مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

وتلك القطعة اللحمية مركبة ، وكل أعضاء الجسد عساكره وهو الملك ، ومعرفة الله ومشاهدة جمال الحضرة صفاته ، والتكليف عليه والخطاب معه ، وله الثواب وعليه العقاب ، والسعادة والشقاء تلحقانه والروح الحيواني في كل شيء تبعه ومعه. ومعرفة حقيقته ومعرفة صفاته مفتاح معرفة الله سبحانه وتعالى ، فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه لأنه جوهر عزيز من جنس جوهر الملائكة ، وأصل معدنه من الحضرة الإلهية ، من ذلك المكان جاء وإلى ذلك المكان يعود.

فصل

أما سؤالك ما حقيقة القلب ، فلم يجيء في الشريعة أكثر من قول الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] لأن الروح جزء من جملة القدرة الإلهية وهو من عالم الأمر ، قال الله عزوجل : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] فالإنسان من عالم الخلق من جانب ، ومن عالم الأمر من جانب ، فكل شيء يجوز عليه للمساحة والمقدار والكيفية فهو من عالم الخلق ؛ وليس للقلب مساحة ولا مقدار ، ولهذا لا يقبل القسمة ، ولو قبل القسمة لكان من عالم الخلق ، وكان من جانب الجهل جاهلا ومن جانب العلم عالما ، وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال. وفي معنى آخر هو من عالم الأمر ؛ لأن عالم الأمر عبارة عن شيء من الأشياء لا يكون للسماحة والتقدير طريق إليه. وقد ظن بعضهم أن الروح قديم فغلطوا. وقال قوم إنه عرض فغلطوا ، لأن العرض لا يقوم بنفسه ويكون تابعا لغيره. فالروح هو أصل ابن آدم ، وقالب ابن آدم نبع له ، فكيف يكون عرضا! وقال قوم إنه جسم فغلطوا ، لأن الجسم يقبل القسمة. فالروح الذي سميناه قلبا وهو محل معرفة الله تعالى ليس بجسم ولا عرض بل هو من جنس الملائكة.

ومعرفة الروح صعبة جدّا ، لأنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لأنه لا حاجة في الدين إلى معرفته ، لأن الدين هو المجاهدة والمعرفة علامة الهداية كما قال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ومن لم يجتهد حق اجتهاده لم يجز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح. وأول أس المجاهدة أن تعرف عسكر القلب ، لأن الإنسان إذا لم يعرف العسكر لم يصح له الجهاد.

فصل

اعلم أن النفس مركب القلب ، وللقلب عساكر كما قال سبحانه وتعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] والقلب مخلوق لعمل الآخرة طلبا لسعادته ، وسعادته معرفة ربه عزوجل ، ومعرفة ربه تعالى تحصل له من صنع الله وهو من جملة عالمه. ولا تحصل له معرفة عجائب العالم إلا من طريق الحواس ، والحواس من القلب والقالب مركبه ، ثم معرفة صيده ومعرفة شبكته ، والقالب لا يقوم إلا بالطعام والشراب والحرارة والرطوبة ، وهو ضعيف على خطر من الجوع والعطش في الباطن ، وعلى خطر من الماء والنار في الظاهر ، وهو مقابل أعداء كثيرة.

٤٢١

فصل

وتحتاج أن تعرف العسكرين ؛ وذلك أن العسكر الظاهر هو الشهوة والغضب ومنازلهم في اليدين والرجلين والعينين والأذنين وجميع الأعضاء ؛ وأما العسكر الباطن فمنازله في الدماغ وهو قوى الخيال والتفكر والحفظ والتذكر والوهم ، ولكل قوة من هذه القوى عمل خاص ، فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن آدم في الدارين. وجملة هذين العسكرين في القلب وهو أميرهما ، فإن أمر اللسان أن يذكر ذكر ، وإن أمر اليد أن تبطش بطشت ، وإن أمر الرجل أن تسعى سعت ، وكذلك الحواس الخمس حتى يحفظ نفسه كيما يدخر الزاد للدار الآخرة ويحصل الصيد وتتم التجارة ويجمع بذر السعادة ، وهؤلاء طائعون للقلب كما أن الملائكة طائعون للرب سبحانه وتعالى لا يخالفون أمره.

فصل في معرفة القلب وعسكره

اعلم أنه قيل في المثل المشهور : إن النفس كالمدينة ، واليدين والقدمين وجميع الأعضاء ضياعها ، والقوة الشهوانية واليها ، والقوة الغضبية شحنتها ، والقلب ملكها ، والعقل وزيرها. والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله ، لأن الوالي وهو الشهوة ، كذاب فضولي مخلط ، والشحنة وهو الغضب شرير قتال خراب ، فإن تركهم الملك على ما هم عليه هلكت المدينة وخربت. فيجب أن يشاور الملك الوزير ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزير ، فإذا فعل ذلك استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة. وكذلك القلب يشاور العقل ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة الإلهية ، ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة هلكت نفسه وكان قلبه شقيّا في الآخرة.

فصل

اعلم أن الشهوة والغضب خادمان للنفس جاذبان ، يحفظان أمر الطعام والشراب والنكاح لحمل الحواس. ثم النفس خادم الحواس شبكة العقل وجواسيسه يبصر بها صنائع البارئ جلت قدرته ، ثم الحواس خادم العقل وهو القلب سراج وشمعة يبصر بنوره الحضرة الإلهية ، لأن الجنة وهي نصيب الجوف أو الفرج محتقرة في جنب تلك الجنة. ثم العقل خادم القلب ، والقلب مخلوق لنظر جمال الحضرة الإلهية. فمن اجتهد في هذه الصنعة فهو عبد حق من غلمان الحضرة ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] معناه أنا خلقنا القلب وأعطيناه الملك والعسكر ، وجعلنا النفس مركبه حتى يسافر عليه من عالم التراب إلى أعلى عليين ، فإذا أراد أن يؤدي حق هذه النعمة جلس مثل السلطان في صدر مملكته ، وجعل الحضرة الإلهية قبلته ومقصده ، وجعل الآخرة وطنه وقراره ، والنفس مركبه ، والدنيا منزله ، واليدين والقدمين خدامه ، والعقل وزيره ، والشهوة عامله ، والغضب شحنته ،

٤٢٢

والحواس جواسيسه. وكل واحد موكل بعالم من العوالم يجمع له أحوال العوالم. وقوة الخيال في مقدم الدماغ كالنقيب يجمع عنده أخبار الجواسيس ، وقوة الحفظ في وسط الدماغ مثل صاحب الخريطة يجمع الرقاع من يد النقيب ويحفظها إلى أن يعرضها على العقل ، فإذا بلغت هذه الأخبار إلى الوزير يرى أحوال المملكة على مقتضاها.

