مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

فقال : هذا سؤال عن سر الروح الذي لم يؤذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كشفه لمن ليس أهلا له ، فإن كنت من أهله فاسمع واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في إناء ، ولا هو عرض يحل القلب والدماغ حلول السواد في الأسود ، والعلم في العالم ، بل هو جوهر وليس بعرض لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات ، وهذه علوم والعلوم أعارض ولو كان موضوعا والعلم قائم به ، لكان قيام العرض بالعرض ، وهذا خلاف المعقول ولأن العرض الواحد لا يفيد إلا واحدا فما قام به والروح يفيد حكمين متغايرين ، فإنه حين ما يعرف خالقه يعرف نفسه ، فدل على أن الروح ليس بعرض والعرض لا يتصف بهذه الصفات ولا هو جسم ، لأن الجسم قابل للقسمة والروح لا ينقسم ، لأنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الآخر منه جهل بذلك الشيء الواحد بعينه فيكون في حالة واحدة عالما بالشيء جاهلا به فيتناقص لأنه في محل واحد وإلا فالسواد والبياض في جزءين من العين غير متناقض ، والعلم والجهل بشيء واحد في شخص واحد محال وفي شخصين غير محال ، فدل على أنه واحد وهو باتفاق العقلاء جزء لا يتجزأ أي شيء لا ينقسم إذ لفظ جزء لائق به ، لأن الجزء إضافة إلى الكل ولا كل هنا. فلا جزء إلا أن يراد به ما يريد القائل بقوله الواحد جزء من العشرة ، فإنك إذا أخذت جميع الأجزاء التي بها قوام العشرة في كونها عشرة كان الواحد من جملتها وكذلك إذا أخذت جميع الموجودات أو جميع ما به قوام الإنسان في كونه إنسانا كان الروح واحدا من جملتها ، فإذا فهمت أنه شيء لا ينقسم فلا يخلو إما أن يكون متحيزا أو غير متحيز ، وباطل أن يكون متحيزا إذ كل متحيز منقسم ، الجزء الذي لا يتجزأ باطل أن يكون منقسما بأدلة هندسية وعقلية أقربها أنه لو فرض جوهر بين جوهرين لكان كل واحد من الطرفين يلقى من الوسط غير ما يلقى الآخر ، فيجوز أن يقوم بالوجه الذي يلقاه هذا الطرف علم وبالوجه الآخر جهل ، فيكون عالما جاهلا في حالة واحدة بشيء واحد ، وكيف لا ولو فرض بسيط مسطح من أجزاء لا تتجزأ لكان الوجه الذي يحاذينا ونراه غير الوجه الآخر الذي لا نراه ، فإن الواحد لا يكون مرئيا وغير مرئي في حالة واحدة ، ولكانت الشمس إذا حاذت أحد وجهيه استنار بها ذلك الوجه دون الوجه الآخر ، فإذا ثبت أنه لا ينقسم وأنه لا يتجزأ ثبت أنه قائم بنفسه وغير متحيز أصلا.

فصل

قيل له : وما حقيقة ، وما صفة هذا الجوهر ، وما وجه تعلقه بالبدن؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه؟

قال رضي الله عنه : لا هو داخل ولا هو خارج ولا هو منفصل ولا متصل ، لأن مصحح الاتصاف بالاتصال والانفصال الجسمية والتحيز قد انتفيا عنه فانفك عن الضدين ، كما أن الجماد لا هو عالم وهو جاهل لأن مصحح العلم والجهل الحياة ، فإذا انتفت انتفى الضدان.

٣٦١

فقيل له : هل هو في جهة؟

فقال له : هو منزه عن الحلو في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص بالجهات ، فإن كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ولا عرض في جسم ، بل هو مقدس عن هذه العوارض.

فقيل له : لم منع الرسول عن صلى‌الله‌عليه‌وسلم إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥].

فقال : لأن الأفهام لا تحتمله لأن الناس قسمان عوام وخواص. أما من غلب على طبعه العامية فهذا لا يقبله ولا يصدقه في صفات الله تعالى فكيف يصدقه في حق الروح الإنسانية ، ولهذا أنكرت الكرامية والحنبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا الإله جسما إذ لم يعقلوا موجودا إلا جسما مشارا إليه ، ومن ترقى عن العامية قليلا نفى الجسمية وما أطاق أن ينفي عوارض الجسمية فأثبت الجهة وقد ترقى عن هذه العامية الأشعرية والمعتزلة ، فأثبتوا موجودا لا في جهة.

فقيل له : ولم لا يجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟

فقال : لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير الله تعالى ، فإذا ذكرت هذا لبعضهم كفروك وقالوا إنك تصف نفسك بما هو صفة الإله على الخصوص ، فكأنك تدعي الإلهية لنفسك.

فقيل له : فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة لله ولغير الله تعالى أيضا؟

فقال : لأنهم قالوا كما يستحيل في ذوات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد يستحيل أيضا أن يجتمع اثنان لا في مكان ، لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان واحد ، لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر ، فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان. فبم يحصل التمييز والعرفان؟ ولهذا أيضا قالوا : لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان يتضادان.

فقيل : هذا إشكال قوي فما جوابه؟

قال : جوابه أنهم أخطؤوا حيث ظنوا أن التمييز لا يحصل بالمكان بل يحصل التميز بثلاثة أمور : أحدها بالمكان كجسمين في مكانين ، والثاني بالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين ، والثالث بالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في جسم واحد ، فإن المحل واحد والزمان واحد ، ولكن هذه معان مختلفة الذوات بحدودها وحقائقها ، فيتميز اللون عن الطعم بذاته لا بمكان وزمان ويتميز العلم عن القدرة والإرادة بذاته وإن كان الجميع شيئا واحدا ، فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى.

فصل

فقيل : هنا دليل آخر على إحالة ما ذكرتموه أظهر من طالب التفرقة وهو أن هذا تشبيه

٣٦٢

وإثبات لأخص وصف الله تعالى في حق الروح.

فقال : هيهات ، فإن قولنا الإنسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم وإنه تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لأنه ليس ذلك أخص الوصف ، فكذلك البراءة عن المكان والجهة ليس أخص وصف الإله ، بل أخص وصفه أنه قيوم أي هو قائم بذاته ، وكل ما سواه قائم به ، وأنه موجود بذاته لا بغيره فكل ما سواه موجود به لا بذاته ، بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم ، وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية ، والوجود لله تعالى ذاتي ليس بمستعار ، هذه الحقيقة أعني القيومية ليست إلا الله تعالى.

فقيل له : ذكرت معنى التسوية والنفخ والروح ولم تذكر معنى النسبة في الروح ، وأنه لم قال من روحي ولم نسبه إلى نفسه ، فإن كان لأن وجوده به فجميع الأشياء أيضا كذلك وقد نسب البشر إلى الطين ، فقال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١]. ثم قال : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢]. وإن كان معناه أنه جزء من الله تعالى فاض على القلب كما يفيض المال على السائل ، فيقول : أفضت عليه من مالي فهذه تجزئة لذات الله ، وقد أبطلتم هذا وذكرتم أن إفاضته ليست بمعنى انفصال جزء منه.

