مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

ويقول عزوجل : بسم الله الرحمن الرحيم (يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ، وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١. ١١] فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات ، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية ، وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة تشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد ، قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة ، وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مائة ؛ فاستحكم الرجاء ، وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات ، ويسر الله تعالى الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وكان الخروج من بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، وبلغت مدة العزلة إحدى عشرة سنة ، وهذه حركة قدرها الله تعالى ، وهي من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه العزلة ، كما لم يكن الخروج من بغداد والنزوع عن تلك الأحوال مما يخطر إمكانه أصلا بالبال والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و" قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" وأنا أعلم أني وإن رجعت إلى نشر العلم فما رجعت ، فإن الرجوع عود إلى ما كان ، وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي يكسب الجاه ، وأدعو إليه بقولي وعملي ، وكان ذلك قصدي ونيتي ؛ وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه ، ويعرف به سقوط رتبة الجاه.

هذا الآن هو نيتي وقصدي وأمنيتي ، يعلم الله ذلك مني ، وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري ، ولست أدري أأصل إلى مرادي ، أم أخترم دون غرضي؟ ولكني أومن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأني لم أتحرك لكنه حركني ، وأني لم أعمل لكنه استعملني ، فأسأله أن يصلحني أولا ، ثم يصلح بي ويهديني ، ثم يهدي بي ؛ وأن يريني الحق حقا ويرزقني اتباعه ، ويريني الباطل باطلا ويرزقني اجتنابه.

ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان فيمن ذكر بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم :

أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم ، فعلاجه ما ذكرناه في كتاب" القسطاس المستقيم" ولا نطول بذكره في هذه الرسالة.

وأما ما توهمه أهل الإباحة ، فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في كتاب" كيمياء السعادة".

وأما من فسد إيمانه بطريق الفلسفة حتى أنكر أصل النبوة ، فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة ، بدليل وجود علم خواص الأدوية والنجوم وغيرهما ، وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك ، وإنما أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم لأنه من نفس علمهم. ونحن نبين لكل عالم

٥٦١

بفن من العلوم ، كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات مثلا من نفس علمه برهان النبوة.

وأما من أثبت النبوة بلسانه وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ، فهو على التحقيق كافر بالنبوة ، مؤمن بحكم له طابع مخصوص ، يقتضي طابعه أن يكون متبوعا ؛ وليس هذا من النبوة في شيء ، بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة والعقل معزول عنها ، كعزل السمع عن إدراك الألوان ، والبصر عن إدراك الأصوات ، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات ؛ فإن لم يجوز هذا ، فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده ، وإن جوز هذا ، فقد أثبت أن هاهنا أمورا تسمى خواص لا يدور تصرف العقل حواليها أصلا ، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها ؛ فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل ، لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته. والذي يدعي علم الطبيعة ، يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصري الماء والتراب ، فهما العنصران الباردان. ومعلوم أن أرطالا من الماء والتراب لا يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد ، فلو أخبر طبيعي بهذا ولم يجربه لقال : " هذا محال ، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة ، فنقدر الكل ماء وترابا فلا يوجب هذا الإفراط بالتبريد ، فإن انضم إليه حاران فبأن لا يوجب أولى". ويقدر هذا برهانا. وأكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني على هذا الجنس ، فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه. وما لم يألفوه قدروا استحالته. ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة ، وادعى مدع أنه عند ركود الحواس يعلم الغيب ، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول. ولو قيل لواحد : " هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه ، فلا يبقي شيئا من البلدة وما فيها ولا يبقى هو في نفسه"؟ لقال : " هذا محال وهو من جملة الخرافات! " وهذه حالة النار ينكرها من لم ير النار إذا سمعها ؛ وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل. فنقول للطبيعي : " قد اضطررت إلى أن تقول : في الأفيون خاصية في التبريد ليس على قياس المعقول بالطبيعة ، فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يدرك بالحكمة العقلية ، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟ " بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق بهذا الشكل :

يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ، وتنظر إليهما الحامل بعينها ، وتضعهما تحت قدميها ، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في كتاب" عجائب الخواص" وهو شكل فيه تسعة بيوت يرقم فيها رقوم مخصوصة ، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر ، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو جوانبه.

فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين ،

٥٦٢

والظهر بأربع ، والمغرب بثلاث ، هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟ وسببها اختلاف هذه الأوقات ؛ وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة. والعجب أنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لعللوا اختلاف هذه الأوقات ، فنقول : " أليس يختلف الحكم في الطالع بأن تكون الشمس في وسط السماء ، أو في الطالع أو في الغارب ، حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج وتفاوت الأعمار والآجال ، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ، وبين المغرب وبين كون الشمس في الغارب ، فهل لتصديقه سبيل؟ " إلا أن ذلك يسمعه بعبارة المنجم ، لعله جرب كذبه مائة مرة ؛ ولا يزال يعاود تصديقه ، حتى لو قال المنجم له : إذا كانت الشمس في وسط السماء ، ونظر إليها الكوكب الفلاني ، والطالع هو البرج الفلاني ، فلبست ثوبا جديدا في ذلك الوقت ، قتلت في ذلك الثوب! فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت ، وربما يقاسي فيه البرد الشديد ، وربما سمعه من منجم وقد عرف كذبه مرات.

فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائه ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص ، معرفتها معجزة لبعض الأنبياء ، فكيف ينكر مثل ذلك فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب! فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ورمي الجمار وعدد أركان الحج وسائر تعبدات الشرع ، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقا أصلا. فإن قال : " قد جربت شيئا من النجوم وشيئا من الطب ، فوجدت بعضه صادقا ، فانقدح في نفسي تصديقه ، وسقط من قلبي استبعاده ونفرته وهذا لم أجربه ، فبم أعلم وجوده وتحقيقه إن أقررت بإمكانه؟ " فأقول : " إنك لا تقصر على تصديق ما جربته ، بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم ، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا شاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض لك". على أني أقول : وإن لم تجربه فيقضي عقلك بوجوب التصديق والاتباع قطعا ؛ فإنا لو فرضنا رجلا بلغ وعقل ولم يجرب المرض فمرض ، وله والد مشفق حاذق بالطب ، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل ، فعجن له والده دواء فقال : " هذا يصلح لمرضك ، ويشفيك من سقمك" فما ذا يقتضيه عقله ، وإن كان الدواء مرا كريه المذاق ، أيتناوله؟ أو يكذب ويقول : أنا لا أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ، ولم أجربه؟ فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت : فبم أعرف شفقة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفته بهذا الطب؟ فأقول : وبم عرفت شفقة أبيك وليس ذلك أمرا محسوسا؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علما ضروريا لا تتمارى فيه.

ومن نظر في أقوال رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق ، وتلطفه في جر الناس بأنواع الرفق واللطف إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين ، وبالجملة إلى ما لا يصلح إلا به دينهم ودنياهم ، حصل له علم ضروري بأن شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده. وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال ، وإلى عجائب الغيب الذي

٥٦٣

أخبر عنه القرآن على لسانه وفي الأخبار ، وإلى ما ذكره في آخر الزمان فظهر ذلك كما ذكره ، علم علما ضروريّا أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ، وانفتحت له العين التي يكتشف منها الغيب الذي لا يدركه إلا الخواص ، والأمور التي لا تدركها العقول. فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي عليه الصلاة والسلام. فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار تعرف ذلك بالعيان.

وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ، ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان.