فإذا رأيت واحدا منهم قد عصى عليك مثل الشهوة والغضب ، فعليك بالمجاهدة ، ولا تقصد قتلهما ؛ لأن المملكة لا تستقر إلا بهما. فإذا فعلت ذلك كنت سعيدا ، وأديت حق النعمة ، ووجبت لك الخلعة في وقتها ، وإلا كنت شقيّا ووجب عليك النكال والعقوبة.

فصل

تمام السعادة مبني على ثلاثة أشياء : قوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العلم ، فيحتاج أن يكون أمرها متوسطا لئلا تزيد قوة الشهوة فتخرجه إلى الرخص فيهلك ، أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الحمق فيهلك ؛ فإذا توسطت القوتان بإشارة قوة العدل دل على طريق الهداية. وكذلك الغضب إذا زاد سهل عليه الضرب والقتل ، وإذا نقص ذهبت الغيرة والحمية في الدين والدنيا ، وإذا توسط كان الصبر والشجاعة والحكمة. وكذا الشهوة إذا زادت كان الفسق والفجور ، وإن نقصت كان العجز والفتور ، وإن توسطت كان العفة والقناعة وأمثال ذلك.

فصل

اعلم أن للقلب مع عسكره أحوالا وصفات بعضها يسمى أخلاق السوء ، وبعضها أخلاق الحسن ، فبالأخلاق الحسنة يبلغ درجة السعادة ، والأخلاق السيئة هلاكه وخروجه للشقاء ، وهذه كلها تبلغ أربعة أجناس : أخلاق الشياطين ، وأخلاق البهائم ، وأخلاق السباع ، وأخلاق الملائكة. فأعمال السوء من الأكل والشرب والنوم والنكاح هي أخلاق البهائم ، وكذلك أعمال الغضب من الضرب والقتل والخصومة هي أخلاق السباع ، وكذلك أعمال النفس وهي المكر والحيلة والغش وغير ذلك هي أخلاق الشياطين ، وكذلك أعمال العقل التي هي الرحمة والعلم والخير هي أخلاق الملائكة.

فصل

واعلم أن في جلد ابن آدم أربعة أشياء : الكلب ، والخنزير ، والشيطان ، والملك. والكلب مذموم في صفاته ، وليس بمذموم في صورته. وكذلك الشيطان والملائكة ذمهم ومدحهم في صفاتهم ، وليس ذلك في صورهم وخلقهم. وكذلك الخنزير مذموم في صفاته ، وليس بمذموم في خلقته.

وقد أمر ابن آدم بأن يكشف ظلم الجهل بنور العقل خوفا من الفتنة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ما

٤٢٣

من أحد إلّا وله شيطان ولي شيطان ، وإنّ الله قد أعانني على شيطاني حتّى ملكته" وكذلك الشهوة والغضب ينبغي أن يكونا تحت يد العقل ، فلا يفعلا شيئا إلا بأمره ، فإن فعل ذلك صح له حسن الأخلاق ، وهي صفات الملائكة وهي بذر السعادة ، وإن عمل بخلاف ذلك فخدم الشهوة والغضب صح له الأخلاق القبيحة ، وهي صفات الشياطين وهو بذر الشقاء ، فيتبين له في نومه كأنه قائم مشدود الوسط يخدم الكلب والخنزير ، وكان مثله كمثل رجل مسلم يأخذ رجالا مسلمين يحبسهم عند كافرين. فكيف يكون حالك يوم القيامة إذا حبست الملك وهو العقل تحت يد الشهوة والغضب وهما الكلب والخنزير؟

فصل

واعلم أن الإنسان في صورة ابن آدم اليوم ، وغدا تنكشف له المعاني فتكون الصور في معنى المعاني ؛ فأما الذي غلب عليه الغضب فيقوم في صورة الكلب ، وأما الذي غلب عليه الشهوة فيقوم في صورة الخنزير ؛ لأن الصور تابعة للمعاني ، وإنما يبصر النائم في نومه ما صح في باطنه. وإنما عرفت أن الإنسان في باطنه هذه الأربعة ، فيجب أن يراقب حركاته وسكناته ، ويعرف من أي الأربعة هو ، فإن صفاته تحصل في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة ، وإن بقي من جملة الباقيات الصالحات شيء فهو بذر السعادة ، وإن بقي معه غير ذلك فهو بذر الشقاء ، وابن آدم لا ينفك ولا ينفصل عن حركة أو سكون ، وقلبه مثل الزجاج. وأخلاق السوء كالدخان والظلمة ، فإذا وصل إليه ذلك أظلم عليه طريق السعادة وأخلاق الحسن كالنور والضوء ، فإذا وصل إلى القلب طهره من ظلم المعاصي كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أتبع السّيّئة الحسنة تمحها". والقلب إما مضيء أو مظلم ، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.

فصل

واعلم أن الشهوة والغضب اللتين في البهائم جعلتا أيضا في ابن آدم ، ولكنه أعطي شيئا آخر زيادة عليها للشرف والكمال ، وبذلك تحصل له معرفة الله تعالى ، وجملة عجائب صنعه ، وبه يخلص نفسه من يد الشهوة والغضب وتحصل له صفات الملائكة ، ولذلك يظفر بالسباع والبهائم وتصير كلها مسخرة له كما قال سبحانه وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [الجاثية: ١٣].

فصل في عجائب القلب

اعلم أن للقلب بابين للعلوم : واحد للأحلام ، والثاني لعلم اليقظة ، وهو الباب الظاهر إلى الخارج ؛ فإن نام غلق باب الحواس ، فيفتح له باب الباطن ، ويكشف له غيب من عالم الملكوت ومن اللوح المحفوظ فيكون مثل الضوء ، وربما احتاج كشفه إلى شيء من تعبير الأحلام ، وأما ما كان من الظاهر فيظن الناس أن به اليقظة وأن اليقظة أولى بالمعرفة مع أنه لا

٤٢٤

يبصر في اليقظة شيء من عالم الغيب ، وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس.

فصل

وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة ، واللوح المحفوظ مثل المرآة ايضا ؛ لأن فيه صورة كل موجود ؛ وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى ، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغا من شهوات الدنيا ، فإن كان مشغولا بها كان عالم الملكوت محجوبا عنه ، وإن كان في حال النوم فارغا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ ، وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال ، لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر ، وليس كالحق الصريح مكشوفا. فإذا مات ، أي القلب ، بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس ، وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال ، ويقال له : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢].

فصل

واعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم وبيان الحق على سبيل الإلهام ، وذلك لا يدخل من طريق الحواس بل يدخل في القلب لا يعرف من أين جاء ؛ لأن القلب من عالم الملكوت ، والحواس مخلوقة لهذا العالم ، عالم الملك ، فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغا من شغل الحواس.

