مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

يتفاوت على قدر درجات المحبين ، وليس نظر الخلق كله واحدا ، فأدنى درجاتهم النظر القلبي ، أما النظر البصري فهو عند قوم عرض غير دائم ، وأعظم المنزلين هو الجمع بين النظر والقلب ، فإذا رفعت ستور الغفلة والهواء تجلى المحبوب فتلاشى المحب حتى يخرج من الستور والبشرية والحجاب الجسماني فيرى الحجاب ويسمع الخطاب (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] فعند ذلك يمتد له خطاب من الهواء في جميع ما يحدث في الكائنات فيصير عيسوي الحال (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩] فيصير الملائكة ومؤمنو الجن بحكمه وطاعته ، وينخرق بينه وبين الله روزنة يعلم بها خلاصة صفاء أسرار الكائنات ، ولكن بشرط خير العلم ، والعمل بصدق من غير تجربة. فإذا هبت نسمات اللطف برفع حجاب الغفلة انقلبت له الكائنات على ما يريد ، إذ الإرادتان امتزجتا : واحدة كما سبق في أحوال الصوفية من قولهم :

فإذا أبصرتنا أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

فيصير الناسوت معنى لطيفا يحدث له من الغيب قوة يقبل بها جميع الواردات عليه ، فمنه ثمار الكرامات والتحدث بالأمور الغيبيات ، يعرفه الباحث من جنسه وسائر الطير له منكر ، فتتجوهر النفس بزوال الأعراض الفاسدة عنها ، فتصير قدسية لا يخفى عليها الأمور الغيبية. فإن قلت : هذا نوع مشاركة عزت على الأنبياء فكيف ينالها الأولياء؟ فاعلم أن أصل الغيب هو من الله القديم ، فمنته عليهم اطلاعهم على شيء من علوم الغيب ، أما سمعته يقول : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦] وقوله (مِنْ رَسُولٍ) وهو ستر على الحال لئلا يحسب أجلاف العامة أنها مشاركة غيبية ، وهذا غير بعيد إذ خزائن الملوك يطلع عليها المملوك ، والأمور المستورة من المعشوق فقد يشاهدها العاشق الصادق قياسا بالصورة الحسناء يشاهدها مالكها وهي مستورة عن الغير (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقد سمعت الجنيد يقول : كل أحد حلاج لكن ليس كل أحد خراج ، وقال أبو يزيد البسطامي : من وصل درجة التمكين فهو طبيب يقعد على سرير أسرار الخلق ، فيطلع بإذن مالكه على خواطر أسرار الملوك مثل اطلاع مملوكك المحبوب عليك في حالاتك ، أليس فاطمة السلماسية كانت تخرج وقد أذن مؤذن الظهر من سلماس فتصلي الظهر جماعة في بسطام؟ فإن قلت : هذا غير ممكن ، فإنها حالة لم تنخرق للأنبياء فكيف لغيرهم؟ الجواب أنك تحكم على الله أو على نفسك ، فإن كان على نفسك فأنت أخبر ، وإن كان على الله فأنت أصغر. فمن عجز عن عدد عروقه وعظامه ولا يحصر عدد أدوار عمامته على هامته ، فكيف يدخل بين الله وبين غلامه؟ ثم ما علمت ما أعطى الله للأنبياء ، فإن علمت بعض علومهم من طريق النقل فالمعجز يكذب العقل ويحكم عليه ، فبواطن أسرارك لا يطلع عليها ولدك ولا جارك ، فكيف مليكك وجبارك ، وقد قال لك (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ

٥٠١

إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦] وأنت غير واصل إلى كشف ستور الوصول ، فإذا بلغت المنى والسؤال تعرف ما بين الله والرسول. وقد قلنا لك سابقا : جاهد ولا تجاحد ، فالمجاهدة تزيل غبار الشكوك مع المشاهدة ، وأنت معصب العين بعصابة حطام الدنيا ، وهمتك ضعيفة خسيسة ، فأين خنافسة الكنيف من المقام الشريف! وحسن الظن وهو الإكسير العظيم الذي به يقلب كل جهل علما ، فمن تمسك به فقد استراح. فهذا نوع المحبة والشوق والمكاشفة على وجه الاختصار.

فصل

وأما الزواجر والوعظيات فمثل الآيات الرادعة المذكرة للوعد والوعيد ، والأخبار المذكرة للفزعة ، والحكايات الجاذبة والأشعار المخوفة والمشوقة ، فخوفوا المبتدئ وشوقوا المنتهي ، لأن المبتدئ هو قريب من خروج دار الجهل فيضرب عليه سور من التخويف خوفا من الزيغ والميل ، وأما المنتهي فقد غفر الذنب ورق القلب وأصابه عناء المجاهدة ، فلا بد للجمل من حاد لقطع الوادي. فالمجاهدة قلاشية ، والنغمات تنشية ، قياسا بأرض ميتة تحيا بوابل المطر فتهتز وتربو وتنبت وتثبت وتنثر على المريد نثار الهمم. انظر كيف قال أبو حيان التوحيدي : إن كنت تنكر أن للنغمات فائدة ونفعا ، فانظر إلى الإبل اللواتي هن أغلظ منك طبعا ، تصغي إلى قول الحدأة فتقطع الفلوات قطعا. فعليك بالخلوات الأربعينية التي يسميها مشايخ العجم جله ، فهي عند العجم الجلاء ، واعتد بها ، وليكن زادك وزنا تنقص كل يوم منه لقمة ، أو تزن مأكلك بعود ندي فهو ينقص على قدر جفافه. فقلل ولا تتعلل ، خفف وطفف في مأكلك تلتحق بعالم الملائكة ففي الحديث «أكثركم شبعا في الدّنيا أطولكم جوعا يوم القيامة». وإذا فعلت ذلك تستغني النفس بالقدس وتصير لك بها أنس ، فلا تتخذ على محبة الدنيا والفلس ، فينتقل إليك حالة الصفة المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله" لست كأحدكم ، أنا أظل وأبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني" فهو حالات الصادقين ومنازل المتقين ، فلا تكن من المكذبين الضالين ، فإن عجزت عن مقام المقربين ، فكن من أصحاب اليمين ، والحمد الله رب العالمين.

المقالة الخامسة والعشرون

في العلم والعمل

اعلم أن الخواص من خلق الله تعالى ثلاثة : عالم وعارف وناسك ، فأما العالم فهو الذي علم واطلع على العلوم الظاهرة فعمل بها فورثه الله بعلمه العلوم الباطنة : مثل علم المحبة ، وعلم الشوق والرضى ، وعلم القدر ، وعلم المكاشفة والمراقبة ، وعلم القبض والبسط. فهذه علوم الصوفية الصافية الصادقة الوافية ، مثل الحسن ، وسفيان ، والفضيل بن عياض ، وأبي يزيد البسطامي ، وأبي الحسين النوري ، وحبيب العجمي ، ومعروف الكرخي ، وشقيق البلخيّ

