مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانظر إلى تشديده وقوله : ولو وليت لضربت عنقه ، فمثل أولئك السادة الأكابر الذين شاهدوا الوحي والتنزيل واطلعوا على أسرار الدين وحقائقه ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحدهما : " لو لم أبعث لبعث عمر". وقال في الثاني : " أنا مدينة العلم وعلي بابها". يزجرون السائل عن هذا السؤال ، ثم يزعم من بعدهم من المشغوفين بالكلام والمجادلة وممن لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. أن الحق والصواب قبول هذا السؤال والخوض في الجواب وفتح هذا الباب ، ثم يعتقد فيه أنه محق ، وفي عمر وعلي أنهما مبطلان. هيهات ما أبعد عن التحصيل وما أخلى عن الدين من قاس الملائكة بالحدادين ويرجح المجادلين على الأئمة الراشدين والسلف ، فإذا قد عرف علي القطع أن هذه بدعة مخالفة لسنة السلف لا كخوض الفقهاء في التفاريع والتفاصيل ، فإنه ما نقل عنهم زجر عن الخوض فيه ، بل إمعانهم في الخوض ، وأما ما أبدع من فنون المجادلات فهي بدعة مذمومة عند أهل التحصيل ذكرنا وجه ذمها في كتاب قواعد العقائد من كتب الإحياء. وأما مناظراتهم إن كان القصد منها التعاون على البحث عن مأخذ الشرع ومدارك الأحكام ، فهي سنة السلف ولقد كانوا يتشاورون ويتناظرون في المسائل الفقهية كما أبدعوا ألفاظا وعبارات للتنبيه على مقاصدهم الصحيحة فلا حرج في العبارات بل هي مباحة لمن يستعيرها ويستعملها ، وإن كان مقصدهم المذموم من النظر الإفحام دون الإعلام ، والإلزام دون الاستعلام ، فذلك بدعة على خلاف السنة المأثورة.

الباب الثالث في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن

فصل

إن قال قائل : ما الذي دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إطلاق هذه الألفاظ الموهمة مع الاستغناء عنها ، أكان لا يدري أنه يوهم التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلى اعتقاد الباطل في ذات الله تعالى وصفاته ، وحاشا منصب النبوة أن يخفى عليه ذلك ، أو عرف لكن لم يبال بجهل الجهال وضلالة الضلال ، وهذا أبعد وأشنع لأنه بعث شارحا لا مبهما ، ملبسا ملغزا ، وهذا إشكال له وقع في القلوب حتى جرّ بعض الخلق إلى سوء الاعتقاد فيه فقالوا : لو كان نبيا لعرف الله ولو عرفه لما وصفه بما يستحيل عليه في ذاته وصفاته ، ومالت طائفة أخرى إلى اعتقاد الظواهر ، وقالوا : لو لم يكن حقا لما ذكره كذلك مطلقا ولعدل عنها إلى غيرها أو قرنها بما يزيل الإيهام عنها في سبيل حل هذا الإشكال العظيم.

الجواب : أن هذا الإشكال منحل عند أهل البصيرة ، وبيانه أن هذه الكلمات ما جمعها رسول الله دفعة واحدة وما ذكرها ، وإنما جمعها المشبهة وقد بينا أن لجمعها من التأثير في الإيهان والتلبيس على الأفهام ما ليس لآحادها المفرقة ، وإنما هي كلمات لهج بها في جميع عمره في أوقات متباعدة وإذا اقتصر منها على ما في القرآن والأخبار المتواترة رجعت إلى كلمات يسيرة معدودة ، وإن أضيف إليها الأخبار الصحيحة فهي أيضا قليلة ، وإنما كثرت

٣٢١

الروايات الشاذة الضعيفة التي لا يجوز التعويل عليها ، ثم ما تواتر منها إن صح معها إيهام التشبيه وقد أدركها الحاضرون المشاهدون ، فإذا نقل الألفاظ مجردة عن تلك القرائن ظهر الإيهام ، وأعظم القرائن في زوال الإيهام المعرفة السابقة بتقديس الله تعالى عن قبول هذه الظواهر ، ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع ، فينمحق معه الإيهام انمحاقا لا يشك فيه ، ويعرف هذا بأمثلة :

الأول : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى الكعبة بيت الله تعالى ، وإطلاق هذا يوهم عند الصبيان وعند من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه ، لكن العوام الذين اعتقدوا أنه في السماء وأن استقراره على العرش ينمحق في حقهم هذا الإيهام على وجه لا يشكون فيه ، فلو قيل لهم : ما الذي دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إطلاق هذا اللفظ الموهم المخيل إلى السامع أن الكعبة مسكنه لبادروا بأجمعهم ، وقالوا : هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقى. وأما من تكرر على سمعه أن الله مستقر على عرشه ، فلا يشك عند سماع هذا اللفظ أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه ، بل يعلم على البديهة أن المراد بهذه الإضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ البيت المضاف إلى ربه وساكنه. أليس كان اعتقاده أنه على العرش قرينة أفادته علما قطعيا بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته إنه مأواه ، وإن هذا إنما يوهم في حق من لم يسبق إلى هذه العقيدة ، فكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطب بهذه الألفاظ جماعة سبقوا إلى علم التقديس ونفي التشبيه وإنه منزه عن الجسمية وعوارضها ، وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للإيهام لا يبقى معه شك ، وإن جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويلها وتعيين المراد به من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجلالة الله تعالى.

المثال الثاني : إذا جرى لفقيه في كلامه لفظ الصور بين يدي الصبي أو العامي فقال : صورة هذه المسألة كذا وصورة الواقعة كذا ، ولقد صورت للمسألة صورة في غاية الحسن ربما توهم الصبي أو العامي الذي لا يفهم معنى المسألة أن المسألة شيء له صورة ، وفي تلك الصورة أنف وفم وعين على ما عرفه واشتهر عنده ، أما من عرف حقيقة المسألة وإنها عبارة عن علوم مرتبة ترتيبا مخصوصا ، فهل يتصور أن يفهم عينا وأنفا وفما كصورة الأجسام؟ هيهات. بل يكفيه معرفته بأن المسألة منزهة عن الجسمية وعوارضها ، فكذلك معرفة نفي الجسمية عن الإله وتقدسه عنها تكون قرينه في قلب كل مستمع مفهمة لمعنى الصورة في قوله خلق الله آدم على صورته ويتعجب العارف بتقديسه عن الجسمية ممن يتوهم لله تعالى الصوره الجسمية ، كما يتعجب ممن يتوهم للمسألة صورة جسمانية.

المثال الثالث : إذا قال القائل بين يدي الصبي : بغداد في يد الخليفة ربما يتوهم أن بغداد بين أصابعه ، وأنه قد احتوى عليها براحته كما يحتوي على حجره ومدره ، وكذلك كل عامي لم يفهم المراد بلفظ بغداد. أما من علم أن بغداد عبارة عن بلدة كبيرة هل يتصور أن يخطر له ذلك أو يتوهم وهل يتصور أن يعترض على قائله ويقول : لما ذا قلت بغداد في يد الخليفة؟

٣٢٢

وهذا يوهم خلاف الحق ويفضي إلى الجهل حتى يعتقد أن بغداد بين أصابعه بل يقال له : يا سليم القلب هذا إنما يوهم الجهل عند من لا يعرف حقيقة بغداد ، فأما من علمه فبالضرورة يعلم أنه ما أريد بهذه اليد العضو المشتمل على الكف والأصابع بل معنى آخر ولا يحتاج في فهمه إلى قرينة سوى هذه المعرفة ، فكذلك جميع الألفاظ الموهمة في الأخبار يكفي في دفع إيهامها قرينة واحدة وهي معرفة الله ، وإنه ليس من جنس الأجسام ، وهذا مما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنيانه في أول بعثته قبل النطق بهذه الألفاظ.