وأما السبب الرابع. وهو ضعف الإيمان بسبب سوء سيرة العلماء. فيداوى هذا المرض بثلاثة أمور:

أحدها : أن تقول إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ، معرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر ولحم الخنزير والربا ، بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة. وأنت تعرف ذلك وتفعله لا لعدم إيمانك بأنه معصية ، بل لشهواتك الغالبة عليك ؛ فشهواته كشهواتك ، وقد غلبته كما غلبتك ، فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك ، لا يناسبه زيادة زجر عن هذا المحظور المعين. وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ، وإن زجره الطبيب عنه! ولا يدل على ذلك أنه غير ضار ، أو على أن الإيمان بالطب غير صحيح ، فهذا محمل هفوات العلماء.

الثاني : أن يقال للعامي : ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخرا لنفسه في الآخرة ، ويظن أن علمه ينجيه ، ويكون شفيعا له حتى يتساهل معه في أعماله لفضيلة علمه. وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه ، فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له ، وهو ممكن ، فهو وإن ترك العمل يدلي بالعلم. أما أنت أيها العامي إذا نظرت إليه ، وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ، فتهلك لسوء عملك ولا شفيع لك.

الثالث : وهو الحقيقة ، أن العالم الحقيقي لا يصادف معصية إلا على سبيل الهفوة ، ولا يكون مصرّا على المعاصي أصلا ؛ إذ العلم الحقيقي ما يعرّف أن المعصية سم مهلك ، وأن الآخرة خير من الدنيا ، ومن عرف ذلك لا يبيع الخير بما هو أدنى منه. وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بها أكثر الناس ؛ فلذلك لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى. وأما العلم الحقيقي فيزيد صاحبه خشية وخوفا ورجاء ، وذلك يحول بينه وبين المعاصي ، إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات ؛ وذلك لا يدل على ضعف الإيمان ، فالمؤمن مفتن تواب ، وهو بعيد عن الإصرار والإكباب.

هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما ، وآفات من أنكر عليهما لا بطريقة.

ونسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه ، وأرشده إلى الحق وهداه ، وألهمه ذكره حتى لا ينساه ، وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ، واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

٥٦٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كتاب

حجة الإسلام الإمام الغزالي

المواعظ في الأحاديث القدسية

الحمد لله تذكرة للعباد ، وتقوية للمتقين من المسلمين إلى العبادة ، والصلاة على صاحب الملّة الطاهرة ، والرضوان على آله وأصحابه وآلهم ، وعلى من تبعهم بإحسان ، وعلماء الأمة في كل زمان.

كتاب الموعظة فيه حسنة نافعة ، نفعنا الله بها.

الموعظة الأولى

يقول الله تعالى : «يا بن آدم! عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يجمع المال ، وعجبت لمن أيقن بالقبر كيف يضحك ، وعجبت لمن أيقن بالآخرة كيف يستريح ، وعجبت لمن أيقن بالدّنيا وزوالها كيف يطمئنّ إليها ، وعجبت لمن هو عالم باللّسان جاهل بالقلب ، وعجبت لمن يطهر بالماء وهو غير طاهر بالقلب ، وعجبت لمن يشتغل بعيوب النّاس وهو غافل عن عيوب نفسه ، أو لمن يعلم أنّ الله تعالى مطّلع عليه كيف يعصيه ، أو لمن يعلم أنّه يموت وحده ، ويدخل القبر وحده ، ويحاسب وحده ، كيف يستأنس بالنّاس ، لا إله إلّا أنا حقّا ، وأنّ محمّدا عبدي ورسولي".

الموعظة الثّانية

يقول الله تعالى : " شهدت نفسي ، أن لا إله إلّا أنا وحدي ، لا شريك لي ، محمّد عبدي ورسولي. من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر على نعمائي ، ولم يقنع بعطائي ، فليعبد ربّا سوائي ، ومن أصبح حزينا على الدّنيا فكأنّما أصبح ساخطا علي ، ومن اشتكى على مصيبة فقد شكاني ، ومن دخل على غنيّ فتواضع له من أجل غنائه ذهب ثلثا دينه ، ومن لطم وجهه على ميّت فكأنّما أخذ رمحا يقاتلني به ، ومن كسر عودا على قبر فكأنّه هدم باب كعبتي بيده ، ومن لم يبال من أيّ باب يأكل ، ما يبالي من أيّ باب يدخله الله تعالى جهنّم ، ومن لم يكن في الزّيادة في دينه فهو في النّقصان ، ومن كان في النّقصان فالموت خير

٥٦٥

له ، ومن عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم ، ومن أطال أمله لم يخلص عمله".

الموعظة الثّالثة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! اقنع تستغن ، واترك الحسد تسترح ، واجتنب الحرام تخلص دينك ، ومن ترك الغيبة ظهرت له محبّتي ، ومن اعتزل النّاس سلم منهم ، ومن قلّ كلامه كمل عقله ، ومن رضي بالقليل فقد وثق بالله تعالى. يا بن آدم! أنت بما تعلم لا تعمل ، فكيف تطلب علم ما لا تعلم؟ يا بن آدم! تعمل في الدّنيا كأنّك لا تموت غدا ، وتجمع المال كأنّك مخلّد أبدا. يا دنيا احرمي الحريص عليك ، وابتغي الزّاهد فيك ، وكوني حلوة في عين النّاظرين".

الموعظة الرّابعة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! من أصبح حزينا على الدّنيا لم يزدد من الله إلا بعدا ، وفي الدّنيا إلا كدّا ، وفي الآخرة إلّا جهدا ، وألزم الله تعالى قلبه همّا لا ينقطع عنه أبدا ، وشغلا لا يفرع عنه أبدا ، وفقرا لا ينال غنى أبدا ، وآمالا تشغله أبدا. يا بن آدم! تنقص كلّ يوم من عمرك وأنت لا تدري ، وآتيك كلّ يوم برزقك وأنت لا تحمد ؛ فلا بالقليل تقنع ، ولا بالكثير تشبع. يا بن آدم! ما من يوم إلّا ويأتيك رزقك من عندي ، وما من ليلة إلّا ويأتيني الملائكة من عندك بعمل قبيح ؛ تأكل رزقي وتعصيني ، وأنت تدعوني فأستجيب لك ، وخيري إليك نازل ، وشرّك إليّ واصل ؛ فنعم المولى أنا لك! وبئس العبد أنت لي! تستلّني ما أعطيك ، وأستر عليك سوأة بعد سوأة فضيحة ، وأنا أستحيي منك وأنت لا تستحي منّي ، تنساني وتذكر غيري ، وتخاف النّاس وتأمن منّي ، وتخاف مقتهم ، وتأمن غضبي".

الموعظة الخامسة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! لا تكن ممّن يقصّر التّوبة ، ويطوّل الأمل ، ويرجو الآخرة بغير عمل ؛ يقول قول العابدين ويعمل عمل المنافقين. إن أعطي لم يقنع ، وإن منع لم يصبر. يأمر بالخير ولا يفعله. وينهى بالشّرّ ولم ينته عنه. يحبّ الصّالحين وليس منهم ، ويبغض المنافقين وهو منهم. يقول ما لا يفعل ، ويفعل ما لا يؤمر ، ويستوفي ما لا يوفي. يا بن آدم! ما من يوم جديد إلّا والأرض تخاطبك في قولها تقول لك : يا بن آدم! تمشي على ظهري ، ثمّ تحزن في بطني ، وتأكل الشّهوات على ظهري ، ويأكلك الدّود في بطني. يا بن آدم! أنا بيت الوحشة ، وأنا بيت المساءلة ، وأنا بيت الوحدة ، وأنا بيت الظّلمة ، وأنا بيت الحيّات والعقارب ، فاعمرني ولا تخرّبني".