٥٠٢

ومحمد بن حفيف وبشر بن سعيد وأحمد الخوارزمي وأحمد الداراني ، وحارث المحسابي ، وسرى السقطي ، وأبي الحسين بن المنصور الحلاج ، والجنيد ، والشبلي ، وأبي نعيم القاضي. فهذه الطائفة الإلهية الذين نبغ ذكرهم ليسوا كالطائفة المشغولة بالعلوم والشهوات ، وصرفوا همومهم إلى الزيدية والقرصين فأتتهم المعاملات: بيضوا الثياب وسودوا الكتاب ، صقلوا الخرق ولا نقلوا عن الخرق ، وجعلوا المرقعات شركا على الشهوات. فهؤلاء هم الزنابيل وأولئك هم القناديل ، وأولئك تمسكوا بالواحد الشاهد ، وهؤلاء انصبوا إلى محبة الشاهد. أولئك هجروا المناصب وهؤلاء دبوا إلى المناصب ، أكثر كلامهم اذهبوا لمذهب حتى يذهب ، والخلاف عندهم كورق الخلاف. الأصول عندهم فضول ، والنحو عندهم محو. أكثر علومهم الرقص والشبابة ، لا يفرقون بين القرابة والصحابة. فما أكثر عيوبهم ، لقد نسوا محبوبهم. تشاغلوا بمأكل الدويرات ، ونسوا مدارج الطاعات. نصبوا السجادات لأجل الخلق ، ونسوا الله والحق. فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث : «إنّ الله ينزع مرقعاتهم ويعلقها على أبواب الجنة ويكتب عليها مرقعات زور». تركوها مناصب للاكتساب ، ووهبوها لكلب أهل الكهف واقتسموا جلده عليهم عوضا من مرقعاتهم. فهؤلاء صوفية الدنيا وأولئك صوفية الأخرى ، جمعوا بين العلم والعمل ، وسهروا حتى ظفروا ، قالوا فنالوا ، صدقوا فحققوا ، علموا ثم عملوا ، فجمعوا بين المقال والحال ، فهم أهل العلم والمغفرة ، والنسك والزهادة ، فأحدثت لهم جميع هذه الحالات خاصية قوة الهيئة ، فطاردوا بأجنحة الاشتياق إلى رياض القدس وحظيرة الصمدية ، فاقتطفوا علوم الغيب ، فقالوا هؤلاء فقراء الآخرة وصوفيتها الذين علموا أن النعمة هي من المنعم فتركوا الأسباب جوانب. وأما علماء الآخرة فمثل الحسن البصري ، وسفيان بن عيينة ، والثوري صاحب المذهب ، والطائي الطاهري ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، ومالك بن أنس المدني ، ومحمد بن إدريس الشافعي المطلبي ، وأحمد بن حنبل الشيباني ، والمزني ، وابن شريح ، والحداد ، والقفال ، وأبو الطيب ، وأبو حامد ، وأستاذنا إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، والشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم الفيروزآبادي المعروف بالشيرازي ، فقد جرى له مع شيخنا نوبة عند السلطان وكنت أحضرها ، فما رأيتهم طلبوا بالمناظرة غير إظهار الحق ، لا غلبة ولا صقل كلام ، ولا نقص في الخبر النبوي ، ولا تأويل باطل في متن آية ، ولا مزاعقة ولا مخاصمة ، بل هو على طريق الفائدة والمباحثة. فأولئك من علماء الآخرة الذين شبهوا صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترديد الفتاوى من واحد إلى واحد ، وقالوا أميركم أحق بالتقليد ونحن علماء السوء نشتغل بسواد الليقة وبري القلم والتصدي والتحدي وذرب اللسان وسواد الطيلسان وقعقعة الثياب وطول الأردان وسعة الأكمام والصيحة والدهشة وذكور إناث العجم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤] فانظر الفرق بين الطوائف والفرق : أليس في الحديث «من ترك المراء وهو محقّ بني له بيت في أعلى

٥٠٣

الجنّة». فنحن لا بيوت ولا تخوت ، ولا حور ولا سخوت ، رأى الشافعي مناما وكان قد تكلم في المسألة مع أبي يوسف ، فرأى كأنه قد أدخل الجنة ، فرأى حورا وهي تشرق العرصة من نورها ، قال : لمن أنت؟ فقالت : لمن ترك المراء وهو محق ، ثم ولت وهي تقول :

خلطوا الحقّ بالقبائح زورا

ثم مالوا إلى المراء نسورا

ثم راموا من الإله بدورا

قد فجرتم من المقال قبورا

أيا مالكم تنالون دورا

سوف تجزون في المعاد فجورا

وطلبتم من الإله أجورا

سوف تلقون في الجحيم أجورا

ثم قالت : يا شافعي ما تنال بالقال والقيل هذه الثياب والخلاخيل ، إن كنت صادقا وتريد أن تكون للجنة مالكا فعليك بالعلم والعمل مثل مالك ، فمن أراد الممالك يصير على المهالك. ثم انتبهت فعلمت أن مراء هؤلاء لا يقود إلا إلى الهوى ، والآخرة عند ربك للمتقين. وفي الحديث" إن العلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب وإلا ارتحل" فهؤلاء علماء الدنيا وعلماء الآخرة ، وفقراء الدنيا وفقراء الآخرة ، وأنت مشغول بالكرم عن الكرامات ، وبالقصور عن القصور العاليات ، أنت مثل الذيب وهمك في التشكيك والتكذيب.

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أسابق تحتك أم حمار

أما العلوم فكثيرة ، وأقربها ما دل على الآخرة : مثل علم الشريعة ، وتفاسير الواحدي ، وأمتان الصحاح ، وقراءة القرآن ، ومحافظات الأوراد المذكورة في كتب الإحياء. وإن أردت حسن العقيدة على وجه الاختصار فعليك بلواقح الأدلة وهو لشيخنا إمام الحرمين ، وإلا قواعد العقائد. وإن أردت سلوك طريق السلف الصالح فعليك بكتاب نجاة الأبرار ، وهو آخر ما صنفناه في أصول الدين. وقد ذكرنا لك التصانيف في معرض هذا الكتاب ، فاقرأ ما شئت واعمل ما شئت فإن اللقاء قريب. واعلم أن فصول السنة معروفة : مثل صيفها وخريفها ، وشتائها وربيعها ، فمن الحمل إلى الجوزاء ربيع ، ومن السرطان إلى آخر السنبلة صيف ، ومن الميزان إلى آخر القوس خريف ، ومن الجدي إلى آخر الحوت شتاء (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : هذا الهواء إذا أقبل فتلقوه ، وإذا أدبر فتوقوه ، فإنه يفعل بأبشاركم كما يفعل بأشجاركم ، أوله مورق وآخره محرق. ففي العلوم ما يضر مثل العمل بالسحر والكهانة ، وصبغ الصفر فضة يضر في الآخرة إذا قلبها فضة بالصناعة وباعها ، وفي المكاسب مكاسب خسيسة تأباها النفوس : كالغسال ، والحفار ، والكناس ، والحجام. والصنائع من جملة العلوم المفهومة التي تعينك على طلب العلم الأخروي ، فكن عالما عاملا تنال المقصد الأسنى في دار الله الحسنى ، هنالك تستقر نفسك من غير ضجر (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤ ، ٥٥].

٥٠٤

فصل في أعاجيب الفنون والأسفار

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ بالمغرب هاهنا لأرضا بيضاء من وراء قاف لا تقطعها الشّمس في أربعين سنة ، قالوا : يا رسول الله أو فيها خلق؟ قال : نعم ، فيها مؤمنون لا يعصون الله طرفة عين ، لا يعرفون آدم ولا إبليس ، بينهما الملائكة يعلّمونهم شريعتنا ويحكمون بينهم ويدرّسونهم الكتاب العزيز ، قالوا : يا رسول الله زدنا من هذه الأعاجيب! فقال : إنّ لي صديقة من مؤمني الجنّ غابت عنّي سنين فسألتها أين كنت ، فقالت : كنت عند أختي من وراء الأرض البيضاء الّتي وراء قاف بهزد ، فقلت : أوهم مؤمنون؟ فقالت : نعم ، قرأت عليهم كتابك فآمن به قومنا. فقلت : وما وراء تلك الأرض؟ فقالت جبال ثلج وماء وهواء وظلماء ، ثمّ وراء ذلك جهنّم ، فقلت : أو تصعد الشّمس في تلك البلاد؟ فقالت نعم».

وأما حديث تميم بن حبيب الداري فعجيب ، حيث اختطفته الجن ، فشاهد من عجائبها حتى رأى القصر الذي فيه الدجال مقيدا ، فقال له : من أي الأمم أنت؟ فقال : من أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أوقد بعث؟ فقال نعم ، فقال : آن أوان خروجي.

وأما حديث جن العقبة فأعجب ، قال عبد الله بن مسعود : «مشيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي ابن أبي طالب عليه‌السلام في ليلة مظلمة حتى وقف بنا على ثقب ، فظهر منه رجل فقال : انزل بنا يا رسول الله! فناولني فاضل ثيابه ، ثم أخذ بيد علي عليه‌السلام ونزلا في الثقب وأقعدني مكاني ، فلما برق بارق الصبح عادا ومعهما رجال يشبهون الزط ، فقال : هؤلاء إخوانك المؤمنون ، وكان معي ماء فيه منبوذ شيء من التمر ، فشرب منه ثم توضأ». صح ذلك من غير نزاع ، وقد أوله أرباب الهوى على اختيار ما يريدون ، فمن أراد أن يعلم حقيقة هذا وغيره فلينظرن في كتاب" مغايب المذاهب" وهو من جملة تصانيفنا.