المثال الرابع : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسائه : " أطولكنّ يدا أسرعكنّ لحاقا بي" فكان بعض نسوته يتعرّف الطول بالمساحة ووضع اليد على اليد ، حتى ذكر لهن أنه أراد بذلك السماحة في الجود دون الطول للعضو ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر هذه اللفظة مع قرينة أفهم بها إرادة الجود بالتعبير بطول اليد عنه ، فلما نقل اللفظ مجردا عن قرينته حصل الإيهام ، فهل كان لأحد أن يعترض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إطلاقه لفظا جهل بعضهم معناه؟ إنما ذلك لأنه أطلق إطلاقا مفهما في حق الحاضرين مقرونا مثلا بذكر السخاوة ، والناقل قد ينقل اللفظ كما سمعه ولا ينقل القرينة ، أو كان بحيث لا يمكن نقلها ، أو ظن أنه لا حاجة إلى نقلها ، وأن من يسمع يفهمه هو كما فهمه هو لما سمعه ، فربما لا يشعر أن فهمه إنما كان بسبب القرينة ، فلذلك يقتصر على نقل اللفظ ، فبمثل هذه الأسباب بقيت الألفاظ مجردة عن قرائنها فقصرت عن التفهيم مع أن قرينة معرفة التقديس بمجردها كافية في نفي الإيهام ، وإن كانت ربما لا تكفي في تعيين المراد به فهذه الدقائق لا بدّ من التنبه لها كالمثال الخامس.

إذا قال القائل بين يدي الصبي ومن يقرب منه درجة ممن لم يمارس الأحوال ، ولا عرف العادات في المجالسات فلان دخل مجمعا وجلس فوق فلان ربما يتوهم السامع الجاهل الغبي أنه جلس على رأسه أو على مكان فوق رأسه ، ومن عرف العادات وعلم أن ما هو أقرب إلى الصدر في الرتبة ، وأن الفوق عبارة عن العلو يفهم منه أنه جلس بجنبه لا فوق رأسه ، لكن جلس أقرب إلى الصدر ، فالاعتراض على من خاطب بهذا الكلام وأهل المعرفة بالعادات من حيث إنه يجهله الصبيان أو الأغبياء اعتراض باطل لا أصل له ، وأمثلة ذلك كثيرة. فقد فهمت على القطع بهذه الأمثلة أن هذه الألفاظ الصريحة انقلبت مفهوماتها عن أوضاعها الصريحة بمجرد قرينة ، ورجعت تلك القرائن إلى معارف سابقة ومقترنة ، فكذلك هذه الظواهر الموهمة انقلبت عن الإيهام بسبب تلك القرائن الكثيرة التي بعضها هي المعارف ، والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا بعبادة الأصنام ، وإن من عبد جسما فقد عبد صنما كان الجسم صغيرا أو كبيرا ، قبيحا أو جميلا ، سافلا أو عاليا على الأرض أو على العرش. وكان نفي الجسمية ونفي لوازمها معلوما لكافتهم على القطع بإعلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبالغة في التنزيه بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. وسورة الإخلاص وقوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢]. وبألفاظ كثيرة لا حصر لها مع قرائن قاطعة

٣٢٣

لا يمكن حكايتها ، وعلم ذلك إلا علما لا ريب فيه وكان ذلك كافيا في تعريفهم استحالة يد هي عضو مركب من لحم وعظم ، وكذا في سائر الظواهر لأنها لا تدل إلا على الجسمية وعوارضها لو أطلق على جسم ولو أطلق على غير الجسم على ضرورة أنه ما أريد به ظاهره بل معنى آخر مما يجوز على الله تعالى ربما يتعين ذلك المعنى وربما لا يتعين ، فهذا مما يزيل الإشكال.

فإن قيل : فلم لم يذكر بألفاظ ناصة عليها بحيث لا يوهم ظاهرها جهلا ولا في حق العامي والصبي؟

قلنا : لأنه إنما كلم الناس بلغة العرب ، وليس في لغة العرب ألفاظ ناصة على تلك المعاني ، فكيف يكون في اللغة لها نصوص وواضع اللغة لم يفهم تلك المعاني ، فكيف وضع لها النصوص بل هي معان أدركت بنور النبوة خاصة أو بنور العقل بعد طول البحث ، وذلك أيضا في بعض تلك الأمور لا في كلها ، فلما لم يكن لها عبارات موضوعة كان استعارة الألفاظ من موضوعات اللغة ضرورة كل ناطق بتلك اللغة ، كما أنا لا نستغني عن أن نقول صورة هذه المسألة كذا وهي تخالف صورة المسألة الأخرى ، وهي مستعارة من الصور الجسمانية ، لكن واضع اللغة لما لم يضع لهيئة المسألة وخصوص ترتيبها اسما نصا إما لأنه لم يفهم المسألة أو فهم ، لكن لم تحضره أو حضرته لكن لم يضع لها نصا خاصا اعتمادا على إمكان الاستعارة أو لأنه علم أنه عاجز عن أن يضع لكل معنى لفظا خاصا ناصا ، لأن المعاني غير متناهية العدد والموضوعات بالقطع يجب أن تناهى فتبقى معان لها يجب أن يستعار اسمها من الموضع ، فاكتفى بوضع البعض وسائر اللغات أشد قصورا من لغة العرب ، فهذا وأمثاله من الضرورة يدعو إلى الاستعارة لمن يتكلم بلغة قوم إذ لا يمكنه أن يخرج عن لغتهم. كيف ، ونحن نجوز الاستعارة حيث لا ضرورة اعتمادا على القرائن ، فإنا لا نفرق بين أن يقول القائل : جلس زيد فوق عمرو ، وبين أن يقول جلس أقرب منه إلى الصدر ، وأن بغداد في ولاية الخليفة أو في يده إذا كان الكلام مع العقلاء ، وليس في الإمكان حفظ الألفاظ عن إفهام الصبيان والجهال ، فالاشتغال بالاحتراز عن ذلك ركاكة في الكلام وسخافة في العقل وثقل في اللفظ.

فإن قيل : فلم لم يكشف الغطاء عن المراد بإطلاق لفظ الإله ولم يقل إنه موجود ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل ولا هو في مكان ولا هو في جهة ، بل الجهات كلها خالية عنه ، فهذا هو الحق عند قوم ، والإفصاح عنه كذلك ، كما أفصح عنه المتكلمون ممكن ولم يكن في عبارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصور ، ولا في رغبته في كشفه الحق فتور ، ولا في معرفته نقصان؟

قلنا : من رأى هذا الحق اعتذر بأن هذا لو ذكره لنفر الناس عن قبوله ، ولبادروا بالإنكار وقالوا : هذا عين المحال ووقعوا في التعطيل ولا خير في المبالغة في تنزيه ينتج التعطيل في حق الكافة إلا الأقلين ، وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا للخلق إلى سعادة الآخرة رحمة للعالمين. كيف ينطق بما فيه هلاك الأكثرين ، بل أمر أن لا يكلم الناس إلا على قدر عقولهم ،

٣٢٤

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من حدّث النّاس بحديث لا يفهمونه كان فتنة على بعضهم". أو لفظ هذا معناه.

فإن قيل : إن كان في المبالغة في التنزيه خوف التعطيل بالإضافة إلى البعض ففي استعماله الألفاظ الموهمة خوف التشبيه بالإضافة إلى البعض.

قلنا : بينهما فرق من وجهين.