الموعظة السّادسة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! ما خلقتكم لأستكثر بكم من قلّة ، ولا لأستأنس بكم من

٥٦٦

وحشة ، ولا لأستعين بكم على أمر عجزت عنه ، ولا لجلب منفعة ، ولا لدفع مضرّة ، بل خلقتكم لتعبدوني طويلا ، وتشكروني كثيرا ، وتسبّحوني بكرة وأصيلا. يا بن آدم! لو أنّ أوّلكم وآخركم ، وجنّكم وإنسكم ، وصغيركم وكبيركم ، وحرّكم وعبدكم ، اجتمعوا على طاعتي ما زاد ذلك في ملكي مثقال ذرّة. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، إنّ الله لغنيّ عن العالمين. يا بن آدم! كما تؤذي يؤذى بك ، وكما تعمل يعلم بك»

الموعظة السّابعة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! يا عبيد الدّينار والدّراهم! إنّي خلقتهما لكم لتأكلوا بهما رزقي ، وتلبسوا بهما ثيابي ، وتسبّحوني وتقدّسوني ؛ ثمّ تأخذون كتابي وتجعلونه وراءكم ، وتأخذون الدّينار والدّراهم وتجعلونها فوق رءوسكم ، ورفعتم بيوتكم وخفضتم بيوتي ، فلا أنتم أخيار ولا أنتم أحرار ؛ أنتم عبيد الدّنيا ، واجتماع مثلكم كمثل القبور المجصّصة ، يرى ظاهرها مليحا وباطنها قبيحا ، وكذا تصلحون للنّاس وتحبّون إليهم بألسنتكم الحلوة ، وأفعالكم الجميلة ، وتباعدون بقلوبكم القاسية وأحوالكم الخبيثة. يا بن آدم! أخلص عملك واسألني! فإنّي أعطيك أكثر ممّا يطلب السّائلون".

الموعظة الثّامنة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! ما خلقتكم عبثا ، ولا خلقتكم سدى ، وما أنا بغافل ، وإني بكم خبير. ولن تنالوا ما عندي إلّا بالصّبر على ما تكرهون في رضائي ، والصّبر لكم على طاعتي أيسر لكم من الصّبر على معصيتي ، وترك الذّنب أيسر لكم من اعتذاري من حرّ النّار ، وعذاب الدّنيا أيسر لكم من عذاب الآخرة ، يا بن آدم! كلّكم ضالّ إلّا من هديته ، وكلّكم مسيء إلّا من عصمته ، وتوبوا إليّ أرحمكم ، ولا تهتكوا أسراركم عند من لا يخفى عليه سرّكم".

الموعظة التّاسعة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! لا تلعنوا المخلوقين فتردّ اللّعنة عليكم. يا بن آدم! استقامت السّماوات في الهواء بلا عمد باسم واحد من أسمائي ، ولم تستقم قلوبكم بألف موعظة من كتابي. يا أيّها النّاس! كما لا يلين الحجر في الماء ، كذلك لا تؤثّر الموعظة في القلوب القاسية. يا بن آدم! كيف تشهدون أنّكم عباد الله ثمّ تعصونه؟ وكيف تزعمون أنّ الموت حقّ وأنتم له كارهون ، وتقولون بألسنتكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم."

الموعظة العاشرة

يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) [سورة يونس : ٥٧] ، فلم لا تحسنون إلّا لمن أحسن إليكم ، ولا تصلون إلّا من وصلكم ، ولا تكلّمون

٥٦٧

إلّا من كلّمكم ، ولا تطعمون إلّا من أطعمكم ، ولا تكرمون إلّا من أكرمكم؟ وليس لأحد على أحد فضل ، إنما المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله ، الّذين يحسنون إلى من أساء إليهم ، ويصلون من قطعهم ، ويعفون عمّن حرمهم ، ويأتمنون من خانهم ، ويكلّمون من هجرهم ، ويكرمون من أهانهم ، وإنّي بكم لخبير".

الموعظة الحادية عشرة

يقول الله تعالى : " يا أيّها النّاس! إنّما الدّنيا دار لمن لا دار له ، ومال لمن لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وبها يفرح من لا فهم له ، وعليها يحرص من لا توكّل له ، ويطلب شهواتها من لا معرفة له ؛ فمن أراد نعمة زائلة ، وحياة منقطعة ، فقد ظلم نفسه وعصا ربّه ، ونسي الآخرة وغرّته دنياه ، وأراد ظاهر الإثم وباطن هذا. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ). [سورة الأنعام : ١٢٠] يا بن آدم! راعوني وتاجروني ، وعاملوني وأسفلوني في ربحكم. عندي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولا تنفد خزائني ولا تنقص ، وأنا الوهّاب الكريم".

الموعظة الثّانية عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [سورة البقرة : ٤٠] كما لا تهتدي السّبيل إلّا بدليل ، كذلك لا طريق إلى الجنّة إلّا بعمل. وكما لا يجمع المال إلّا بنصب ، كذلك لا تدخلون الجنّة إلّا بالصّبر على عبادتي. فتقرّبوا إلى الله بالنّوافل ، واطلبوا رضائي برضا المساكين عنكم ، وارغبوا إلى رحمتي بمجالس العلماء ، فإن رحمتي لا تفارقهم طرفة عين. قال الله تعالى : يا موسى ، اسمع ما أقول ، فالحقّ أنّه من تكبّر على مسكين حشرته يوم القيامة على صورة الذّرّ ، ومن تواضع له رفعته في الدّنيا والآخرة ، ومن تعرّض لهتك سرّ مسكين حشرته يوم القيامة غير مستور سرّه ، ومن أهان فقيرا فقد بارزني بالمحاربة ، ومن يؤمن بي صافحته الملائكة في الدّنيا والآخرة".

الموعظة الثّالثة عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! كم من سراج قد أطفأته ريح الهوى ، وكم من عابد قد أفسده العجب ، وكم من غنيّ أفسده الغناء ، وكم من فقير أفسده الفقر ، وكم من صحيح أفسدته العافية ، وكم من عالم أفسده العلم ، وكم من جاهل أفسده الجهل ؛ فلو لا مشايخ ركّع ، وشباب خشّع ، وأطفال رضّع ، وبهائم رتّع ، لجعلت السّماء من فوقكم حديدا ، والأرض صفصفا ، والتّراب رمادا ، ولما أنزلت عليكم من السّماء قطرة ، ولما أنبتت في الأرض من حبّة ، ولصببت عليكم العذاب صبّا".

٥٦٨

الموعظة الرّابعة عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! اطلبوني بقدر حاجتكم إليّ ، واعصوني بقدر صبركم على النّار ، ولا تنظروا إلى آجالكم المستأخرة ، وأرزاقكم الحاضرة ، وذنوبكم المستترة و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). [سورة القصص : ٨٨ ، سورة الرحمن : ٢٦ ، ٢٧] ".

الموعظة الخامسة عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! إن صلح دينكم ولحمكم ودمكم ، صلح عملكم ولحمكم ودمكم ، وإن فسد دينكم فسد عملكم ولحمكم ودمكم فلا تكن كالمصباح يحرق نفسه ويضيء للنّاس ، وأخرج حبّ الدّنيا من قلبك ، فإنّي لا أجمع حبّ الدّنيا وحبّي في قلب واحد أبدا ، وارفق بنفسك في جمع الرّزق ، فإنّ الرّزق مقسوم ، والحريص محروم ، والبخيل مذموم ، والنّعمة لا تدوم ، والاستقصاء شؤم ، والأجل معلوم ، والحقّ معلوم ، وخير حكمة الله الخشوع ، وخير الغناء القناعة ، وخير الزّاد التّقوى ، وخير ما أتى في القلوب اليقين ، وخير ما أعطيتم العافية».