وأما قصة زعيم بن بلعام فهي عجيبة ، قد أراد أن ينظر من أين منبع النيل ، فلم يزل يسير حتى وجد الخضر فقال له : ستدخل مواضع ، ثم أعطاه علائمها ، فوصل إلى جبل وفيه قبة من ياقوت على أربعة أعمدة ، والنيل يخرج من تحتها وفيه فاكهة لا تتغير ، قال : فرقيت رأس الجبل فرأيت وراءه بساتين وقصورا ودورا وعالما غزيرا ، وكنت شيخا أبيض الشعر ، فهب علي نسيم سوّد شعري وأعاد شبابي ، فنوديت من تلك القصور : إلينا يا زعيم إلينا ، فهذه دار المتقين! فجذبني الخضر ومنعني ، فهذا سر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعة أنهار من الجنة : جيحون وسيحون ودجلة وفرات ونيل وعين بالبردن وبالمقدس عين سلوان ، لأن منها ماء زمزم. وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفان ، فحديثهما طويل ، وإشارة منه كافية ، فقد بلغ من سفرهما حتى وصلا إلى المكان الذي فيه سليمان ، فتقدم بلوقيا ليأخذ الخاتم من إصبعه ، فنفخ فيه التنين الموكل معه ، فأحرقه فضربه عفان بقارورة فأحياه ، ثم مد يده ثانية وثالثة فأحياه بعد

٥٠٥

ثلاث ، فمد يده رابعة فاحترق وهلك فخرج عفان وهو يقول : أهلك الشيطان أهلك الشيطان ، فناداه التنين : ادن أنت وجرب ، فهذا الخاتم لا يقع في يد أحد إلا في يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث ، فقل له إن أهل الملأ الأعلى قد اختلفوا في فضلك وفضل الأنبياء قبلك ، فاختارك الله على الأنبياء ، ثم أمرني فنزعت خاتم سليمان فجئتك به ، فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه عليّا فوضعه في إصبعه ، فحضر الطير والجان والناس يشاهدون ويشهدون ، ثم دخل الدمرياط الجني ، وحديثه طويل ، فلما كانوا في صلاة الظهر تصور جبرائيل عليه‌السلام بصورة سائل طائف بين الصفوف ، فبينا هم في الركوع إذ وقف السائل من وراء علي عليه‌السلام طالبا ، فأشار علي بيده فطار الخاتم إلى السائل ، فضجت الملائكة تعجبا ، فجاء جبرائيل مهنيا وهو يقول أنتم أهل بيت أنعم الله عليكم (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فأخبر النبي بذلك عليّا فقال علي عليه‌السلام : ما نصنع بنعيم زائل ، وملك حائل ، ودنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب؟ فإن اعترض المفتي وقال : كيف قاتل معاوية على الدنيا ، فالجواب أنه قاتل على حق هو له يصل به إلى حق ، وأما التحكيم فباطل غير صحيح ، لأن التحكيم إنما يكون على موجود ومحدود ومعروف ومعلوم غير مجهول ، هذا فقه وشرع ، ثم قولوا ما تريدون ، فمن أراد أن ينظر في كشف ما جرى فيطلع في كتاب صنفته وسميته" كتاب نسيم التسنيم" ، وفي قصص ذي القرنين كفاية ، وكتاب رياض النديم لابن أبي الدنيا ، وانظر في كتاب الأقاليم ، وانظر في كتاب المسالك والممالك ، وكتب الماوردي الموصلي.

ثم إذا أردت أن تعرف سعة الأفلاك بعضها على بعض ، فاعلم أن سعة الأرض قطع الكوكب في ليلة واحدة ، وأما الفلك الهوائي فقد يقطعه القمر في شهر ، فانظر الفرق في ليلة وشهر. ثم الفلك الناري يقطعه الشمس في سنة ، ثم فلك زحل وهو الأعلى يقطع فلكه في ست وثلاثين سنة ، ثم فوقه الكرسي والعرش الذي هو سقف الجنان الثمانية التي واحدة منهن بعرض السماوات والأرضين. وخذ دليلك من هذا المساق المذكور ، فما لهمتك ناقصة لا ترفعها إلى درج المعالي ، ولا تكسوها سهم السعادة ، بل أنت مشغول بعلف النفس وخدمتها ، فأنت كالذي عشق حمارة فاشتغل بها ، ففاته سير القافلة ، فظهر له قاطع الطريق. وهذه دار أحلام ، والأنبياء مفسرو المنام ، فعند الانتباه يتبين لك صحة التأويل. أما سمعت الإشارة : " والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"؟ ومثلك في دنياك كمثل طفلين في بطن واحد قال أحدهما لصاحبه : أما أخرج ، عسى أن أرى غير هذا المكان والعالم! فلما خرج رأى سعة الدنيا ، هل يطيب له أن يعود إلى ضيق بطن أمه؟ وهكذا إذا خرجت إلى سعة آخرتك لا يطيب لك العود إلى دنيا حملتك كضيق حمل أمك. ومثلك في باب مولاك كرجل أراد الدخول إلى ملك وهو جائع ، فوجد على باب الملك كلبا ورغيفا ، فالكلب يصده عن الدخول ؛ فإن كان ذا همة عالية آثر حضرة الملك على الرغيف ، فيدخل إلى الملك فيحظى بالمآكل اللينة وينسى جوعه ، لأنه

٥٠٦

شغل الكلب برغيفه فتشاغل الكلب بالرغيف ، ودخل الرجل إلى الملك ، وإن كانت همته في بطنه أكل رغيفه فصده الكلب عن دخول الملك ، ثم يتعفن الرغيف في بطنه ، فبعد ساعة رماه. فدنياك هو الرغيف ، والكلب هو الشيطان يصادك عن دخول الملك ، فارم الرغيف إلى الكلب تستريح. واكتسب من جواهر الأعمال تشرف بها عند عرض البضائع ، ونيل المدخر الباقي في دار زفاف الحور وفتح أبواب القصور ، فأنت مثالك كجماعة سافرت إلى وادي الظلمات فقال لهم الخبير بالمكان : احملوا من حصاها تظفروا! فصاحب حسن الظن حمل فأوقر ، والمتشكك بطل فتحقر ، فلما خرجوا من ضياء الشمس إلى الوادي وشاهدوا بضائعهم ، فإذا هي درّ ويواقيت ، فندم البطال وفاز الحمال. فهذه صورة أعمالك في دنياك ، فإما أن تنادم فتصير غلاما ، وإما أن تعمل فتحظى من الله تحية وسلاما. فدع كبرك ، وقلل شبعك ، ونظف بطنك ، ومن النوم عينك ، عساك أن تقطع شينك ، وتوفي دينك ، فأنت الذي تنتنك العرقة ، وتوهنك البقة ، وتقتلك الشرقة ، وملابسك من قزة ، وحلاوتك من نحلة ، وخبزك من طينة ، وأنت غدا مستور باللبنة تؤاخذ بنعيمك ، أما سمعت النبي حاسبه الله على شبعه مرة واحدة من خبز شعير وتمر وقال له (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

فصل في علو الهمم ونيلها لمقاصدها

اعلم أن الهمة هي إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصده بالتوجه إليه دون غيره ، من غير قلب قاصده لسواه. وصاحب الهمة لا يكون همه في مقصده لنيل أغراض متفرقة ، كمن أراد أعمالا لا يقع في يده غير عمل واحد. الهمم هي فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها. إن همة كل أحد على قدر نفسه في علوها وطهارتها ، ألا ترى إلى أصحاب الصنائع الخسيسة كالكناس والزبال والإسكاف والدباغ والغسال ، فهؤلاء هممهم على قدر خسائس أنفسهم النازلة ، لسابق ما قدر لهم عند اعتصار خمير السعادة من عجين الطالع في خمير الولادة ، وهذا حال يتعلل به العاجز ، إذ الملك معشوقك فلا تألف الخسائس ؛ فليس هذا أنسابا معروفة بأب وأم ، وإنما هي بعلو الهمة كما كانت من أول الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك ، ثم كلما تباعد الفيض عن النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل الحيوان بعد فيض الإنسان ، ألا ترى إلى همة الفيل والحمار في المأكل والمشرب؟ فهذا همه بريح ، وهذا تبن وشعير ، وانظر إلى همة ذي القرنين وهو ابن هيلانة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة إلى الملك ولم ينزل إلى الصنائع ، فمثله في العالم كثير. ومن جملة علو همته إظهار اليغزن الذي أشاع بذكره المسافرون ، واتخذ المتقدمون ألحان الموسيقى التي زعموا أنها معتصرة من دورات ألحان الأفلاك حين تدور ، ويسمع له نغمات بطرائق وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس. وطائفة أخرى زعمت أن العود متخذ من شكل طائر معلق في جبل ، في أنفه أنقاب مخارج العود. وهذا من جملة فروع الهمم ، فنيل المقاصد من غير همة غم عمن تعلق بها ، فاكتساب الهمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر.