فقال : هذا كقول الشمس لو نطقت وقالت : أفضت على الأرض من نوري ، فيكون صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه ، وإن كان في غاية الضعف بالإضافة إلى نور الشمس ، وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم بجميع الأشياء والاطلاع عليها ، وهذه مضاهاة ومناسبة فلذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا.

فقيل له : ما معنى قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وما معنى عالم الأمر وعالم الخلق؟

فقال : كل ما يقع عليه مساحة وتقدير وهو عالم الأجسام وعوارضها يقال إنه من عالم الخلق ، والخلق هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإحداث ، يقال : خلق الشيء أي قدره قال الشاعر :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

أي تقدر ثم تقطع الأديم وما لا كمية له ولا تقدير ، فيقال : إنه أمر رباني وذلك للمضاهاة التي ذكرناها وكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشر وأرواح الملائكة يقال إنه من عالم الأمر ، فعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز ، وهو ما لا يدخل تحت المساحة والتقدير لانتفاء الكمية عنه.

فقيل له : أتتوهم أن الروح ليس مخلوقا وإن كان كذلك فهو قديم؟

فقال : قد توهم هذا جماعة وهو جهل ، بل نقول : إن الروح غير مخلوق بمعنى إنه غير

٣٦٣

مقدر بكمية ولا مساحة ، فإنه لا ينقسم ولا يتحيز ونقول أنه مخلوق ، لكنه بمعنى أنه حادث وليس بقديم. وبرهان حدوثه طويل ومقدماته كثيرة ، ولكن الحق أن الروح البشرية حدثت عند استعداد النطفة للقبول كما حدثت الصور في المرآة بحدوث الصقالة ، وإن كانت الصور سابقة الوجود على الصقالة وإيجاد هذا البرهان أنه إن كانت الأرواح موجودة قبل الأبدان لكانت إما كثيرة أو واحد وباطل وحدتها وكثرتها فباطل وجودها ، وإنما استحال وحدتها بعد التعلق بالأبدان لعلمنا ضرورة بأن ما يعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو ، ولو كان الجوهر العاقل منهما واحدا لاستحال اجتماع المتضادين فيه ، كما يستحيل في زيد وحده ، ونعني بالجوهر العاقل الروح ومحال كثرتها لأن الواحد محال أن لا يثنى ولا ينقسم إذا كان ذا مقدار كالأجسام ، فالجسم ينقسم فإنه ذو مقدار وذو بعض فيتبعض ، أما ما ليس له بعض ولا مقدار فكيف ينقسم وأما تقدير كثرتها قبل التعلق بالبدن فمحال لأنها إما أن تكون متماثلة أو مختلفة ، وكل ذلك محال ، وإنما استحال التماثل لأن وجود المثلين محال في الأصل ، ولهذا يستحيل وجود سوادين في محل ، وجسمين في مكان واحد لأن الاثنين يستدعي مغايرة ولا مغايرة هنا وسوادان في محلين جائز لأن هذا يفارق ذلك في المحل إذا اختص بمحل لا يختص به الآخر ، وكذلك يجوز محل واحد في زمانين إذ لهذا وصف ليس للآخر وهو الاقتران بهذا الزمان الخاص ، فليس في الوجود مثلان مطلقا ، بل بالإضافة كقولنا : زيد وعمرو هما مثلان في الإنسانية والجسمية ، وسواد الحبر والغراب مثلان في السوادية ، ومحال تغايرهما لأن التغاير نوعان : أحدهما باختلاف النوع والماهية كتغاير الماء والنار وتغاير السواد والبياض ، والثاني بالعوارض التي لا تدخل في الماهية كتعابير الماء الحار والماء البارد ، فإن كان تغاير الأرواح البشرية بالنوع والماهية فمحال لأن الأرواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة وهي نوع واحد ، وإن كانت متغايرة بالعوارض فمحال أيضا لأن الحقيقة الواحدة إنما يتغاير عوارضها إذا كانت متعلقة بالأجسام منسوبة إليها بنوع ما إذ الاختلاف في أجزاء الجسم ضرورة ولو في القرب من السماء والبعد عنها مثلا ، أما إذا لم يكن كذلك كان الاختلاف محالا وهذا ربما يحتاجون في تحقيقه إلى مزيد تقدير لكن هذا القدر ينبه عليه.

فقيل له : كيف يكون حال الأرواح بعد مفارقة الأجسام ولا تعلق لها بالأجسام فكيف تكثرت وتغيرت؟

فقال : لأنها اكتسبت بعد التعلق بالأبدان أوصافا مختلفة من العلم والجهل والصفاء والكدورة وحسن الأخلاق وقبحها ، فبقيت منها متغايرة فعقلت كثرتها بخلاف ما قبل الأجساد فإنه لا سبب لتغايرها.

فصل

فقيل له : ما معنى قوله عليه‌السلام : "إن الله تعالى خلق آدم على صورته" وروي "على صورة الرحمن"؟

٣٦٤

فقال : الصور اسم مشترك قد يطلق على ترتيب الأشكال ووضع بعضها ما بعض واختلاف تركيبها ، وهي الصورة المحسوسة ، وقد يطلق على ترتيب المعاني التي ليست محسوسة ، بل للمعاني ترتيب أيضا وتركيب وتناسب ، ويسمى ذلك صورة ، فيقال : صورة المسألة كذا وكذا ، وصورة الواقعة وصورة المسألة الحسابية والعقلية كذا ، والمراد بالتسوية في هذه الصورة هي الصورة المعنوية ، والإشارة به إلى المضاهاة التي ذكرناها ويرجعه ذلك إلى الذات والصفات والأفعال ، فحقيقة ذات الروح أنه قائم بنفسه ليس بعرض ولا بجسم ولا جوهر متحيز ولا يحل المكان والجهة ولا هو متصل بالبدن والعالم ، ولا هو منفصل ، ولا هو داخل في أجسام العالم والبدن ، ولا هو خارج ، وهذا كله في حقيقة ذات الله تعالى ، وأما الصفات فقد خلق حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما ، والله تعالى كذلك. وأما الأفعال فمبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها في القلب أولا فيسري منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذي هو بخار لطيف في تجويف القلب ، فيتصاعد منه إلى الدماغ ثم يسرى منه إلى الأعصاب الخارجة من الدماغ ، ومن الأعصاب إلى الأوتار والرباطات المتعلقة بالعضل ، فتنجذب الأوتار فيتحرك بها الأصابع ، ويتحرك بالأصابع القلم ، وبالقلم المداد مثلا ، فيحدث منه صورة ما يريد كتبه على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل ، فإنه ما لم يتصور في خياله صورة المكتوب أولا لا يمكن إحداثه على البياض ثانيا ، ومن استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الأرض بواسطة تحريك السماوات والكواكب ، وذلك بطاعة الملائكة له في تحريك السماوات علم أن تصرف الآدمي في عالمه أعني بدنه يشبه تصرف الخالق في العالم الأكبر وهو مثله ، وانكشف له أن نسبة شكل القلب إلى تصرفه نسبة العرش ونسبة الدماغ نسبة الكرسي والحواس كالملائكة الذين يطيعون الله طبعا ولا يستطيعون خلافا ، والأعصاب والأعضاء كالسماوات ، والقدرة في الأصابع كالطبيعة المسخرة المركوزة في الأجسام ، والقرطاس والقلم والمداد كالعناصر التي هي أمهات المركبات في قبول الجمع والتركيب والتفرقة ومرآة التخيل كاللوح المحفوظ فمن اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف معنى قوله عليه‌السلام : إن الله تعالى خلق آدم على صورته ، ومعرفة ترتيب أفعال الله تعالى معرفة غامضة يحتاج فيها إلى تحصيل علوم كثيرة ، وما ذكرناه إشارة إلى جملة منها.

