ، وطيب المطعم أصل كبير في طريق القوم ، ولو قام العبد قيام السارية لم ينفعه ذلك ، حتى يعلم ما يدخل جوفه. وأسرع الناس جوازا على الصراط أكثرهم ورعا في الدنيا. يقول الله عزوجل : «عبدي تجوع تراني تورع تعرفني تجرد تصل إليّ» قال الله تعالى :» وأما الورعون فأستحيي أن أعذبهم» قال بعض السادة من الأكابر : عليك بالعلم والجوع والخمول والصوم فإن العلم نور يستضاء به ، والجوع حكمة. قال أبو يزيد : ما جعت لله يوما إلا وجدت في قلبي بابا من الحكمة لم أجده قبل. والخمول راحة وسلامة ، والصوم صفة صمدانية ما مثلها شيء لقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. فمن تلبس بها أورث العلم والمعرفة والمشاهدة ، ولذلك قال تعالى :» كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به». ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك والاشتغال بالدنيا وغلبة الشهوات على القلب يورث جميع الأوصاف المذمومة فلا طمع في القرب ما لم تبدل الأوصاف المذمومة بالمحمودة.

قال بعضهم : ما دام العبد ملوثا بالغير لا يصلح للقرب والمجالسة حتى يطهر قلبه من السوى. قال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن لأنها بالطهارة تترقى الى مشاهدة المتكلم دون غيره.

فصل

اعلم أن ما سوى الحق حجاب عنه. ولو لا ظلمة الكون لظهر نور الغيب ، ولو لا فتنة النفس لارتفعت الحجب ، ولو لا العوائق لانكشفت الحقائق ، ولو لا العلل لبرزت القدرة ، ولو لا الطمع لرسخت المحبة ، ولو لا حظ باق لأحرق الأرواح الاشتياق ، ولو لا البعد لشوهد الرب ، فإذا انكشف الحجاب تجشم هذه الأسباب وارتفعت العوائق بقطع هذه العلائق :

بدا لك سرّ طال عنك اكتتامه

ولاح صباح كنت أنت ظلامه

فأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه

ولولاك لم يطبع عليك ختامه

فإن غبت عنه حلّ فيه وطنبت

على منكب الكشف المصون خيامه

٩٦

وجاء حديث لا يملّ سماعه

شهيّ إلينا نثره ونظامه

قال بعضهم : إذا أراد الله بعبد سوءا سدّ عليه باب العمل وفتح عليه باب الكسل. جاء رجل إلى معاذ فقال : أخبرني عن رجلين أحدهما يجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتوره الشك. قال معاذ : ليحبطن شكه أعماله. قال : فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت. فقال : والله لئن أحبط شك الأول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها. قال فأخذه معاذ بيده. وقال : ما رأيت الذي هو أفقه من هذا.

فصل في عمل أبي يزيد البسطامي

قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : مكثت اثنتي عشرة سنة حدّاد نفسي ، وخمس سنين كنت أجلو مرآة قلبي ، وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطي زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي فرأيت الخلق موتى فكبّرت عليهم أربع تكبيرات.

ومعنى هذا الكلام. والله أعلم. أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما هو من مألوفات النفس ، فعمد إلى إزالة ذلك بأن أدخل نفسه كير التخويف ، ثم طرقها بمطارق الأمر والنهي حتى أجهده ذلك. فظن أنها قد تصفت ، ثم نظر في مرآة إخلاص قلبه ، فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى الأعمال وملاحظة الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب. وهذا شرك في الإخلاص عند أهل الاختصاص وهو الزنار الذي أشار إليه فعمل في قطعه : يعني قطع نفسه وفطمها عن العلائق والعوائق وأعرض عن الخلائق حتى أمات من نفسه ما كان حيا وأحيا من قلبه ما كان ميتا حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه منزلة العدم. فعند ذلك كبّر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف الى الحق ، ومعنى قوله : كبرت على الخلق أربع تكبيرات لأن الميت يكبر عليه أربع تكبيرات ، ولأن حجاب الخلق عن الحق أربع : النفس ، والهوى ، والشيطان ، والدنيا. فأمات نفسه وهواه ورفض شيطانه ودنياه فلذلك كبّر على كل واحدة ممن فني عنه تكبيرة لأنه هو الأكبر وما سواه أذل وأصغر ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات :

العقبة الأولى : فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.

العقبة الثانية : فطم النفس عن المألوفات العادية.

العقبة الثالثة : فطم القلب عن الرعونات البشرية.

العقبة الرابعة : فطم السر عن الكدورات الطبيعية.