الموعظة السّادسة عشرة

يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، [سورة الصف : ٢] وكم تقولون وتخلفون ، وكم تنهون عمّا لستم عنه تنتهون ، وكم تأمرون ولا تفعلون ، وكم تجمعون ما لا تأكلون ، وكم توبة يوما بعد يوم تؤخّرون ، عاما بعد عام ثمّ لم تنظرون ، أعندكم من الموت أمان؟ أم بيدكم براءة من النّار؟ أم تحقّقتم الفوز بالجنان؟ أم بينكم وبين الرّحمن رحمة؟ أبطرتكم النّعم ، وأفسدكم الإحسان ، وغرّكم من الدّنيا طول الأمل. ولا تغتنموا الصّحّة والسّلامة ، فأيّامكم معلومة ، وأنفاسكم معدودة ، وقدّموا لأنفسكم لما بقي في أيديكم. يا بن آدم! إنك تقدم على عملك ، وإنّ كلّ يوم يهدم من عمرك ، من يوم خرجت من بطن أمّك ، وتدنو كلّ يوم من قبرك حتّى تدخله. يا بن آدم! مثلكم في الدّنيا كمثل الذّباب ، كلّما وقع في العسل انتشب فيه ، فكذلك أنت ، لا تكن كالحطب الّذي يحرق نفسه لغيره بالنّار".

الموعظة السّابعة عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! اعمل كما أمرتك ، وانته عمّا نهيتك عنه ، أجعلك حيّا لا تموت أبدا ، وأنا حيّ لا أموت أبدا ، وإذا قلت للشّيء كن فيكون. يا بن آدم! إن كان قولك مليحا ، وعملك قبيحا ، فأنت رئيس المنافقين ؛ وإذا كان ظاهرك مليحا وباطنك قبيحا ، فأنت من الهالكين. يخادعون الله وهو خادعهم ، (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ). [سورة البقرة : ٩] يا بن آدم! لا يدخل الجنّة إلّا من تواضع لعظمتي ، وقطع النّهار بذكري ، وكفّ نفسه عن

٥٦٩

الشّهوات من أجلي ؛ فإنّي آوي الغريب وأؤمّن الفقير ، وأكرم اليتيم ، وأكون له كالأب الرّحيم ، وللأرامل كالزّوج العطوف الشّفوق. فمن كانت هذه صفته كنت مجيبا له ، إذا دعاني شيئا أستجيبه ، وإذا سألني أعطيته".

الموعظة الثّامنة عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! إلى من تشكوني وليس لمثلي تشكو؟ وإلى متى تنسوني ولم أستوجب منكم ذلك؟ وإلى متى تكفروني ولست بظلّام للعبيد؟ وإلى متى تجحد نعمتي؟ وإلى متى تستخفّ بكتابي ، ولم أكلّفك ما لا تطيق؟ وإلى متى تجفوني؟ وإلى متى تجحدوني وليس لكم ربّ غيري؟ وإذا مرضتم فأيّ طبيب من دوني يشفيكم؟ فقد شكوتموني وسخطتم قضائي ، وأنا الّذي أرسلت السّماء عليكم مدرارا فقلتم مطرنا بهذا النّجم ، فقد كفرتموني وآمنتم بالنّجم ، وأنا الّذي أنزلت عليكم رحمتي قدرا مقدورا مكيولا معدودا موزونا مقسوما ، فإذا جاء أحدكم قوت ثلاثة أيام ، قال : أنا بشرّ ولست بخير ، فقد جحد نعمتي ، ومن منع الزّكاة من ماله فقد استخفّ بكتابي ، وإذا علم بوقت الصّلاة لم يفرغ لها فقد غفل عنّي".

الموعظة التّاسعة عشرة

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! اصبر وتواضع أرفعك ، واشكرني أزدك ، واستغفرني أغفر لك ، وإذا دعوتني أستجيب لك ، وتب إليّ أتب عليك ، واسألني أعطك ، وتصدّق أبارك لك في رزقك ، وصل رحمك أزد في أجلك ، واطلب منّي العافية بطول الصّحّة ، والسّلامة في الوحدة ، والإخلاص في الرّغبة ، والورع إلى الله في التّوبة ، والغناء في القناعة. يا بن آدم! كيف تطمع في العبادة مع الشّبع؟ وكيف تطمع في حبّ الله مع حبّ المال؟ وكيف تطمع في الخوف مع خوف الفقر؟ وكيف تطمع في الورع مع الحرص على الدّنيا؟ وكيف تطمع في مرضاة الله بغير المساكين؟ وكيف تطمع في الرّضا مع البخل؟ وكيف تطمع في الجنّة مع حبّ الدّنيا ومع المدح؟ وكيف تطمع في السّعادة مع قلّة العلم؟ ".

الموعظة العشرون

يقول الله تعالى : " يا أيّها النّاس! لا عيش كالتّدبير ، ولا ورع كالكفّ عن الأذى ، ولا حبّ أرفع من الأدب ، ولا شفيع كالتّوبة ، ولا عبادة كالعلم ، ولا صلاة كالخشية ، ولا ظفر كالصّبر ، ولا سعادة كالتّوفيق ، ولا زين أزين من العقل ، ولا رفيق آنس من الحلم. يا بن آدم! تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ، وأبارك في رزقك ، وأحلّ في جسمك راحة ، ولا تغفل عن ذكري ، فإن غفلت أملأ قلبك فقرا ، وبدنك تعبا ونصبا ، وصدرك همّا ، ولو أبصرت ما بقي من عمرك لزهدت فيما بقي من أملك. يا بن آدم! بعافيتي قويت على طاعتي ، وبتوفيقي أدّيت فريضتي ، وبرزقي قويت على معصيتي ، وبمشيئتي تشاء ما تشاء ، وبإرادتي تريد ما تريد لنفسك ،

٥٧٠

وبنعمتي قمت وقعدت ورجعت ، وبكنفي أمسيت وأصبحت ، وفي فضلي عشت ، وفي نعمتي تقلّبت ، وبعافيتي تجمّلت ، ثمّ تنساني وتذكر غيري ، فلم لا تؤدّي حقّي وشكري؟ ".

الموعظة الحادية والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! الموت يكشف أسرارك ، والقيامة تبلو أخبارك ، والعذاب يهتك أسرارك ، فإذا أذنبت ذنبا فلا تنظر إلى صغره ، ولكن انظر إلى من عصيت ، وإذا رزقت رزقا قليلا فلا تنظر إلى قلّته ، ولكن انظر إلى من رزقك ؛ ولا تحقّر الذّنب الصّغير ، فإنّك لا تدري بأيّ ذنب عصيته ؛ ولا تأمن من مكري ، فإنّ مكري أخفى عليك من دبيب النّمل على الصّفا في اللّيلة المظلمة. يا بن آدم!هل عصيتني فذكرت غضبي؟ وهل انتهيت عمّا نهيتك؟ وهل أدّيت فريضتي كما أمرتك؟ وهل واسيت المساكين من مالك؟ وهل أحسنت إلى من أساء إليك؟ وهل عفوت عمّن ظلمك؟ وهل وصلت من قطعك؟ وهل أنصفت من خانك؟ وهل كلّمت من هجرك؟ وهل أدّبت ولدك؟ وهل أرضيت جيرانك؟ وهل سألت العلماء عن أمر دينك ودنياك؟ فإنّي لا أنظر إلى صوركم ، ولا إلى محاسنكم ، ولكن أنظر إلى قلوبكم ، وأرضى بهذه الخصال منكم".