٥٠٧

ونيل مقصد المملكة ، هو بالاشتغال فيما يجذبها من التهاب وما يشاكلها. فإن قلت هذه سعادات أزلية ، فمن قدر له في السابق شيء أخذه وبلغه ولا يمحى ما سطر على جبين العبد ، فقد صدقت ، ولكن مت تحت غبار طلب العز لا على مزابل الشهوات بالذل كما مر بك الإنشاد السابق (شعر) :

اطلب العزّ في لظى وذر الذلّ

ولو كان في جنان الخلود

وقد سمعت كلاما لمعاوية إذ قال : هموا بمعالي الأمور لتنالوها ، فإني لم أكن للخلافة أهلا فهممت بها فنلتها. وقد ذكرت حكاية في كتاب" سر خزانة الهدى والأمد الأقصى إلى سدرة المنتهى" أنه مات بعض الملوك ، فغلقت المدينة وقالوا : لا نملكها إلا لملك كان في ساعده علامة نور شعشعاني ، فورد إليهم رجل فقير وفي ساعده نور كما كان في ساعد الملك المتقدم ، وكان ينظر إليه وزير المدينة بعين الدراية بعد أن ملكوه البلد ، فدخل الوزير إليه بهدية وهي قشرة من عود قناري كجفنة كبيرة ، فقال الملك : من أين لك هذا؟ فقال الوزير : كثير مثل هذا يجيء في نهرنا ، فقال الملك : لا تستقر في الوزارة حتى تأتيني بخبره وفي أي بلد يكون ، فاتخذ الوزير له مركبا فسار حتى دخل تحت جبل ، فلما قطعه بخروجه إلى جانبه الآخر رأى بلادا أشجارها كلها مثل هديته ، ثم رأى جماعة قائمة منقطعين في جبل فقال : ما الذي يريد هؤلاء ويفعلون؟ فقالوا كلهم في طلب الملك يتجرعون سنة مع أنواع المجاهدات فمن رقي على ساعده نور أبيض فهو مستحق الملك ، فلما عاد الوزير أخبر الملك بقصة ما رآه فقال الملك : لا تحتقر فتحتقر ، وسافر واعمل لتذكر ، فهذا علو الهمة بالجوع والمجاهدات ، ثم قال : لا يغرنك الجواشن والبيض.

وقد رأيت بعينيك مشار علو الهمة فإن أردت ذلك فعليك بالجوع والعلم والخلوات يكشف لك العلامات بسرائر الكائنات ، فاطلب وجد واجتهد ، فنيل مقاصد الرجال من غير تعب هذيان. والحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه على سيد المرسلين آمين.

٥٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الدّرّة الفاخرة في كشف علوم الآخرة

خطبة الكتاب

الحمد الله الذي خص نفسه بالدوام ، وحكم على من سواه بالانصرام ، وجعل الموت حال أهل الكفر والإسلام ، وفصل بعلمه بين تفاصيل الأحكام ، وجعل حكم الآخرة خلفا للمعهود من الأيام ، وأنهج ذلك لمن يشاء من خلقه أهل الإكرام ، وصلّى الله على سيدنا محمد رسول الملك العلام ، وعلى آله وصحبه الذين خصهم بجزيل الإنعام في دار السلام.

أما بعد ، فقد قال الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] وثبت ذلك في كتابه العزيز في ثلاثة مواضع. وإنما أراد الله سبحانه وتعالى الموتات الثلاث للعالمين ، فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت ، والمتحيز إلى العالم الملكوتي يموت ، والمتحيز إلى العالم الجبروتي يموت. فالأول آدم وذريته وجميع الحيوانات على ضروبه الثلاث ، والملكوتي وهو الثاني أصناف الملائكة والجن ، وأهل الجبروتي فهم المصطفون من الملائكة. قال الله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] فهم كروبيون وروحانيون وحملة العرش وأصحاب سرادقات الجلال الذين وصفهم الله تعالى في كتابه وأثنى عليهم حيث يقول : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ، ٢٠] وهم أهل حظيرة القدس المعينون المنعوتون بقول الله تعالى: (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] وهم يموتون على هذه المكانة من الله تعالى والقربى ، وليس زلفاهم بمانعة لهم من الموت. فأول ما أذكر لك عن الموت الدنيوي فألق أذنيك لتعي ما أورده وأصفه لك بنقل عن الانتقال من حال إلى حال إن كنت مصدقا بالله ورسوله واليوم الآخر ، فإني ما آتيك إلا ببينة ، شهد الله على ما أقول ويصدق مقالتي القرآن ، وما صح من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل

لما قبض الله القبضتين اللتين قبضهما عند ما مسح على ظهر آدم عليه‌السلام ، فكل ما جمعه في جمعه الأول إنما جمع من شقه الأيمن ، وكل ما جمع في الآخر إنما جمع من شقه الأيسر ، ثم بسط قبضته سبحانه فنظر إليهم آدم في راحتيه الكريمتين وهم أمثال الذر ثم قال :

٥٠٩

هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي فهم بعمل أهل الجنة يعملون وهؤلاء إلى النار ولا أبالي فهم بعمل أهل النار يعملون. فقال آدم عليه‌السلام : يا رب وما عمل أهل النار؟ قال : الشرك بي ، وتكذيب رسلي ، وعصيان كتابي في الأمر والنهي. قال آدم عليه‌السلام : أشهدهم على أنفسهم عسى أن لا يفعلوا! فأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا! وأشهد عليهم الملائكة وآدم أنهم أقروا بربوبيته ثم ردهم إلى مكانهم. وإنما كانوا أحياء أنفسا من غير أجسام ، فلما ردهم إلى صلب آدم عليه‌السلام أماتهم وقبض أرواحهم وجعلها عنده في خزانة من خزائن العرش ، فإذا سقطت النقطة المتعوسة أقرت في الرحم حتى تمت صورتها والنفس فيها ميتة. فلجوهرها الملكوتي منعت الجسد من النتن ، فإذا نفخ الله تعالى فيها الروح رد إليها سرها المقبوض منها الذي خبأه زمانا في خزانة العرش فاضطرب المولود. فكم من مولود دب في بطن أمه فربما سمعته الوالدة أو لم تسمعه! فهذه موته أولى وحياة ثانية.

فصل

ثم إن الله عزوجل أقامه في الدنيا أيام حياته حتى استوفى أجله المحدود ورزقه المقدور وآثاره المكتوبة. فإذا دنت موتته ، وهي الموتة الدنيوية ، فحينئذ نزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ، وملك يجذبها من قدمه اليسرى ، وملك يجذبها من يده اليمنى ، وملك يجذبها من يده اليسرى. وربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغر ، فيعاين الملائكة على حقيقة عمله على ما يتحيزون إليه من عالمهم ، فإن كان لسانه منطلقا تحدث بوجودهم ، فربما أعاد على نفسه الحديث بما رأى ، وظن أن ذلك من فعل الشيطان ، فسكن حتى يعقل لسانه ، وهم يجذبونها من أطراف البنان ورءوس الأصابع والنفس تنسل انسلال القذارة من السقاء ، والفاجر تسلّ روحه كالسفود من الصوف المبلول ، هكذا حكى صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام. والميت يظن أن بطنه ملئت شوكا كأنما نفسه تخرج من خرم إبرة ، وكأنما السماء انطبقت على الأرض وهو بينهما ، ولهذا سئل كعب رضي الله عنه عن الموت فقال : كغصن شوك أدخل في جوف رجل فجذبه إنسان ذو قوة فقطع ما قطع وأبقى ما أبقى. وقال عليه الصلاة والسلام : لسكرة من سكرات الموت أشد من ثلاثمائة ضربة بالسيف. فعندها يرشح جسده عرقا ، وتزور عيناه ، وتمتد أرنبته ، وترتفع أضلاعه ، ويعلو نفسه ، ويصفر لونه. ولما عاينت عائشة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الحالة وهو مستلق في حجرها وهي تكفكف الدمع جعلت تقول شعرا :

