مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

ما يؤذيه أخرج من جوفه ما يعكر موضعه ، ثم يذهب في الماء الذي تغير فلا يعرف كيف ذهب ولا كيف طريقه من تغيير الماء فعل الله ذلك له وقاية لنفسه وفعل فيه مصالح أخرى لا يعلمها إلا خالقها. انظر إلى نوع آخر من السمك أعين بأجنحة مثل أجنحة الخفاش ينتقل بها من موضع إلى موضع في الهواء من وجه الماء يظهر لمن لا يعرف ذلك أنه من طيور البر. انظر إلى نوع آخر من أنواع السمك ضعيف وكثيرا ما يكون في الأنهار ، وجعل الله فيه خاصية تصونه إذا اقتربت منه يد من يأخذه وفيه الروح تخدر البدن واليد فيعجز قاصده عن أخذه بذلك السبب ، فلو ملئت الكتب بعجائب حكم الله في خلق واحد لامتلأت الكتب وعجز البشر عن استكمالها وما هو المذكور في كل نوع تنبيه يشير إلى أمر عظيم.

باب في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائب حكمة

الله تعالى

قال الله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل : ٦٠].

انظر وفقك الله وسددك إلى ما على وجه الأرض من النبات وما في نظره من النعم في حسن منظره وبهجته ونضارته التي لا يعد لها شيء من مناظر الأرض ، ثم انظر إلى جعل البارئ فيه من ضروب المنافع والمطاعم والروائح والمآرب التي لا تحصى ، وخلق فيه الحب والنوى مخلوقا لحفظ أنواع النبات ، وجعل الثمار للغذاء والتفكه والإتيان منها للعلف والرعي ، والحطب للوقود ، والأخشاب للعمارة وإنشاء السفن ولغير ذلك من الأعمال التي يطول تعدادها ، والورق والأزهار والأصول والعروق والفروع والصموغ لضروب من المصالح لا تحصى. أرأيت لو وجدت الثمار مجموعة من الأرض ولم يكن تنبت على هذه السوق الحاملة لها ما كان يحصل من الخلل في عدم الأخشاب والحطب والإتيان بالعلف وسائر المنافع ، وإن وجد الغذاء بالثمرات والتفكه بها. ثم انظر ما جعل الله فيها من البركات حتى صارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر من ذلك وأقل ، والحكمة في زيادتها وبركتها حصول الاقتيات وما فضل ادخر للأمور المهمة والزراعات ، وذلك في المثال كملك أراد عمارة بلدة فأعطى أهلها من البذر ما يبذرونه وفضلة يتقوتون بها إلى إدراك زرعهم ، فهذه هي الحكمة التي أعم الله بها البلاد وأصلح بها العباد ، وكذلك الشجر والنخل يزكو وتتضاعف ثمراتها حتى تكون من الحبة الواحدة الشيء العظيم ليكون فيه ما يأكله العباد ويصرفونه في مآربهم ويفضل ما يدخر ويغرس فيدوم جنسه ويؤمن انقطاعه ، ولو لا نموه وبقاء ما يخلفه لكان ما أصابته جائحة ينقطع فلا يوجد ما يخلف.

تأمل في هذه الحبوب فإنها تخرج في أوعية تشبه الخرائط لتصونها وتحفظها إلى أن تشتد وتستحكم كما تخلق البشيمة على الجنين ، فأما البزر وما أشبه من الحبوب ، فإنه يخرج من قشور صلبة على رءوسها أمثال الأسنة ليمنع من الطير. فانظر كيف حصنت الحبوب بهذه الحصون

٤١

وحجبت لئلا يتمكن الطير منها فيصيب بها ، وإن كان يناله منها قوته إلا أن حاجة الآدمي أشد وأولى. تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات ولم يخلق فيها حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض ، فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان والأوراق والثمار ، فصارت الأرض كالأم المربية لها ، وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة لها ، وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها. ألم تر إلى عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالأطناب من كل جانب ليثبت منصته فلا يسقط ولا يميل ، فهكذا أمر النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب وتمسكه وتقيمه ، ولو لا ذلك لم تثبت الأشجار العالية ، لا سيما في الرياح العاصفة. فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة واقتدى الناس في أعمالهم بحكمة الله في مصنوعاته ، وتأمل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة ، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها ، ومنها دقائق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا عجيبا ، لو كان مما يصنع بأيدي البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة إلا في مدة طويلة ، وكان يحتاج فيه إلى آلات وطول علاج. فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة ما يملأ السهل والجبال وبقاع الأرض بغير آلة ولا حركة إلا قدرة البارئ وإرادته وحكمه ، ثم انظر تلك العروق كيف تتخلل الورق بأسره لتسقيه وتوصل إليه المادة وهي بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الإنسان لتوصل الغذاء إلى كل عضو منه ، وأما ما غلظ من العروق فإنها تمسك الورق بصلابتها وقوتها لئلا ينتهك ويتمزق.

ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه ، فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامه إذا عدم ما يغرس أو عاقه سبب ، فصار ذلك كالشيء النفيس الذي يخزن في مواضع شتى لعظم الحاجة إليه ، فإن حدث على الذي في بعض المواضع من حادث وجد منه في موضع آخر ، ثم في صلابته يمسك رخاوة الثمار ورقتها ، ولولاه لسرحت وسرح الفساد إليها قبل إدراكها ، وفي بعضها حب يؤكل وينتفع بدهنه ويستعمل في مصالح. ثم انظر إلى خلق الله تعالى فوق النواة من الرطب وفوق العجم من العنبة والهيئة التي تخرج عليها ، وما في ذلك من الطعم واللذة والاستمتاع للعباد ، ثم تأمل خلق الحب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وما علم من ذلك يطول شرحه.

ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلابة وخلقت في ظاهره قشرة حتى أنه بسبب ذلك إن سقط في تراب أو غيره لا يفسد سريعا ، وإذا ادخر لوقت الزراعة بقي محفوظا ، فصار قشره الخارج حافظا لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظه ، وعند ما يوضع في الأرض ويسقى يخرج منه عرق في النوى وغصن في الهواء ، وكلما ازداد غصنا ازداد عرقا تتقوى به أصل الشجرة وينصرف الغذاء منه إلى الغصن فهي كذلك إذ يتم غصنها قوتها فتكون الفروع

٤٢

محفوظة عن السقوط بالهواء والانكسار بالنقل أو بغيره ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة فيقسمه الله سبحانه بالقسط وميزان الحق ، فينصرف للورق غذاء صالح له وللعروق المشتبكة في الأوراق لاتصال الغذاء إلى جوانب الورق ما يليق بغذائها ، وللثمار غذاء صالح لها ، وللأقماع واللحا والأزهار غذاء صالح لكل من ذلك ما يليق به ويصلحه ، فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها وطعمها ورائحتها وألوانها المختلفة وحلاوتها وطيبها ، ثم انظر كيف جعل الله سبحانه خروج الأوراق سابقا لخروج الثمار لأن الثمرة ضعيفة عند خروجها تتضرر بحر الشمس وبرد الهواء ، فكانت الأوراق ساترة لها ، وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من الشمس والهواء لا غنى للثمرة عنها فيحفظها ذلك من المن والعفن وغير ذلك من الفساد.