فصل

ولا تظنن أن هذه اللطافة تنفتح بالنوم والموت فقط ، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة ، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة. فإذا جلس في مكان خال وعطل طريق الحواس ، وفتح عين الباطن وسمعه ، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت ، وقال دائما : «الله الله الله» بقلبه دون لسانه ، إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ولا من العالم ، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى ، انفتحت تلك الطاقة ، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم ، فتظهر له أرواح الملائكة والأنبياء ، والصور الحسنة الجميلة الجليلة ، وانكشفت له ملكوت السماوات والأرض ، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها" وقال الله عزوجل : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] لأن علوم الأنبياء عليهم‌السلام كلها كانت من هذا الطريق لا من طريق الحواس كما قال الله سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] معناه الانقطاع عن كل شيء ، وتطهير القلب من كل شيء ، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية ؛ وهو طريق الصوفية في هذا الزمان. وأما طريق التعليم فهو طريق العلماء ، وهذه الدرجة الكبيرة مختصرة من طريق النبوة ، وكذلك علم الأولياء لأنه وقع في قلوبهم بلا واسطة من حضرة الحق كما قال سبحانه وتعالى :

٤٢٥

(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] وهذه الطريقة لا تفهم إلا بالتجربة ، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم ؛ والواجب التصديق بها حتى لا تحرم شعاع سعادتهم ، وهو من عجائب القلب. ومن لم يبصر لم يصدق كما قال سبحانه وتعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس : ٣٩] وقوله : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١].

فصل

ولا تحسب أن هذا خاص بالأنبياء والأولياء ؛ لأن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لأن يعمل منه مرآة ينظر فيها صورة العالم ، إلا الذي صدأ فيحتاج إلى إجلاء ، أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك ، لأنه قد تلف ، وكذلك كل قلب إذا غلب عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة ، وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " كلّ مولود يولد على فطرة الإسلام" وقال الله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وكذلك بنو آدم في فطرتهم التصديق بالربوبية كما قال سبحانه وتعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] والأنبياء والأولياء هم بنو آدم ، قال سبحانه وتعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [فصلت : ٦] فكل من زرع حصد ، ومن مشى وصل ، ومن طلب وجد. والطلب لا يحصل إلا بالمجاهدة ـ طلب شيخ بالغ عارف قد مشى في هذا الطريق ـ وإذا حصل هذان الشيئان لأحد فقد أراد الله له التوفيق والسعادة بحكم أزلي حتى يبلغ إلى هذه الدرجة.

فصل

في أن اللذة والسعادة لابن آدم في معرفة الله سبحانه وتعالى

اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه ، وطبع كل شيء ما خلق له ؛ فلذة العين في الصور الحسنة ، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة ، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة ؛ ولذة القلب الخاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى ، لأنه مخلوق لها ، وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به ، مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها ، ولو نهي عنها لم يتركها ولا يبقى له عنها صبر. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى فرح بها ، ولم يصبر عن المشاهدة ، لأن لذة القلب المعرفة وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر ؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح ، ولو علم الملك لكان أعظم فرحا.

وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى ، لأن شرف كل موجود به ومنه ، وكل عجائب العالم آثار صنعته ، فلا معرفة أعز من معرفته ، ولا لذة أعظم من لذة معرفته ، وليس منظر أحسن من منظر حضرته. وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس وهي تبطل بالموت ، ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب فلا تبطل بالموت ؛ لأن القلب لا يهلك بالموت بل تكون لذته

٤٢٦

أكثر وضوؤه أكبر لأنه خرج من الظلمة إلى الضوء.

فصل

واعلم أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم ، وفيها من كل صورة في العالم أثر منه ؛ لأن هذه العظام كالجبال ، ولحمه كالتراب ، وشعره كالنبات ، ورأسه مثل السماء وحواسه مثل الكواكب ، وتفصيل ذلك طويل ؛ وأيضا فإن في باطنه صناع العالم ، لأن القوة التي في المعدة كالطباخ ، والتي في الكبد كالخباز ، والتي في الأمعاء كالقصار ، والتي تبيض اللبن وتحمر الدم كالصباغ. وشرح ذلك طويل ، والمقصود أن تعلم كم في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك ، وأنت في غفلة عنهم ، وهم لا يستريحون ، ولا تعرفهم أنت ولا تشكر من أنعم عليك بهم.

فصل في معرفة تركيب الجسد

ومنافع الأعضاء التي يقال عنها في علم التشريح

وهو علم عظيم ، والخلق غافلون عنه ، وكذلك علم الطب. فكل من أراد أن ينظر في نفسه وعجائب صنع الله تعالى فيها ، يحتاج إلى معرفة ثلاثة أشياء من الصفات الإلهية :

الأولى : أن يعرف أن خالق الشخص قادر على الكمال وليس بعاجز ، وهو الله سبحانه وتعالى. وليس عمل في العالم بأعجب من خلق الإنسان من ماء مهين ، وتصوير هذا الشخص بهذه الصورةالعجيبة كما قال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) [الإنسان: ٢] فإعادته بعد الموت أهون عليه ؛ لأن الإعادة أسهل من الابتداء.

الثانية : معرفة علمه سبحانه وتعالى وأنه محيط الأشياء كلها ؛ لأن هذه العجائب والغرائب لا تمكن إلا بكمال العلم.

الثالثة : أن تعلم أن لطفه ورحمته وعنايته متعلقة بالأشياء كلها ، وأنها لا نهاية لها ، لما ترى في النبات والحيوان والمعادن في سعة القدرة وحسن الصور والألوان.

فصل في تفصيل خلقة بني آدم

لأنها مفتاح معرفة الصفات الإلهية وهو علم شريف

وذلك معرفة عجائب الصنائع الإلهية ، ومعرفة عظم الله سبحانه وتعالى وقدرته ، وهو مختصر معرفة القلب. وهو علم شريف إذ هو معرفة الصنائع الإلهية ، لأن النفس كالفرس ، والعقل كالراكب ، وجماعهما الفارس ، ومن لم يعرف نفسه وهو يدعي معرفة غيره فهو كالرجل المفلس الذي ليس له طعام لنفسه وهو يدعي أنه يقوت فقراء المدينة ، فهذا محال.