الموعظة الثّانية والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! انظر إلى نفسك وإلى جميع خلقي ، فإن وجدت أعزّ عليك من نفسك ، فاصرف كرامته إليك ، وإلّا أكرم نفسك بالتّوبة والعمل الصّالح إن كانت نفسك عليك عزيزة. واذكر نعمة الله عليك وميثاقه الّذي واثقكم به ، إذ قلتم سمعنا وأطعنا [سورة المائدة : ٧] واتّقوا الله قبل يوم القيامة ، يوم التّغابن ، يوم الحاقّة ، (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [سورة المعارج : ٤] (يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦] ، يوم الطّامّة ، يوم الصّيحة (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الإنسان : ١٠] ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] ، يوم الدّيمومة ، يوم الزّلزلة ، يوم القارعة ، يوم فيه ترجف مواقع الجبال ، وحلول النّكال ، وتعجيل الزّوال ، يوم الصّيحة والدرك ، يوم فيه تشيب الولدان ، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢١] ".

الموعظة الثّالثة والعشرون

يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). [الأحزاب : ٤١ ، ٤٢] يا موسى بن عمران ، يا صاحب البيان ، اسمع كلامي! فأنا الله الملك الدّيّان ، ليس بيني وبينك ترجمان ، بشّر آكل الرّبا بغضب الرحمن ، ومضعّفات النّيران. يا بن آدم! إذا وجدت قساوة في قلبك ، وسقما في بدنك ، وحرمانا في رزقك ، ونقيصة في مالك ، فاعلم بأنّك تكلّمت بما لا يعنيك. يا بن آدم! ما يستقيم دينك حتّى يستقيم لسانك ، ولا يستقيم لسانك حتّى

٥٧١

تستحيي من ربّك. يا بن آدم! إذا نظرت في عيوب النّاس ونسيت عيبك ، فقد أرضيت الشّيطان وأغضبت الرّحمن. يا بن آدم! لسانك أسد ، إن أطلقته قتلك ، فهلاكك في إطلاق لسانك".

الموعظة الرّابعة والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). [فاطر : ٦] اعلموا اليوم الّذي تحشرون فيه فوجا فوجا ، وتقومون بين يدي الرّحمن صفّا صفّا ، وتقرؤون الكتاب حرفا حرفا ، وتسألون عمّا عملتم سرّا وجهرا. (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) ، [مريم : ٨٥ ، ٨٦] لكم وعد ووعيد ، فإني أنا الله لا شبيه لي ، وليس سلطان كسلطاني. من صام لي في دهره خالصا أفطرته بألواني ، ومن بات في ليلة قائما كان له شأن من شأني ، ومن غضّ عينه عن محارمي أمّنته من نيراني. فأنا الرّبّ فاعرفوني ، وأنا المنعم فاشكروني ، وأنا الحافظ فاحفظوني ، وأنا النّاصر فانصروني ، وأنا الغافر فاستغفروني ، وأنا المقصود فاقصدوني ، وأنا المعطي فاسألوني ، وأنا المعبود فاعبدوني ، وأنا العالم فاحذروني".

الموعظة الخامسة والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٨ ، ١٩] (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران : ٨٥]. وبشّر كلّ شيء أحسن بالجنّة. ومن عرف الله خالصا فأطاعه نجا ، ومن عرف الشّيطان فعصاه سلم ، ومن عرف الحقّ فاتّبعه أمن ، ومن عرف الباطل فاتّقاه فاز ، ومن عرف الشّيطان والدّنيا ثمّ رفضهما سعد ، ومن عرف الآخرة ثمّ طلبها هدي. وإنّ الله يهدي من يشاء وإليه تقلبون. يا بن آدم! إذا كان الله تعالى قد تكفّل لك بالرّزق ، فطول اهتمامك لما ذا؟ وإذا كان الخلف من الله فالبخل لما ذا؟ وإذا كان إبليس عدوّ الله تعالى فالغفلة لما ذا؟ وإذا كانت العقوبة بالنّار ، فالاستراحة لما ذا؟ وإذا كان ثواب الله الجنّة ، فالمعصية لما ذا ، وإذا كان كلّ شيء بقضائي فالجزع لما ذا؟ (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣] ".

الموعظة السّادسة والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! أكثروا من الزّاد فإنّ الطّريق بعيد ، وجدّد القيام لله فإنّ البحر عميق ، وحقّقوا العمل فإنّ الصّراط دقيق ، وأخلص الفعل فإنّ النّاقد بصير. فشهواتك في الجنّة ، وراحتك إلى الآخرة ، ولديك الحور العين ، وكن لي أكن لك ، وتقرّب إليّ في هوان الدّنيا وحبّ الأبرار ، فإنّ الله لا يضيّع أجر المحسنين".

٥٧٢

الموعظة السّابعة والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! كيف تعصون وأنتم تجزعون من حرّ الشّمس ، وجهنّم لها سبع طبقات ، فيها نيران يأكل بعضها بعضا ، في كلّ طبقة منها سبعون ألف شعب من النّار ، في كلّ شعب سبعون ألف دار ، وفي كلّ دار سبعون ألف بيت ، في كلّ بيت سبعون ألف بئر ، وفي كلّ بئر سبعون ألف تابوت من نار ، وفي كلّ تابوت سبعون ألف عقرب من نار ، على كلّ تابوت سبعون ألف شجرة من زقّوم تحت كلّ شجرة سبعون ألف قائد من نار ، مع كل قائد سبعون ألف ملك من نار ، وسبعون ألف ثعبان من نار ، طول كلّ ثعبان سبعون ألف ذراع من نار ، في جوف كلّ ثعبان بحر من السّمّ الأسود ، ولكلّ عقرب ألف ذنب ، طول كلّ ذنب سبعون ألف ذراع ، في كلّ ذنب سبعون ألف رطل من السّمّ الأحمر ، فبنفسي أحلف ، (وَالطُّورِ ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ١. ٦]». يا بن آدم! ما خلقت النّيران إلّا لكلّ كافر ، ونمام ، وعاقّ الوالدين ، والمرائي ، ومانع الزّكاة من ماله ، والزّاني ، وآكل الرّبا ، وشارب الخمر ، وظالم اليتيم ، والأجير الغادر ، والنّائحة ، ولكلّ مؤذي الجيران ، (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٧٠] ، فارحموا أنفسكم يا عبادي! فإنّ الأبدان ضعيفة ، والسّفر بعيد ، والحمل ثقيل ، والصّراط دقيق ، والنّاقد بصير ، والقاضي ربّ العالمين".

الموعظة الثّامنة والعشرون

يقول الله تعالى : " يا أيّها النّاس كيف رغبتم في دنيا فانية زائلة ، وحياة منقطعة؟ فإنّ للطّائعين الجنان يدخلون من أبوابها الثّمانية ، في كلّ جنّة سبعون ألف روضة ، في كلّ روضة سبعون ألف قصر من الياقوت ، في كلّ قصر سبعون ألف دار من الزّمرّد ، في كلّ دار سبعون ألف بيت من الذّهب الأحمر ، في كلّ بيت سبعون ألف مقصورة من الفضّة البيضاء ، في كلّ مقصورة سبعون ألف مائدة من الغبر ، على كلّ مائدة سبعون ألف صحفة من الجواهر ، في كلّ صحفة سبعون ألف لون من الطّعام ، حول كلّ مقصورة سبعون ألف سرير من الذّهب الأحمر ، على كلّ سرير سبعون ألف فراش من الحرير والإستبرق والدّيباج ، حول كلّ سرير سبعون ألف نهر من ماء الحياة واللّبن والعسل والخمر ، في وسط كلّ نهر سبعون ألف لون من الثّمار ، في كلّ بيت سبعون ألف خيمة من الأرجوان ، على كلّ فراش حوراء من الحور العين ، بين يديها سبعون ألف وصيفة كأنّهنّ بيض مكنون ، على رأس كلّ قصر سبعون ألف قبّة ، في كلّ قبّة سبعون ألف هديّة من الرّحمن ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : ٢٠. ٢٤] ، لا يموتون

٥٧٣

فيها ولا يهرمون ، ولا يحزنون ولا يصومون ، ولا يصلّون ولا يمرضون ، ولا يبولون ولا يتغوّطون (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر : ٤٨]. فمن طلبها وذكر كرامتي ، وجواري ونعمتي ، فليتقرّب إليّ بالصّدق ، والاستهانة بالدّنيا ، والقناعة بالقليل".