ثم انظر كيف رتب البارئ سبحانه الأشجار والثمار والأزهار ، وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح. فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير. وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر ، ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف ومتوسط ، وطعومها ما بين حلو وحامض ومز وتفه ومر ، وروائحها إلى عطرات لذيذات مختلفات ، وقد أوضح الكتاب العزيز من ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور ويكشف للمتأمل منه كل مستور. فانظر ما أودع البارئ سبحانه فيها من السر عند النظر إليها ، فإنها تجلي عن القلوب درنها عند مشاهدتها وتنشرح الصدور برؤيتها وتنتعش النفوس لرونق بهجتها ، وأودع الله سبحانه فيها منافع لا تحصى مختلفة التأثير. فمنها ما تقوى به القلوب ، ومنها أغذية تحفظ الحياة ، وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولها ، وخلق فيها بزورا لحفظ نوعها تزرع عند جفافها وانفصال وقت نضارتها. انظر وتأمل ما في قوله عزوجل : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠]. فأخرج سبحانه فيما بين الحجر والماء زيتا صافيا لذيذا نافعا كما أخرج اللبن من بين فرث ودم ، ومن أخرج من النخل شرابا عسلا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس ، ولو جمعت هذه الأشياء في مستقر لكانت مثل الأنهار وكل ذلك لمنافع العباد. فانظر ما فيه من العبرة لذوي الأفكار ، ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للأعلى من الشجرة ، وكيف قسم البارئ في غذاء النخلة ، فقسم للجذر ما يصلح لها وللجريد ، وما فيه من السل ما يصلح لها ويناسب جريدها ويرسل للثمرة ما يليق بها ، وكذلك الليف الحافظ للأصول مع الثمرة وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها فوق بعض مجموعة في غلاف متقن يحفظها مما يفسدها ويغيرها حتى إذا قويت صلحت أن تبرز للشمس والهواء ، فشق عنها غلافها على التدريج ، وهو الذي كان حافظا لها ، فيصير يفترق شيئا بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكمل قوتها ، فتظهر جميعها حتى ما يضر بها ما يلقاها من حر وبرد ، ثم تراها في النضج والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها فيلتذ حينئذ بأكلها ويمكن الانتفاع بادخارها ، وتصرف في المآرب التي هيئت لها ، واعتبر ذلك في جميع

٤٣

الأشجار ، فإنك ترى فيها من أسباب الحفظ ولطائف الصنع ما يعتبر به كل ذي فهم ولب ، فمن ذلك خلق الرمانة وما فيها من غرائب التدبير ، فإنك ترى فيها شحما مركوما في نواصيها غليظ الأسفل رقيق الأعلى كأمثال التلال في تلوينه أو البناء الذي وسع أسفله للاستقرار ورقق أعلاه حتى صار مرصوفا رصفا كأنه منضد بالأيدي ، بل تعجز الأيدي عن ذلك التداخل الذي نظم حبها في الشحم المذكور ، وتراه مقسوما أقساما ، وكل قسم منه مقسوم بلفائف رقيقة منسوجة أعجب نسج وألطفه لتحجب حبها حتى لا يلتقي بعضه ببعض فيفسد ولا يلحق البلوغ والنهاية ، وعليها قشر غليظ يجمع ذلك كله ، ومن حكمة هذه الصنعة أن حبها لو كان حشوها منه صرفا بغير حواجز لم يمد بعضه بعضا في الغذاء ، فجعل ذلك الشحم خلاله ليمده بالغذاء ، ألا ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ممدودة منه بعروق رقاق توصل إلى الحب غذاءها ، وإلى حبة حبة غذاءها ومن رقها وضعفها لا تكدر على الأقل ولا تعرف بها ، ثم انظر ما يصير من الحلاوة في الحب من أصول مرة شديدة المرارة قابضة ، ثم تلك اللفائف على الحب تمسكه على الاضطراب وتحفظه ، ثم حفظ الجميع وغشاه بقشر صلب شديد القبض والمرارة وقاية له من الآفات ، فإن هذا النوع من النبات للعباد به انتفاعات وهو ما بين غذاء ودواء وتدعو الحاجة إليه في غير زمانه الذي يجنى فيه من شجرة فحفظ على هذه الصفة لذلك.

انظر إلى عود الرمانة الذي هي متعلقة به كيف خلق مثبتا متقنا حتى تستكمل خلقها فلا تسقط قبل بلوغها الغاية المحتاج إليها وهي من الثمرة المختصة بالإنسان دون غيره من الحيوان. انظر إلى النبات الممتد على وجه الأرض مثل البطيخ واليقطين وما أشبه ذلك وما فيه من التدبير ، فإنه لما كان عود هذا النبات رقيقا ريانا ذا احتياج إلى الماء لا ينبت إلا به جعل ما ينبت به منبسطا على وجه الأرض ، فلو كان منتصبا قائما كغيره من الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينها ، فكانت تسقط قبل بلوغها وبلوغ غاياتها ، فهي تمتد على وجه الأرض لبلوغ الغاية وتحمل الأرض عودها وأصل الشجرة والسقي بمدها. وانظر هذه الأصناف كيف لا تخلق إلا في الزمن الصالح لها ولمن تناولها ، فهي له معونة عند الحاجة إليها ولو أتت في زمان البرد لنفرت النفوس عنها ولأضرت بأكثر من يأكلها.

ثم انظر إلى النخل لما كانت الأنثى منه تحتاج إلى التلقيح خلق فيها الذكر الذي تحتاج إليه لذلك حتى صار الذكر في النخل كأنه الذكر في الحيوان ، وذلك ليتم خلق ما بزراعته تحفظ أصول هذا النوع. ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة ، فواحد يفور في البدن فيستخرج الفضلات الغليظة ، وآخر لإخراج المرة السوداء ، وآخر للبلغم ، وآخر للصفراء ، وآخر لتصريف الريح ، وآخر لشد البطن في الطبيعة ، وآخر للإسهال ، وآخر للقيء ، وآخر لروائحه ، وآخر للمرضى والضعفاء ، وكل ذلك من الماء ، فسبحان من دبر ملكه بأحسن التدبير.

٤٤

باب ما تستشعر به القلوب من العظمة لعلام الغيوب

قال الله العظيم : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤].

وقال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥].

وقال تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الرعد : ١٣].

اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب من بدائع الخلق وعجائب الصنع وما ظهر في مخلوقاته من الحكم آيات بينات ، وبراهين واضحة ، ودلائل دالات على جلال بارئها وقدرته ونفوذ مشيئته وظهور عظمته ، فإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى إليك وهي نفسك رأيت فيها من العجائب والآيات ما سبق التنبيه عليه وأعظم منه ، ثم إنك إذا نظرت إلى مستقرك وهي الأرض وأجلت فكرك فيها وأطلت النظر في استرسال ذهنك فيما جعل فيها وعليها من جبال شامخات ، وما أحيط بها من بحار زاخرات ، وما جرى فيها من الأنهار ، وما انبث فيها من أصناف النباتات والأشجار ، وما بث فيها من الدواب إلى غير ذلك مما يعتبر به أولو الألباب ، ثم إذا نظرت إلى سعتها وبعد أكنافها ، وعلمت عجز الخلائق عن الإحاطة بجميع جهاتها وأطرافها ، ثم إذا نظرت فيما ذكرته العلماء من نسبة هذا الحق العظيم إلى السماء ، وأن الأرض وما فيها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في أرض فلاة وما ذكره النظار من أن الشمس في قدرها تزيد على قدر الأرض مائة ونيفا وستين جزءا ، وأن من الكواكب ما يزيد عن الأرض مائة مرة ، ثم إنك ترى هذه النيرات كلها من شمس وقمر ونجوم قد حوتها السماوات وهي مركوزة فيها ، ففكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم كيف يكون قدرها ، ثم انظر كيف ترى الشمس والقمر والنجوم والسماء الجامعة لذلك في حدقة عينك مع صغرها ، وبهذا تعرف بعد هذا كله منك وعظم ارتقائه ، ولأجل البعد ترى هذه النيرات صغيرة في رأي العين ، ثم انظر إلى عظم حركتها وأنت لا تحس بها ولا تدركها لبعدها ، ثم إنك لا تشك أن الفلك يسير في لحظة قدر الأرض مائة مرة وأكثر من ذلك وأنت غافل عن ذلك ، ثم فكر في عظم قدر هذه الأشياء ، واسمع قسم الرب سبحانه بها في مواضع من الكتاب العزيز. فقال عزوجل : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج : ١]. (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ* وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطارق : ١. ٣]. وقال : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ و ٧٦]. إلى غير ذلك من الآي ، ثم ترق بنظرك إلى ما حواه العالم العلوي من الملائكة وما فيها من الخلق العظيم ، وما أخبر به جبريل عليه‌السلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إسرافيل عليه‌السلام ، يقول جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإن

٤٥

رجليه لفي تخوم الأرض السفلى ، وأعظم من هذا كله قوله عزوجل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥]. فما ظنك بمخلوق وسع هذا الأمر العظيم ، فارفع نظرك إلى البارئ العظيم واستدل بهذا الخلق العظيم على قدر هذا الخالق العظيم ، وعلى جلاله وقدرته وعلمه ، ونفوذ مشيئته وإتقان حكمته في بريته ، وانظر كيف جميع هذا الصنع العظيم ممسوك بغير عمد تقله ، ولا علائق من فوقه ترفعه وتثبته ، فمن نظر في ملكوت السماوات والأرض ونظر في ذلك بعقله ولبه ، استفاد بذلك المعرفة بربه والتعظيم لأمره ، وليس للمتفكرين إلى غير ذلك سبيل ، وكلما ردد العقل الموفق النظر والتفكر في عجائب الصنع وبدائع الخلق ازداد معرفة ويقينا وإذعانا لبارئه وتعظيما ، ثم الخلق في ذلك متفاوتون ، فكل مثال من ذلك على حسب ما وهبه له من نور العقل ونور الهداية. وأعظم شيء موصل إلى هذه الفوائد المشار إليها تلاوة الكتاب العزيز ، وتفهم ما ورد فيه وتدبر آياته مع ملازمة تقوى الله سبحانه.

فهذا هو باب المعرفة بالله واليقين بما عند الله ، ثم انظر وتأمل ما نشير إليه ، فإنك علمت على الجملة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسري به إلى أن بلغ المنتهى ورأى من آيات ربه الكبرى. واطلع على ملكوت ربه وتحقق أمر الآخرة والأولى. ودنا من ربه حتى كان كقاب قوسين أو أدنى. فما ظنك بعلم من شرف بهذا المعنى ثم أمر بأن يقول : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤]. علمك بمعرفته ومنّ عليك بنور هدايته واستعملنا وإياك بطاعته. وجعلنا بكرمه أجمعين من أهل ولايته بمنه وكرمه وجوده إنه ولي ذلك.

٤٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

معراج السّالكين

فاتحة معراج السالكين

اللهم إنا نحمدك ونشكرك معتقدين فيك أنك لا ترتاح إلى الشكر ارتياح ذوي الحاجات لكن النفوس المؤيدة تأبى إلا الشكر لمنعمها. سبحانك أيها الرب الرحيم حلمت مع نفوذ علمك وأمهلت مع شدة بطشك ولم تمنع الرزق من جاهر بعصيانك. تعاليت أنت القريب الظاهر الأول الآخر لا تستفزك سطوة العبيد وأنت أقرب إليهم من حبل الوريد.

ونسألك اللهم صلاة زاكية مباركة على نبي الرحمة ومنقذ هذه الأمة ، محمد عبدك الدال عليك والهادي إليك.

إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين وتحريت رشدكم فهل علي إلا البلاغ المبين وما تغني النصيحة. وقد عم الداء ومرض الأطباء واستشفى بغير الشفاء واعتيض من البصر بالعمى. وخبثت القلوب ورين عليها. وعطلت البصائر ونسب التقصير إليها. واتخذت آيات الله هزوا ولعبا. وصيرت أغراض الآجلة إلى العاجلة سببا فلا موقظ من غفلة ، ولا زاجر عن زلة :

مرضى عن الخيرات في بحر الردى

غرقى فلا داع لنهج أقوام

شغفوا بكل رذيلة مذمومة

صرفت وجوههم لوجه الدرهم

ناموا عن المقصود لم يستيقظوا

ستكون يقظتهم لخطب أعظم

فنعوذ بالله أن نكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك ، وقال هلك الناس وهو في جملتهم هالك.

اعلم أيها الأخ أن الباعث على إسعافك في مطلوبك غرضان مهمان. ولما اقتصرت في طلبك على موافقتهما ودارت رغبتك على تحصيل حقيقة مقصودهما. واقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم الإلهية وزعمت أن مقصودك طلب الخلاص من شر الاعتقادات الفاسدة ، والهرب من الآراء المجانبة للحق المعاندة. رأيت تقديم التنبيه على الغرضين المذكورين لنستوجب العذر فيما انتدبنا إليه ، وليكون ذلك المهم الأكبر الذي نبهنا عليه.

الغرض الأول : أيها الأخ ما شاهدناه من فساد الزمان وأخذه في الازدياد وكثرة الآراء وفساد الاعتقاد ، وعدم ذابّ يبذل فيها الاجتهاد ، ويمرها على كف الانتقاد ، ولو لا سياسة الملوك

٤٧

لعمت الخافقين ظلمها ، ولرسخ في كل الأقطار قدمها ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ويبقى رسما كان إبقاؤه عليه وعدا مسئولا. ولكن تعاقب الزمان وطرو الحوادث وكثرة الصوارف وفتور الهمم داعية إلى الفساد ، والداء يزداد كل يوم أغذية السوء كالذنوب فرأيت إبراز هذه النبذ لتكون مغنية للسائلين ومعينة للسالكين ومنفعة باقية في الآخرين.

والأهم من هذا الغرض التنبيه على غوائل الآراء البشعة التي استهوت عقول أكثر الناس وهم في ازدياد من هذا الفن ، وهو سبب فتور الشرائع وهو عند الأنبياء على مر الأيام والنفوس مولعة بكل غريب لم تألفه وغامض لم تعهده فلا يسلم الغمز الجاهل من الوقوع فيه والفطن المتباطئ عن الاغترار بما يظهر من مبادئه.

وقد كثرت ترهات هذه الطائفة لعلتين :

إحداهما : الزهد في الرد عليهم.