٤٢٧

فصل

إذا عرفت هذا العز والشرف والكمال والجمال والجلال ، بعد أن عرفت جوهر القلب أنه جوهر عزيز قد وهب لك وبعد ذلك خفي عنك ، فإن لم تطلبه وغفلت عنه وضيعته كان ذلك حسرة عظيمة عليك يوم القيامة ؛ فاجتهد في طلبه ، واترك أشغال الدنيا كلها! وكل شرف لم يظهر في الدنيا فهو في الآخرة فرح بلا غمّ ، وبقاء بلا فناء ، وقدرة بلا عجز ، ومعرفة بلا جهل ، وجمال وجلال عظيمان ؛ وأما اليوم فليس شيء أعجز منه لأنه مسكين ناقص ؛ وإنما الشرف غدا إذا طرح من هذه الكيمياء على جوهر قلبه حتى يخلص منه شبه البهائم ، ويبلغ درجة الملائكة ، فإن رجع إلى شهوات الدنيا فضلت عليه البهائم يوم القيامة لأنها تصير إلى التراب ، ويبقى هو في العذاب. نعوذ بالله من ذلك ، ونستجير به ، وهو نعم المولى ونعم النصير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

٤٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

القواعد العشر

الحمد لله الموفق ، الذي وفق قلوب الأحباب لموافقة مراسيم السنة وأحكام الكتاب ، الفتاح الذي فتح بصائر أبصارهم فأبصروا مواقع نبال الارتياب في مقاتل أهل الحجاب ، الملهم الذي ألهمهم الحجة البيضاء بالمحجة الخضراء فأصابوا أبكار الصواب ، ناداهم بلسان شأن المحبة من جنان المودة كيف ينام المحب عن مشاهدة الأحباب! فأكحلوا نواظرهم بإثمد السهاد ، وجفوا من مضاجعهم أطيب الرقاد ، وجدّوا في أثر الإطلاب مع الطلاب ، وجعلوا نهارهم ليلا ، وأفراحهم ويلا ، وأرخوا لعز مولاهم ذيلا ، وتذللوا على الأعتاب ، فأقامهم في الحاضرة والبادية ، وأسمعهم أوامرهم ونواهيه ، فيا سعادتهم بتوفيقهم لوقوفهم على الأبواب!

وكشف لهم الحجاب عن جماله ، وكشط الضباب عن محاسن أثواب مقاله ، فردّوا حيارى بمحاسن الأتراب. أجروا مدامعهم جريان الأنهار ، وأبدوا فجائعهم عن زمن تولى من جر الإزار على الأوزار ، وطرقوا الباب فأتاهم الجواب يا عبادي أنا التواب على من أقلع عن الحوبة وإليّ أناب.

روّق لهم في دار الوصال شراب الاتصال ، فناهيك به من شراب! فتلذذوا بمناجاته ، وغابوا عن حضورهم في حضراته ، وغدا كل بعقله المصاب. فأين المهاجر في الهواجر ، ومن أكحل المحاجر بالحناجر. طوباه قد فاز بطيب الخطاب!

قد كشف المولى منيع الحجاب

وأسمع الأحباب طيب الخطاب

وأحضروا حضرة أنس بها

غابوا فعاشوا بعد موت العقاب

وفي مقام القرب أدناهم

لما سقاهم في المقام الشّراب

وأتحفوا من فضله بالوفا

محضا من الأمن أجل الكتاب

هم الملوك الشّمّ من خلقه

ضنائن الحقّ لعزّ الحجاب

قد تبعوا نهج سبيل الهدى

واتّبعوا حكم نصوص الكتاب

واستمسكوا بسنّة خير الورى

وحاسبوا من قبيل يوم الحساب

وناقشوا أنفسهم خيفة

من غضب الحقّ وهول العقاب

إذا أتى اللّيل تراهم به

فرحى لجمع الفرق تحت النّقاب

يحيونه بالذّكر كي يحييهم

بذكره في جمع أهل الثّواب

٤٢٩

يراهم الحقّ يباهي بهم

بهم عن الخلق يزول العذاب

عليهم منّي سلام سما

ما لمع البرق أو أهلّ السّحاب

أحمده حمدا أستوجب به الثواب ، وأشكره شكرا تزيد به زيادات أولي الألباب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تنزهه عن الحلول والانحياز ، والظهور ، والبطون ، والابتداء والانتهاء ، والاشتهار والاحتجاب ؛ وتقدست ذاته المقدسة عن مقالات أولي الجهالات من الكم والكيف والأين والمكان والزمان والإياب والذهاب ، وأمجده بما أبرزه بحكمته من الأكوان عن التفكر والتدبر والمعاونة والمشاورة والراحة والنصب والانتصاب ، وأعظمه عن التشبيه والتمثيل والتعديل والتحويل والتبديل والتركيب والارتكاب. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف محبوب ، وأعظم الأشراف ، وأخص الأحباب ؛ أرسله بفضل الكتاب وفصل الخطاب ، وأيده بأفضل كتاب وأجمل خطاب ؛ أفصح الأعراب بالإعراب والاختصار والإسهاب ، واعجز بلغاء الأحزاب ببدائع النفي والإيجاب ، فأنقذ الأحباب من مهاوي الارتياب ومغاوي الأعراب ، بالعقاب على الأعقاب ، وكشف عن وجه نور الإسلام مكفرات ظلمات الإشراك والضباب ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والأحباب ، وعلى الخلفاء الراشدين الأقطاب : أبي بكر وأبي حفص وأبي عمرو وأبي تراب ، صلاة تحلنا دار النعيم وتخرجنا عن دار العذاب.

أما بعد : نفحنا الله وإياك بنسائم قربه ، وسقانا وإياك من كاسات حبه ؛ فإن بيان كيفية طريقنا ، وبرهان أهل تحقيقنا ، مبني على عشرة قواعد توقظ النائم وتقيم القاعد :

القاعدة الأولى

النية الصادقة الواقعة من غير التواء ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «وإنّما لكلّ امرئ ما نوى».

والمراد بالنية عزم القلب ، وبالصادقة إنهاؤها للفعل والترك للرب ، وبالواقعة استمرارها على هذه الخلة الأثيرة ؛ لأن التكرار تأثيرا ليس لغيره ، وعلامتها عدم تغيير جزمه بأعراض فانية وباقية في عزمه ، فإن العمل للحق ولا بد من الحق فلا يترك ما عزم عليه للخلق.

القاعدة الثانية

العمل لله من غير شريك ولا اشتراك لقوله عليه‌السلام : «اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» وعلامته أن لا يرضى بغير الحق ، ويرى ما سواه قاطعا ، فيجتنب الخلق لقول النبي المختار : " تعس عبد الدينار".

وليترك لله سبحانه وتعالى جميع أمانيه ، لقوله عليه‌السلام : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وآكدها الشبهات فاحذرها أن تصيبك ، لقوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

فإذا صحت هذه الأصول الثلاثة أثمرت أغصانها لك القربى ، فتكون بالصورة في الدنيا وبالمعنى في العقبى ، وعلى قدر همك وثباتك على الفعل والترك تحظى من الحديث

٤٣٠

المشهور : «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أصحاب القبور».