أحدهما : أن ذلك يدعو إلى التعطيل في حق الأكثرين ، وهذا يعود إلى التشبيه في حق الأقلين ، وأهون الضررين أولى بالاحتمال ، وأعلم الضررين أولى بالاجتناب.

والثاني : أن علاج وهم التشبيه أسهل من علاج التعطيل. إذ يكفي أن يقال مع هذه الظواهر : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. وأنه ليس بجسم ولا مثل الأجسام. وأما إثبات موجود في الاعتقاد على ما ذكرناه من المبالغة في التنزيه شديدا جدا ، بل لا يقبله واحد من الألف لا سيما الأمة العربية.

فإن قيل : فعجز الناس عن الفهم هل يمهد عذر الأنبياء في أن يثبتوا في عقائدهم أمورا على خلاف ما هي عليها ليثبت في اعتقادهم أصل الإلهية حتى توهموا عندهم مثلا أن الله مستقر على العرش وأنه في السماء وأنه فوقهم فوقية المكان؟

قلنا : معاذ الله أن نظن ذلك أو يتوهم بنبي صادق أن يصف الله بغير ما هو متصف به ، وأن يلقى ذلك في اعتقاد الخلق ، فإنما تأثير قصور في استعمال الألفاظ مستعارة ربما يغلط الأغبياء في فهمهما ، وذلك لقصور اللغات وضرورة الخلق في أن يذكر لهم ما يطيقون فهمه وما لا يفهمونه. فكيف عنه علاج عجز الخلق وقصورهم ولا ضرورة في تفهيمهم خلاف الحق قصدا لا سيما في صفات الله. نعم ، به ضرورة في استعمال الألفاظ مستعارة ربما يغلط الأغبياء في فهمها ، وذلك لقصور اللغات وضرورة المحاورات. فأما تفهيمهم خلاف الحق قصدا إلى التجهيل فمحال ، سواء فرض فيه مصلحة أو لم تفرض.

فإن قيل : قد جهل أهل التشبيه جهلا يستند إلى ألفاظه في الظواهر تفضي إلى جهلهم ، فمهما جاء بلفظ مجمل ملبس فرضي به لم يفترق الحال بين أن يكون مجرد قصده إلى التجهيل ، وبين أن يقصد التجهيل مهما حصل التجهيل ، وهو عالم به وراض.

قلنا : لا نسلم أن جهل أهل التشبيه حصل بألفاظه ، بل بتقصيرهم في كسب معرفة التقديس وتقديمه على النظر في الألفاظ ، ولو حصلوا تلك المعرفة أولا وقدموها لما جهلوها ، كما أن من حصل علم التقديس لم يجهل عند سماعه صورة المسألة ، وإنما الواجب عليهم تحصيل هذا العلم ، ثم مراجعة العلماء إذا شكوا في ذلك ، ثم كف النفس عن التأويل وإلزامها التقديس. وإذا رسم لهم العلماء ، فإذا لم يفعلوا جهلوا وعلم الشارع بأن الناس طباعهم الكسل والتقصير والفضول بالخوض فيما ليس من شأنهم ليس رضا بذلك ولا سعيا في تحصيل الجهل ، لكنه

٣٢٥

رضا بقضاء الله وقدره في قسمته حيث قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩]. وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١١٨]. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩]. (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠٠]. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ و ١١٩]. فهذا هو القهر الإلهي في فطرة الخلق ولا قدرة للأنبياء في تغيير سنته التي لا تبديل لها.

فصل في جواب مالك رضي الله عنه :

لعلك تقول الكف عن السؤال والإمساك عن الجواب من أين يغني ، وقد شارع في البلاد هذه الاختلافات وظهرت التعصبات ، فكيف سبيل الجواب إذا سئل عن هذه المسائل؟

قلنا : الجواب ما قاله مالك رضي الله عنه في الاستواء إذ قال : الاستواء معلوم الحديث فيذكر هذا الجواب في كل مسألة سئل عنها العوام لينحسم سبيل الفتنة.

فإن قيل : فإذا سئل عن الفوق واليد والأصبع فبم يجيب.

قلنا : الجواب أن يقال فيه ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الله تعالى وقد صدق حيث قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥]. فيعلم قطعا أنه ما أراد الجلوس والاستقرار الذي هو صفة الأجسام ، ولا ندري ما الذي أراده ولم نكلف معرفته وصدق حيث قال : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام: ١٨]. وفوقية المكان محال ، فإنه كان قبل المكان فهو الآن كما كان ، وما أراد فلسنا نعرفه وليس علينا ولا عليك أيها السائل معرفته فكذلك نقول ولا يجوز إثبات اليد والأصبع مطلقا ، بل يجوز النطق بما نطق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه الذي نطق به من غير زيادة ونقصان وجمع وتفريق وتأويل وتفصيل كما سبق ، فنقول صدق حيث قال : " خمّر طينة آدم بيده" وحيث قال : " قلب المؤمن بين إصبع من أصابع الرحمن" فنؤمن بذلك ولا نزيد ولا ننقص ، وننقله كما روي ونقطع بنفي العضو المركب من اللحم والعصب ، وإذا قيل : القرآن قديم أو مخلوق؟ قلنا : هو غير مخلوق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " القرآن كلام الله غير مخلوق". فإن قال : الحروف قديمة أو لا؟ قلنا : الجواب في هذه المسألة لم يذكرها الصحابة ، فالخوض فيها بدعة فلا تسألوا عنها ، فإن ابتلي الإنسان بهم في بلدة غلبت فيها الحشوية وكفروا من لا يقول بقدم الحروف ، فيقول المضطر إلى الجواب : إن عنيت بالحروف نفس القرآن فالقرآن قديم ، وإن أردت بها غير القرآن وصفات الله تعالى فما سوى الله وصفاته محدث ولا يزيد عليه ، لأن تفهيم العوام حقيقة هذه المسألة عسرة جدا ، فإن قالوا : قد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من قرأ حرفا من القرآن فله كذا" ، فأثبت الحروف للقرآن ووصف القرآن بأنه غير مخلوق ، فلزم منه أن الحروف قديمة. قلنا : لا نزيد على ما قاله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أن القرآن غير مخلوق وهذه

٣٢٦

مسألة وإن كان للقرآن حروف فهي مسألة أخرى. وأما أن الحروف قديمة فهي مسألة ثالثة ولم نزد عليه فلا نقول به ، ولا نزيد على ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن زعموا أنه يلزم المسألتين السابقتين هذه المسألة. قلنا : هذا قياس وتفريع ، وقد بينا أن لا سبيل إلى القياس والتفريع ، بل يجب الاقتصار على ما ورد من غير تفريق ، وكذلك إذا قالوا عربية القرآن قديمة لأنه قال القرآن قديم وقال : (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ٢]. فالعربي قديم. فنقول : أما أن القرآن عربي فحق إذ نطق به القرآن ، وأما أن القرآن ، قديم فحق إذ نطق به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلى هذا الوجه يلجم العوام والحشوية عن التصرف فيه ونزمهم عن القياس والقول باللوازم ، بل نزيد في التضييق على هذا ونقول : إذا قال القرآن كلام الله غير مخلوق فهذا لا يرخص في أن يقول القرآن قديم ما لم يرد لفظ القديم إذ فرق بين غير مخلوق والقديم ، إذ يقال : كلام فلان غير مخلوق أي غير موضوع ، وقد يقال : المخلوق بمعنى المختلق فلفظ غير مخلوق يتطرق إليه هذا ولا يتطرق إلى لفظ القديم ، فبينهما فرق ، ونحن نعتقد قدم القرآن لا بمجرد هذا اللفظ ، فإن هذا اللفظ لا ينبغي أن يجرف ويبدل ويغير ويصرف ، بل يلزم أن يعتقد أنه حق بالمعنى الذي أراده ، وكل من وصف القرآن بأنه مخلوق من غير نقل نص فيه مقصود ، فقد أبدع وزاد ومال عن مذهب السلف وحاد.