قيل له : فما معنى قوله عليه‌السلام : " من عرف نفسه فقد عرف ربه"؟

قال : لأن الأشياء تعرف بالأمثلة المناسبة ، ولو لا المضاهات المذكورة لم يقدر الإنسان على الترقي من معرفة نفسه إلى معرفة الخالق ، فلو لا أن الله تعالى جمع في الآدمي ما هو مثال جملة العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من العوالم ، وكأنه رب في عالمه متصرف لما عرف العالم والتصرف والربوبية والعقل والقدرة والعلم وسائر الصفات الإلهية ، فصارت النفس بمضاهاتها وموازناتها مرقاة إلى معرفة خالق النفس ، وفي استكمال المعرفة بالمسألة التي قبل

٣٦٥

هذه ما ينكشف الغطاء عن وجه هذه المسألة.

فقيل له : إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله عليه‌السلام : " خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام" ، وقوله عليه‌السلام : " أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا" ، وقوله : " كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين"؟

فقال : ليس في هذا ما يدل على قدم الروح ، بل يدل على حدوثه ، وكونه مخلوقا. نعم ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على الجسد وأمر الظواهر هيّن ، فإن تأويلها ممكن والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر بل يسلط على تأويل الظواهر ، كما في ظواهر التشبيه في حق الله تعالى.

أما قوله عليه‌السلام : " خلق الله الأرواح قبل الأجساد" ، فلعله أراد بالأرواح الملائكة ، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والكواكب والهواء والأرض والماء ، وكما أن أجساد الآدمين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى جرم الأرض وجرم الأرض أصغر من جرم الشمس بكثير ، ثم لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها ولا لفلكها إلى السماوات التي فوقه ، ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض ، والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش ، فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد ، فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم ، ولو انفتح لك باب معرفة الأرواح لرأيت الأرواح البشرية بالإضافة إلى أرواح الملائكة كسراج اقتبست من نار عظيم طبق العالم ، وتلك النار العظيمة هي أرواح الملائكة ، ولأرواح الملائكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبته ، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان بخلاف الأرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع والرتبة. أما الملائكة ، فكل واحد نوع برأسه هو كل ذلك النوع وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات : ١٦٤ و ١٦٥].

ويقوله عليه‌السلام : الراكع منهم لا يسجد والقائم لا يركع ، وإنه ما من واحد منهم إلا له مقام معلوم ، فلا يفهم إذا من الأرواح والأجساد المطلقة إلا أرواح الملائكة وأجساد العالم.

وأما قوله عليه‌السلام : " أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا" ، فالخلق هنا هو التقدير دون الإيجاد ، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودا مخلوقا ، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، وهو معنى قولهم : أول الفكر آخر العمل. بيانه أن المهندس المقدر للدار أول ما يمثل في نفسه صورة الدار ، فيحصل في تقديره دار كاملة ، وآخر ما يوجد من أثر أعماله هي الدار الكاملة وهي أول الأشياء في حقّه تقديرا وآخرها وجودا ، لأن ما قبلها من ضرب اللبن وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى غاية وكمال وهي الدار ، ولأجلها تقدمت الآلات والأعمال ، فإذا عرفت هذا فاعلم أن المقصود فطرة الآدميين إدراكهم بسعادة القرب من الحضر الإلهية ، ولم يكن ذلك إلا بتعريف الأنبياء وكانت النبوة مقصودة بالإيجاد ، والمقصود كمالها وغايتها لا أولها ، وإنما تكمل بحسب سنة الله تعالى بالتدريج كما تكمل

٣٦٦

عمارة الدار بالتدريج لتمهد أصل النبوة بآدم عليه‌السلام ، ولم يزل ينمو ويكمل حتى بلغ الكمال بمحمد عليه‌السلام ، وكان المقصود كمال النبوة وغايتها وتمهيد أوائلها وسيلة إليها كتأسيس البنيان وتمهيد أصول الحيطان ، فإنه وسيلة إلى كمال صورة الدار ولهذا السر كان خاتم النبيين فإن الزيادة على الكمال نقصان وكمال شكل الآلة الباطشة كف عليه خمس أصابع ، فكما أن ذا الأصابع الأربعة ناقص فذو الأصابع الستة ناقص ، لأن السادسة زيادة على الكفاية فهو نقصان في الحقيقة ، وإن كانت زيادة في الصور ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام : مثل النبوة كمثل دار معمورة لم يبق فيها إلا موضع لبنة ، فكنت أنا موضع تلك اللبنة أو لفظ هذا معناه ، فإذا عرفت أن كونه خاتم النبيين ضرورة لا يتصور خلافة إذا بلغ به الغاية والكمال ، والغاية أول في التقدير ، آخر في الوجود.

وأما قوله عليه‌السلام : " كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين". فهو أيضا إشارة إلى ما ذكرناه ، وأنه كان نبيا في التقدير قبل تمام خلقه آدم عليه‌السلام ، لأنه لم يشأ خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ، ولا يزال يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء ، فقيل الروح القدسي النبوي المحمدي ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن تعلم أن للدار ، مثلا وجودين وجود في ذهن المهندس ودماغه حتى كأنه ينظر إلى صورة الدار ، ووجودها خارج الذهن في الأعيان. والوجود الذهني سبب الوجود الخارجي العيني فهو سابق لا محالة ، فكذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا وإنما التقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في اللوح أو في القرطاس ، فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود ، فيكون هو سببا للوجود الحقيقي ، كما أن هذه الصورة ترسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم مجريه ، فكذلك تقدير صورة الأمور الإلهية ترسم أولا في اللوح المحفوظ ، وإنما ينتقش اللوح المحفوظ من القلم والقلم يجري على وفق العلم ، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصورة فيه ، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح المنتقش ، فإن حد القلم هو الناقش لصور ، وليس من شرطهما أن يكون قصبا أو خشبا المعلومات في اللوح ، واللوح هو المنتقش بتلك الصور ، بل من شرطهما أن لا يكونا جسمين فالجسمية لا تدخل في حد القلمية واللوحية هو ما ذكرنا والزائد عليه صورته لا معناه ، فلا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقا بإصبعيه ويده ، وكل ذلك على ما يليق بذاته وإلهيته فتقدس عن حقيقة الجسمية ، بل جملتها جواهر روحانية. عالية بعضها معلم كالقلم ، وبعضها متعلم كاللوح ، فإن الله تعالى علم بالقلم ، فإذا فهمت نوعي الوجود فقد كان نبيا قبل آدم عليه‌السلام بمعنى الوجود الأول التقديري دون الوجود الثاني الحسي العيني ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين آمين.