وعلامة القناعة الاكتفاء بما يذهب الحر والبرد والمسغبة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسب ابن آدم لقيمات يقمن بها صلبه» فلا يميل إلى صاحب القمح صاحب الشعير ، وإلى النقرة صاحب النقير. والمستغني بالحلال لا يقصد المباح ، ولا يخفض إلى الشبهة الجناح. وعلامة الغريب الحمل الخفيف ، وعدم الائتلاف بالثقيل ، وترك السؤال فإنه يؤوي إلى ظل الدخيل. وعلامة عابر السبيل إسراع الإجابة ، ورضاه بما سبق إليه واستطابه. وعلامة الميت إيثار مهمات دينه والمسألة في غوالب حينه.

القاعدة الثالثة

موافقة الحق بالاتفاق والوفاق ومخالفة النفس بالصبر على الفراق والمشاق ، وترك الهوى ، وجفاء الملاذ والمكان والخلاف. ومن تعوده خرج عن الحجاب ودخل في الانكشاف ، فعاد نومه سهرا ، واختلاطه عزلة ، وشبعه جوعا ، وعزته ذلة ، ومكالمته صمتا ، وكثرته قلة.

القاعدة الرابعة

العمل بالاتباع لا الابتداع ، لئلا يكون صاحب هوى ، ولا يزهو برأيه زهوا ، فإنه لا يفلح من اتخذ لنفسه في فعله وليّا بقوله عليه‌السلام : «عليكم بالسّمع والطّاعة ولو كان عبدا حبشيّا».

القاعدة الخامسة

الهمة العليا عن تسويف يفسدك ؛ فقد جاء : لا تترك عمل يومك للغد ؛ لأن بعض الأعمال من بعضها ، وإلا فمن رضي بالأدنى حرم الأعلى. والكامل المتبع هو السني لا المتشيع والمعتزل والمبتدع ، لقوله عليه‌السلام : «يا أحبابي عليكم بالسّواد الأعظم» قالوا : يا رسول الله وما السواد الأعظم؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

القاعدة السادسة

العجز والذلة ؛ لا بمعنى الكسل في الطاعات وترك الاجتهاد ، بل عجزك عن كل فعل إلا بقدرة الحق الجواد ، وأن ترى الخلق بعين التوقير والاحترام ، فإن بعضهم وسائط بعض ، إجلالا لحضرة ذي الجلال والإكرام ؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا ما أضافه إليه بنفي الوسائط ، وإن أراد جلال حضرته تعظيما أضافه لغيره رعاية للضوابط. فإذا علمت أن الكل بيد الله سبحانه وتعالى والمرجع إليه وتكبرت ، فقد تكبرت عليه إلا بأمر وصل إليك من لديه. فاجعل عجزك في جنبه ومسكنتك له بالاعتذار ، ولا تتصور قدرة لك فإنها منازعة في الاقتدار.

٤٣١

القاعدة السابعة

الخوف والرجاء معنى ، وعدم الاطمئنان بجلال الإحسان إلا عند العيان ، فحسن ظنك منك بالجواد الحسان.

القاعدة الثامنة

دوام الورد إما في حق الحق أو حق العباد ، فإن من ليس له ورد فماله من الموارد إمداد ، فالمديم يمل الحل بملاله بخلاف الذي يغيب بأعماله وأقواله ، فإن النفس تنبسط بذلك جهرا وسرّا ، وتراعي حقوق العباد كما يتوقع منهم خيرا وشرّا ، فيحب ويبغض لهم ما يحب ويبغض لنفسه خيرا وشرّا ، ويعلم لله تعالى ما يرضى كما يحب أن يفعل الله ما يرضى.

القاعدة التاسعة

المداومة على المراقبة ولا يغيب عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين ؛ فمن داوم على مراقبة قلبه لله سبحانه وتعالى ونفى غير الله وجد الله وإحسانه وعلم اليقين يحصل ذلك لك بجملته وهو أن ترى الحركات والسكنات والأعيان بتحريكه وتسكينه وقدرته سبحانه لا يستغنى عنه شيء. ثم تزيد مراقبته إلى أن تترقى إلى علم اليقين ، ثم يفنى عن ذلك به ، وذلك حقيقة اليقين فيقول : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه سبحانه وتعالى ، هو القيوم على كل شيء بقيوميته ، وذلك الشيء هو القائم بأمره وبقدرته على حسب المشاهدة والمحاضرة ، فتأدب مع الخلق وعاشر أحسن المعاشرة ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».

القاعدة العاشرة

علم ما يجب الاشتغال به ظاهرا وباطنا اجتهادا ؛ لأن من ظن أنه استغنى عن الطاعة فهو مفلس معادا لقوله سبحانه لا رب إلا سواه (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] فهذا ما بنيت على أعمدة قواعده قصورا من غير قصور ، وأسست عليه شوامخ الحجار لربات الحجور ، وحرثته بمحراث فدن ، وبذرته بصنوف حبوب السعادة ، وغرست في فرادسه الأذكار ، وأجريت في جناته من الأوراد والأنهار ، وفرشته بشقائق نعمان المجاهدة ، ومهدته بحدائق حقائق المكابدة ؛ راجيا حصاد زرعي بمناجل الهمم ، وقاصدا غنيمة إنفاقي من مواهب الكرم ، والله تعالى يزكيه ويربيه ، ويرتع فيه من ظهر فيه ، ومن التحق به ممن يحييه ، إنه الجواد الكريم البر الرحيم.

والسلام على من اتبع الهدى ، فما ابتدع ونفع وانتفع ولحق بعباد الله الصالحين وحزبه المفلحين ورحمته وبركاته ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد نور أنوار المعارف وسر أسرار العوارف ، وعلى آله وصحبه وتابعي سبيله وحزبه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتعم البركات آمين.

٤٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الكشف والتبيين

في غرور الخلق أجمعين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين! وبه ثقتي.

الحمد لله وحده ، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد : فهذا كتاب الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين.

اعلم أن الخلق قسمان : حيوان وغير حيوان. والحيوان قسمان : مكلف وغير مكلف ؛ فالمكلف من خاطبه الله بالعبادة ، وأمره بها ، ووعده بالثواب عليها ، ونهاه عن المعاصي ، وحذره العقوبة ؛ وغير المكلف من لم يخاطبه بذلك. ثم المكلف قسمان : مؤمن وكافر. والمؤمن قسمان : طائع وعاص ؛ وكل واحد من الطائعين والعاصين ينقسم إلى قسمين : عالم وجاهل.