فصل في أن الإيمان قديم

فإن قيل : من المسائل المعروفة قولهم إن الإيمان قديم ، فإذا سئلنا عنه فبم نجيب؟

قلنا : إن ملكنا زمام الأمر واستولينا على السائل منعناه عن هذا الكلام السخيف الذي لا جدوى له ، وقلنا : إن هذا بدعة ، وإن كنا مغلوبين في بلادهم فنجيب ونقول : ما الذي أردت بالإيمان؟ إن أردت به شيئا من معارف الخلق وصفاتهم فجميع صفات الخلق مخلوقة ، وإن أردت به شيئا من القرآن أو من صفات الله تعالى فجميع صفات الله تعالى قديمة ، وإن أردت ما ليس صفة للخلق ولا صفة الخالق فهو غير مفهوم ولا متصور وما لا يفهم ولا يتصور ذاته ، كيف يفهم حكمه في القدم والحدوث. والأصل زجر السائل والسكوت عن الجواب هذا صفو مقصود مذهب السلف ولا عدول عنه إلا بضرورة وسبيل المضطر ما ذكرنا ، فإن وجدنا ذكيا مستفهما لفهم الحقائق كشفنا الغطاء عن المسألة وخلصناه عن الإشكال في القرآن وقلنا :

اعلم أن كل شيء فله في الوجود أربع مراتب : وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البياض المكتوب عليه كالنار مثلا ، فإن لها وجودا في التنور ووجودا في الخيال والذهن ، وأعني بهذا الوجود العلم بنفس النار وحقيقتها ولها وجود في اللسان وهي الكلمة الدالة عليه ، أعني لفظ النار ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم. والإحراق صفة خاصة للنار كالقدم للقرآن ولكلام الله تعالى ، والمحرق من هذه الجملة الذي في التنور دون الذي في الأذهان ، وفي اللسان وعلى البياض إذ لو كان المحرق

٣٢٧

في البياض أو اللسان لاحترق ، ولكن لو قيل لنا : النار محرقة؟ قلنا : نعم. فإن قيل لنا : كلمة النار محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : حروف النار محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : مرقوم هذه الحروف على البياض محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : المذكور بكلمة النار أو المكتوب بكلمة النار محرق؟ قلنا : نعم. لأن المذكور والمكتوب بهذه الكلمة ما في التنور وما في التنور محرق ، فكذلك القدم وصف كلام الله تعالى كالإحراق وصف النار وما يطلق عليه اسم القرآن وجوده على أربع مراتب. أولها : وهي الأصل وجوده قائما بذات الله تعالى يضاهي وجود النار في التنور (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠]. ولكن لا بدّ من هذه الأمثلة في تفهيم العجزة والقدم وصف خاص لهذا الوجود. والثانية : وجوده العلمي في أذهاننا عند التعلم قبل أن ننطق بلساننا ، ثم وجوده في لساننا بتقطيع أصواتنا ، ثم وجوده في الأوراق بالكتب ، فإذا سئلنا عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به. قلنا : علمنا صفته وهي مخلوقة لكن المعلوم به قديم ، كما أن علمنا بالنار وثبوت صورتها في خيالنا غير محرق لكن المعلوم به محرق ، وإن سئلنا عن صوتنا وحركة لساننا ونطقنا قلنا : ذلك صفة لساننا فلساننا حادث وصفته توجد بعده وما هو بعد الحادث حادث بالقطع ، لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروؤنا ومتلونا بهذه الأصوات الحادثة قديم ، كما أن ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرقا وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق إلا أن يقول قائل : حروف النار عبارة عن نفس النار. قلنا : إن كان كذلك ، فحروف النار محرقة وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس المقروء فهي قديمة ، وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق لأنه الأوراق من غير إحراق واحتراق ، فهذه أربع درجات في الوجود تشتبه على العوام لا يمكنهم إدراك تفاصيلها وخاصة كل واحدة منهن ، فلذلك لا نخوض بهم فيها لا لجهلنا بحقيقة هذه الأمور وكنه تفاصيلها. إن النار من حيث إنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة ، ومن حيث إنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وتركي وعربي وكثيرة الحروف وقليلة الحروف ، وما في التنور لا ينقسم إلى العجمي والتركي والعربي ، وما في اللسان لا توصف بالخمود والاشتعال ، وإذا كان مكتوبا على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر وأسود وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع ، أو قلم النسخ وهو في اللسان لا يمكن أن يوصف بذلك ، واسم النار يطلق على ما في التنور وما في القلب وما في اللسان وما على القرطاس ، لكن باشتراك الاسم فأطلق على ما في التنور حقيقة وعلى ما في الذهن من العلم لا بالحقيقة ولكن بمعنى أنه صورة محاكية للنار الحقيقي ، كما أن ما يرى في المرآة يسمى إنسانا ونارا لا بالحقيقة ولكن بمعنى إنها صورة محاكية للنار الحقيقي والإنسان وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث ، وهو أنه دلالة دالة على ما في الذهن وهذا يختلف بالاصطلاحات ، والأول والثاني لا اختلاف فيهما ، وما في القرطاس يسمى نارا بمعنى رابع ، وهو أنها رقوم تدل بالاصطلاح على ما في اللسان ومهما فهم اشتراك اسم القرآن والنار وكل شيء من هذه الأمور الأربعة ، فإذا ورد الخبر أن القرآن في قلب العبد وأنه في لسان القارئ وأنه صفة ذات الله صدق بالجميع وفهم معنى الجميع ، ولم يتناقص عند الأذكياء وصدق بالجميع مع الإحاطة بحقيقة المراد ، وهذه أمور جلية دقيقة لا أجلى منها عند الفطن الذكي ولا أدق ،

٣٢٨

وأغمض منها عند البليد الغبي ، فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها ويقال له : قل القرآن غير مخلوق واسكت ولا تزد عليه ولا تنقص ولا تفتش عنه ولا تبحث ، وأما الذكي فيروح عن غمه هذا الإشكال في لحظة ويوصى بأن لا يحدث العامي به حتى لا يكلفه ما ليس في طاقته ، وهكذا جميع موضع الإشكالات في الظواهر فيها حقائق جلية لأرباب البصائر ملتبسة على العميان من العوام ، فلا ينبغي أن يظن بأكابر السلف عجزهم عن معرفة هذه الحقيقة ، وإن لن يحرروا ألفاظها تحرير صنعة ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا عنهم وأسكتوهم وذلك عين الحق والصواب. لا أعني بأكابر السلف الأكابر من حيث الجاه والاشتهار ، ولكن من حيث الغوص على المعاني والاطلاع على الأسرار ، وعند هذا ربما انقلب الأمر في حق العوام واعتقدوا في الأشهر أنه الأكبر وذلك سبب آخر من أسباب الضلال.

فصل

فإن قال قائل : العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل ، ومن لم يعرف الدليل كان جاهلا بالمدلول ، وقد أمر الله تعالى كافة عباده بمعرفته. أي بالإيمان به والتصديق بوجوده أولا ، وبتقديسه عن سمات الحوادث ومشابهة غيره ثانيا ، وبوحدانيته ثالثا ، وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعا ، وهذه الأمور ليست ضرورية فهي إذا مطلوبة ، وكل علم مطلوب فلا سبيل إلى انتقاصه وتحصيله إلا بشبكة الأدلة والنظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب وكيفية إنتاجها وذلك لا يتم إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج ، وينجز ذلك شيئا فشيئا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في المعقولات ، وكذلك يجب على العامي أن يصدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما جاء به ، وصدقه ليس بضروري بل هو بشر كسائر الخلق فلا بدّ من دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذبا ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات وهو لب علم الكلام.