والثانية : بدار الجهال بمجادلة الرد على ما قرر لديهم كمقابلتهم بإنكار علوم التعاليم الأربعة من الهندسة والحساب والمنطق ومعرفة المواكب وثبوتها. وهي مقدمات علومهم وعنوان كلامهم وعنصر براهينهم ولم يحكموا فيما حاولوا شيئا كإحكامهم لها. والمنطق على مر الأيام وكر الدهور ينقحونه ويهذبونه إلى زمان أفلاطون فزاد ترتيبا وميز فيه السفسطة من الجدل. وحذا حذوه تلميذه أرسطو فرتب صناعة البرهان. وهذب الكتب الثمانية. وكذلك علم الهيئة والهندسة استخرجوهما من السند هند كتاب أيضا تعاقبته الأيام وهو الذي يحصل منه الهندسة والهيئة فلا معنى لمناكرتهم في كليات هذه التعاليم ، فليطالبوا بتصحيح مسائلها الجزئية واستعمالها وتصحيح الأشكال والمقدمات في العلم الإلهي فإنهم تساهلوا فيها ولم يستعملوها البتة فهناك موضع المضايقة ، وأما إنكار كون الأرض كرية وأخذها المكان الأوسط من الفلك وارتفاع الأقاليم وانخفاضها وتحقيق الجهات والآفاق والكسوفات فلا معنى لإنكار ذلك ومناظرتهم في إبطاله ، فهذا أحد الغرضين وتحته تنبيه على المواضع التي نتكلم على اختلافهم فيها ونورد ذلك متفرقا في الكتاب إن شاء الله تعالى.

الغرض الثاني : أن الحق لا يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه وضده فبضدها تتميز الأشياء ومقصدنا التنبيه على الطريق الأسلم ، والصراط الأقوم. ولا بدّ من ذكر الطريق المنحطة عنه لينصف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنا لم ننتدب لضئيل ولا أضربنا عن سيرة الأوائل في سكوتهم إلا لخطب جليل. ولنضيف ذلك إلى الغرض الثاني فيتضح لديه العذر وليعرف مقدار النعمة فيطلبها بالشكر فنقول الناطقون بكلمة الشهادة سبع فرق.

الفرقة الأولى : طائفة نطقوا بالشهادتين من غير التفات إلى ما تنطوي عليه من المعنى ولا احتفاء بالوظائف كأجلاف الأعراب والأعاجم لكنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. فلهم حكم

٤٨

المشيئة وهم المرادون بقوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤]. والسيف عند هؤلاء أصدق أنباء من الكتب ، وهو أحد ما يساسون به.

الفرقة الثانية : طائفة نطقت بكلمتي الشهادة تقليدا مأخوذا من الآباء والأمهات والمعلمين لكنهم مقبلون على وظائف الشرع ، فهؤلاء هم المسلمون على الحقيقة ، ولهم تقدمة على الفرقة الأولى وهم المرادون بقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥]. الآية. وبقوله سبحانه : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) [لقمان : ٢٢]. الآية.

الفرقة الثالثة : قوم اعتقدوا الشريعة وصدقوا ولم يقتصروا على درجة المسلمين ، بل استعملوا النظر والاستدلال وذبوا عن حرم الدين ، وهؤلاء أكثر المتكلمين من أهل السنة وأصحاب الحديث وهم المؤمنون المسلمون ، فهم أخص إذ الإسلام أعم. وقد فصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الإسلام والإيمان في حديث السائل وقال تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥]. وقال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٤].

الفرقة الرابعة : فرقة ترقوا عن هذه الطريقة إلى درجة اليقين والثلج ، فإن التصديق منقسم إلى التام والناقص فمن صدق بالشيء واستعمل ضربا من الإقناع سمي مصدقا ، ولكن التام هو الذي يصدق بالشيء عن برهان ومع قيام البرهان على أن ذلك البرهان لا يجوز أن يكون بخلاف ما تقرر عليه ولا في حين ما لا بالذات ولا بالعرض. ولا يجوز أن يبعث نبي صادق بضده أصلا ولو بعث بنقيضه لاعتقد تكذيبه ، فإن قيل : فهذا تصريح بتفاضل المؤمنين في إيمانهم. قلت : فهو الصحيح ، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يخرج من النّار من في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان" ، والإيمان في اللفظ اللغوي هو التصديق وقد قدمنا أن التصديق ينقسم إلى التام والناقص. فإن قيل : بل التصديق لا يتفاضل والإيمان يكون بمعنى العمل ، قلنا : أما أن الإيمان التصديق فهو مشهور في اللغة وهو الأصل وهو في الأعمال منقول والاستمساك بحقيقة اللغة أولى حتى يدل الدليل ، وقد دل دليل الشرع على تفاضل الإيمان بما ذكرنا. فإن قيل : هب أنا سلمنا أن الإيمان هو التصديق فما الدليل على انقسام التصديق في نفسه؟ قلنا : التصديق عبارة عن الاعتقاد ، والاعتقاد لفظ عام وحقيقته ركون النفس إلى متخيل إما في نفسه أو في إثباته ، ثم المعتقدات إن كانت في النفس كما هي عليه من خارج فهو اعتقاد للشيء وتصور له وعلم به على ما هو عليه ، ومتى كان من خارج على خلاف ما هو في النفس فهو تصديق وتصور ناقص إذ من اعتقد زيدا أبيض فوجده أسود نقص اعتقاده.

الفرقة الخامسة : أقوام اعتقدوا الإسلام وصحته ، لكن اعتقدوا في الإله تعالى وصفاته ما نسبوا به إلى البدعة والفسق.

الفرقة السادسة : أقوام أضافوا إلى ذلك ما نسبوا به إلى الكفر كمن صدق بالنبوة من الفلاسفة ، واعتقد أن ذلك يرجع إلى ملك قائم ثم اقتضى له مولده أن يكون حسن السياسة

٤٩

فاضلا متنوعا فهؤلاء كفرة وهذا تصور لا ينفع.

الفرقة السابعة : أقوام مظهرون للإسلام مبطنون للتعطيل المحض فهؤلاء شرار الفرق خالدون في الدرك الأسفل من النار. والأمم كلها على خلاف هذه الطائفة وهي يسمع بها وقل ما ترى إلا آحادا يحملهم الاستخفاف على ذلك ، والأمم مطبقة على وجود الصانع وإن استعمل بعضهم معه الشركاء على اختلاف القول بالشرك من المعبودات من الأحجار والأحياء والكواكب. وقد سميت هذا الكتاب : " بمعراج السالكين" والله سبحانه يحملنا على الرأي الحق بعزته.

المعراج الأول

ليعلم أولا أن ابتداءنا بهذا المعراج وتقديمنا له على أمثاله له ثلاثة أغراض :

أحدها : استعمال الطوائف المذكورة له واقتصارهم عليه فنرقيهم عنه إلى سواه.

الثاني : أنه مقدمة لما نذكره من معرفة النفس وقواها وبيان العوالم وأنها على مضاهاتها.

الثالث : أن نبين فيه ألفاظا واصطلاحات تغني عن تكرار بيانها وتمييز عالم الغيب عن عالم الشهادة. والحد المميز لهما ، وما العالم الذي وقع الخلاف في حدوثه وقدمه. وكمية هذه المعارج سبعة.

اعلم أن حقيقة العروج الصعود علوا تقول : عرجت في السلم أعرج. والألفاظ لها وجهان من الدلالة ، فوجه في الدلالة على الأشياء الجسمانية كمفهوم السلم والعروج. والوجه الثاني : الدلالة على معاني الجسمانيات وأرواحها إما بطريق وضع اللغة وإما بالمجاز والاستعارة.