ثم رأيت الغرور لازما لجميع المكلفين والمؤمنين والكافرين إلا من عصمه الله رب العالمين. وأنا إن شاء الله تعالى أكشف عن غرورهم ، وأبين الحجة فيه ، وأوضحه غاية الإيضاح ، وأبينه غاية البيان ، بأوجز ما يكون من العبارة ، وأبدع ما يكون من الإشارة ؛ فأقول وما توفيقي إلا بالله :

واعلم أن المغرورين من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف : صنف من العلماء ، وصنف من العباد ، وصنف من أرباب الأموال ، وصنف من المتصوفة. فأول ما نبدأ به غرور الكفار ، وهم في غرورهم قسمان : منهم من غرته الحياة الدنيا ، ومنهم من غره بالله الغرور. فأما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا : النقد خير من النسيئة ، ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك ، ولا يترك اليقين بالشك ؛ وهذا قياس فاسد ، وهو قياس إبليس لعنه الله في قوله أنا خير منه ، فظن أن الخيرية في السبب.

وعلاج هذا الغرور شيئان إما بتصديق وهو الإيمان ، وإما ببرهان. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى في قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) [القصص : ٦٠] وقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الحديد : ٢٠] وتصديق الرسول فيما جاء به. وأما البرهان فهو أن يعرف وجه فساد قياسه أن قوله : «الدنيا نقد والآخرة نسيئة» مقدمة صحيحة ، وأما قوله : «النقد خير من النسيئة» فهو محل التلبيس ؛ وليس الأمر كذلك ، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير ، وإن كان أقل منها فالنسيئة خير منه ؛ ومعلوم أن الآخرة أبدية والدنيا غير أبدية. وأما قولهم : «لذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك» فهو أيضا باطل ؛

٤٣٣

بل ذلك يقين عند المؤمنين ، وليقينه مدركان : أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء ، والمدرك الثاني الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء. ولا تظن أن معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمور الآخرة ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليه‌السلام ، فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حاشاه من ذلك ، بل قد انكشفت له الأشياء وشاهدها بنور البصيرة كما شاهد المحسوسات بالعين الظاهرة.

فصل

والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله ، وهي الأعمال الصالحة ، وتدنسوا بالشهوات ، فهم مشاركون الكفار في هذا الغرور ، فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميعا غرور.

فأما غرور الكافرين بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم بألسنتهم : إنه إن كان الله معيدنا فنحن أحق به من غيرنا ؛ كما أخبر الله عنهم في سورة الكهف [الآيتان : ٣٥ و ٣٦] حيث قال : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه الله ، وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعم الآخرة ، ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الآخرة. كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة : ٨] ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء فيزدرونهم ويقولون : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣] ويقولون : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] وترتيب القياس الذي نظم في قلوبهم أنهم يقولون : " قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا ، وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن» وليس كذلك ، بل يكون محسنا ولا يكون محبّا ، بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على التدريج ؛ وذلك محض الغرور بالله تعالى ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله يحمي عبده المؤمن من الدّنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطّعام والشّراب وهو يحبّه». وكذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا ، وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا وقالوا مرحبا بشعائر الصالحين ، وقد قال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر : ١٥] وقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ، ٥٦] وقال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٨٢ ، القلم : ٤٤] (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف ١٨٣ ، القلم : ٤٥] وقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] فلم يؤمن بالله من آمن بهذا الغرور. ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته ، فمن عرف الله فلا يأمن من مكره. ولا ينظرون إلى فرعون وهامان والنمرود ما ذا حل بهم مع ما أعطاهم الله من المال ، وقذ حذر الله تعالى من مكره فقال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] وقال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ

٤٣٤

خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] وقال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] فمن أولاه الله نعمة فليحذر أن تكون نقمة.

فصل

وأما غرور العصاة من المؤمنين فقولهم : " غفور رحيم وإنما نرجو عفوه". فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال ـ وذلك من قبل الرجاء محمود في الدين ـ وإن رحمة الله واسعة ، ونعمته شاملة ، وكرمه عميم ، إنا موحدون مؤمنون ، نرجو بوسيلة الإيمان ، والكرم والإحسان. وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلاح الآباء والأمهات ، وذلك نهاية الغرور ، فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا خائفين ، ونظم قياسهم الذي سول لهم الشيطان : أن من أحب إنسانا أحب أولاده ، فإن الله قد أحب آباءكم فهو يحبكم ، فلا تحتاجون إلى الطاعة ، فاتكلوا على ذلك واغتروا بالله. ولم يعلموا أن نوحا عليه‌السلام أراد أن يحمل ابنه في السفينة ، فمنع ، وأغرقه الله بأشد ما أغرق به قوم نوح ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذن في زيارة قبر أمه وفي الاستغفار لها ، فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار ونسوا قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨] وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] فإن من ظن أنه ينجو بتقوى أبيه ، كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يروى بشرب أبيه ، والتقوى فرض عين لا يجزى فيها والد عن والده ، وعند جزاء التقوى يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه إلا على سبيل الشفاعة. ونسوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأمانيّ» ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ٢١٨] وقال تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٧] وهل يصح الرجاء إلا إذا تقدمه عمل؟ فإن لم يتقدمه عمل فهو غرور لا محالة ، وإنما ورد الرجاء لتبريد حرارة الخوف واليأس ، ولتلك الفائدة نطق به القرآن والترغب في الزيادة لا محالة.

فصل

ويقرب منهم غرور طوائف لهم طاعات ومعاص ، إلا أن معاصيهم أكثر ، وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن ترجح كفة حسناتهم ، وكفة سيئاتهم أكثر. وهذا غاية الجهل ، فترى الواحد يتصدق بدراهم عديدة من الحلال والحرام ، ويكون ما يتناوله من أموال الناس والشبهات أضعافه ، فهو كمن وضع في كفة الميزان عشرة دراهم ووضع في الكفة الأخرى ألفا وأراد أن تميل الكفة التي فيها العشرة ، وذلك غاية الجهل.

فصل

ومنهم من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه ، لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيها ، وإذا

٤٣٥

عمل طاعة حفظها واعتد بها ، كالذي يستغفر الله بلسانه ويسبح بالليل والنهار مثلا مائة مرة وألف مرة ، ثم يغتاب المسلمين ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار ، ويلتفت إلى ما ورد من فضل التسبيح ويغفل عما ورد في عقوبة الكذابين والنمامين والمنافقين ؛ وذلك محض الغرور ، فحفظ لسانه عن المعاصي آكد من تسبيحه ، فسبحان من صدنا عن التنبيه.

فصل

بيان أصناف المغرورين وأقسام كل صنف

الصنف الأول من المغرورين : العلماء.