قلنا : الواجب على الخلق الإيمان بهذه الأمور ، والإيمان عبارة عن تصديق جازم لا تردد فيه ولا يشعر صاحبه بإمكان وقوع الخطأ فيه ، وهذا التصديق الجازم يحصل على ست مراتب.

الأولى : وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان المستقصى المستوفى شروطه المحرر أصوله ومقدماته درجة درجة وكلمة كلمة حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن التباس ، وذلك هو الغاية القصوى ، ربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى تلك الرتبة ، وقد يخلو العصر عنه ولو كانت النجاة مقصورة على مثل المعرفة لقلّت النجاة وقلّ الناجون.

الثانية : أن يحصل بالأدلة الوهمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لإشهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيها ، وهذا الجنس أيضا يفيد في بعض الأمور وفي حق بعض الناس تصديقا جازما بحيث لا يشعر صاحبه بإمكان خلافه أصلا.

الثالثة : أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية ، أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في

٣٢٩

المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات ، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقا ببادي الرأي وسابق الفهم إن لم يكن الباطن مشحونا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل ، ولم يكن المشنع مشغوفا بتكلف المماراة والتشكك ومنتجعا بتحديق المجادلين في العقائد ، وأكثر أدلة القرآن من هذا الجنس ، فمن الدليل الظاهر المقيد للتصديق قولهم : لا ينتظم تدبير المنزل بمدبرين ، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، فكل قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة المجادلين يسبق من هذا الدليل إلى فهمة تصديق جازم بوحدانية الخالق ، لكن لو شوشه مجادل وقال : لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان على التدبير ولا يختلفان فإسماعه هذا القدر يشوش عليه تصديقه ، ثم ربما يعسر سلّ هذا السؤال ودفعه في حق بعض الأفهام القاصرة فيستولي الشك ويتعذر الرفع ، وكذلك من الجلي أن من قدر على الخلق فهو على الإعادة أقدر ، كما قال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩]. فهذا لا يسمعه أحد من العوام ذكي أو غبي إلا ويبادر إلى التصديق ، ويقول : نعم ليست الإعادة بأعسر من الابتداء بل أهون ، ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه ، والدليل المستوفى هو الذي يفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها بحيث لا يبقى للسؤال مجال والتصديق يحصل قبل ذلك.

الرابعة : التصديق لمجرد السماع ممن حسن الاعتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق عليه ، فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو في رجل من الأفاضل المشهورين قد يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائب أو غيره ، فيسبق إليه اعتقاد فيه ، فالمجرب بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي الله عنه إذا قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، فكم من مصدق به جزما وقابل له قبولا مطلقا لا مستند لقوله إلا حسن اعتقاده فيه ، فمثله إذا لقن العامي اعتقادا وقال له : اعلم أن خالق العالم واحد قادر وأنه بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولا شك في قوله ، وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلميهم فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدقون بها ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة.

الرتبة الخامسة : التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تفيد القطع عند المحقق ولكن يلقي في قلب العوام اعتقادا جازما ، كما إذا سمع بالتواتر مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره ، ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد مات اعتقد العامي جزما أنه مات وبنى عليه تدبيره ولا يخطر بباله أن الغلام ربما قال ذلك عن إرجاف سمعه ، وأن الصراخ والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر ، لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام فتنطبع في قلوبهم الاعتقادات الجازمة ، وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى حسن كلامه ولطف شمائله وأخلاقه فآمن به وصدقه جزما لم يخالجه ريب من غير أن يعالجه بمعجزة يقيمها ويذكر وجه دلالتها.

الرتبة السادسة : أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه ، فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه لا

٣٣٠

من حسن اعتقاده في قائله ، ولا من قرينة تشهد له ، لكن لمناسبة ما في طباعه ، فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إرجاف ويستمر على اعتقاده جازما ، وبلو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته هواه توقف فيه أو أباه كل الإباء ، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات لأن ما قبله استند إلى دليل ما. وإن كان ضعيفا من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة فإذا عرفت مراتب التصديق ، فاعلم أن مستند إيمان العوام في هذه الأسباب وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق ، ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته ، وأكثر الناس آمنوا في الصبا وكان سبب تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم ، وثناء غيرهم عليهم وتشديدهم النكير بين أيديهم على مخالفيهم ، وحكايات أنواع النكال النازل بمن لا يعتقد اعتقادهم وقولهم إن فلانا اليهودي في قبره مسخ كلبا ، وفلانا الرافضي انقلب خنزيرا ، أو حكايات منامات وأحوال هذا الجنس ينغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه والميل إلى ضده حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه ، فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر ، ثم يقع نشوؤه عليه ولا يزال يؤكد ذلك في نفسه ، فإذا بلغ استمر على اعتقاده الجازم تصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب ، ولذلك ترى أولاد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة. لو قطعوا إربا إربا لما رجعوا عنها وهم قط لم يسمعوا عليه دليلا لا حقيقيا ولا رسميا ، وكذا ترى العبيد والإماء يسبون من المشرك ولا يعرفون الإسلام ، فإذا وقعوا في أسر المسلمين وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى الإسلام مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلاقهم. كل ذلك لمجرد التقليد والتشبيه بالتابعين ، والطباع مجبولة على التشبيه لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة.

فصل

لعلك تقول : لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الأسباب ، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء ، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو من جنس الجهل الذي لا يتميز فيه الباطل على الحق. فالجواب : أن هذا غلط ممن ذهب إليه ، بل سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقادا جازما لتنتقش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق ، حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة ولا بنار جهنم ثانيا ، وصورة الحق إذا انتقش بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له أهو دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي ، أو قبول بحسن الاعتقاد في قائلة أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب فليس المطلوب الدليل المقيد ، بل الفائدة وهي حقيقة الحق على ما هي عليه فمن اعتقد حقيقة الحق في الله وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد ، وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامي ولم يكلف الله

٣٣١

عباده إلا ذلك وذلك معلوم على القطع بجملة أخبار متواترة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موارد الأعراب عليه وعرضه الإيمان عليهم وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم التفكر في المعجزة ، ووجه دلالته والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع. وفي أدلة الوحدانية وسائر الصفات ، بل الأكثر من أجلاف العرب لو كلفوا ذلك لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة. بل كان الواحد منه يحلفه ويقول : الله أرسلك رسولا. فيقول : والله الله أرسلني رسولا وكان يصدقه بيمينه وينصرف ، ويقول الآخر إذا قدم عليه ونظر إليه : والله ما هذا وجه كذاب ، وأمثال ذلك مما لا يحصى ، بل كل يسلم في غزوة واحدة في عصره وعصر أصحابه آلاف لا يفهم الأكثرون منهم أدلة الكلام ، ومن كان يفهمه يحتاج إلى أن يترك صناعته ويختلف إلى مسلم مدة مديدة ولم ينقل قط شيء من ذلك ، فعلم علما ضروريا أن الله تعالى لم يكلف الخلق إلّا الإيمان والتصديق الجازم بما قاله كيفما حصل التصديق.

نعم ، لا ينكر أن للعارف درجة على المقلد ، ولكن المقلد في الحق مؤمن كما أن العارف مؤمن.