بنفسي أفدي ما غصّك

من الهايعات وما توجع

وما مسّك الجنّ من قبل ذا

وما كنت ذا روعة تفزع

وما لي أنظر في وجهك

كمثل الصّباغ إذا ينقع

إذا شحب اللون من ميّت

فأنوار وجهك قد تسطع

٥١٠

فإذا احتضرت نفسه إلى القلب خرس لسانه عن النطق ، وما أحد ينطق والنفس مجموعة في صدره لوجهين : أحدهما أن الأمر عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه ـ ألا ترى أن الإنسان إذا أصابته ضربة في صدره بقي مدهوشا ، فتارة يتكلم وتارة لا يقدر على الكلام ؛ وكل مطعون يطعن بصوت إلا مطعون الصدر فإنه يخر ميتا من غير تصويت؟. وأما الآخر فإن السر الذي فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية قد ذهب فصار نفسه متغير الحالتين : حال الارتفاع والبرودة ، لأنه فقد الحرارة ، فعند هذا الحال تختلف أحوال الموتى ، فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سمّا من نار ، فتفر النفس وتفيض خارجة فيأخذها في يده ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر النحلة شخصا إنسانيا ، ثم الملائكة تناولها الزبانية ، ومن الموتى من تحذف نفسه رويدا حتى تنحصر في الحنجرة وليس يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب ، فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة ، فإن النفس لا تفارق القلب حتى يطعن. وسر تلك الحربة أنها تغمس في بحر الموت ، فإذا وضعت على القلب صار سرها في سائر الجسد كالسم الناقع ، لأن سر الحياة إنما هو موضوع في القلب ويؤثر سره فيه عند النشأة الأولى ، وقد قال بعض المتكلمين : الحياة غير النفس ، ومعناها اختلاط النفس بالجسد. وعند استقرار النفس في الترقي والارتفاع يعرض عليه الفتن ، وذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة ، واستعملهم عليه ، ووكلهم به ، فيأتون المرء وهو في تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباء الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا كالأب والأم والأخ والأخت والصديق الحميم ، فيقول له : أنت تموت يا فلان ونحن قد سبقناك في هذا الشأن ، فمت يهوديا فهو الدين المقبول عند الله تعالى! فإن انصرفوا عنه وأبى جاءه آخرون وقالوا له : مت نصرانيا فإنه دين المسيح ونسخ به دين موسى! ويذكرون له عقائد كل ملة. فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه ، وهو معنى قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]. أي لا تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا إلى الإيمان. فإذا أراد الله تعالى بعبده هداية وتثبيتا جاءته الرحمة ، وقيل هو جبريل عليه‌السلام ، فيطرد عنه الشيطان ويمسح الشحوب عن وجهه فيتبسم الميت ضاحكا لا محالة. وكثير من يرى مبتسما في هذه الحالة فرحا مسرورا بالبشير الذي جاء رحمة الله من تعالى يقول : يا فلان ما تعرفني؟ أنا جبريل وهؤلاء أعداؤك من الشياطين ، مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية! فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملك ، وهو قوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]. ثم الموت على الفطرة. ومن الناس من يطعن وهو قائم يصلي ، أو نائم ، أو مار في بعض أشغاله ، أو منعكف على اللهو ، وهو البغتة ، فتقبض نفسه مرة واحدة. ومن الناس من إذا بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين ، وأحدق به جيرانه من الموتى ، وحينئذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إلا

٥١١

الإنسان ، ولو سمعه لصعق. وآخر ما يفقد من الميت السمع ، لأن الروح إذا فارقت القلب بأسرها فسد البصر ، وأما السمع فلا يفقد حتى تقبض النفس ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «لقّنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله» ونهى عن الإكثار بها عليهم لما يجدونه من الهول الأعظم والكرب الأقصم. فإذا نظرت إلى الميت قد سال لعابه وتقلصت شفتاه واسود وجهه وازرقت عيناه فاعلم بأنه شقي ، قد كشف له عن حقيقة شقوته في الآخرة ، وإذا رأيت الميت جاف الفم كأنه يضحك ، منطلق الوجه ، مكسورة عينه ، فاعلم أنه بشّر بما يلقاه في الآخرة من السرور ، وكشف له عن حقيقة كرامته. فإذا قبض الملك النفس السعيدة تناولها ملكان حسان الوجوه ، عليهما أثواب حسنة ، ولهما روائح طيبة ، فيلفونها في حريرة من حرير الجنة وهي على قدر النحلة شخصا إنسانيا ما فقد من عقله ولا من علمه المكتسب في دار الدنيا ، فيعرجون به في الهواء ، منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف ، فلا تزال تمر بالأمم السالفة والقرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر حتى تنتهي إلى سماء الدنيا ، فيقرع الأمين الباب ، فيقال للأمين : من أنت؟ فيقول : أنا صلصيائيل. أي جبريل. وهذا فلان معي بأحسن أسمائه وأحبها إليه ؛ فيقولون له : نعم الرجل كان فلان وكانت عقيدته حسنة غير شاك. ثم ينتهي إلى السماء الثانية فيقرع الأمين الباب فيقال : من أنت؟ فيقول مقالته الأولى فيقال : أهلا وسهلا بفلان ، كان محافظا على صلاته وجميع فرائضها. ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة فيقرع الأمين الباب فيقال : من أنت؟ فيقول الأمين مقالته الأولى والثانية ، فيقال : كان يرعى الله في حق ماله ولا يتمسك منه بشيء ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة فيقرع الباب فيقال : من أنت؟ فيقول كدأبه في مقالته ، فيقال : أهلا بفلان كان يصوم فيحسن الصوم ويحفظه من إدراك الرفث وحرام الطعام. ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع الباب فيقال : من أنت؟ فيقول كعادته ، فيقال : أهلا وسهلا به أدى حجة الله الواجبة عليه من غير سمعة ولا رياء. ثم ينتهي إلى السماء السادسة فيقرع الباب فيقال : من أنت؟ فيقول الأمين مقالته ، فيقال : مرحبا بفلان كان كثير الاستغفار بالأسحار ويتصدق بالسر ويكفل الأيتام. ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي إلى سرادقات الجلال فيقرع الباب فيقول الأمين مثل قوله ، فيقال : أهلا وسهلا بالعبد الصالح والنفس الطيبة ، كان كثير الاستغفار وينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف ويكرم المساكين. ويمر بملإ من الملائكة كلهم يبشرونه بالجنة ويصافحونه حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى فيقرع الباب فيقول الأمين كدأبه في مقالته ، فيقال : أهلا وسهلا ومرحبا بفلان ، كان عمله عملا صالحا لوجه الله تعالى. ثم يفتح له فيمر في بحر من نار ، ثم يمر في بحر من نور ، ثم يمر في بحر من ظلمة ، ثم يمر في بحر من ماء ، ثم يمر في بحر من ثلج ، ثم يمر في بحر من برد ، طول كل بحر منها ألف عام ، ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن وهي ثمانون ألفا من السرادقات ، لكل سرادق ثمانون ألف شرافة ، على كل شرافة قمر

٥١٢

يهلل الله تعالى ويسبحه ويقدسه ، ولو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا لعبد من دون الله ولأحرقها نوره ، فحينئذ ينادي مناد من الحضرة القدسية من وراء السرادقات : من هذه النفس التي جئتم بها؟ فيقول : فلان بن فلان ، فيقول الجليل جل جلاله : قربوه فنعم العبد كنت يا عبدي! فإذا وقفه بين يديه الكريمتين أخجله ببعض اللوم والمعاتبة حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه سبحانه. كما روي عن يحيى بن أكثم القاضي وقد رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : وقفني بين يديه ثم قال يا شيخ السوء فعلت كذا وفعلت كذا ، فقال يا رب ما بهذا حدثت عنك ، قال : فبما ذا حدثت عني يا يحيى؟ فقلت : حدثني الزهري عن معمر عن عروة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل عنك سبحانك أنك قلت إني لأستحي أن أعذب شيبة شابت في الإسلام. فقال : يا يحيى صدقت وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عروة وصدقت عائشة وصدق محمد وصدق جبريل ، وقد غفرت لك. وعن ابن بنانة وقد رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : وقفني بين يديه الكريمتين وقال أنت الذي تلخص كلامك حتى يقال ما أفصحه؟ قلت : سبحانك إني كنت في الدنيا أصفك ، قال قل كما كنت تقول في دار الدنيا! قلت : أماتهم الذي خلقهم ، وأسكتهم الذي أنطقهم ، وسيوجدهم كما أعدمهم ، وسيجمعهم كما فرقهم. قال لي : صدقت اذهب قد غفرت لك.

وعن منصور بن عمار أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : وقفني بين يديه الكريمتين وقال لي بما ذا جئتني يا منصور؟ قلت : بستة وثلاثين حجة ، قال لي : ما قبلت منها ولا واحدة ، ثم قال : بما ذا جئتني؟ قلت : بثلاثمائة وستين ختمة قرأتها لوجهك الكريم ، قال : ما قبلت منها واحدة ، ثم قال لي : بما ذا جئتني يا منصور؟ فقلت : جئتك برحمتك ، قال سبحانه : الآن جئتني ، اذهب فقد غفرت لك! وكثير من هذه الحكايات تخبز بهذه الأمور. وإنما حدثتك شيئا ليقتدي به المقتدي والله المستعان.

ومن الناس من إذا انتهى إلى الكرسي وسمع النداء ردوه ، فمنهم من يرد من الحجب ، وإنما يصل إلى الله تعالى عارفوه ، ولا يقف بين يديه إلا أهل المقام الرابع فصاعدا.