الموعظة التّاسعة والعشرون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! المال مالي وأنت عبدي ، فما لك من مالي إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأبقيت. فأنا وأنت ثلاثة أقسام : فواحد لي ، وواحد لك ، وواحد بيني وبينك ؛ فأمّا الّذي لي فروحك ، وأمّا الّذي لك فعملك ، وأمّا الّذي بيني وبينك ، فمنك الدّعاء ومنّي الإجابة. يا بن آدم! تورّع واقنع ترني ، واعبدني تصر إليّ ، واطلبني تجدني. يا بن آدم! إذا كنت مثل الأمراء الّذين دخلوا النّار بالفجور ، والعرب بالمعصية ، والعلماء بالحسد ، والتّجّار بالخيانة ، والجبريّة بالجهالة ، والصّنّاع والعبّاد بالرّياء ، والأغنياء بالكبر ، والفقراء بالكذب ، فأين من يطلب الجنّة؟ ".

الموعظة الثّلاثون

يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] يا بن آدم! إنّما مثل العلم بلا عمل كمثل البرق والرّعد بلا مطر ، ومثل العمل بلا علم كمثل شجرة بلا ثمرة ، ومثل العالم بلا عمل كمثل قوس بلا وتر ، ومثل المال بلا زكاة كمثل من يزرع الملح على الصّفا ، ومثل الموعظة عند الأحمق كمثل الدّرّ والجواهر عند البهائم ، ومثل القاسي مع العلم كمثل حجر باقع. ومثل الموعظة عند من لا يرغب فيها كمثل المزمار عند القبور ، ومثل الصّدقة من الحرام كمثل من يغسل القذر على ثوبه ببوله ، ومثل الصّلاة بلا زكاة كمثل جثّة بلا روح ، ومثل العالم بلا توبة كمثل البناء بلا أساس ، (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف: ٩٩].

الموعظة الحادية والثّلاثون

يقول الله تعالى : " يا بن آدم! بقدر ميلك إلى الدّنيا ومحبّتي من قلبك ، فإنّي لا أجمع حبّي وحبّ الدّنيا في قلب واحد أبدا ، يا بن آدم! تورّع تعرفني ، وتجوّع ترني ، وتجرّد لعبادتي تصل إليّ ، وأخلص من الرّياء عملك ، ألبسك محبّتي ، وتفرّغ لذكري ، أذكرك عند ملائكتي. يا بن آدم! في قلبك غير الله ، وترجو غير الله ، الى متى تقول الله تعالى وتخاف غير الله؟ ولو عرفت حقّا لما همّك غير الله ، ولم تخف إلّا الله ، ولم تفتّر لسانك عن ذكر الله ، فإنّ الاستيصال عن الإصرار بتوبة الكاذبين. يا بن آدم! لو خفت من النّار كما خفت من الفقر لأغنيتك من حيث لم تحتسب. يا بن آدم! ولو رغبت في الجنّة كما ترغب في الدّنيا ، أسعدتك في الدّارين ، ولو ذكرتموني كما يذكر بعضكم بعضا ، لسلّمت عليكم الملائكة بكرة وعشيّا ، ولو أحببتم عبادتي

٥٧٤

كما تحبّون الدّنيا لأكرمتكم كرامة المرسلين ، فلا تملئوا قلوبكم بحبّ الدّنيا ، فزوالها قريب".

الموعظة الثّانية والثّلاثون

يقول الله تعالى : " صبرك على قليل من المعصية أيسر عليك من صبرك على كثير من عذاب جهنّم ، (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] " ، وصبرك على قليل من الطّاعة يعقبك راحة طويلة فيها نعيم مقيم. يا بن آدم! عليك بالثّقة بما ضمنت لك قبل أن أطعم رزقك لغيرك ، وازهد في الدّنيا من قبل أن أزهد فيك ، وتخلّص من الشّبهات قبل أن تفنى حسناتك يوم الحساب ، واعمر قلبك بذكر الآخرة ، فليس لك مسكن غير القبر. يا بن آدم! من اشتاق إلى الجنّة سارع إلى الخيرات ، ومن خاف النّار كفّ عن الشّرّ ، ومن نهى نفسه عن الشّهوات نال الدّرجات العلى. ويا موسى بن عمران! إذا أصابتك مصيبة وأنت على غير طهارة فلا تلومنّ إلّا نفسك. يا موسى! الفقر من الحسنات هو الموت الأكبر. يا موسى! من لم يشاور ندم ، ومن استخار لا يندم".

الموعظة الثّالثة والثّلاثون

يقول الله تعالى عزوجل : " من طلب السّمعة بعمله كان كمن ينقل الماء على ظهره إلى الجبل ، يناله التّعب والنّصب ولا يقبل من عمله شيء ، وكلّما اتّحد بالماء لا يلين. يا بن آدم! اعلم أنّي لم أقبل من العمل إلّا ما كان خالصا لوجهي ، فطوبى للمخلصين! يا بن آدم! إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعائر الصّالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل : ذنوب عجّلت عقوبة ، وإذا رأيت الضّيف محبوسا هناك فقل : أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم. يا بن آدم! المال لي ، وأنت عبدي ، والضّيف رسولي ، أما تخشى أن أسلبك نعمتي؟ الرّزق رزقي ، والشّكر لك ، ونفعه عائد عليك ، أفلا تحمدني على ما أنعمت عليك؟ يا بن آدم! ثلاث واجبات عليك : زكاة مالك ، وصلة رحمك ، وأمر عائلتك وأضيافك ، فإذا لم تفعل ما أوجبته عليك ، جعلتك نكالا للعالمين. يا بن آدم! إذا لم ترع حقّ جارك كما ترعى حقّ عيالك ، لم أنظر إليك ، ولم أقبل عملك ، ولم أستجب لدعائك. يا بن آدم! لا تتّكل على مخلوق مثلك فأتكلك إليه ، ولا تتكبّر على خلقي فإنّ أوّلك من نطفة ، وإنّي أخرجتها من مخرج البول ، (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [الطارق : ٦ ، ٧] ، ولا تنظر إلى ما حرّمت عليك ، فإنّ الدّود أوّل ما يأكل منك عينيك ؛ واعلم أنّك محاسب على النّظرة والمحبّة ، واذكر مقامك غدا بين يديّ ، فإني لا أغفل عن سريرتك طرفة عين ، إنّي عليم بذات الصّدور".

الموعظة الرّابعة والثّلاثون

يقول الله عزوجل : " يا بن آدم! اخدمني ، فإني أحبّ من خدمني ، وأستخدم له عبادي ، فإنّك لا

٥٧٥

تدري قدر ما عصيتني فيما مضى من عمرك ، ولا قدر ما تعصيني فيما بقي منه ؛ فلا تنس ذكري ، فإني فعّال لما أريد ، واعبدني ، فإنّك عبد ذليل وأنا ربّ جليل. لو أنّ إخوانك ومحبّيك من بني آدم وجدوا رائحة ذنوبك ، واطّلعوا منك على ما أعلمه منها ، لما جالسوك ولا قاربوك ، فكيف وهي في كلّ يوم زائدة ، وعمرك في كلّ يوم في نقصان منذ ولدتك أمّك! يا بن آدم! ليس من انكسر مركبه وعاد على لوح من خشب ، وأحاطته الأمواج في البحر بأعظم مصيبة منك ؛ فكن من ذنوبك على ويقين ومن عملك على خطر. يا بن آدم! إنّي أنظر إليك بالعافية ، وأستر عليك ذنوبك ، وأنا غنيّ عنك وأنت إليّ بالمعاصي مع حاجتك إليّ. يا بن آدم! تداري إلى متى؟ تعمر الدّنيا وهي فانية ، وتخرب الآخرة وهي باقية. يا بن آدم! تداري خلقي وتخافهم خوفا من مقتهم. يا بن آدم! لو أن أهل السّماوات والأرض استغفروا لك لكان ينبغي لك أن تبكي على ذنوبك ، لأنّك لا تدري على أيّ حال تلقاني. يا موسى بن عمران! اسمع ما أقول ، والحقّ أقول : إنّه لا يؤمن بي عبد من عبادي حتّى يأمن النّاس من شرّه وظلمه وكيده ونميمته وبغيه وحسده. يا موسى ، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩].