فإن قلت : فبم يميز المقلد بين نفسه وبين اليهود والمقلد؟

قلنا : المقلد لا يعرف التقليد ولا يعرف أنه مقلد ، بل يعتقد في نفسه أنه محق عارف ولا يشك في معتقده ولا يحتاج مع نفسه إلى التمييز لقطعه بأن خصمه مبطل وهو محق ، ولعله أيضا يستظهر بقرائن وأدلة ظاهرة وإن كانت غير قوية يرى نفسه مخصوصا بها ومميزا بسببها عن خصومه ، فإن كان اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك فلا يشوش ذلك على المحق اعتقاده ، كما أن العارف الناظر يزعم أنه يميز نفسه عن اليهودي بالدليل ، واليهودي المتكلم الناظر أيضا يزعم أنه مميز عنه بالدليل ودعواه ذلك لا يشكك الناظر العارف ، وكذلك لا يشكك المقلد القاطع ويكفيه في الإيمان أن لا يشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه ، فهل رأيت عاميا فقط قد اغتم وحزن من حيث يعسر عليه الفرق بين تقليد اليهودي ، بل لا يخطر ذلك ببال العوام ، وإن خطر ببالهم وشوفهوا به ضحكوا من قائله وقالوا : ما هذا الهذيان وكان به بين الحق والباطل مساواة حتى يحتاج إلى فرق فارق تبيينا أنه على الباطل ، وإني على الحق ، وأنا متيقن لذلك غير شاكّ فيه. فكيف أطلب الفرق حيث يكون الفرق معلوما قطعا من غير طلب ، فهذه حالة المقلدين الموقنين وهذا إشكال لا يقع لليهودي المبطل لقطعه مذهبه مع نفسه ، فكيف للمسلم المقلد الذي وافق اعتقاده ما هو الحق عند الله تعالى ، فظهر بهذا على القطع للمسلك المقلد الذي وافق اعتقاده ما هو الحق عند الله تعالى ، فظهر بهذا على القطع أن اعتقاداتهم جازمة ، وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك.

فإن قيل : فإن فرضنا عاميا مجادلا لجوجا ليس يقلد وليس يقنعه أدلة القرآن ولا الأقاويل الجليلة المفرقة السابقة إلى الأفهام فما ذا تصنع به؟

قلنا : هذا مريض مال طبعه عن صحة الفطرة وسلامة الخلقة الأصلية فينظر في شمائله فإن وجدنا اللجاج والجدل غالبا على طبعه لم نجادله ، وطهرنا وجه الأرض عنه إن كان بجاحدنا

٣٣٢

في أصل من أصول الإيمان ، وإن توسمنا فيه بالفراسة مخائل الرشد والقبول إن جاوزنا به من الكلام الظاهر إلى توفيق في الأدلة عالجناه بما قدرنا عليه من ذلك ، وداوينا بالجدال المر والبرهان الحلو ، وبالجملة فنجتهد أن نجادله بالأحسن كما أمر الله تعالى ورخصتنا في القدر من المداواة لا تدل على فتح باب الكلام مع الكافة ، فإن الأدوية تستعمل في حق المرضى وهم الأقلون ، وما يعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح ، والفطرة الصحيحة الأصلية معدة لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير حقائق الأدلة ، وليس الضرر في استعمال الدواء مع الأصحاء بأقل من الضرر في إهمال المداواة مع المرضى ، فليوضع كل شيء موضعه كما أمر الله تعالى به نبيه حيث قال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥]. والمدعو بالحكمة إلى الحق قوم ، وبالموعظة الحسنة قوم آخرون ، وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون على ما فصلنا أقسامهم في كتاب القسطاس المستقيم فلا نطول بإعادته.

٣٣٣

المضنون به

على

غير أهله

٣٣٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

الحمد لله على موجب ما هدانا إلى حمده ، ووفقنا للقيام بشكره ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف من انتسب إلى آدم عليه‌السلام وعلى صحبه الأخيار.

اعلم أن لكل صناعة أهلا يعرف قدرها ، ومن أهدى نفائس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها ، وهذا علق نفيس مضنون به على غير أهله فمن صانه عمن لا يعرف قدره فقد قضى حقه أكرمت بهذا العلق على سبيل التهادي. أخي وعزيزي أحمد صانه الله عن الركون إلى الغرور وأهله لمعرفة بعض حقائق الأشياء التي كانت معرفة جميعها مطلوبة لسيد ولد آدم عليه‌السلام حيث قال : أرنا الأشياء كما هي ، وهذا العلق المضنون به على غير أهله يشتمل على أربعة أركان :

الركن الأول : في معرفة الربوبية.

الركن الثاني : في معرفة الملائكة.

الركن الثالث : في حقائق المعجزات.

الركن الرابع : في معرفة ما بعد الموت والانتقال من الدنيا إلى العقبى ، وفقنا الله تعالى لما يرضى ويحب ، فإنه خير موفق ومعين وإليه المرجع والمصير.

الركن الأول في علم الربوبية

الزمان لا يكون محدودا وخلق الزمان في الزمان أمر محال ، فاليوم هو الكون الحادث في اللغة وأيام الله حيث قال : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ١٠]. مراتب مخلوقاته ومصنوعاته ومبدعاته من وجوه منها قوله : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت : ١٠]. فيوم مادة السماء ويوم صورتها ويوم كواكبها ويوم نفوسها. وقوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩]. المادة والصورة ، ومادة السماوات ومادة بروجها صورة واحدة ، ومادة الأرض مادة مشتركة بين أزواج وفحول وهي أخس لأنها مثل مومسة تقبل كل ناكح. ومنها : الجماد والمعدنيات داخلة في الجماد والنبات والحيوانات العجم والإنسان. ومنها : الأرض فهو سماء من طريق اللغة ، لأن أهل اللغة تقول : كل ما علاك فهو سماؤك ، وكل ما دون الفلك يعني فلك القمر بالنسبة إلى الأفلاك أرض لقوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢].

الأولى : كرة النار.

٣٣٥

والثانية : كرة الهواء.

والثالثة : كرة الطين المجفف الذي فوق الماء.

والرابعة : الماء.

والخامسة : الأرض البسيطة.

والسادسة : الممتزجات من هذه الأشياء.

والسابعة : الآثار العلوية.

فصل في تعليقات على آيات كريمة :

(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) [ص : ١٠]. الارتقاء : صعود الأخس إلى الأشرف حتى ينتهي إلى واجب الوجود.

كما قال تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢].

وقوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤].

وقوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠]. الأول انطباق فلك البروج على معدل النهار ، والفتق بعد الرتق ظهور الليل.

فصل في أن الرزق مقدر مضمون

وهو من المعقولات لا من المنقولات. لأن الحق تعالى عقل ذاته ، وما توجبه ذاته فهو قد عقل جميع الموجودات ، وإن كان بالقصد الثاني وإنما يوجب كل واحد منها. أعني من الموجودات المبدعات على ما وجد لأنه سبحانه وتعالى يعقل وجود الكل من ذاته ، فكما أن تعقله ذاته لا يجوز أن يتغير ، كذلك تعقله لكل ما توجبه ذاته ولكل ما يعقله وجوده من ذاته لا يتغير ، بل يجب وجود كل ذلك ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقل لا شك فيه خصوصا النوع الإنساني ، والنوع إنما يبقى مستحفظا بالأشخاص وبلوغ كل شخص إلى الغاية التي يمكن أن يولد شخصا آخر مثله لا يمكن إلا ببقائه مدة ، وبقاؤه تلك المدة لا يصح إلا بما فيه قوام الحياة. وقوام الحياة بالرزق لأنه تعالى يعقل وجود الكل من ذاته ووجود ما يعقله من ذاته واجب ، وتعقل بقاء النوع الإنساني ببقاء الأشخاص وتناسلهم ، وتعقل تناسلهم ببقاء كل شخص ، وتعقل بقاء كل شخص مدة بما فيه قوام حياته وهو الرزق ، والرزق إنما يكون من النبات والحيوان وهما الخبز واللحم ، والفواكه من جملة النبات وأكثر الحلاوى ، فوجب أن يكون الرزق مضمونا بتقدير الرؤوف الرحيم ، لذلك قال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ* فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٢ و ٢٣].