٣٦٧

بداية الهداية

٣٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد رسوله وعبده ، وعلى آله وصحبه من بعده.

أما بعد ؛ فاعلم أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم ، المظهر من نفسه صدق الرغبة وفرض التعطش إليه ، أنك إن كنت تقصد بطلب العلم المنافسة والمباهاة والتقدم على الأقران واستمالة وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنيا ، فأنت ساع في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع آخرتك بدنياك ، فصفقتك خاسرة وتجارتك بائرة ومعلمك معين لك على عصيانك وشريك لك في خسرانك ، وهو كبائع سيف من قاطع طريق كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من أعان على معصية ولو بشطر كلمة كان شريكا له فيها».

وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العلم الهداية دون مجرد الرواية فأبشر ، فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت ، وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت ؛ ولكن ينبغي لك أن تعلم قبل كل شيء أن الهداية التي هي ثمرة العلم ، لها بداية ونهاية وظاهر وباطن ، ولا وصول إلى نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها ، ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف على ظاهرها.

وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك وتمتحن بها قلبك ، فإن صادفت قلبك إليها مائلا ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة ، فدونك التطلع إلى النهايات والتغلغل في بحار العلوم ، وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوقا وبالعمل بمقتضاها مماطلا ، فاعلم أن نفسك المائلة إلى طلب العلم هي النفس الأمارة بالسوء ، وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلاك ، وقصده أن يروج عليك الشر في معرض الخير حتى يلحقك بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل العلم ودرجة العلماء وما ورد فيه من الآثار والأخبار ، ويلهيك عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلّا بعدا" ، وعن قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه". وكانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : " اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعمل لا يرفع ودعاء لا يسمع" ، وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ قالوا : كنّا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشّرّ ونأتيه».

فإياك يا مسكين أن تذعن لتزويره فيدليك بحبل غروره ، فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة

٣٦٩

واحدة! وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم ألف مرة!

واعلم أن الناس في طلب العلم على ثلاثة أحوال : رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد ، ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة ، فهذا من الفائزين ، ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة ، وينال به العز والجاه والمال ، وهو عالم مستشعر في قلبه ركاكة حاله وخسة مقصده ؛ فهذا من المخاطرين ، فإن عاجله أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة وبقي أمره في خطر المشيئة ، وإن وفق للتوبة قبل حلول الأجل وأضاف إلى العلم العمل وتدارك ما فرط فيه من الخلل ، التحق بالفائزين ؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان ، فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال والتفاخر بالجاه والتعزز بكثرة الأتباع ، يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن يقضي من الدنيا وطره ، وهو مع ذلك يضمر في نفسه أنه عند الله بمكانة لاتّسامه بسمة العلماء وترسّمه برسومهم في الزي والمنطق ، مع تكالبه على الدنيا ظاهرا وباطنا ؛ فهذا من الهالكين ومن الحمقى المغرورين ، إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين وهو غافل عن قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] وهو ممن قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أنا من غير الدّجّال أخوف عليكم من الدّجّال ، فقيل : وما هو يا رسول الله؟ فقال: علماء السّوء». وهذا لأن الدجال غايته الإضلال ، ومثل هذا العالم وإن صرف الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله فهو داع لهم إليها بأعماله وأحواله ، ولسان الحال أفصح من لسان المقال ، وطباع الناس إلى المشاهدة في الأعمال أميل منها إلى المتابعة في الأقوال ؛ فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله إذ لا يستجرئ الجاهل على الرغبة في الدنيا إلا باستجراء العلماء ، فقد صار علمه سببا لجرأة عباد الله على معاصيه ، ونفسه الجاهلة مدلة مع ذلك تمنيه وترجيه ، وتدعوه إلى أن يمنّ على الله بعلمه ، وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد الله. فكن أيها الطالب من الفريق الأول ، واحذر أن تكون من الفريق الثاني! فكم من مسوف عاجله الأجل قبل التوبة فخسر ، وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث فتهلك هلاكا لا يرجى معه فلاحك ولا ينتظر صلاحك.

فإن قلت : فما بداية الهداية لأجرب بها نفسي؟

فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى ، ونهايتها باطنة التقوى ، فلا عاقبة إلا بالتقوى ، ولا هداية إلا للمتقين. والتقوى عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه ، فهما قسمان. وها أنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم التقوى في القسمين جميعا ، وألحق قسما ثالثا ليصير هذا الكتاب جامعا مغنيا والله المستعان.

القسم الأول في الطاعات

اعلم أن أوامر الله تعالى فرائض ونوافل : فالفرض رأس المال وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة ، والنفل هو الربح وبه الفوز بالدرجات ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يقول الله تبارك وتعالى : ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل أداء ما افترضت عليهم ، ولا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى

٣٧٠

أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها ورجله الّتي يمشي بها»

ولن تصل أيها الطالب إلى القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك وجوارحك في لحظاتك وأنفاسك من حين تصبح إلى حين تمسي ؛ فاعلم أنّ الله تعالى مطلع على ضميرك ، ومشرف على ظاهرك وباطنك ، ومحيط بجميع لحظاتك وخطراتك وخطواتك ، وسائر سكناتك وحركاتك ، وأنك في مخالطتك وخلواتك متردد بين يديه ، فلا يسكن في الملك والملكوت ساكن ولا يتحرك متحرك إلا وجبار السماوات والأرض مطلع عليه (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: ١٩] و (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧]. فتأدب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يدي الله تعالى بأدب العبد الذليل المذنب في حضرة الملك الجبار القهار ، واجتهد أن لا يراك مولاك حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك ، ولن تقدر على ذلك إلا بأن توزع أوقاتك وترتب أورادك من صباحك إلى مسائك ، فاصغ إلى ما يلقى إليك من أوامر الله تعالى عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك.

فصل في آداب الاستيقاظ من النوم

فإذا استيقظت من النوم فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر ، وليكن أول ما يجري على قلبك ولسانك ذكر الله تعالى ، فقل عند ذلك : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ، أصبحنا وأصبح الملك لله ، والعظمة والسلطان لله ، والعزة والقدرة لله رب العالمين ؛ أصبحنا على فطرة الإسلام ، وعلى كلمة الإخلاص ، وعلى دين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين. اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور. اللهم إنا نسألك أن تبعثنا في هذا اليوم إلى كل خير ، ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءا أو نجره إلى مسلم أو يجره أحد إلينا. نسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه.

فإذا لبست ثيابك فانو به امتثال أوامر الله تعالى في ستر عورتك ، واحذر أن يكون قصدك من لباسك مراءاة الخلق فتخسر.

باب آداب دخول الخلاء

فإذا قصدت بيت الخلاء لقضاء الحاجة فقدم في الدخول رجلك اليسرى ، وفي الخروج رجلك اليمنى. ولا تستصحب شيئا عليه اسم الله تعالى ورسوله ، ولا تدخل حاسر الرأس ولا حافي القدمين. وقل عند الدخول : باسم الله ، أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ؛ وعند الخروج : غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني ، وأبقى على ما ينفعني.