الموعظة الخامسة والثّلاثون

يقول الله عزوجل : " يا بن آدم! إنّك أصبحت بين نعمتين ، لا تدري أيّهما أعظم ضدّك ، أذنوبك المستورة عن النّاس أم الثّناء والحسن عليك ولو علم النّاس منك ما أعلمه ، ما سلّموا عليك ، وأعظم من ذلك العافية ، وغناك عنهم ، وحاجتهم إليك ، وكفّ أذاهم عنك. فاحمدني واعرف قدر نعمتي عليك ، وأخلص عملك من الرّياء ، وتزوّد كزاد المسافر الخائف ، واجعل خيرك تحت عرشي. يا بن آدم! قلوبكم القاسية تبكي من أعمالكم ، وأعمالكم تبكي من أبدانكم ، وأبدانكم تبكي من ألسنتكم ، وألسنتكم تبكي من أعينكم. يا بن آدم! خزائني لا تنفذ أبدا ، فبقدر ما تنفق أنفق عليك ، وبقدر ما تمسك أمسك عليك ، وإنّما بخلك على المساكين بما رزقتك لسوء ظنّك وخوفك الفقر ، وعدم ثقتك فيّ ، لأنّي جعلت أصل خلقتك الاهتمام بالرّزق ، فإذا اهتممت بالرّزق ورزقتك ، فأنفق ولا تبخل برزقي على عبادي ، فقد ضمنت لك الخلف ، ووعدتك الأجر ، فلم تشكّ في كتابي؟ ومن لم يصدّق بوعدي ، ومن لم يصدّق بأنبيائي ، فقد جحد ربوبيّتي ، ومن جحد ربوبيّتي كببته في النّار على وجهه".

الموعظة السّادسة والثّلاثون

قال الله تعالى : " يا بن آدم! أنا الله لا إله إلّا أنا فاعبدوني واشكروا لي ولا تكفرون. يا بن آدم! من عادى لي وليّا ، فقد بارزني بالمحاربة. واشتدّ غضبي على من ظلم من ليس له ناصر غيري ؛ من رضي بما قسمت له ، باركت له في رزقه ، وأتته الدّنيا راغمة وإن كان لا يريدها".

٥٧٦

الموعظة السّابعة والثّلاثون

يقول الله عزوجل : " يا بن آدم! ضع يدك على صدرك فما أحببته لنفسك ، فأحبّه لغيرك. يا بن آدم! جسدك ضعيف ، ولسانك خفيف وقلبك جبّار. يا بن آدم! غايتك الموت ، فاعمل له قبل أن يأتيك. يا بن آدم! لم أخلق عضوا من أعضائك حتّى خلقت له رزقا. يا بن آدم! لو خلقتك أبكم لتحسّرت على البصر ، ولو خلقتك أصمّ لتحسّرت على السّمع ؛ فاعرف قدر نعمتي عليك ، واشكر لي ولا تكفرني. فإليّ المصير. يا بن آدم! ما قسمته لك فلا تتعب في طلبه ، وكلّ ما قسمته لك فهو يطلبك حتّى تستوفيه. يا بن آدم! لا تحلف بي كاذبا ، فمن حلف بي كاذبا أدخلته النّار. يا بن آدم! إذا أكلت رزقي ، فاتّبع طاعتي. يا بن آدم! لا تطالبني برزق غد ، فإنّي لا أطالبك بعمل غد. يا بن آدم! لو تركت الدّنيا لأحد من عبادي ، لتركتها على أنبيائي حتّى يدعوا عبادي إلى طاعتي ، وإلى إقامة أمري. يا بن آدم! اعمل لنفسك قبل نزول الموت بك ، ولا تغرّنّك الخطيئة ، فإنّ على آثارها السّفر ، ولا تلهك الحياة وطول الأمل عن التّوبة ، فإنّك تندم على تأخيرها حين لا ينفعك النّدم يا بن آدم! إذا لم تخرج حقّي من المال الّذي رزقتك إيّاه ، ومنعت منه الفقراء حقوقهم ، سلّط عليك جبّار يأخذه منك ، ولا أثيبك عليه. يا بن آدم! إن أردت رحمتي فالزم طاعتي ، وإن خشيت عذابي فاحذر من معصيتي يا بن آدم! رضيت منك بالعمل القليل ، وأنت لا ترضى بالرّزق الكثير. يا بن آدم! إذا كسبت المال فاذكر الحساب ، وإذا جلست على الطّعام فاذكر الجائع ، وإذا دعتك نفسك على القدرة على الضّعيف فاذكر قدرة الله عليك ، ولو شاء لسلّطه ، وإذا نزل بك بلاء فاستعن بلا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، وإذا مرضت فعالج نفسك بالصّدقة ، وإذا أصابتك مصيبة فقل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون".

الموعظة الثّامنة والثّلاثون

يقول الله عزوجل : " يا بن آدم! افعل الخير ، فإنّه مفتاح الجنّة ويقود إليها ، واجتنب الشّرّ فإنه مفتاح النّار ويقود إليها. يا بن آدم! اعلم أنّ الّذي تبنيه للخراب ، وأنّ عمرك للخراب وجسدك للتّراب ، وما جمعته للورثة ؛ فالنّعيم لغيرك ، والحساب عليك ، والعقاب لك والنّدم ، والصّاحب لك في القبر العمل ؛ فحاسب نفسك قبل أن تحاسب ، والزم طاعتي ، واحذر معصيتي ، وارض بما آتيتك ، وكن من الشّاكرين. يا بن آدم! من أذنب ذنبا وهو ضاحك ، أدخلته النّار وهو باك ، ومن جلس باكيا من خشيتي أدخلته الجنّة وهو ضاحك. يا بن آدم! كم من غنيّ يتمنّى الفقر يوم حسابه ، وكم من جبّار أذلّه الموت ، وكم من حلو مرّه الموت ، وكم من مسرور بنعمته كدّرها عليه الموت ، وكم من فرحة أورثت حزنا طويلا. يا بن آدم! لو تعلم البهائم ما تعلمون من الموت ، لامتنعت من الأكل والشّرب حتّى تموت جوعا وعطشا. يا بن آدم! لو لم يقدّر عليك إلّا الموت وشدّته لكان يجب عليك أن لا تهدأ باللّيل ،