٣٣٦

فصل في من لا يعرف حقيقة الرؤيا

من لا يعرف حقيقة الرؤيا لا يعرف حقائق أقسام الرؤيا ، ومن لا يعرف حقيقة رؤيا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الرسل ، بل رؤيا الذين ماتوا لا يعرف رؤيا الله تعالى في المنام ، والعامي يتصور أن من رأى رسول الله في المنام فقد رأى حقيقة شخصه ، وكما أن المعنى الذي وقع في النفس حاكى الخيال عنه بلفظ ، فكذلك كل نقش ارتسم في النفس يمثل الخيال له صورة ولا أدري أنه كيف يتصور رؤية شخص الرسول في المنام وشخصه مودع في روضة المدينة وما شق القبر وما خرج إلى موضع يراه النائم. ولئن سلمنا ذلك فربما يراه في ليلة واحدة ألف نائم في ألف موضع على صور مختلفة ، والوهم يساعد العقل في أنه لا يمكن تصور شخص واحد في حالة واحدة في مكانين ولا على صورتين طويل وربع ، وشاب وكهل وشيخ ، ومن لا تحيط معرفته بفساد هذا التصور ، فقد قنع من غريزة العقل بالاسم والرسم دون الحقيقة والمعنى ، ولا ينبغي أن يعاتب بل لا ينبغي أن يخاطب. فلعله يقول ما يراه مثاله لا شخصه ، ويقال هو مثال شخصه أو مثال حقيقة روحه المقدسة عن الصور والشكل فإن قال : هو مثال شخصه الذي هو عظمه ولحمه ، فأي حاجة إلى شخصه وشخصه في نفسه متخيل ومحسوس ، ثم من رأى شخصه بعد الموت دون الروح فكأنه ما رأى النبي ، بل رأى جسما كان يتحرك بتحريك النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون رائيا له برؤية مثال شخصه ، بل الحق أنه مثال روحه المقدسة التي هي النبوة فما رآه من الشكل ليس هو روح النبي وجوهره ولا شخصه بل مثاله على التحقيق.

فإن قيل : فأي معنى لقوله عليه الصلاة والسلام : " من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي".

قلنا : لا معنى له إلا ما رآه مثال واسطة بين النبي وبينه من تعريف الحق إياه ، فكما أن جوهر النبوة أعني الروح المقدسة الباقية من النبي بعد وفاته منزهة عن اللون والشكل والصورة ، ولكن تنتهي تعريفاته إلى الأمة بواسطة مثال صادق ذي شكل ولون وصورة. وإذا كان جوهر النبوة منزها عن ذلك ، فكذلك ذات الله منزه عن الشكل والصورة ، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالا للجمال المعنوي الحقيقي الذي لا صورة له ولا لون ، ويكون ذلك المثال صادقا وحقا وواسطة في التعريف ، فيقول النائم : رأيت الله تعالى في المنام لا بمعنى أني رأيت ذاته ، كما يقول : رأيت النبي لا بمعنى أنه رأى ذات النبي وروحه أو ذات شخصه بمعنى أنه رأى مثاله.

فإن قيل : إن النبي له مثل والله تعالى لا مثل له.

قلنا : هذا جهل بالفرق بين المثل والمثال ، فليس المثال عبارة عن المثل فالمثل عبارة عن المساوي في جميع الصفات ، والمثال لا يحتاج فيه إلى المساواة فإن للعقل معنى لا يماثله غيره.

٣٣٧

ولنا أن نصور الشمس له مثالا لما بينهما من المناسبة في شيء واحد ، وهو أن المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولات بالعقل فهذا القدر من المناسبة كاف في المثال ، بل السلطان يمثل في النوم بالشمس وبالقمر الوزير ، والسلطان لا يماثل الشمس بصورته ولا بمعناه ، ولا الوزير يماثل القمر. إلا أن السلطان له استعلاء على الكافة ويعم أثره النور ، كما أن الوزير واسطة بين السلطان والرغبة في إفاضة أثر العدل ، فهذا مثال وليس بمثل والله تعالى قال : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥]. فأي مماثلة بين نوره وبين الزجاجة والمشكاة والشجرة والزيت؟ قال الله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) [الرعد : ١٧]. ذكر ذلك تمثيلا للقرآن والقرآن صفة قديمة لا مثل له ، فكيف صار الماء له مثالا؟ وكم من المنامات عرضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رؤيا لبن أو حبل. فقال : اللبن هو الإسلام ، والحبل هو القرآن إلى أمثال له لا تحصى وأي مماثلة بين اللبن والإسلام والحبل والقرآن إلا في مناسبة ، وهو أن الحبل يتمسك به النجاة والقرآن كذلك ، واللبن غذاء تغذى به الحياة الظاهرة والإسلام غذاء تغذى به الحياة الباطنة ، فهذا كله مثال وليس بمثل ، بل هذه الأشياء لها. والله تعالى لا مثل له لكن له أمثلة محاكية لمناسبة معقولة من صفات الله تعالى ، فإنا إذا عرفنا المسترشد أن الله تعالى كيف يخلق الأشياء وكيف يعلمها وكيف يزيدها وكيف يتكلم وكيف يقوم الكلام بنفسه. مثلنا جميع ذلك بالإنسان ، ولو لا أن الإنسان عرف من نفسه هذه الصفات لما فهم مثاله في حق الله تعالى ، فالمثال في حق الله تعالى جائز ، والمثل باطل ، فإن المثال هو ما يوضح الشيء والمثل ما يشابه الشيء.

فإن قيل : هذا التحقيق الذي ذكرتموه ليس يفضي إلى أن الله تعالى يرى في المنام. بل إلى أن الرسول أيضا لا يرى ، فإن المرئي مثاله لا عينه فقوله : " من رآني في المنام فقد رآني" فهو نوع تجوز معناه كأنه رآني وما سمع من المثال كأنه سمع مني.

قلنا : وهذا ما يريده القائل بقوله : رأيت الله تعالى في المنام لا غير. أما أن يريد به أنه رأى ذاته على ما هو عليه فلا ، فإنه حصل الاتفاق على أن ذات الله تعالى لا ترى وإن مثالا يعتقده النائم ذات الله تعالى أو ذات النبي يجوز أن يرى ، وكيف ينكر ذلك ، مع وجوه في المنامات ، فإن لم يره بنفسه فقد تواتر إليه من جماعة أنهم رأوا ذلك ، إلا أن المثال المعتقد قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا ، ومعنى الصادق أن الله تعالى جعل رؤياه واسطة بين الرائي وبين النبي في تعريف بعض الأمور ، وفي قدرة الله تعالى خلق مثل هذه الواسطة بين العبد وبين اتصال الحق به وهو موجود ، فكيف يمكن إنكاره؟

فإن قيل : إذا كانت رؤية الرسول تجوزا ، فالتجوز مما قد أذن في إطلاقه في حقه ولا يجوز في حق الله تعالى من الإطلاقات إلا ما ورد الإذن به.