فصل

وأما الفاجر فتؤخذ نفسه عنفا ، فإذا وجهه كآكل الحنظل ، والملك يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث! فإذا له صراخ أعظم ما يكون كصراخ الحمير ، فإذا عزرائيل ناولها زبانية قباح الوجوه ، سود الثياب ، منتني الريح ، بأيديهم مسوح من شعر ، فيلفونها فيه ، فتستحيل شخصا إنسانيا على قدر الجرادة ، فإن الكافر أعظم جرما من المؤمن ، يعني الجسم في الآخرة. وفي الصحيح أن ضرس الكافر في النار مثل أحد. قال فيعرج به حتى ينتهي إلى باب سماء الدنيا ، فيقرع الأمين الباب ، فيقال : من أنت؟ فيقول : أنا قياييل ، فيقال : من

٥١٣

معك؟ فيقول : فلان بن فلان ، بأقبح أسمائه وأبغضها إليه في دار الدنيا ، فيقال : لا أهلا ولا سهلا! ولا يفتح له أبواب السماء : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فإذا سمع الأمين هذه المقالة طرحه من يده فتهوي به الريح في مكان سحيق ، أي بعيد ، وهو قوله عزوجل (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) فيا له من خزي حل به! فإذا انتهى به إلى الأرض ابتدرته الزبانية وسارت به إلى سجين وهي صخرة عظيمة تأوي إليها أرواح الفجار. وأما اليهود والنصارى فمردودون من الكرسي إلى قبورهم ، هذا من مات منهم على شريعته ويشاهد غسله ودفنه ، وأما المشرك فلا يشاهد شيئا من ذلك لأنه قد هوى به ، وأما المنافق فمثل الثاني يرد ممقوتا مطرودا إلى حفرته ، وأما المقصرون من المؤمنين فتختلف أنواعهم : فمنهم من ترده صلاته ، لأن العبد إذا نقر في صلاته سارقا لها تلف كما يتلف الثواب الخلق ويضرب بها وجهه ثم تعرج وهي تقول ضيعك الله كما ضيعتني. ومنهم من ترده زكاته ، لأن إنما يزكي ليقال فلان متصدق ، وربما وضعها عند النسوان فاستجلب بها محبتهن ، ولقد رأيناه ، عافانا الله مما حل به. ومن الناس من يرده صومه ، لأنه صام عن الطعام ولم يصم عن الكلام ، فهو رفث وخسران ، فخرج الشهر عنه وقد لهوجه. ومن الناس من يرده حجه ، لأنه إنما حج ليقال فلان حج أو يكون حج بمال خبيث. ومن الناس من يرده العقوق.

وسائر أحوال البر كلها لا يعرفها إلا العلماء بأسرار المعاملات وتخصيص العمل الذي للملك الوهاب. فكل هذه المعاني جاءت بها الآثار والأخبار كالخبر الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه في رد الأعمال وغيرها. وإنما أردت تقريب الأمر ، ولو لا الاختصار لكنت ملأت الدواوين من تصحيح ذلك ، وأهل الشرع يعرفونه صحة ذلك كما يعرفون أبناءهم. فإذا ردت النفس إلى الجسد ووجدته قد أخذ في غسله إن كان قد غسل ، فتقعد عند رأسه حتى يغسل ، فيكشف الله عن بصر من يشاء من الصالحين فينظرها على صورتها الدنيوية. وقد حدث شخص ابنا له فإذا هو بشخص قاعد عند رأسه ، فأدركه الوهم ، فترك الجهة التي رأى فيها الشخص وتحول إلى الجهة الأخرى ، فلم يزل ينظره حتى أدرج الميت في كفنه ، فعاد إليه ذلك الشخص فشاهده العالم وهو على النعش. كما روي عن غير واحد من الصالحين أنه نادى ميتا وهو في النعش : أين فلان وأين الروح؟ فانتقض الكفن من تلقاه صدره مرتين أو ثلاثة. وعن الربيع بن خيثم أنه اضطرب في يد غاسله. وقد علم أن الميت تكلم في نعشه على عهد الصديق وذكر فضله وفضل الفاروق. وإنما هي النفس تشاهد أمرا ملكوتيّا ويكشف الله عن سمع من يشاء ، فإذا أدرج الميت في أكفانه صارت الروح ملتصقة بالصدر خارجة ولها خوار وعجيج وهي تقول أسرعوا بي إلي أيّ رحمة ربي لو علمتم ما أنتم حاملوني إليه! فإن كان ممن يبشر بالشقاء يقول رويدا بي إلى أي عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه. ولأجل

٥١٤

ذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمر به جنازة إلا قام لها قياما. وفي الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرت به جنازة فقام لها تعظيما فقيل : يا رسول الله إنه يهودي ، فقال : أليست نفسا؟ وإنما كان يفعله لأنه كشف له عن أسرار الملكوت ، فكان يسر بالميت إذا مر به لأنه من أهل فهمه ومعانيه. فإذا دخل الميت القبر وأهيل عليه التراب ناداه القبر كنت تفرح على ظهري والآن تأكلك الديدان في بطني ، ويكثر عليه مثل هذه الألفاظ الموبخة حتى يسوّى عليه التراب ، ثم يناديه ملك يقال له رومان. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره؟ قال : يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت ، فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول : يا عبد الله اكتب عملك!فيقول : ليس معي دواة ولا قرطاس ، فيقول : هيهات! كفك قرطاسك ، ومدادك ريقك ، وقلمك إصبعك ، فيقطع قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب ، وإن كان غير كاتب في الدنيا فيكتب حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد ، ثم يطوي الملك الرقعة ويعلقها في عنقه. ثم قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣]. فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتّانا القبر وهما ملكان أسودان يخرقان الأرض بأنيابهما ، لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض ، كلامهما كالرعد القاصف ، وأعينهما كالبرق الخاطف ، ونفسهما كالريح العاصف ، وبيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه ، ولو ضرب به أعظم جبل لجعله دكا ، فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت وولت هاربة ، فتدخل في منخر الميت ، فيحيا الميت من الصدر ويكون كهيئته عند الغرغرة ، ولا يقدر على حركة ، غير أنه يسمع وينظر. قال : فيسألانه بعنف ، وينهرانه بجفاء ، وقد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفتح فيه ووجد فيه فرحة ، فيقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وما قبلتك؟ فمن وفقه الله وثبته بالقول الثابت قال : من وكلكما علي ومن أرسلكما إليّ؟ ثم يقول : الله ربي ، ومحمد نبيّي ، والإسلام ديني ، وهذا ما يقوله ، إلا العلماء الأخيار فيقول أحدهما للآخر صدق لقد كفي شرنا ولقن حجته ، ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة ويفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه ، ثم يفرشان له من حريرها وريحانها ، ويدخل عليه من نسيمها وروائحها ، ويأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه يؤنسه ويحدثه ويملأ قبره نورا ، ولا يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة فليس شيء أحب إليه من قيامها. ودونه في المنزلة المؤمن القليل العلم والعمل ، ليس معه حظه من العلم ولا أسرار الملكوت ، يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيبة الريح ، حسن الثياب ، فيقول له : أما تعرفني؟ فيقول : من أنت الذي منّ الله علي بك في غربتي؟ فيقول : أنا عملك الصالح لا تحزن ولا توجل! فعما قليل يلج عليك منكر ونكير يسألانك فلا تدهش ، ثم يلقنه حجته ، فبينما هو كذلك إذ دخلا عليه كما تقدم ذكرهما فينهرانه ويقعدانه مستندا ويقولان له : من ربك؟ فيسبق إلى القول الأول فيقول : الله ربي ، ومحمد نبيّي