ولما كان السالك الباحث إلى معرفة بارئه تعالى طالبا للترقي عن ظلمات الجهل وأسفل السافلين من حضيض البهائم والجهلة ، وكانت البراهين والأدلة الموصلة إلى درجة العلوم شبه السلم الجسماني الموصل إلى العلو الجسماني ، وكانت مفردات البراهين ومقدمات القياس وأجزاؤه مادة له منها يتألف حاكت أضلاع السلم فإذا التسمية لا مشاحة فيها إذ هي مفيدة قال الله تعالى : (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ* تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج ٢ ـ ٤]. ومن قام عنده البرهان على استحالة وجهه للبارئ تعالى يعرج إليه فيها طلب معنى عقليا ليحمل اللفظ عليه ، وقد ذم الله تعالى فرعون اعتقاد كون الأسباب والمعارج جسمانية في قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) [غافر : ٣٦]. وقال الله تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) [غافر : ٣٧]. فالأدلة سلاليم الخلق إلى ربهم والذهول عنها هو المعبر عنه بالحجب. وقد ذكر الله تعالى ذلك في نعت الكافر ، فقال عزّ من قائل : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) [النور : ٤٠]. الآية فعبر عن الاعتقادات الفاسدة بالظلمات وعن ترادف الشكوك بترادف الموج ، وقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره". وليس المراد بالحجب إلا الطرق الموصلة إليه.

٥٠

فلو كانت براهين فهي حجب نور ، ولو كانت شبها فهي حجب ظلمة.

والدليل على ذلك قوله : لأحرقت سبحات وجهه فإنها لو كانت جسمانية لاحترق وجهه بأولاها أو بآحادها ولم يشترط في الإحراق إلا مجموعها. والبرهان الحق على أن البارئ سبحانه لا يصح أن يكون محجوبا لعلتين :

إحداهما : أن الحجاب ليس إلا للأجسام والبارئ تعالى ليس بجسم.

والثانية : أن المحجوب يجب أن يكون في جهة والبارئ سبحانه لا جهة له بوجه. وإنما أرادصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا السالك الباحث لو انكشف إليه هذه الموانع المانعة من تحقيق معرفة معبوده لأحرقت الأشياء التي استدل بها ما انتهى إليه بصره ، فعبر بالاحتراق عن الاضمحلال فهذا تحقيق هذه العبارات. ومضمون هذه الإشارات ، والعالم هو السلم إلى معرفة البارئ سبحانه ، فهو الخط الإلهي المكتوب المودع المعاني الإلهية ، والعقلاء على اختلاف طبقاتهم يقرؤونه ومعنى قراءتهم له فهمهم للحكمة التي وضع دالا عليها. قال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١]. وقال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣]. وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠]. ولما كان الإنسان محجوبا مركبا من مواد مختلفة متضادة وكان محجوبا عن عالم الغيب ، ونعني بعالم الغيب كل غائب عن إدراك الحس ولم يتوصل إلى معرفته إلا بجد وتيقظ وقوة مفكرة خصته الحكمة الإلهية بأن جعلته دفترا جامعا مدبجا فيكون في ذلك فائدتان :

إحداهما : الإنعام عليه بإلزام أمور عجيبة تكون له مفاتيح لما غاب عنه كما قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١]. فهو يستدل بما شاهد في نفسه على ما لم يشاهد.

ولما كانت الأدلة والحجج منقسمة إلى الأتم والأنقص وكان طريق البرهان وتأليفه على الشرائط الصحيحة وكانت الأدلة متعذرة على العوام ، وكان الإقناع وقياس التمثيل والاستقراء أقرب إلى أكثر الأذهان خصت الحكمة الإلهية الصور الإنسانية بضروب من عجائب العوالم وغرائبها المستدل بها فيكون ضربا من التمثيل والاستقراء الذي يقاس به الشاهد على الغائب وأكثر ما عاملت الأنبياء عليهم‌السلام الخلق بهذا النوع من أصناف الحجة لأن مقابلتهم بغير هذا الطريق صعب قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥]. ولذلك جعلنا هذا المعراج أولا وأحلنا العوام على الاقتصار على تعلمه ، وذكرنا انقسامهم إلى طبقتين فيما تقدم فهذه إحدى فوائده وحكمه.

الحكمة الثانية : ولها فائدتان. إحداهما : يستحق بها العقوبة. وبالثانية : المثوبة.

فالأولى : استعماله لما يثق به وهو محسوس عنده مشاهد فشرطه أن لا يتعداه ولا يحمل أكثر مما يحتمل ، فمن البر ما يكون عقوقا والشيء متى جاوز حده انعكس إلى ضده.

٥١

والثانية : أن لا يستعمل الاستدلال به في ما لا يصح ويقضي على الغائب بما لا يقطع به على الشاهد ويزعم القطع به.

والفرق بينه وبين ما أمرنا استعماله أنه أمر باستعماله على جهة الحكمة وهو أن يكون له مذكرا أو زاجرا من غير قاطع ، وهذا المستدل يزعم أنه يقطع بما أخذ عنه من القياس كمن يزعم أن للبارئ سبحانه صورة كصورة الإنسان وأن علمه كعلمنا أو قدرته كاقتدارنا. وينتهي إلى ضرب من ضروب التجسم. قال الله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : ٥١]. وإنما نستعمل من ذلك ما أحسسنا أو شهدت التجربة به مما يزعمه المعتنون بالتشريح على طول الدهر فهذا مما لا يمتنع.

وإذا فهمت هذا القدر وساعدت عليه وأنست لقوله عليه‌السلام : " إنّ الله خلق آدم على صورته" ، وفهمت أن معنى ذلك خلقه خلقة على شبه العالم ، فاعلم أن الإنسان عبارة عن حيوان ناطق مائت منتصب القامة ضحاك ، فهذا حد يتناول نفسه وجسمه لضرورة الفصل بينه وبين الأشخاص الحية وإلا فقولنا حيوان ناطق يتناول نفسه فقط. ثم هذا الحيوان الناطق أعني الإنسان تنقسم جملته في التقسيم الكلي إلى ثلاثة أشياء : نفس وروح وجسم.

فالجسم هو المؤتلف من المواد والعناصر الحاملة لروحه ونفسه وهو الشكل المنتصب ذو الوجه واليدين والرجلين الضاحك.

وأما الروح : فهو الجاري في العروق الضوارب والشرايين.

وأما النفس : فهو الجاري في العروق الضوارب والشرايين.