وهم فرق :

(فرقة منهم) لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية ، تعمقوا فيها ، واشتغلوا بها ، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات ، واغتروا بعلمهم ، وظنوا أنهم عند الله بمكان ، وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم ، بل يقبل شفاعتهم في الخلق ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم. وهم مغرورون ، فإنهم لو نظروا بعين البصيرة لعلموا أن العلم علمان : علم معاملة ، وعلم مكاشفة وهو العلم بالله تعالى وبصفاته ؛ فلا بد من علوم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة ، وهي المعاملة بمعرفة الحلال والحرام ، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة. ومثلهم مثل طبيب يطبب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه فلم يفعل ، وهل ينفع الدواء بالوصف؟ هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد الحمية ؛ وغفلوا عن قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ، ١٠] ولم يقل : «من يعلم تزكيتها وكتب علمها وعلمها الناس».

وغفلوا عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلّا بعدا" ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه» ، وغير ذلك كثير. وهؤلاء مغرورون نعوذ بالله من حالهم ، وإنما غلب عليهم حب الدنيا وحب أنفسهم وطلب الراحة العاجلة ، وظنوا أن علمهم ينجيهم في الآخرة من غير عمل.

(وفرقة أخرى) أحكموا العلم والعمل الظاهر ، وتركوا المعاصي الظاهرة ، وغفلوا عن قلوبهم ، فلم يمحوا منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء والحسد وطلب الرئاسة والعلو وإرادة السوء بالأقران والشركاء وطلب الشهرة في البلاد والعباد ، وذلك غرور سببه غفلتهم عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرّياء الشّرك الأصغر» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حب المال والشّرف ينبتان النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» ، إلى غير ذلك من الأخبار ، وغفلوا عن قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩]

٤٣٦

فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم ؛ ومن لا يصغي قلبه لا تصح طاعاته ، وهو كمريض ظهر به الجرب فأمره الطبيب بالطّلاء وشرب الدواء ، فاشتغل بالطلاء وترك شرب الدواء ، فأزال ما بظاهره ولم يزل ما بباطنه ، وأصل ما على ظاهره مما في باطنه ، فلا يزال جربه يزداد أبدا مما في باطنه ، فلو زال ما في باطنه استراح الظاهر ؛ فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة في القلب يظهر أثرها على الجوارح.

(وفرقة أخرى) علموا هذه الأخلاق الباطنة وعلموا أنها مذمومة من جهة الشرع ، إلا أنهم لأجل تعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها ، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك ، وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم ، فأما هم فهم أبلغ عند الله من أن يبتليهم بذلك ، وظهرت عليهم مخايل الكبر والرئاسة ، وطلب العلو والشرف ، وغرورهم أنهم ظنوا أن ذلك ليس بكبر وإنما هو عز للدين وإظهار لشرف العلم ونصرة دين الله ، وغفلوا عن فرح إبليس به ، وعن نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذا كانت وبما ذا أرغم الكافرين ، وغفلوا عن تواضع الصحابة وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم ، حتى عوتب عمر رضي الله عنه على بذاذته عند قدومه الشام فقال : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام لا نطلب العز في غيره.

ثم هذا المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرفيعة ، ويزعم أنه يطلب عز العلم وشرف الدين ، ومهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ويقول : إنما هو غضب للحق ، ورد على المبطل في عداوته وظلمه ، وهذا مغرور ، فإنه لو طعن على غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح ، وإن أظهر الغضب عند الناس فقلبه ربما يحبه ، وربما يظهر العلم ويقول : غرضي به أفيد الخلق ؛ وهو به مراء ، لأنه لو كان غرضه صلاح الخلق لأحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله أو فوقه أو دونه.

وربما يدخل على السلاطين ويتودد إليهم ويثني عليهم ، فإذا سئل عن ذلك قال : إنما غرضي أن أنفع المسلمين وأدفع عنهم الضرر ؛ وهو مغرور ، فلو كان غرضه ذلك لفرح به إذا جرى على يد غيره ، ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع في أحد لغضب.

وربما أخذ من أموالهم ، فإذا خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان : هذا مال بلا مالك ، وهو لمصالح المسلمين ، وأنت إمام المسلمين وعالمهم ، وبك قوام الدين. وهذه ثلاث تلبيسات : أحدها أنه مال لا مالك له ، والثاني أنه لمصالح المسلمين ، والثالث أنه إمام ؛ وهل يكون إماما إلا من أعرض عن الدنيا كالأنبياء والصحابة وأفاضل علماء هذه الأمة؟ ومثله كما قال عيسى عليه‌السلام : العالم السوء كصخرة وقعت في فم الوادي ، فلا هي تشرب الماء ، ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع.

وأصناف غرور أهل العلم كثيرة وما يفسد هؤلاء أكثر مما يصلحونه.

٤٣٧

(وفرقة أخرى) أحكموا العلوم ، وطهروا الجوارح ، وبينوها بالطاعات ، واجتنبوا ظاهر المعاصي ، وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والكبر والحقد وطلب العلو ، وجاهدوا أنفسهم في التبري منها ، وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية ؛ ولكنهم مغرورون ، إذ في زوايا القلب بقايا من خفايا مكايد الشيطان ، وخبايا خدع النفس ما دقّ وغمض ، فلم يتفطنوا لها وأهملوها. ومثلهم كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش ، فدار عليه وفتش عن كل حشيش فقلعه ، إلا أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض ويظن أن الكل قد ظهر وبرز ، فلما غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع ؛ فهؤلاء إن غيروا تغيروا ، وربما تركوا مخالطة الخلق استكبارا عنهم ، وربما نظروا إلى الخلق بعين الحقارة ، وربما يجتهد بعضهم في تحسين منظره كيلا ينظر إليه بعين الركاكة.

(وفرقة أخرى) تركوا المهم من العلوم ، واقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات ، وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش ، وخصصوا اسم الفقيه ، وسموه الفقه وعلم المذهب ، وربما ضيعوا مع ذلك علم الأعمال الظاهرة والباطنة ، ولم يفتقدوا الجوارح ، ولم يحرسوا اللسان عن الغيبة ، والبطن عن الحرام ، والرجل عن السعي إلى السلاطين ، وكذا سائر الجوارح ، ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد وسائر المهلكات.

وهؤلاء مغرورون من وجهين :

أحدهما : من حيث العلم ؛ وقد ذكرنا وجه علاجه في كتاب الإحياء ، وأن مثلهم كمثل المريض الذي تعلم الداء من الحكماء ولم يعلمه أو يعلمه ، فهؤلاء مشرفون على الهلاك من حيث إنهم تركوا تزكية أنفسهم وتخليها ، واشتغلوا بكتاب الحيض والديات واللعان والظهار ، وضيعوا أعمارهم فيها. وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم ، ورجوع أحدهم قاضيا ومفتيا ؛ ويطعن كل واحد منهم في صاحبه ، فإذا اجتمعوا زال الطعن.