٥١٥

والقرآن إمامي ، والكعبة قبلتي ، وإبراهيم أبي ، وملته ملتي ، غير مستعجم ، فيقولان له : صدقت! ويفعلان به كالأول ، إلا أنهما يفتحان له بابا من النار من تلقاء شماله ، فينظر إلى حيّاتها وعقاربها وأغلالها وسلاسلها وحميمها وجميع ما فيها من صديدها وزقومها ، فيفزع فيقولان له : لا عليك سوء ، هذا موضعك كان من النار قد أبدله الله تعالى به موضعك هذا من الجنة ، نم سعيدا! ثم يغلقان عنه باب النار ولم يدر ما مرّ عليه من الشهور والأعوام والدهور. ومن الناس من ينعجم في مسألته ، وإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول الله ربي ، وأخذ يذكر غيرها من الألفاظ ، فيضربانه ضربة يشتعل قبره منها نارا ، ثم يطفأ عنه أياما ، ثم يشتعل عليه أيضا ، ثم دأبه ما بقيت الدنيا. ومن الناس من يعتاص عليه ويعسر أن يقول الإسلام ديني ، بشك كان يتوهمه ، أو فتنة تقع به عند الموت ، فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره نارا كالأول. ومن الناس من يعسر عليه أن يقول القرآن إمامي ، لأنه يتلوه ولا يتعظ به ولا يعمل بأوامره ولا ينتهي بنواهيه ، يطوف عليه دهره ولا يعظ نفسه خيره ، فيفعل به ما فعل بالأولين. ومن الناس من يستحيل عمله جروا يعذب به في قبره على قدر جرمه. في الأخبار أن من الناس من يستحيل عمله خنّوصا وهو ولد الخنزير. ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول محمد نبيّي ، لأنه كان ناسيا لسنّته. ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول الكعبة قبلتي ، لقلة تحريه في صلاته ، أو فساد في وضوئه ، أو التفات في صلاته ، أو اختلال في ركوعه وسجوده ، ويكفيك ما روي في فضائلها أن الله لا يقبل صلاة ممن عليه صلاة ومن عليه ثوب حرام. ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول أبي إبراهيم ، لأنه سمع كلاما يوما أوهمه أن إبراهيم كان يهوديّا أو نصرانيّا ، فإذا هو شاب مرتاب ، فيفعل به ما فعل بالآخرين. وكل هذه الأنواع كشفناها في كتاب الإحياء.

فصل

وأما الفاجر فيقولان له : من ربك؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان له : لا دريت ولا عرفت! ثم يضربانه بتلك المقامع الحديد حتى يتجلجل في الأرض السابعة ، ثم تنقضه الأرض في قبره ، ثم يضربانه سبع مرات ، ثم تختلف أحوالهم فمنهم من يستحيل عمله كلبا ينهشه حتى تقوم الساعة ، وهم المرتابون ، وهي أنواع تعتري أهل القبور ، وإنما آثرنا الاختصار في ذكرها ، وأصلها أن الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذي كان يخافه في الدنيا ، فمن الناس من يخاف الجرو أكثر ، وطبائع الخلق مفترقة. نسأل الله السلامة والغفران قبل الندامة.

وقد روي عن غير واحد من الموتى أنه رئي في المنام فقيل له : كيف كان حالك؟ فقال : صليت بلا وضوء فوكل الله علي ذئبا يروعني في قبري ، فحالي معه أسوأ حال. وآخر رئي في المنام فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال دعني فإني لم أتمكن في غسل يوم من الجنابة فألبسني الله ثوبا من نار أتقلب فيها إلى يوم القيامة. ورئي آخر فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : الغاسل الذي

٥١٦

غسلني حملني بعنف فخدشني مسمار كان في المغتسل قائما فتألمت منه ، فلما أصبح الصباح سئل الغاسل فقال : كان ذلك من غير اختياري. ورئي آخر في المنام فقيل له : كيف حالك أو لم تمت؟ قال : نعم ، وأنا بخير ، غير أن الحجر كسر ضلعي عند ما سوّي علي التراب فأضرني. ففتح القبر فوجدوه كما قال. وآخر جاء إلى ولده في النوم فقال له : يا ولد السوء أصلح قبر أبيك ، لقد آذاه المطر! فلما أصبح بعث الرجل إلى قبر أبيه فوجد جدولا من الماء وقد أتى عليه من سيل ، وإذا بالقبر مملوء من الماء. وعن أعرابي أنه قال لولده : ما فعل الله بك؟ قال ما ضرني إلا أن دفنت بإزاء فلان وكان فاسقا قد روعني ما يعذب به من أنواع العذاب.

وكثيرا ما جاء في مثل هذه الأخبار حكايات تبين أهل القبور يؤلمون في قبورهم ، وكفى بالخبر دلالة حيث يقول صاحب الشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يؤلم الميّت في قبره كما يؤلم الحيّ في بيته" وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كسر عظام الميت.

وقد مر برجل قاعد على فناء قبر فنهاه وقال : لا تؤذوا الموتى في قبورهم. وقد زار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه آمنة فبكى وأبكى من كان معه ثم قال : «استأذنت ربّي في الاستغفار لها فلم يأذن لي ، ثمّ استأذنت أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنّها تذكّر الموت». وكان إذا حضر إلى المقابر ليزورها يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلاما على أهل الدّيار من المسلمين والمؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع ، اللهمّ اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنّا وعنهم» فكان يعلم نساءهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج النساء إلى المقابر يقول لهن قولوا هذا الكلام ، ويعلمهن إياه. وقال صالح المزني : سألت بعض العلماء لأي شيء نهي عن الصلاة في المقبرة؟ فقال : ورد حديث ، فاستدل بحديث" لا تصلّوا بين القبور فإنّ ذلك حسرة لا منتهى لها". وروي عن بعضهم أنه قال : قمت أصلي ذات يوم في المقابر وقد اشتد الحر وقوي ، إذ رأيت شخصا يشبه أبي جالسا على ظهر قبره ، فسجدت فزعا ، فسمعته يقول : ضاقت عليك الأرض رحبا حتى جئت تؤذينا بصلاتك منذ زمان. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بيتيم يبكي على قبر أبيه فبكى رحمة له ثم قال : " إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه" أي إنّ ذلك يحزنه ويسوؤه. فكم من ميت رئي في المنام فقيل له كيف حالك يا فلان فيقول حال سوء ساء حالي من فلان وفلانة كانا يكثران البكاء والنواح علي. إلا أن الزنادقة ينكرون ذلك قبله. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " ما من أحد منكم يمرّ بقبر أخيه المؤمن ممّن يعرفه في الدّنيا فيسلّم عليه إلّا عرفه وردّ عليه" وكذا حدث عليه الصلاة والسلام وقد انصرف عن جنازة دفنوها أنه يسمع قرع نعالهم وهم بغيره أسمع وأسمع. ومات بعض الفقهاء ولم يوص بشيء ثم طاف على أهل بيته بالليل وقال : أعطوا فلانا كيت وكيت من الزرع! وادفعوا لفلان كتابه الذي كان عندي مودوعا منذ زمان! فلما أصبحوا ذكر كل واحد منهم لأخيه ما رأى ، ثم إنهم وجدوه بعد زمان في زوايا البيت. وعن بعضهم قال : اتخذ أبونا لنا مؤدبا يعلمنا الكتابة في الدار

٥١٧

فمات ، فخرجنا إلى قبره بعد ستة أيام وجعلنا نتذاكر أمر الله عزوجل ، فمر بنا طبق من تين فاشتريناه وأكلناه ورمينا الأذناب على القبر ، فلما كان تلك الليلة رأى أبونا الشيخ في المنام فقال له : كيف حالك؟ فقال : بخير ، غير أن أولادك اتخذوا قبري مزبلة ، وتحدثوا علي بكلام هو كفر ، فخاصمنا أبونا للشيخ وقال : إن الشيخ قال لي إنهم قالوا عند قبري شيئا يشبه الكفر ، فقلنا : يا سبحان الله لا يزال يؤدبنا في الدنيا والآخرة. ومن هذه الحكايات كثير إلا أني ذكرت هذا القدر أمثالا ومواعظ ليعتبر بالأقل.