وأما النفس : فهو الجوهر القائم بنفسه الذي ليس هو في موضع ولا يحل شيئا ، وسنشبع الكلام عليه مقدار ما يحتمله الموضع فنتكلم على الجسم بمقدار ما يرشد إلى الغرض. ويكون معينا لما عسى أن نذكره من أمر النفس ، فنقول قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْطِينٍ) [المؤمنون : ١٢]. وقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩]. فأخبر تبارك وتعالى عن ثلاثة أمور جسمه وروحه ونفسه ، وحقيقة الروح الحرارة الغريزية المنبعثة في الأعصاب والعضلات وهي موجودة للبهيمة وبها حياتها ، والفصل بين الآدمي والبهيمة هي النفس التي أضافها الله تعالى إليه في قوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩]. فلو كانت للآدمي هذه النفس دون الروح المخلوقة للبهيمة لقصر عن أفعال البهيمة في الأكل والجماع والتصرف ، ولو أن البهيمة أعطيت النفس التي أعطيها الإنسان لكانت عاقلة مكلفة فخرج من الجملة أن للإنسان روحا ونفسا وجسما ، وللبهيمة جسما وروحا لا غير ، فأما آدم عليه‌السلام ، فمخلوق من التراب والماء والهواء والنار ، وقد قال تعالى ذلك في قوله سبحانه : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ). وفي قوله سبحانه : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠]. وأما النار فقوله تعالى : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤]. فأول الدرجات التّراب ، فإذا مسه الماء قيل له طين فإذا مرت عليه دهور بكرور الشمس واكتسب منها يبسا وجفافا قيل له صلصال كالفخار لنشوفته ،

٥٢

ومعلوم ببرهان العقل أن مؤدي حر الشمس إليه هو الهواء ، فصح بالبرهان الشرعي والعقلي كون آدم عليه‌السلام على الصورة التي تقدمت ليجعل الله تعالى تدريج بنيه من نطفة خرجت منه يتلقفها الإناث إلى انقطاعها وتمام القوى ، وذلك حين الساعة وتمام الخلق. فأول الإنسان نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم تنبت فيه العظام ، وتكسى لحما ، فالنطفة الخارجة من الإنسان مسلولة كقشر الحبة من الحبة لكنها مياعة وكالنواة فإن النخلة السحوق فيها ولكن مدمجة ، ولكن من شاهد عقد الثمار تيقن هذا ، فإن الرمانة مثلا تخرج في أصغر ما يمكن غير أنك ترى الشكل مصغرا ثم تقويها الطبائع من خارج بما يجانسها فتصرف تلك الأشكال الكاملة إلى انتهائها وما فيها.

ومن أرسل النطفة وأبصر السقط تحقق ذلك فإنك ترى أشكاله كخطوط مكتوبة ، وحدقتاه كحبات شونيز ووضوح ذلك لا يحوج إلى مزيد تأمل ، فالنطفة مسلولة مائعة بالطبع لما انسلت عنه بذوبان فطري جبلي لا حيلة فيه ، ولذلك يشبه الولد أباه في خلقه وخلقه.

فإن قيل : الأغذية تستحيل دما في الكبد ، ثم تستحيل منيا وكانت قبل ذلك نباتات انفعلت عن الطبائع الأربع ، فلزم أن يكون غير الأب إذا انفعلت عن غيره.

قلنا : الأمر كذلك ولكن الاعتبار بحين انفصالها عن الأب ، فحين انفصالها تنبعث من عروقه وعصبه وكبده بحركة ما ، فتكتسب حينئذ طبعه. وهذا الأمر متسلسل إلى آدم عليه‌السلام وعنده يقف الأمر فإن جسمه ونفسه ليسا مأخوذين عن آدم آخر فإن ذلك محال. وفيه إثبات أشخاص لا أول لها وهو محال. فإن الشخص بالضرورة ذو أولية وهو تحت النوع وإذا ثبت هذا فاعلم أن الصور الإنسانية تنقسم إلى أربعة أرباع.

الأول : الرأس. والثاني : اليدان. والثالث : البدن. والرابع : الرجلان.

ثم عظامه منقسمة إلى مائتي وثمانية وأربعين عظما. ففي الرأس : اثنان وأربعون عظما ، وفي الربع الثاني : اثنان وثمانون عظما. وفي الثالث : أربعون عظما. وفي الرابع : أربع وثمانون عظما ، ثم خلق الله سبحانه لهذه العظام رباطات تمسكها ، فعدّة عروق شكل الإنسان ثلاثمائة وستون عرقا. وبهذه العروق تكون الحركة والقبض والبسط.

فرأس هذه العروق في الفؤاد ، وهو العرق المسمى بالنياط والأبهر ومنزلته مع القلب بمنزلة الحاجب للملك يتلقف أمره ثم يخرجه إلى الخدمة ، ثم هذه العروق متصلة بالمعدة تمتص منها قوة الطعام والشراب الذي يدخلها ثم تقسمه بين الكبد ، والمرارة ، والطحال ، والرئة ، وخلق الأبهر مستبطن الصلب ، وهو آخذ من مجمع الكاهل ، إلى مجمع الوركين ، إلى مجمع الحالبين ، إلى مجمع الصدر بين الترقوتين وهو نهر الجسد الأعظم وهو مقسوم لأربعة عروق لأجزاء الجسد الأربعة ، لكل جزء منها عرق ، فللرأس منها عرق يتفرق إلى ستين عرقا ولليدين والرجلين عرق يتفرق إلى مائتي عرق.

والجزء الأول من النهر الأول : وهي أربعة أنهار يتفرق منه عرقان من مجمع الكاهل يسقيان

٥٣

العنق ، ويتفرق من مجمع الصدر بين الترقوتين عرقان يصعدان إلى العنق وهما الوريدان ، ثم ينفرق من كل واحد عرقان ، ثم جميع هذه العروق ينبعث فيها الغذاء إلى كل عضو ، من الرأس ، من الشفتين وغيرهما.

وأما عروق البدن من الربع الثاني : وهو أحد الأنهار الأربعة من الأنهر الأعظم يتفرق منه عرقان لكل يد عرق من مجمع الصدر من الترقوتين إلى ما بين المنكبين وهما الأكحلان ، ثم ينشعب من كل واحد منهما أربعة عروق سواهما فتسقي العضدين وأجزاءهما ، فذلك عشرة عروق لكل يد خمسة عروق ثم يتفرق من كل واحد من العشرة أربعة تسقي الساعدين ، فذلك خمسون عرقا لكل ساعد منها خمسة وعشرون ، ثم يتفرق من كل واحد من الخمسين عرقا عروق أخرى فتسقي الكفين والأصابع.

وأما الجزء الثالث : فالبطن يفترق منه عرقان من مجمع الحالبين إلى اليدين. يفترق من كل واحد منهما تسعة وعشرون عرقا سواهما يدفع إلى كل جزء حصته من الغذاء : للأضلاع أربعة وثلاثون ، ولسائر أجزاء البطن ستة وعشرون : للعصعص عرقان ، وأربعة للمذاكير ، واثنان للكليتين ، واثنان للمثانة ، واثنان يسقيان المعدة ، واثنان للكبد ، واثنان للطحال ، واثنان للفؤاد ، واثنان للمرارة واثنان للرئة ، واثنان للثديين ، وثلاثون للأضلاع ، لكل ضلع عرقان.

وأما الجزء الرابع : وهما الرجلان. ففيهما الوتين عرق يفترق منه عرقان ، وهما النسيان. وهما للفخذين لكل فخذ عرق من مجمع الوركين يسقيان الفخذين وأجزاءهما ويفترق من كل واحد منها أربعة عروق ، ثم يفترق من الأربعة خمسون عرقا تنتكس في الساقين لكل ساق خمسة وعشرون عرقا ، فقد صار جملة الإنسان جملة مناسبة للعوالم وجزئياتها ، فهو مشبه للعالم الأعلى بنفسه ومشبه للعناصر بما فيه من ماء وهواء ونار وتراب. ويضاهي الجواهر الأرضية. أما الحيوانية ، فبروحه الحيواني. وأما النباتية ، النامية فبما ذكرناه من عروقه ونموه وتغذيه. وأما الجمادية فبعظامه فهذه المشابهة الكلية.