العقبة الخامسة : فطم الروح عن البخارات الحسية.

العقبة السادسة : فطم العقل عن الخيالات الوهمية.

٩٧

فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية ، وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية وتلوح لك من العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية ، وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القريبة ، وتطلع لك في الخامسة أقمار المشاهدات الحبية ، وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية. فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائف الأنسية عن الكثائف الحسية. فإذا أرادك بخصوصيته الاصطفائية سقاك بكأس محبته شربة فتزداد بذلك الشرب ظمأ وبالذوق شوقا ، وبالقرب طلبا وبالسكون قلقا. فإذا تمكن منك هذا السكر أدهشك فإذا أدهشك حيرك ، فأنت هاهنا مريد ، فإذا دام لك تحيرك أخذك منك وسلبك عنك فتبقى مسلوبا مجذوبا فأنت حينئذ مراد. فإذا فنيت ذاتك وذهبت صفاتك وفنيت ببقائه عن فنائك وخلع عليك خلعة (فبي يسمع وبي يبصر) فيكون هو متوليك وواليك ، فإن نطقت فبأذكاره وإن نظرت فبأنواره ، وإن تحركت فبإقداره ، وإن بطشت فباقتداره ، فهنالك تذهب الاثنينية واستحالت البينية ، فإن رسخ قدمك وتمكن سرك حال سكرك. قلت : هو وإن غلب عليك وجدك وتجاوز بك حدك عن حد الثبوت. قلت أنت : فأنت في الأول متمكن ، وفي الثاني متلون ومن هنا أشكل على الأفهام حل رمز هذا الكلام.

الباب الأول

في بيان أركان الدين

اعلم أن كلمتي الشهادة على إيجازهما يتضمنان إثبات ذات الإله سبحانه وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبناء الإيمان على هذه الأركان الأربعة :

الركن الأول : في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي : العلم بوجود الله تعالى ، وقدمه وبقائه ، وأنه ليس بجوهر ولا جسم ، ولا عرض ، وأنه ليس بمختص بجهة ، ولا مستقر على مكان ، وأنه يرى وأنه واحد.

الركن الثاني : في معرفة صفات الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي : العلم بكونه تعالى حيا ، عالما ، قادرا ، مريدا ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ، صادقا في أخباره ، منزها عن حلول الحوادث ، وأنه قديم الصفات.

الركن الثالث : في معرفة أفعال الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي : أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ومرادة له وأنها مكتسبة لهم ، وأنه متفضل بالخلق ، وأن له تكليف ما لا يطاق ، وله إيلام البريء ولا يجيب عليه رعاية الأصلح ، وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم جائزة ، وأن نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابتة مؤيدة بالمعجزات.

الركن الرابع : في السمعيات ومداره على عشرة أصول وهي : الحشر والنشر ، وعذاب القبر ، وسؤال منكر ونكير ، والميزان ، والصراط ، وخلق الجنة والنار ، وأحكام الإمامة.

٩٨

الباب الثاني

في بيان الأدب

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». والأدب تأديب الظاهر والباطن ، فإذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار صوفيا أديبا ، ومن ألزم نفسه آداب السنة نوّر الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولا وفعلا وعقدا ونية. والإنصاف فيما بين الله تعالى وبين العبد في ثلاثة : في الاستعانة والجهد والأدب ، فمن العبد الاستعانة ، ومن الله الإعانة على التوبة ، ومن العبد الجهد ، ومن الله التوفيق ، ومن العبد الأدب ، ومن الله الكرامة. ومن تأدب بآداب الصالحين ، فإنه يصلح لبساط الكرامة ، وبآداب الأولياء لبساط القربة ، وبآداب الصديقين لبساط المشاهدة ، وبآداب الأنبياء لبساط الأنس والانبساط ، ومن حرم الأدب حرم جوامع الخيرات ، ومن لم تريضه أوامر المشايخ وتأديباتهم ، فإنه لا يتأدب بكتاب ولا سنة ، ومن لم يقم بآداب أهل البداية كيف يستقيم له دعوى مقامات أهل النهاية. ومن لم يعرف الله عزوجل لم يقبل عليه ، ومن لم يتأدب بأمره ونهيه كان عن الأدب في عزلة. وآداب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها برؤية مجريها. العبد يصل بطاعته إلى الجنة وبأدبه الى الله تعالى ، والتوحيد موجب يوجب الإيمان فمن لا إيمان له لا توحيد له والإيمان موجب يوجب الشريعة فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد له ، والشريعة موجب يوجب الأدب فمن لا أدب له فلا شريعة له ولا إيمان له ولا توحيد له ، وترك الأدب موجب يوجب الطرد ، فمن أساء الأدب على البساط رد الى الباب ، ومن أساء الأدب على الباب رد الى سياسة الدواب ، وأنفع الآداب التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك وإذا ترك العارف أدبه مع معروفة فقد هلك مع الهالكين.