فصل

وأما أهل القبور فعلى أربعة أحوال : فمنهم القاعد على عقبه حتى تنتثر العين ، وتورم الجثة ، ويعود الجسم ترابا ، ثم لا يزال بعد ذلك طوافا في الملكوت دون سماء الدنيا ، ومنهم من يرسل الله عليه نعسة فلا يدري ما فعل حتى ينتبه مع النفخة الأولى ثم يموت ، ومنهم من لا يقوم على قبره إلا شهرين أو ثلاثا ، ثم تركب نفسه على طير يهوي به في الجنة ، وهو الحديث الصحيح حيث يقول صاحب الشرعصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نسمة المؤمن من طائر يعلق في شجرة الجنّة» وفي المعنى الصحيح والوجه الحسن. وكذلك سئل عن أرواح الشهداء فقال : «الشّهداء في حواصل طيور خضر تعلق بهم في شجرة الجنّة». ومن الناس من إذا بادت عينه عرج به إلى الصور فلا يزال لازما له حتى ينفخ في الصور. والنوع الرابع خص به الأنبياء والأولياء ولهم الخيار ، فمنهم من يكون طوافا في الأرض حتى تقوم الساعة ، وكثيرا ما يرى في الليل ، وأظن الصديق منهم والفاروق. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له الخيار في طواف العوالم الثلاثة. وعن هذه الإرادة قال يوما تنبيها وإشارة صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث» وكانت ثلاث عشرات ، لأن الحسين قتل على رأس الثلاثين سنة فغضب على أهل الأرض وعرج إلى السماء ، وقد رآه بعض الصالحين في النوم فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما ترى في فتن أمتك؟ قال : زادهم الله فتنة! قتلوا الحسين ولم يحفظوني فيه. ثم جعل يعدد كلاما اشتبه على الراوي. ومنهم من اختار السماء السابعة كإبراهيم عليه‌السلام ، وفي الحديث أنه أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور وقد أحدق به أولاد المسلمين. وعيسى عليه‌السلام في السماء الخامسة ، وفي كل سماء رسل وأنبياء لا يخرجون منها ولا يبرحون حتى الصعقة ، وليس منهم من له الخيار إلا الخليل والكليم والروح والحبيب ، هؤلاء ينتهون حيث أرادوا من العالمين ، وأما الأولياء فمنهم من وقف على البعثة الدنيوية كما روي عن أبي يزيد أنه تحت العرش يأكل من مائدة. وعلى هذه الأنواع الأربعة حال أهل القبور يعذبون ويرحمون ويهانون ويكرمون ، فالذين هم منهم يحدقون بالميت إذا احتضر حتى يضيق بهم رحاب المنازل ، وربما كشف له فيراهم ويفطن بهم ، وقد رأيت من حدث بهذا النوع ، وقد رأيت بعض الأصحاب كشف عن بصيرته فنظر إلى ولده الميت قد ولج البيت والميت

٥١٨

يفيق ويتصور. وهذه الفوائد الملكوتية إنما تكون لكريم أو نسيب. نسأل الله أن يجود لنا بمعرفة ما نخوض به بحر أسرارها حتى يرتفع الشك والارتياب.

ومع هذه الأنواع الموصوفة لا يعقل منهم تكوين الليل والنهار إلا من كان عينه باقية لم يعرج به علوا. فمنهم من يعرف الجمعة والأعياد وإذا خرج أحد من الدنيا اجتمعوا إليه وعرفوه ، فهذا يسأل عن زوجته وهذا يسأل عن والده ، وكل واحد يسأل عن أربه. وربما مات الميت فلم يلق أحد معارفه لزيغ يصيبه عند الموت ، فيموت يهوديا أو نصرانيا فيصير إلى عساكرهم ، فإذا قدم أحد من الدنيا سأله جيرانه : ما علمك بفلان؟ فيقول لهم : قد مات ، فيقال : إنا لله وإنا إليه راجعون! ما رأيناه سلك به إلى أمه الهاوية. وقد رئي بعض الناس فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : أنا وفلان وفلان ، وعد خمسة من أصحابه ، في خير كثير ونعمة ، وكان قتله الخوارج مع أصحابه المعروفين. وسئل عن جار له ما فعل الله به ، فقال : ما رأيناه ، وإنما كان هذا المنكور ألقى نفسه في اليم حتى مات غرقا ، وأظنه والله مع قاتلي أنفسهم. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في بطن جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا ، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنّم» الحديث. وكذلك المرأة تموت بحدّ ، لا تزال تجد ذلك الألم حتى النفخة ، فهذه حياة ثانية. وقد صح أن آدم عليه‌السلام لقي موسى عليه‌السلام فقال له : أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك جنته فلم عصيته؟ قال له : يا موسى نعم ، فقال له : في كم سنة وجدت الذنب قدر علي قبل فعله؟ قال له : كتب عليك قبل أن تفعله بخمسين ألف سنة ، قال : يا موسى أفتلومني على ذنب قدر علي قبل أن أفعله بخمسين ألف عام؟ وفي الصحيح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بالمرسلين ليلة أسري به ركعتين ، وأنه سلم على هارون عليه‌السلام ، فدعا له بالرحمة ولأمته ، وأنه سلم على إدريس فدعا له بالرحمة ولأمته ، وكان أولئك قد ماتوا وبادت أعينهم. وإنما هي الحياة الأنفس ، وبعد هذا الإحياء حياة ثالثة ، والحياة الأولية يوم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا!ولا يعتد بالحياة الدنيوية ، فإنها مسخرة للتنعم. ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».

فهذه أحوال الأموات إذا بادت أعينهم : منهم المستقر ، ومنهم الطواف ، ومنهم المضروب عليه ، ومنهم المعذب ، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦]. واليوم بيان عذاب البرزخ.

فصل

فإذا أراد الله تعالى قيام الساعة دون النفخ في الصور على السر الذي بيناه في الإحياء ، فإذا

٥١٩

الجبال تتطاير وتسير مثل السحاب ، وإذا البحار قد تفجرت بعضها في بعض ، وتكورت الشمس فعادت سوداء مزبرة ، وسجرت الجبال على أمثال عالم الهواء ، ودخل العالم بعضه في بعض ، وانتثرت النجوم كالسلك إذا انتثر من نظمه ، وعادت السماء كدهن الورد تدور كدوران الرحى ، والأرض قد زلزلت زلزالا شديدا تارة تنقبض وتارة تنبسط كالأديم ، حتى أن الله يأمر بخلع الأفلاك ، فلا يبقى في الأرضين السبع ولا السماوات السبع ولا في الكرسي حيّ كائن إلا وقد ذهبت نفسه ، وإن كان روحانيا ذهبت روحه ، وقد خلت الأرض من عمارها ، والسماء من سكانها على ضروب الموحدين. ثم إن الله جلّ جلاله يتجلى في المقام فيقبض السماوات السبع في يمينه ، والأرضين السبع الأخرى ، ثم يقول الله عزوجل : يا دنيا يا دنية أين أربابك وأين أصحابك ، منيّتهم ببهجتك وشغلتهم عن آخرتهم بزهوك ، ثم يثني على نفسه بما شاء ، ويفتخر بالبقاء المستمر ، والعز الدائم ، والملك الباقي ، والقدرة القاهرة ، والحكمة الباهرة ، ثم يقول تعالى : لمن الملك اليوم ، فلا يجيبه أحد ، فيجيب نفسه بنفسه بأن يقول : لله الواحد القهار. ثم يفعل فعلا أعظم من الأول وهو أن يأخذ السماوات على إصبع والأرضين على إصبع ثم يهزها ويقول سبحانه : أنا الملك الديان أين عبدة الأوثان الذين عبدوا غيري من دوني ، وأشركوا بي وأكلوا رزقي ، أين الذين تقووا برزقي على المعاصي ، أين الجبابرة ، أين من تكبر وافتخر ، لمن الملك اليوم ، كالمرة الأولى. ثم يمكث كذلك سبحانه وتعالى ما شاء الله وليس من العرش إلى المقام نسمة تلوح تعقل ، وقد ضرب الله على آذان الحور والولدان في جنتهم. ثم يكشف الله سبحانه وتعالى عن بئر في سقر ، فيخرج منها لهيب النار ، فتشتعل في الأربعة عشر بحرا كما تشتعل النار في الصوف المنفوش ، فما تدع منها قطرة واحدة ، وتدع الأرضين جملة سوداء والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب ، فإذا دنا اللهيب إن يتعلق بعنان السماء زجر الله النار زجرة فخمدت ، ثم لا يرفع لها لهيب ، ثم يفتح الله سبحانه وتعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة ، فتمطر الأرض ، فإذا هو كمني الرجال ، فيلقى الأرض عطشى ميتة هامدة فتحيا وتهتز ولا يزال المطر عليها حتى يعمها ، ويكون الماء أربعين ذراعا ، فإذا جاء الأجسام تنبت من العصعص. وفي الحديث أن الإنسان يبدأ من عجب الذنب ومنه يعود ، وفي رواية أخرى «يبلى المرء كلّه إلّا عجب الذّنب منه بدئ ومنه يعود» وهو عظم على قدر الحمصة ليس له مخ ، فمنه تنبت الأجسام في مقابرها كما ينبت البقل ، حتى يشتبك بعضها في بعض ، فإذا رأس هذا عند منكب هذا ، ويد هذا عند عجز هذا ، لكثرة البشر. وفي معنى قوله عزوجل (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [ق : ٤]. نبهنا عليه في كتابنا الإحياء. فإذا تمت النشأة على حسبها : الصبي صبي ، والشيخ شيخ ، والكهل كهل ، والفتى فتى ، والشاب شاب ، أمر الجليل جل جلاله أن تهب ريح من تحت العرش فيها نار لطيفة ، فيكشف ذلك عن الأرض ، وتبقى الأرض بارزة ليس فيها حدب ولا عوج ولا أمت ،

٥٢٠