والثاني : من حيث العلم ؛ وذلك لظنهم أنه لا علم إلا بذلك وأنه الموصل المنجي ، وإنما الموصل المنجي حب الله تعالى ؛ ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته ؛ ومعرفته ثلاث : معرفة الذات ، ومعرفة الصفات ، ومعرفة الأفعال. وهؤلاء مثل من اقتصر على بيع الزاد في طريق الحاج ولم يعلموا أن الفقه هو الفقه عن الله ، ومعرفة صفاته المخوفة والمزجرة ، ليستشعر القلب الخوف ، ويلازم التقوى ، كما قال تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة : ١٢٢].

ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ، ولا يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصم ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة ، فهو طول الليل والنهار في التفتيش في مناقضات أرباب المذاهب ، والتفقد لعيوب الأقران ، وهؤلاء لم يقصدوا العلم وإنما قصدوا

٤٣٨

مباهاة الأقران ، ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيرا لهم من علم لا ينفع إلا في الدنيا والتكبر ، وذلك ينقلب في الآخرة نارا تلظّى.

وأما أدلة المذهب فيشتمل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما أقبح غرور هؤلاء!

(وفرقة أخرى) اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة ، والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم ، واستكثروا من علم المقولات المختلفة ، واشتغلوا بتعليم الطريق في مناظرة أولئك وإفحامهم ، ولكنهم على فرقتين : إحداهما ضالة مضلة والأخرى محقة ، أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها على ضلالتها وظنها بنفسها النجاة ، وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا ؛ وإنما ضلوا من حيث إنهم لم يحكموا لشروط الأدلة ومنهاجها ، فرأوا الشبهة دليلا والدليل شبهة. وأما غرور الفرقة المحقة فمن حيث إنهم ظنوا الجدل أنه أهم الأمور وأفضل القربات في دين الله ، وزعموا أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يبحث ، وأن من صدق الله من غير بحث وتحرير لدليل فليس بمؤمن ولا بكامل ولا بمقرب عند الله تعالى. ولم يلتفتوا إلى القرن الأول ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق ولم يطلب منهم الدليل. وروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما ضلّ قوم قطّ إلّا أوتوا الجدل».

(وفرقة أخرى) اشتغلوا بالوعظ ، وإعلاء رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب ، من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق. وهم مغرورون لأنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بها ، وهم منفكون عنها إلا من قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين. وغرور هؤلاء أشد الغرور ، لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ، ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم من الناجين عند آ ، وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلوهم من العمل.

وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم ، لأنهم يظنون أنهم يحببون في الله ورسوله ، وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون ، ولا وقفوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ، وكذلك جميع الصفات ، وهم أحب في الدنيا من كل أحد ، ويظهرون الزهد في الدنيا لشدة حرصهم عليها وقوة رغبتهم فيها ، ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين ، ويظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون ، ويخوفون بالله وهم منه آمنون ، ويذكّرون بالله وهم ناسون ، ويقربون إلى الله وهم منه متباعدون ، ويذمون الصفات المذمومة وهم بها متصفون ، ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا ، لو منعوا عن مجالسهم التي يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق ، ولو ظهر من أقران أحدهم من أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غمّا وحسدا ، ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه. فهؤلاء أعظم غرورا ، وأبعد عن التنبيه والرجوع إلى السداد.

٤٣٩

(وفرقة أخرى) عدلوا عن المهم الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة ، إلا من عصمه الله ، فاشتغلوا بالطاعات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للإغراق. وطائفة اشتغلوا بتيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها ، وأكثر همهم في الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق. وغرضهم أن يكثر في مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض فاسدة. فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا ، فإن الأولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم ؛ وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله ، ويجرون الخلق إلى الأغراض والغرور بالله بلفظ الخرافة ، جراءة على المعاصي ورغبة في الدنيا ، لا سيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيلاء والمرائي ، ويعظهم بالقنوط من رحمة الله حتى ييأسوا من رحمته.

(وفرقة أخرى منهم) قنعوا بكلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا ، فيعيدونها على نحو ما يحفظون من كلام من حفظوه من غير إحاطة بمعانيه ، فيعظهم الواحد منهم بذلك على المنابر ، وبعضهم يعظون الناس في الأسواق مع الجلساء ، ويظن أنه ناج عند الله وأنه مغفور له بحفظه كلام الزهاد مع خلوه من العمل. وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم.

(وفرقة أخرى) استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث ، أعني في سماعه ، وجمع الروايات الكثيرة منه ، وطلب الأسانيد الغريبة العالية. فهمّ أحدهم أن يدور في البلاد ويروي عن الشيوخ ليقول : أنا أروي عن فلان ، ولقيت فلانا ، ومعي من الأسانيد ما ليس مع غيري.

وغرورهم من وجوه : منها أنهم كحملة الأسفار ، فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم السنة وتدبر معانيها ، وإنما هم مقتصرون على النقل ، ويظنون أن ذلك يكفيهم ؛ وهيهات! بل المقصود من الحديث فهمه وتدبر معانيه ، فالأول في الحديث السماع ثم الحفظ ثم الفهم ثم العمل ثم النشر ، وهؤلاء اقتصروا على السماع ثم لم يحكموه ، وإن كان لا فائدة في الاقتصار عليه والحديث في هذا الزمان يقرأه الصبيان ، وهم غرة غافلون ، والشيخ الذي يقرأ عليه ربما يكون غافلا حتى يصحف الحديث ولا يعلم ، وربما ينام ويروى عنه الحديث وهو لا يعلم. وكل ذلك غرور ، وإنما الأصل في استماع الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيحفظه كما سمعه ويؤديه كما حفظه ، فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع ، فإن عجز عن سماعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعه من الصحابة أو من التابعين ، فيصير سماعه منهم كسماعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أن يصغي ويحفظ ويرويه كما حفظه حتى لا يشك في حرف واحد منه ، وإن شك فيه لم يجز له أن يرويه أو يعلم به ويخطئ به إن أخطأ.

وحفظ الحديث يكون بطريقين : أحدهما بالقلب مع الاستدامة والذكر. والثاني يكتب ما يسمع ويصحح المكتوب ويحفظه كيلا تصل إليه يد من يغيره ، ويكون حفظه للكتاب أن يكون في خزانته محروسا حتى لا تمتد إليه يد غيره أصلا. ولا يجوز أن يكتب سماع الصبي والغافل

٤٤٠