وينبغي أن تعد للغسل قبل قضاء الحاجة ، وأن لا تستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة ، وأن

٣٧١

تستبرئ من البول بالتنحنح والنثر ثلاثا ، وبإمرار اليد اليسرى على أسفل القضيب. وإن كنت في الصحراء فابعد عن عيون الناظرين أو استتر بشيء إن وجدته ، ولا تكشف عورتك قبل الانتهاء إلى موضع الجلوس ، ولا تستقبل الشمس ولا القمر ، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تجلس في متحدث الناس ، ولا تبل في الماء الراكد وتحت الشجرة المثمرة ، ولا في الجحر.

واحذر الأرض الصلبة ومهب الريح احترازا من الرشاش ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ عامّة عذاب القبر منه». واتكئ في جلوسك على الرجل اليسرى ، ولا تبل قائما إلا عن ضرورة ، واجمع في الاستنجاء بين استعمال الحجر والماء ، فإذا اردت الاقتصار عن أحدهما فالماء أفضل ، وإن اقتصرت على الحجر فعليك أن تستعمل ثلاثة أحجار طاهرة منشفة للعين ، تمسح بها محل النجو بحيث لا تنقل النجاسة عن موضعها ، وكذلك تمسح القضيب في ثلاثة مواضع من حجر ، فإن لم يحصل الإنقاء بثلاثة فتمم خمسة أو سبعة إلى أن ينقى بالإيتار ، فالإيتار مستحب والإنقاء واجب. ولا تستنج إلا باليد اليسرى ، وقل عند الفراغ من الاستنجاء : اللهم طهر قلبي من النفاق ، وحصن فرجي من الفواحش. وادلك يدك بعد تمام الاستنجاء بالأرض أو بحائط ثم اغسلها.

آداب الوضوء

فإذا فرغت من الاستنجاء فلا تترك السواك ، فإنه مطهرة للفم ومرضاة للرب ومسخطة للشيطان ، وصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك ؛ وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك في كلّ صلاة" ، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أمرت بالسّواك حتّى خشيت أن يكتب علي".

ثم اجلس للوضوء مستقبل القبلة على موضع مرتفع كي لا يصيبك الرشاش وقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، رب أعوذ بك من همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون. ثم اغسل يديك ثلاثا قبل أن تدخلهما الإناء وقل : اللهم إني أسألك اليمن والبركة ، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة. ثم انو رفع الحدث أو استباحة الصلاة ؛ ولا ينبغي أن تعزب نيتك قبل غسل الوجه فلا يصح وضوؤك. ثم خذ غرفة لفيك وتمضمض بها ثلاثا ، وبالغ في رد الماء إلى الغلصمة ، إلا أن تكون صائما ، فترفق وقل : اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك ، وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ثم خذ غرفة لأنفك واستنشق بها ثلاثا ، واستنثر ما في الأنف من الرطوبة ، وقل في الاستنشاق : اللهم أرحني رائحة الجنة وأنت عني راض ؛ وفي الاستنثار : اللهم إني أعوذ بك من روائح النار وسوء الدار. ثم خذ غرفة لوجهك فاغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول ، ومن الأذن إلى الأذن في العرض ، وأوصل الماء إلى موضع التحذيف ، وهو ما يعتاد النساء تنحية الشعر عنه وهو ما بين رأس الأذن إلى زاوية الجبين ، أعني ما يقع منه في جبهة الوجه ؛ وأوصل الماء إلى منابت

٣٧٢

الشعور الأربعة : الحاجبين ، والشاربين ، والأهداب ، والعذارين ؛ وهما ما يوازيان الأذنين من مبتدأ اللحية. ويجب إيصال الماء إلى منابت الشعر من اللحية الخفيفة دون الكثيفة ؛ وقل عند غسل الوجه : اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ، ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك. ولا تترك تخليل اللحية الكثيفة.

ثم اغسل يدك اليمنى ، ثم اليسرى مع المرفقين إلى أنصاف العضدين ، فإن الحلية في الجنة تبلغ مواضع الوضوء ، وقل عند غسل اليمنى : اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حسابا يسيرا ؛ وعند غسل الشمال : اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري.

ثم استوعب رأسك بالمسح بأن تبلّ يديك ، وتلصق رءوس أصابع يدك اليمنى باليسرى ، وتضعهما على مقدمة الرأس ، وتمرهما إلى القفا ، ثم تردهما إلى المقدمة ، فهذه مرة ؛ تفعل ذلك ثلاث مرات ؛ وكذلك في سائر الأعضاء وقل : اللهم غشّني برحمتك ، وأنزل علي من بركاتك ، وأظللني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ؛ اللهم حرم شعري وبشري على النار.

ثم امسح أذنيك ظاهرهما وباطنهما بماء جديد ، وأدخل مسبّحتيك في صماخي أذنيك ، وامسح ظاهر أذنيك ببطن إبهاميك وقل : اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم أسمعني منادي الجنة في الجنة مع الأبرار.

ثم امسح رقبتك وقل : اللهم فك رقبتي من النار ، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال.

ثم اغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين ، وخلل بخنصر اليسرى أصابع رجلك اليمنى مبتدئا بخنصرها حتى تختم بخنصر اليسرى ، وتدخل الأصابع من أسفل وقل : اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم مع أقدام عبادك الصالحين. وكذلك تقول عند غسل اليسرى : اللهم إني أعوذ بك أن تزل قدمي على الصراط في النار يوم تزل أقدام المنافقين والمشركين.

وارفع الماء إلى أنصاف الساقين ، وراع التكرار ثلاثا في جميع أفعالك. فإذا فرغت من الوضوء فارفع بصرك إلى السماء وقل : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، عملت سوءا وظلمت نفسي ، أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، واجعلني من عبادك الصالحين ، واجعلني صبورا شكورا ، واجعلني أذكرك ذكرا كثيرا وأسبحك بكرة وأصيلا.

فمن قال هذه الدعوات في وضوئه خرجت خطاياه من جميع أعضائه ، وختم على وضوئه بخاتم ، ورفع له تحت العرش ، فلم يزل يسبح الله تعالى ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة.

واجتنب في وضوئك سبعا : لا تنفض يديك فترش الماء. ولا تلطم وجهك ولا رأسك بالماء لطما. ولا تتكلم في أثناء الوضوء. ولا تزد في الغسل على ثلاث مرات. ولا تكثر صب الماء من

٣٧٣

غير حاجة لمجرد الوسوسة ، فللموسوسين شيطان يلعب بهم يقال له الوهان. ولا تتوضأ بالماء المشمس ولا من الأواني الصفرية فهذه السبعة مكروهة في الوضوء. وفي الخبر أن من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله ، ومن لم يذكر الله لم يطهر منه إلا ما أصابه الماء.