ثم تعرض أجزاءه على كل جزء من العالم فتجده يضاهيه ، وشرح ذلك مما يطول ولو استوفينا فيه الأعمار الطويلة وآباد السنين لما نفد. وعليك أن تمتحن ذلك بكل ما تشاهده ، وتبحث فتجد في عالم جسمك مثل ذلك بل فيه ما يضاهي قوى الحيوان كجرأة الأسد ، وخبث الثعلب ، وطيش القرد وصلابة الخنزير وهكذا.

ثم الغذاء إذا استقر في المعدة طبخته الكبد ، وهي حارة رطبة لاصقة في المعدة من الجانب الأيمن ، يمتص منها من صفو الغذاء وكل حار رطب لمشاكلتها له فتصفيه بجوهرها ، وفيها أنابيب كالمصفى فتجذبه العروق وتنقله ويسير فيها حسب ما قدمناه. وأما المرارة فهي معدة الخلط الذي يقال له المرارة الصفراء وهي حارة يابسة لاصقة بالمعدة من الجانب الأيمن مما يلي الكبد ، يمتص منها من صفو الغذاء كل حار يابس للمشاكلة فتصفيه بجوهرها. ثم

٥٤

تحتلبه العروق كما ذكرناه. والخلط الثالث المرة السوداء ومعدته الطحال. وهو بارد يابس لاصق بالمعدة من الجانب الأيسر فيمص من الغذاء كل مشاكل له. والرابع البلغم وهو بارد رطب وله الرئة تمتص من الغذاء ما يشاكلها. والحلقوم رأس الرئة على طبيعة الطحال وهو معد للنفس وهو الحنجرة. ورأس الحلقوم مغطاة بطبق واللهاة مدلاة عليه ، والقلب في الجانب الأيسر تحت الثدي الأيسر. والرحم في الجانب الأيمن لاصق بعروق الفؤاد. وهو معدن الشهوة ، والمعدة معتدلة المزاج وهي كالقدر وتلك الأوعية كلها لها كالأثافي. ولها فمان : مدخل وهو مسلك المريء إلى الفم. والفم الثاني يخرج منه الأثقال وتخدم المعدة. وللصرة أربع قوى : إحداها جاذبة ، والثانية ممسكة ، والثالثة هاضمة ، والرابعة دافعة.

فالجاذبة : حارة رطبة تقوي الدم وتجر الطعام والشراب من الفم إلى المعدة. وكل ما شاكلها تصيره دما وهي منحدرة أسفل المعدة إلى أسفل البطن فتخرج غير متغيرة الشم تشاكل ريح الجنوب.

وأما الممسكة : فباردة يابسة تقوي المرة السوداء وتمسك الطعام والشراب في المعدة ، ولا سبيل للمعدة أن تمسك شيئا دونها وتخرج متغيرة الشم تضاهي ريح الشمال وهما على مضادة الجاذبة فبذلك يعتدلان.

وأما الهاضمة : فتقوي المرة الصفراء ، وتهضم الطعام بالحر ، ويعينها الكبد فيصعد من المعدة إلى الفم غير متغير الشم وهي حارة يابسة كريح الدبور.

وأما الدافعة : فباردة رطبة تقوي البلغم. وقد توقع الطعام والشراب من المعدة إلى الأمعاء إلى الاعفاج إلى الأرض بذلك وكلت ، وهي باردة رطبة معادلة للريح الهاضمة. وصلاح الأمزجة وفسادها تابع لهذه الأمور. والعلم الطبيعي معد لإصلاحها هو فائدته وغرضه ، والنفس تكتسب بالمجاورة من هذه الطبائع ملكة عند غلبتها كالطيش والحدة عند غلبة الصفراء ، والهم والغم وقلة النشاط عند غلبة السوداء إلى غير ذلك كما يكتسبه الرفيق من رفيقه. ومتى كانت هذه الطبائع جارية على اعتدال كانت النفس أجرى إلى السلامة ، وجميع هذا كله بتقدير الله تعالى وتدبيره لا إله إلا هو. فمتى تأمل هذا النضد المحكم والترتيب المنظم ومعادلة بعض القوى لبعض وكيف خلقت اليد للبطش ، واللسان للكلام ، والحدقة للرؤية ، وكيف خلقت على شكل ملائم للنور فجعلت جامدا في أغشية لطيفة مكفنة بالأشفار وجعل للأشفار أهداب تقيها الغبرات والنور الكثيف أن يغشيها علم أن ذلك دال على أن لهذا الصنع العجيب والأمر الغريب مدبرا دبره وعليما أتقنه.

وهذا لا يخفى على ذي بصيرة فإنا قد وجدنا هذا الشكل الإنساني على أتم الحكمة التي تقتضيها العقول فلا تخلو هذه الصنعة العجيبة ، إما أن يكون صنعت نفسها أو صنعها جماد أو صنعها مخلوق حي أو صنعها بارئها وهو الله تعالى. وبطل أن تصنع نفسها لأن وجود الفاعل يجب أن يتقدم على المفعول. وبطل أن يكون الشيء مفعولا من حيث هو فاعل أو فاعلا من حيث هو مفعول. وبطل أن

٥٥

يصدر عن جماد. فإن الجماد لا يوصف بالفاعل. وبطل أن يصدر عن مخلوق حي طبيعة أو غيرها ، فإنا نقول : الطبيعة ما معناها فلا تخلو أن تكون جمادا أو حيا. فإن كان جمادا كان القول فيه ما تقدم ، وإن كان حيا قلنا هذا الحي لا يخلو أن يكون له فاعل أو لا فاعل له.

فإن قيل : له فاعل آخر فالطبيعة كآدم في افتقارها إلى محدث. وإن كانت الطبيعة حية لا فاعل لها ولا علة فهي الإله فأسقطوا لفظ الطبيعة وقولوا إله. فهو الذي نريد بيانه ، فإن حوادث لا أولية لها محال إلا إذا قلنا فعلت الطبيعة طبيعة فذلك منتف فلا بدّ من استناد الحوادث إلى مبدأ لا علة له وليس بمعلول أصلا. وهذا يبطل اعتقاد من يقول آدم من آدم آخر.

قلنا : نتبعه فيلزمه التسلسل وهو محال فصح أن الشكل الإنساني تنتهض منه الدلالة على بارئه ومصوره مع ما فيه من العجائب الدالة على العالم فليس في العالم أمر غريب مشكل إلا وفيه مفتاح علمه. فالله تبارك وتعالى خلقه على مضاهاة العالم ، فهو نسخة مختصرة منه. ومن تأمل أحوال الأنبياء ومعجزاتهم وكرامات الأولياء وما جعل الله سبحانه في قوى النفس بل يشاهده كل أحد من نفسه في المنامات التي تعلم بمغيبات الأمور وعاقبتها ، وما يبصره الانسان في النوم من السماء والأرض والبحار وسعتها. وهو لا يتسع بمقدار ما يبصره كما أنه يبصر السماء على سعتها بعين وهي في دور الدرهم. وهذا من الأمر العجيب علم أن لهذه العجائب مدبرا دبرها وصانعا أتقنها ، وعجائب الإنسان لا تحصى بل فيه من الخواص عجائب مما يستعمله الأطباء منه. فسبحان الفاطر العليم.