قلنا : قد ورد الإذن بإطلاق ذلك. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " رأيت ربّي في أحسن صورة" ،

٣٣٨

وهذا مما أورد في الأخبار التي وردت في إثبات الصورة لله تعالى حيث قال : " إنّ الله خلق آدم على صورته" ، وليس المراد به صورة دحية الكلبي وفي غيرها من الصور ، حتى أنه رآه مرارا كثيرة وما رآه في صورته الحقيقية إلا مرة أو مرتين ، وتمثل جبريل في صورة دحية الكلبي ليس بمعنى أنه انقلب ذات جبريل صورة دحية الكلبي ، بل إنه ظهرت تلك الصورة للرسول مثالا مؤديا عن جبريل ما أوحى إليه ، وكذلك قوله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧]. وإذا لم يكن ذلك استحالة في ذات الملك وانقلابا ، بل يبقى جبريل على حقيقته وصفته ، وإن ظهر النبي في صورة دحية الحلبي فلا يستحيل مثل ذلك في حق الله تعالى في يقظة ولا في منام ، فهذا ما يدل من جهة الخبر على جواز إطلاقه ، وقد ورد عن السلف إطلاق ذلك ونقلت فيه آثار وأخبار ، ولو لم يرد فيه إطلاق لكنا نقول : يجوز إطلاق كل لفظة في حق الله تعالى صادقة لا منع منه ولا تحريم إذا كان لا يوهم الخطأ عند المستمع ، وهذا لا يوهم رؤية الذات عند الأكثرين لكثرة تداول الألسنة له فإن معناه كما يجوز أن تقول : إنّا نحب الله تعالى أو نشتاق إليه ونريد لقاءه ، وقد سبق إلى فهم قوم من هذه الإطلاقات خيالات فاسدة والأكثرون يفهمون معناه على وجهه من غير خيال فاسد ، ويراعى في هذه الإطلاقات حال خيال المخاطب فيجوز الإطلاق من غير كشف ولا تفسير حيث لا إبهام ، ويجب الكشف عند الإبهام. وعلى الجملة هذا يرد الخلاف إلى إطلاق اللفظ وجوازه بعد حصول الاتفاق على لفظ المعنى من أن ذات الله تعالى مرئية ، وأن المرئي مثال ، وظن من ظن استحالة المثال في حق الله تعالى خطأ ، بل نضرب لله تعالى ولصفاته الأمثال وننزهه عن المثل ولا ننزهه عن المثال وله المثل الأعلى.

فصل في الكلام على الفرق بين الواحد والأحد ومعنى

الصمد

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١]. فرق بين الواحد والأحد ، قال الله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣]. فيقال الإنسان شخص واحد وصنف واحد ، والمراد به أنه جملة هي جملة واحدة ، ويقال ألف واحد ، فالواحد المشار إليه من طريق العقل والحس هو الذي يمتنع مفهومه عن وقوع الشركة فيه ، والأحد هو الذي لا تركيب فيه ولا جزء له بوجه من الوجوه ، فالواحد نفي الشريك والمثل ، والأحد نفي الكثرة في ذاته وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ٢]. الصمد الغني المحتاج إليه غيره وهذا دليل على أن الله تعالى إحدى الذات وواحد ، لأنه لو كان له شريك في ملكه لما كان صمدا غنيا يحتاج إليه غيره ، بل كان هو أيضا يحتاج إلى شريكه في المشاركة أو التثنية ، ولو كان له أجزاء تركيب واحد لما كان صمدا يحتاج إليه غيره ، بل هو محتاج في قوامه ووجوده إلى أجزاء تركيبه وحده ، فالصمدية دليل على الواحدية والأحدية ، (لَمْ يَلِدْ) دليل على أن وجوده المستمر ليس مثل وجود الإنسان الذي يبقى نوعه بالتوالد والتناسل ، بل هو وجوده مستمر أزلي وأبدي ولم يولد دليل على أن وجود

٣٣٩

ليس مثل وجود الإنسان الذي يحصل بعد العدم ، ويبقى دائما إما في جنة عالية لا تفنى وإما في هاوية لا تنقطع ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) دليل على أن الوجود الحقيقي الذي له تبارك وتعالى وهو الوجود الذي يفيد وجود غيره ولا يستفيد الوجود من غيره ليس إلا له تبارك وتعالى فقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). دليل على إثبات ذاته المنزه المقدس والصمدية نفي وإضافة نفي الحاجة عنه واحتياج غيره إليه ، والأحدية ولم يلد إلى آخر السورة سلب ما يوصف به غيره تعالى عنه ، فلا طريق في معرفة ذات الله تعالى أبين وأوضح من سلب صفات المخلوقات عنه.

فصل في كلام حول الصفات

يتخيل بعض الناس كثرة في ذات الله تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول من قال في الصفات لا هو ولا غيره ، وهذا التخيل يقع من توهم التغاير ولا تغاير في الصفات مثال ذلك : أن إنسانا يعلم صورة الكتاب وله علم بصورة بسم الله التي تظهر تلك الصورة على القرطاس ، وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبعا لها ، فإنه إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة على القرطاس بلا حركة يد وواسطة قلم ومداد ، فهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال لها علم ، ومن حيث إن الألفاظ تدل عليها يقال لها القدرة ، ولا تغاير هاهنا بين العلم والقدرة والكلام ، فإن هذه صفة واحدة في نفسها ولا تكون هذه الاعتبارات الثلاثة واحدة ، وكل من كان أعور ينظر بالعين العوراء فلا يرى إلا مطلق الصفة فيقول : هو هو ، وإذا التفت إلى الاعتبارات الثلاث فقال : هي غيره ، ومن اعتبر مطلق الصفة مع الاعتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعتقد أنها لا هو ولا غيره والكلام في صفات الله تعالى وإن كان مناسبا لهذا المثال فهو مباين له بوجه آخر ، وتفهيم هذه المعاني بالكتابة عسير غير يسير ، وأما الوهم الذي وقع لبعض الناس أن المثال في حق أوصاف الله تعالى لا يجوز فيدفعه أن ذلك المتوهم لم يميز بين المثل والمثال ، فإن المثال يحتاج إليه كما ذكرناه في أن يسترق للمعنى المعقول من الصور المحسوسة صورة تضحه ، وتوصل ذلك المعنى المعقول إلى فهم المستفيد ، وأما المحسوس فلا يحتاج إلى مثال لأن المحسوس بعينه مندرج في الخيال. ألا ترى أن من رأى المقدحة والزند والنار تحصل بينهما لا يحتاج إلى مثال لهذه الأشياء ، ولكن المعقول المحض الذي لا يندرج في الخيال ولا يضبطه الخيال فإنه يحتاج إلى الاستعانة بالخيال حتى يصل إلى فهم الضعفاء ، وليس لله تعالى مثل كما قال ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. ولكن له مثال ، وقول النبي عليه الصلاة والسلام : " إنّ الله تعالى خلق آدم على صورته". إشارة إلى هذا المثال ، فإنه لما كان تعالى وتقدس موجودا قائما بنفسه حيا سميعا بصيرا عالما قادرا متكلما فالإنسان كذلك ، ولو لم يكن الإنسان بهذه الأوصاف موصوفا لم يعرف الله تعالى ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : " من عرف نفسه فقد عرف ربه" ، فإن كل ما لم يجد الإنسان له من نفسه مثالا يعسر عليه التصديق به والإقرار ، وقد أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام : أيها الإنسان اعرف نفسك تعرف ربك ، ولذلك لا يحيط علم الإنسان بأخص وصف الله تعالى ، لأنه ليس في المبدعات والمخلوقات

٣٤٠