آداب الغسل

فإذا أصابتك جنابة من احتلام أو وقاع ، فخذ الإناء إلى المغتسل واغسل يديك أولا ثلاثا ، وأزل ما على بدنك من قذر ، وتوضأ كما سبق في وضوئك للصلاة مع جميع الدعوات ؛ وأخر غسل قدميك كيلا يضيع الماء. فإذا فرغت من الوضوء فصب الماء على رأسك ثلاثا وأنت ناو رفع الحدث من الجنابة ، ثم على شقك الأيمن ثلاثا ثم الأيسر ثلاثا. وادلك ما أقبل من بدنك وما أدبر ثلاثا ثلاثا ، وخلل شعر رأسك ولحيتك ، وأوصل الماء إلى معاطف البدن ومنابت الشعر ما خف منه وما كثف. واحذر أن تمس ذكرك بعد الوضوء ، فإن أصابته يدك فأعد الوضوء ، والفريضة من جملة ذلك كله النية وإزالة النجاسة واستيعاب البدن بالغسل.

وفرض الوضوء غسل الوجه واليدين مع المرفقين ، ومسح بعض المرفقين ، ومسح بعض الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة مرة مع النية والترتيب ، وما عداها سنن مؤكدة فضلها كثير وثوابها جزيل ، والمتهاون بها خاسر بل هو بأصل فرائضه مخاطر ، فإن النوافل جوابر للفرائض.

آداب التيمم

فإن عجزت عن استعمال الماء لفقده بعد الطلب ، أو لعذر من مرض ، أو لمانع من الوصول إليه من سبع أو حبس ، أو كان الماء الحاضر تحتاج إليه لعطشك أو لعطش رفيقك ، أو كان ملكا لغيرك ولم يبع إلا بأكثر من ثمن المثل ، أو كانت بك جراحة أو مرض تخاف منه على نفسك ، فاصبر حتى يدخل وقت الفريضة ثم اقصد صعيدا طيبا عليه تراب خالص طاهر لين ، فاضرب عليه بكفيك ضامّا بين أصابعك ، وانو استباحة فرض الصلاة وامسح بهما وجهك كله مرة واحدة ، ولا تتكلف إيصال الغبار إلى منابت الشعر خفّ أو كثف ، ثم انزع خاتمك واضرب ضربة ثانية مفرقا بين أصابعك ، وامسح بهما يديك مع مرفقيك ، فإن لم تستوعبهما فاضرب ضربة أخرى إلى أن تستوعبهما ، ثم امسح إحدى كفيك بالأخرى ، وامسح ما بين أصابعك بالتخليل ، وصلّ به فرضا واحدا وما شئت من النوافل ، فإن أردت فرضا ثانيا فاستأنف له تيمما آخر.

آداب الخروج إلى المسجد

فإذا فرغت من طهارتك فصلّ في بيتك ركعتي الصبح إن كان الفجر قد طلع ، كذلك كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم توجه إلى المسجد ، ولا تدع صلاة في الجماعة لا سيما الصبح ، فصلاة الجماعة تفضل على صلاة الفجر بسبع وعشرين درجة. فإن كنت تتساهل في مثل هذا

٣٧٤

الربح فأي فائدة لك في طلب العلم؟ وإنما ثمرة العلم العمل به ، فإذا سعيت إلى المسجد فامش على هينة وتؤدة وسكينة ، ولا تعجل ، وقل في طريقك : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق الراغبين إليك ، وبحق ممشاي هذا إليك ، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ، بل خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، فأسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

آداب دخول المسجد

فإذا أردت الدخول إلى المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك.

ومهما رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع فقل : لا أربح الله تجارتك! وإذا رأيت فيه من ينشد ضالة فقل : لا ردّ الله عليك ضالتك! كذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصلي ركعتي التحية ، فإن لم تكن على طهارة أو لم ترد فعلها كفتك الباقيات الصالحات ثلاثا ، وقيل أربعا ، وقيل ثلاثا للمحدث ، وواحدة للمتوضئ. فإن لم تكن صليت في بيتك ركعتي الفجر فيجزئك أداؤهما عن التحية ؛ فإذا فرغت من الركعتين فانو الاعتكاف وادع بما دعا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ركعتي الفجر فقل : " اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، وتجمع بها شملي ، وتلم بها شعثي ، وترد بها ألفتي ، وتصلح بها ديني ، وتحفظ بها غائبي ، وترفع بها شاهدي ، وتزكي بها عملي ، وتبيض بها وجهي ، وتلهمني بها رشدي ، وتقضي لي بها حاجتي ، وتعصمني بها من كل سوء اللهم إني اسألك إيمانا خالصا دائما يباشر قلبي ، وأسألك يقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته علي ، ورضني بما قسمته لي. اللهم إني أسألك إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر ، وأسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك الفوز عند اللقاء ، والصبر عند القضاء ، ومنازل الشهداء ، وعيش السعداء ، والنصر على الأعداء ، ومرافقة الأنبياء. اللهم إني أنزل بك حاجتي وإن ضعف رأيي وقصر عملي وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ، ومن فتنة القبور ، ومن دعوة الثبور. اللهم ما قصر عنه رأيي وضعفي عنه عملي ولم تبلغه نيتي وأمنيتي من خير وعدته أحدا من عبادك ، أو خير أنت معطيه أحدا من خلقك ، فإني أرغب إليك فيه ، وأسألك إياه يا رب العالمين. اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، حربا لأعدائك ، سلما لأوليائك ؛ نحب بحبك الناس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة ، وهذا الجهد وعليك التكلان. وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد ، أسألك الأمن يوم الوعيد ، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود ، الركع السجود ، الموفين لك بالعهود ، إنك رحيم ودود ، وأنت تفعل ما تريد ، سبحان من اتصف بالعز وقال به! سبحان من لبس المجد وتكرم به! سبحان

٣٧٥

من لا ينبغي التسبيح إلا له! سبحان ذي الفضل والنعم! سبحان ذي الجود والكرم! سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه! اللهم اجعل لي نورا في قلبي ، ونورا في قبري ، ونورا في سمعي ، ونورا في بصري ، ونورا في شعري ، ونورا في بشري ، ونورا في لحمي ، ونورا في دمي ، ونورا في عظامي ، ونورا من بين يدي ، ونورا من خلفي ، ونورا عن شمالي ، ونورا من فوقي ، ونورا من تحتي. اللهم زدني نورا وأعطني نورا أعظم نور ، واجعل لي نورا برحمتك يا أرحم الراحمين.

فإذا فرغت من الدعاء فلا تشتغل إلى وقت الفرض إلا بذكر أو تسبيح أو قراءة قرآن ، فإذا سمعت الأذان في أثناء ذلك فاقطع ما أنت فيه واشتغل بجواب المؤذن ، فإذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقل مثل ذلك ، وكذلك في كل كلمة إلا في الحيعلتين فقل فيهما : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإذا قال : الصلاة خير من النوم ، فقل : صدقت وبررت وأنا على ذلك من الشاهدين. فإذا سمعت الإقامة فقل مثل ما يقول إلا في قوله : قد قامت الصلاة ، فقل : أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض. فإذا فرغت من جواب المؤذن فقل : اللهم إني أسألك عند حضور صلاتك ، وأصوات دعاتك ، وإدبار ليلك ، وإقبال نهارك ، أن تؤتي محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ، إنك لا تخلف الميعاد يا أرحم الراحمين ، فإذا سمعت الأذان وأنت في الصلاة فتمم الصلاة ثم تدارك الجواب بعد السلام على وجهه ، فإذا أحرم الإمام بالفرض فلا تشتغل إلا بالاقتداء به ، وصلّ الفرض كما سيتلى عليك في كيفية الصلاة وآدابها.