وقيل : ثلاث خصال ليس معهن غربة : مجانبة أهل الريب ، وحسن الأدب ، وكف الأذى ، وأهل الدين أكثر آدابهم في تهذيب النفوس ، وتأديب الجوارح ، وحفظ الحدود ، وترك الشهوات ، وأهل الخصوصية أكثر آدابهم في طهارة القلوب ، ومراعاة الأسرار ، والوفاء بالعهود ، وحفظ الوقت ، وقلة الالتفات الى الخواطر ، وحسن الأدب في مواقف الطلب ، وإدمان الحضور ، ومن قهر نفسه بالأدب فهو الذي يعبد الله بالإخلاص. وقيل : هو معرفة اليقين. وقيل : يقول الحق سبحانه : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ، ومن أراد الكشف عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب ، فاختر أيهما شئت : الأدب أو العطب؟ ومن لم يتأدب للوقت فوقته مقت ، وإذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء.

وحكي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال : دخلت مكة فربما كنت أقعد بحذاء الكعبة وربما كنت أستلقي وأمد رجلي فجاءتني عائشة المكية فقالت لي : يا أبا عبيد : يقال إنك من أهل العلم اقبل مني كلمة لا تجالسه إلا بالأدب وإلا فيمحى اسمك من ديوان أهل القرب ،

٩٩

قال أبو عبيد : وكانت من العارفات وقال بعضهم : الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في ظاهر إلا عوقب ظاهرا ، وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا فالأدب استخراج ما في القوة والخلق الى الفعل وهذا يكون لمن ركبت السجية الصالحة فيه والسجية فعل الحق لا قدرة للبشر على تكوينها كتكوّن النار في الزناد إذ هو فعل الله المحض واستخراجه بكسب الآدمي فهكذا الآداب منبعها بالسجايا الصالحية والمنح الإلهية ، ولما هيأ الله تعالى بواطن الصوفية بتكميل السجايا الكاملة فيها تواصلوا بحسن الممارسة والرياضة الى استخراج ما في النفوس مركوزة بخلق الله الى الفعل فصاروا مؤدبين مهذبين.

فصل في آداب أهل الحضرة الإلهية لأهل القرب

كل الآداب تتلقى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجمع الآداب ظاهرا وباطنا ، وأخبر الله سبحانه عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧]. وهذه غامضة من غوامض الآداب اختص بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر الله عن اعتدال قلبه المقدس في الإعراض والإقبال أعرض عما سوى الله ، وتوجه الى الله ، وترك وراء ظهره الأرضين والدار العاجلة بحظوظها والسماوات والدار الآخرة بحظوظها ولا لحقه الأسف على الفائت في إعراضه. قال الله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) [الحديد : ٢٣]. فهذا الخطاب للعموم ، وما زاغ البصر إخبار عن حال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم ، فكان ما زاغ البصر حاله في طرف الإعراض ، وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام : قاب قوسين بالروح والقلب ، ثم فرّ من الله حياء منه وهيبة وإجلالا وطوى نفسه في مطاوي انكساره وافتقاره ، لكيلا تنبسط النفس فتطغى ، فإن الطغيان عند الاستغناء وصف النفس. قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ و ٧]. والنفس عند المواهب الواردة على الروح والقلب تسترق السمع ومتى نالت قسطا من المنح استغنت وطغت ، والطغيان يظهر منه فرط البسط ، والإفراط في البسط يسد باب المزيد ، وطغيان النفس لضيق وعائها عن المواهب فموسى عليه‌السلام صح له في الحضرة أحد الطرفين. ما زاغ بصره ، وما التفت الى ما فاته متأسفا لحسن أدبه ، ولكن امتلأ من المنح واسترقت النفس السمع وتطلعت الى القسط والحظ فلما حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل اليها وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط وقال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣]. فمنع ولم يطق صبرا وثباتا في قضاء المزيد وظهر الفرق من الحبيب والكليم عليهما الصلاة والسلام. وقال سهل بن عبد الله التستري : لم يرجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شاهد نفسه ولا الى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا بكليته لربه. يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل وهذا الكلام لمن اعتبره موافق لما شرحناه برمز في ذلك من كلام سهل بن عبد الله ، والله أعلم.

١٠٠