٥٧٧

ولا تقرّ بالنّهار ، فكيف وما بعده أشدّ منه؟ يا بن آدم! اجعل سرّه وراءك بما تناله من النّعم في آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها خيرات ، وما آتيك من دنياك فلا تفرح به ، وما فاتك منها فلا تأس عليه. يا بن آدم! من التّراب خلقتك ، وإلى التّراب أعيدك ، ومن التّراب أبعثك ، فودّع الدّنيا وتهيّأ للموت ، واعلم أنّي إذا أحببت عبدا زويت عنه الدّنيا واستعملته للآخرة ، وأريته عيوب الدّنيا فيحذرها ، ويعمل بعمل أهل الجنّة فأدخله الجنّة برحمتي ؛ وإذا بغضت عبدا أشغلته عنّي بالدّنيا واستعملته بعملها ، فيكون من أهل النّار فأدخله النّار. يا بن آدم! كلّ عمر فان وإن طال ، والدّنيا كفيء الظّلال ، [يمكث] قليلا ثمّ يذهب فلا يعود إليك. يا بن آدم! أنا الّذي خلقتك ، وأنا الّذي رزقتك ، وأنا الّذي أحييتك ، وأنا الّذي أميتك ، وأنا الّذي أبعثك ، وأنا الّذي أحاسبك ، فإن عملت شرّا رأيته ، مع أنّك لا تملك لنفسك ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. يا بن آدم! أطعني واخدمني ولا تهتمّ بالرّزق ، فقد كفيتك أمره ، ولا تحمل همّ شيء قد كفيته. يا بن آدم! كيف تحمل أمر شيء لم يقدّر لك ولم تدركه ، كما أنّك لم تأخذ ثواب عمل لم تعمله. يا بن آدم! من كان سبيله الموت فكيف يفرح بالدّنيا؟ ومن كان بيته القبر فكيف يسرّ في بيته في دار الدّنيا؟ يا بن آدم! رزق قليل وأنت شاكر خير من كثير [وأنت] غير شاكر. يا بن آدم! خير مالك ما قدّمته ، وشرّ مالك ما خلّفته في الدّنيا ، فقدّم لنفسك خيرا تجده عندي قبل أن يأخذك الموت. يا بن آدم! من كان مهموما ، فأنا الّذي فرّجت همّه ، ومن كان مستغفرا ، فأنا الّذي أغفر له ، ومن كان تائبا ، فأنا الّذي نهيته ، ومن كان عاريا ، فأنا الّذي كسوته ، ومن كان خائفا ، فأنا الّذي أمّن خوفه ، ومن كان جائعا ، فأنا الّذي أشبعه ، وإذا كان عبدي على طاعتي وأرضى أمري ، يسّرت له أمره وشددت أزره ، وشرحت صدره. يا موسى! من استغنى بأموال الفقراء واليتامى أفقرته في الدّنيا وعذّبته في الآخرة ، ومن تجبّر على الفقراء والضّعفاء أعقبت بناءه الخراب ، وأسكنته النّار (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٨ ، ١٩]".

٥٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قانون التأويل

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد : فقد سئل الإمام الزاهد أبو حامد محمد بن محمد [بن محمد] الغزالي الطوسيرحمه‌الله عن بيان معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم" ، هل هو ممازجة كالماء بالماء ، أم هو مثل الإحاطة بالعود؟ وهل هو مباشرته للقلوب بتخايل من خارج تنقلها القلوب إلى الحواس فتثبت فيها فيكون منها الوسواس ، أم يباشر جوهره جوهر القلوب؟ وهل يمكن جمع بين ما رسمته النبوة من هذا الوصف ، ومثله في ترائي الجن لبني آدم في صور الحيوانات ، وفي أشكال سواها مختلفة ، كترائي الملائكة عليهم الصلاة والسلام للأنبياء في صور بني آدم؟ أم صورتهم على تلك الأمثلة فينكشف الغطاء عنها لمن قدر له رؤيتها ، ثم يحدث فيها كثافة جسمانية كما أحدث في الملائكة؟.

وهل من سبيل إلى الجمع بين هذا القول من الشرع في الجن والشياطين ، وبين قول الفلاسفة إنها أمثلة وعبارة عن الأخلاط الأربعة التي في داخل الأجسام لتدبيرها ، أم لا؟

وما يظهر من المصروعين هل هو كلام الجني الذي يصرعه ، أم هو لسان المصروع ببرسام يعتريه من شدة ما يناله منه؟.

وكيف إخبارهم بالغوائب التي في القوى ولم تخرج بعد إلى الفعل؟ والطبيعيون يقولون في ذلك ما تعلمه من ثوران خلط السوداء وغلبته فيكون منه ذلك ويسمونهم بخلط الريح ، وهل بينهما علة جامعة أم لا؟

وكيف المثل الذي أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إدبار الشيطان عند الأذان وله حصاص ؛ هل أريد بذلك المثل كما تقول العرب : مضرط الحجارة ، وفلان يحدث من الشدة ، أم يتصور في ذلك الوقت جسم يكون عنه الحصاص؟ فإن الشيطان بسيط على علمه لا يتغذى ، فكيف يكون منه ما يكون من التغذي؟ وكيف يكون أيضا الروث والعظم لهم غذاء وقد يكون بالشم ، والبسيط لا تصح فيه الحواس المركبة؟

وكيف الحقيقة في البرزخ؟ وهل أهله من قبيل أهل الجنة ، أم من قبيل أهل النار؟ فليس هناك منزلة تتصور إلا في الجنة والنار ، وإن قيل إنه الفصل المشترك المعبر عنه بالسور الذي

٥٧٩

له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، هل هو صحيح ، أم هو غيره؟

ومن المستوجب للبرزخ؟ فإن من رجع ميزانه صار إلى الجنة ومن خف ميزانه صار إلى النار ، ومن استوى ميزانه كان في المشيئة. فهل هو عبارة عن التوقيف إلى أن تنفذ له الكرامة ، أو غلبته الشقاوة؟

والملائكة هل هم من المنعمين مع بني آدم في الجنة أم في غيرها؟ وهل هم المعبر عنهم بالولدان أم الولدان صنف رابع غير الملائكة ، وبني آدم والجن والحور العين نوع خامس ، أم كيف هم ، وما صفتهم؟.

وقد أفصح الكتاب أن عرض الجنة كعرض السماء والأرض ، وفي هذا أيضا ما يحتاج إلى النظر أن يكون السماء لها وعاء وظرف ، ويزيد عرضها على عرضها.

وحوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو الفوز في أرض الموقف أم في الجنة؟ والذي يظهر من الحديث أن من سبق له الفوز من النار شرب منه في شدائد الموقف قبل الفصل ، وقبل الشفاعة ؛ وهل ماؤه من الجنة أو غيرها؟ ولا يصح أن يكون من غيرها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا" وهل يكون شيء من الجنة في الأرض؟ وهل لجميع الأنبياء عليهم‌السلام حياض ، أم هو من خصائص نبينا عليه‌السلام مع الشفاعة؟.

فلينعم بالجواب المشروح عن هذه الأسئلة بطريق الاستيفاء ، مثابا متطولا إن شاء الله تعالى.

فقال مجيبا عنها :

أسئلة أكره الخوض فيها والجواب ، لأسباب عدة ؛ لكن إذا تكررت المراجعة أذكر قانونا كليا ينتفع به في هذا النمط وأقول :

بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر ؛ والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول ، وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول ، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق.

والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا ، والمنقول تابعا ، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه ، وإلى من جعل المنقول أصلا ، والمعقول تابعا ، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه ، وإلى من جعل كل واحد أصلا ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما. فهم إذن خمس فرق :

الفرقة الأولى : هم الذين جردوا النظر إلى المنقول ، وهم الواقفون على المنزل الأول من منازل الطريق القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع ؛ فهؤلاء صدقوا بما جاء به النقل تفصيلا وتأصيلا ، وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكلفوا تأويلا امتنعوا وقالوا : إن الله قادر على كل شيء. فإذا قيل لهم مثلا : كيف يرى شخص الشيطان في حالة واحدة في مكانين ، وعلى صورتين مختلفتين؟ قالوا : إن ذلك ليس عجبا في قدرة الله ، فإن الله قادر على كل شيء. وربما لم يتحاشوا أن يقولوا : إن كون الشخص الواحد في مكانين في

٥٨٠