فإذا فرغت فقل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم ؛ اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام ، فحينا ربنا بالسلام ، وأدخلنا الجنة دار السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، سبحان ربي العلي الأعلى ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.

ثم ادع بعد ذلك بالجوامع الكوامل ما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة رضي الله عنها ، فقل : " اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم ، وأسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد ، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد ، وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اللهم وما قضيت علي من أمر فاجعل عاقبته رشدا".

ثم ادع بما أوصى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة رضي الله عنها : فقل : " يا حي يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك أستغيث ومن عذابك أستجير. لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله بما أصلحت به الصالحين".

ثم قل ما قاله عيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام : " اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما

٣٧٦

أكره ، ولا أملك نفع ما أرجو ، وأصبح الأمر بيدك لا بيد غيرك ، وأصبحت مرتهنا بعملي ؛ فلا فقير أفقر مني إليك ، ولا غني أغنى منك عني. اللهم لا تشمت بي عدوي ، ولا تسؤ بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي في ديني ، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي ، ولا تسلط علي بذنبي من لا يرحمني".

ثم ادع بما بدا لك من الدعوات المشهورات ، واحفظها مما أوردناه في كتاب الدعوات من كتاب إحياء علوم الدين.

ولتكن أوقاتك بعد الصلاة إلى طلوع الشمس موزعة على أربع وظائف : وظيفة في الدعوات ، ووظيفة في الأذكار والتسبيحات ، وتكررها في سبحة ، ووظيفة في قراءة القرآن ، ووظيفة في التفكر ؛ فتفكر في ذنوبك وخطاياك ، وتقصيرك في عبادة مولاك ، وتعرضك لعقابه الأليم وسخطه العظيم ، وترتب أوقاتك بتدبيرك أورادك في جميع يومك ، لتتدارك به ما فرطت من تقصيرك ، وتحترز من التعرض لسخط الله تعالى الأليم في يومك ، وتنوي الخير لجميع المسلمين ، وتعزم أن لا تشتغل في جميع نهارك إلا بطاعة الله تعالى ، وتفصل في قلبك الطاعات التي تقدر عليها ، وتختار أفضلها ، وتتأمل تهيئة أسبابها لتشغل بها ، ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل ، وحلول الموت القاطع للأمل ، وخروج الأمر عن الاختيار ، وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار.

وليكن من تسبيحاتك وأذكارك عشر كلمات : إحداهن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. الثانية : لا إله إلا الله الملك الحق المبين. الثالثة : لا إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما ، العزيز الغفار. الرابعة : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الخامسة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح. السادسة : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. السابعة : أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة والمغفرة. الثامنة : اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. التاسعة : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم. العاشرة : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. تكرر كل واحدة من هذه الكلمات إما مائة مرة ، أو سبعين مرة ، أو عشر مرات وهو أقله ، ليكون المجموع مائة.

ولازم هذه الأذكار ولا تتكلم قبل طلوع الشمس ، ففي الخبر أن ذلك أفضل من إعتاق ثمان رقاب من ولد إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ؛ أعني الاشتغال بالذكر إلى طلوع الشمس من غير أن يتخلله كلام.

آداب ما بين طلوع الشمس إلى الزوال

فإذا طلعت الشمس وارتفعت قدر رمح فصلّ ركعتين ، وذلك عند زوال وقت الكراهة للصلاة ، فإنها مكروهة من بعد فريضة الصبح إلى ارتفاع الشمس. فإذا أضحى النهار ومضى منه قريب من ربعه ، فصلّ

٣٧٧

صلاة الضحى أربعا أو ستّا أو ثمانيا مثنى ، فقد نقلت هذه الأعداد كلها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والصلاة خير كلها ، فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل ، فليس بين طلوع الشمس والزوال راتبة من الصلاة إلا هذه ؛ فما فضل عنها من أوقاتك فلك فيه أربع حالات :

الحالة الأولى : وهي الأفضل ، أن تصرفه في طلب العلم النافع في الدين دون الفضول الذي أكب الناس عليه وسموه علما. والعلم النافع هو ما يزيد في خوفك من الله تعالى ، ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك ، ويزيد في معرفتك بعبادة ربك ، ويقلل من رغبتك في الدنيا ، ويزيد في رغبتك في الآخرة ، ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها ، ويطلعك على مكايد الشيطان وغروره ، وكيفية تلبيسه على علماء السوء حتى عرضهم لمقت الله تعالى وسخطه ، حيث اشتروا الدنيا بالدين ، واتخذوا العلم ذريعة ووسيلة إلى أخذ أموال السلاطين وأكل أموال الأوقاف واليتامى والمساكين ، وصرف همتهم طول نهارهم إلى طلب الجاه والمنزلة في قلوب الخلق ، واضطرهم ذلك إلى المراءاة والمماراة ، والمناقشة في الكلام والمباهاة. وهذا الفن من العلم النافع قد جمعناه في كتاب إحياء علوم الدين ، فإن كنت من أهله فحصله واعمل به ، ثم علمه وادع إليه ؛ فمن علم ذلك وعمل به ثم علمه ودعا إليه ، فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماوات بشهادة عيسىعليه‌السلام.

فإذا فرغت من ذلك كله ، وفرغت من إصلاح نفسك ظاهرا وباطنا ، وفضل شيء من أوقاتك ، فلا بأس أن تشتغل بعلم المذهب في الفقه لتعرف به الفروع النادرة في العبادات ، وطريق التوسط بين الخلق في الخصومات عند انكبابهم على الشهوات ، فذلك أيضا بعد الفراغ من هذه المهمات من جملة فروض الكفايات. فإن دعتك نفسك إلى ترك ما ذكرناه من الأوراد والأذكار استثقالا لذلك ، فاعلم أن الشيطان اللعين قد دسّ في قلبك الداء الدفين ، وهو حب المال والجاه ، فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فيهلكك ثم يسخر منك. فإن جبرت نفسك مدة في الأوراد والعبادات فكنت لا تستثقلها كسلا عنها ، لكن ظهرت رغبتك في تحصيل العلم النافع ولم ترد به إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فذلك أفضل من نوافل العبادات مهما صحت النية ؛ ولكن الشأن في صحة النية ، فإن لم تصح فهو معدن غرور الجهال ومزلة أقدام الرجال.

الحالة الثانية : أن لا تقدر على تحصيل العلم النافع في الدين ، لكن تشتغل بوظائف العبادات من الذكر والتسبيح والقراءة والصلاة ، فذلك من درجات العابدين وسير الصالحين ، وتكون أيضا بذلك من الفائزين.

الحالة الثالثة : أن تشتغل بما يصل منه خير إلى المسلمين ، ويدخل به سرور على قلوب المؤمنين ، أو يتيسر به الأعمال الصالحة للصالحين ، كخدمة الفقهاء والصوفية وأهل الدين ، والتردد في أشغالهم والسعي في إطعام الفقراء والمساكين ، والتردد مثلا على المرضى بالعيادة وعلى الجنائز بالتشييع ؛ فكل ذلك أفضل من النوافل ، فإن هذه عبادات وفيها رفق للمسلمين.

٣٧٨

الحالة الرابعة : إن لم تقو على ذلك فاشتغل بحاجاتك اكتسابا على نفسك أو على عيالك ، وقد سلم منك المسلمون وأمنوا من لسانك ويدك ، وسلم لك دينك إذا لم ترتكب معصية ، فتنال بذلك درجة أصحاب اليمين إن لم تكن من أهل الترقي إلى مقامات السابقين ؛ فهذا أقل الدرجات في مقامات الدين ، وما بعد هذا فهو مراتع الشياطين ، وذلك بأن تشتغل والعياذ بالله بما يهدم دينك ، أو تؤذي عبدا من عباد الله تعالى ، فهذه رتبة الهالكين ؛ فإياك أن تكون في هذه الطبقة.

واعلم أن العبد في حق دينه على ثلاث درجات : إما سالم ، وهو المقتصر على أداء الفرائض وترك المعاصي. أو رابح ، وهو المتطوع بالقربات والنوافل. أو خاسر ، وهو المقصر على اللوازم ، فإن لم تقدر أن تكون رابحا فاجتهد أن تكون سالما ، وإياك ثم إياك أن تكون خاسرا.

والعبد في حق سائر العباد له ثلاث درجات : الأولى : أن ينزل في حقهم منزلة الكرام البررة من الملائكة ، وهو أن يسعى في أغراضهم رفقا بهم وإدخالا للسرور على قلوبهم. الثانية : أن ينزل في حقهم منزلة البهائم والجمادات ، فلا ينالهم خيره ولكن يكف عنهم شره. الثالثة : أن ينزل في حقهم منزلة العقارب والحيات والسباع الضاريات ، لا يرجى خيره ويتقى شره. فإن لم تقدر على أن تلتحق بأفق الملائكة فاحذر أن تنزل عن درجة البهائم والجمادات إلى مراتب العقارب والحيات والسباع الضاريات ، فإن رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين فلا ترض لها بالهوى إلى أسفل سافلين ، فلعلك تنجو كفافا لا لك ولا عليك. فعليك في بياض نهارك أن لا تشتغل إلا بما ينفعك في معادك أو معاشك الذي لا تستغني عنه وعن الاستعانة به على معادك ، فإن عجزت عن القيام بحق دينك مع مخالطة الناس وكنت لا تسلم ، فالعزلة أولى لك ، فعليك بها ففيها النجاة والسلامة. فإن كانت الوساوس في العزلة تجاذبك إلى ما لا يرضي الله تعالى ولم تقدر على قمعها بوظائف العبادات ، فعليك بالنوم فهو أحسن أحوالك وأحوالنا ، إذا عجزنا عن الغنيمة رضينا بالسلامة في الهزيمة. فأخسّ بحال من سلامة دينه في تعطيل حياته ، إذ النوم أخو الموت ، وهو تعطيل الحياة والتحاق بالجمادات.

آداب الاستعداد لسائر الصلوات

ينبغي أن تستعد لصلاة الظهر قبل الزوال ، فتقدم القيلولة إن كان لك قيام في الليل أو سهر في الخير ، فإن فيها معونة على قيام الليل ، كما أن في السحور معونة على صيام النهار ، والقيلولة من غير قيام الليل كالسحور من غير صيام بالنهار. واجتهد أن تستيقظ قبل الزوال ، وتتوضأ ، وتحضر المسجد ، وتصلي تحية المسجد ، وتنتظر المؤذن فتجيبه ، ثم تقوم فتصلي أربع ركعات عقب الزوال ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يطولهن ويقول : «هذا وقت تفتح فيه أبواب السّماء ، فأحبّ أن يرفع لي فيه عمل صالح» وهذه الأربع قبل الظهر سنة مؤكدة ، ففي الخبر أن من صلاهن فأحسن ركوعهن وسجودهن صلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له إلى

٣٧٩

الليل. ثم تصلي الفرض مع الإمام ، ثم تصلي بعد الفرض ركعتين ، فهما من الرواتب الثابتة.

ولا تشتغل إلى العصر إلا بتعلم علم ، أو إعانة مسلم ، أو قراءة قرآن ، أو سعي في معاش تستعين به على دينك. ثم تصلي أربع ركعات قبل العصر ، فهي سنة مؤكدة ، فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " رحم الله امرأ صلّى أربعا قبل العصر». فاجتهد أن ينالك دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تشتغل بعد العصر إلا بمثل ما سبق قبله.

ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق ، بل ينبغي أن تحاسب نفسك ، وترتب أورادك في ليلك ونهارك ، وتعين لكل وقت شغلا لا تتعداه ولا تؤثر فيه سواه ، فبذلك تظهر بركة الأوقات. فأما إذا تركت نفسك سدى مهملا إهمال البهائم ، لا تدري بما ذا تشتغل في كل وقت ، فينقضي أكثر أوقاتك ضائعا ، وأوقاتك عمرك ، وعمرك رأس مالك ، وعليه تجارتك ، وبه وصولك إلى نعيم دار الأبد في جوار الله تعالى ، فكل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة لها ، إذ لا بدل له ، فإذا فات فلا عود له. فلا تكن كالحمقى المغرورين الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم ، فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص. ولا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح ، فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك ومالك وولدك وأصدقاؤك.

ثم إذا اصفرت الشمس فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب ، واشتغل بالتسبيح والاستغفار ، فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل الطلوع ؛ قال الله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه : ١٣٠].

واقرأ قبل غروب الشمس" والشمس وضحاها"" والليل إذا يغشى"" والمعوذتين" ولتغرب عليك الشمس وأنت في الاستغفار ، فإذا سمعت الأذان فأجبه وقل بعده : اللهم إني أسألك عند إقبال ليلك وإدبار نهارك ، وحضور صلاتك وأصوات دعاتك ، أن تؤتي محمدا الوسيلة والفضيلة والشرف والدرجة الرفيعة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. والدعاء كما سبق.

ثم صلّ الفرض بعد جواب المؤذن والإقامة ، وصلّ بعده ركعتين قبل أن تتكلم فهما راتبتا المغرب ، وإن صليت بعدهما أربعا فهي أيضا سنة ، وإن أمكنك أن تنوي الاعتكاف إلى العشاء تحيي ما بين العشاءين بالصلاة فافعل ، فقد ورد في فضل ذلك ما لا يحصى ؛ وهي ناشئة الليل لأنها أول نشأته ، وهي صلاة الأوابين. وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦] فقال : «هي الصّلاة ما بين العشاءين إنّها تذهب بملاغي أوّل النّهار وتهذّب آخره» ـ والملاغي جمع ملغاة وهي من اللغو.

فإذا دخل وقت العشاء فصل أربع ركعات قبل الفرض إحياء لما بين الأذانين ، ففضل ذلك كثير. وفي الخبر أن الدعاء بين الأذانين والإقامة لا يرد.

٣٨٠