المعراج الثاني

ولما فرغنا في المعراج الأول من معاملة أصحابه بالسهل من الحكمة والقريب الظاهر من الدلالة التي لا يخفى نورها ولا يتلعثم فيها إلا من جعل له الرأي المعكوس والمثل المنكوس : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣]. فلنرتق إلى المعراج الثاني : وهذا المعراج لطبقتين : للمحققين الأذكياء والمتحذقين الأتقياء. وهو لتقرير النفس وهل هي باقية أم لا؟ وهذا المعراج كالقطب لسائر العلوم وله يجتهد المجتهدون ويعمل العاملون ولا فائدة أعظم منه ، فإن نبوة الأنبياء والثواب والعقاب والجنة والنار وسائر أنباء الدنيا والآخرة المأخوذة عن الرسل لا تثبت متى أبطلت هذه المسألة ، فإن النفس إذا لم يكن لها بقاء فجميع ما أخبرنا به وأطمعنا فيه فباطل وبحسب ما نثق به من هذه المسألة نجتهد. وبحسب ما يغيب عنا ننظر ، وبهذه المسألة كفرت الزنادقة فإنهم اعتقدوا أن حقيقة الإنسان مزاج معتدل كالنبات متى اعتدلت قواه بقي ، ومتى غلب عليه حر أو برد فسد ودثر. ثم لا ترتجى بعد ذلك موتا ولا حياة ولا نشورا ، فاستخفوا لذلك بالخلق واستهانوا بالأنبياء كقول أمية بن خلف لأحد الصحابة : لأوتين مالا وولدا. وذلك لأنه استخف وقال أنتم تزعمون أنكم أصحاب أموال في الآخرة وسيكون لي هناك مال وسأقضيك منه.

وعلى هذا المعراج يدور الناس فهو أس العلوم وإذا اضمحل فلا ثابت ، ولذلك لم تبينه الرسل والله أعلم ، لأن كلام غيرهم بين أن يقبل أو يرد أو يصدق أو يكذب ، وكلام الرسل

٥٦

عليهم‌السلام ليس كذلك ، فإن المسألة في نهاية الغموض والأذهان أكثرها ضعيفة فربما لم تفهم مقاصدهم فتعترض من قولهم على قولهم فلم يوردوا فيها إلا إشارات ورموزا. وفي القرآن العزيز : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال تعالى في عيسى عليه‌السلام : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أرواح الشّهداء في حواصل طيور خضر". وهذه كلها ظاهرة عند العلماء مكشوفة وعند غيرهم غير معقولة ، وقد اختلف الناس فيها على مر السنين والأيام ، فزعم أفلاطون أن النفس والروح واحدة وهي النفس الكلية وأنها مع الأبدان كالشمس مع الأرض تنثر شعاعها على المواضع فيأخذ كل موضع نصيبه على قدره ، وزعم أنها تألف الجسم بضرب من المناسبة بالطبع فإذا حصلت فيه ألفته وشغفت به ولا تزال فيه وليس هي عنده حالة في الأجسام ، وإنما هي كالمغناطيس مع الحديد في الملازمة والانفعال ومناسبة الطبيعة. وليس أحدهما حالا في الثاني لكن ينفعل له بضرب من واسطة خفية هي الطبع ولا تزال فيه إلى أن يفسد البدن ، كما أن الحديد يخلق مع طول المدة فلا يقبل تجاذب المغناطيس.

وزعم آخرون أن النفس عرض وأن حقيقة الحياة معنى يكون عند اعتدال المزاج ، فإذا مات الإنسان فنيت روحه وهؤلاء ذاهبون إلى أن النفس محدثة ، وزعم أفلاطون أنها قديمة ، وذهبت فرقة ثالثة إلى أنها محدثة عند حدوث البدن وهي مع ذلك لا تفنى. ومن حقق من الفلاسفة على هذا المذهب والأكثر على مذهب أفلاطون. وسنكشف إن شاء الله تعالى غائلة مذهبهم في المعراج الثالث : حدوث العالم الأعلى. فلنرسم هاهنا ثلاثة فصول :

الفصل الأول : في قوى النفس وعلة تحرك البدن بها.

الفصل الثاني : في كون النفس جوهرا غير متحيز قائما بنفسه مستغنيا عن المحل.

الفصل الثالث : في أن النفس لا تعدم وأنها باقية.

الفصل الأول في قوى النفس وعلة تحرك البدن بها

ربما اعتقد من لا تحقيق لديه أن الشرع يزجر عن التعرض لهذا القدر في تصحيح أو إبطال وليس في الشرع دليل يدل على ذلك وقوله سبحانه : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). جواب مقنع إذا فهم الأمر بما هو عليه ولو أراد تعالى الزجر لذكر الحكم عليه وقد كشفنا عن القوى الجسمانية وهذا الجسم يجري من النفس مجرى الثوب من الجسم ، فإن الجسم يحرك الثوب بواسطة أعضائه ، والنفس تحرك البدن بواسطة قوى خفية ومناسبة. وقوى النفس تظهر في مواضع من البدن ، وربما بلغت عشرا نذكرها والنفس في ذاتها واحدة وإنما ترجع التسمية إلى الآلة كقولنا سمع وبصر وشم وذوق ولمس. والنفس هي الذائقة الشامة المدركة ، فهذه خمس قوى ظاهرة ، والدليل على أن النفس هي المدركة دون هذه الأعضاء أن العروق متى حدث بها سدد تمنع اتصال النفس

٥٧

بها بطلت كالحذر والموت وهذا مشاهد لا يفتقر إلى دليل. والقوى تنقسم إلى قسمين إلى محركة وإلى مدركة ، والمدركة قسمان : ظاهرة وباطنة ، فالظاهرة ما ذكرناه والباطنة ثلاث :

أحدها : الخيالية والوهمية والفكرية ، فالخيالية في مقدم الدماغ وراء القوة المبصرة خاصيتها بقاء صور الأشياء المرئية فيها بعد تغميض العين وانقطاع ما يدركه الحواس ويسمى الحس المشترك.

الثانية : الوهمية وهي التي تدرك المعاني ، فالأولى مختصة بقوى المعاني وصورها وموادها. وهذه تحفظ المعاني دون صورها وموادها إذ تدرك الشاة عداوة الذئب مجردة فتنفر عنه. والسخلة تدرك حنان الأم فتألفها ومحلها التجويف الأخير من الدماغ.

الثالثة : القوة المفكرة وشأنها أن تركب الصور بعضها مع بعض. وهي في التجويف الأوسط بين حافظ الصور وحافظ المعاني فهي حائكة وهي المرادة برمز القائل :

رجلان خياط وآخر حائك

متقابلان على السماك الأعزل

ما زال ينسج ذاك خرقة مدبر

ويخيط صاحبه ثياب المقبل

ومواضع هذه القوى مبرهنة بصناعة الطب ، فإن الآفات متى نزلت بهذه المواضع عدمت هذه المدركات ، وزعموا أن القوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات تحفظ تلك الصور فتبقى فيها بعد قبولها بحسب الحواس الخمس إذا تكرر ذلك عليها والشيء يحفظ الشيء بغير القوة التي بها يقبل إذ الماء يقبل الانطباع ولا يحفظ بخلاف الشمع فإنه يقبل بالرطوبة ويحفظ باليبس والحافظة تصون المتخيلة كما أن القوى الذاكرة تصون الحافظة. والقوى المحركة إما باعثة على الحركة. وإما مباشرة للحركة. فالباعثة هي القوة النزوعية الشوقية ومتى رأت أمرا يترغب فيه أو يترهب منه بعثت القوة المحركة المباشرة على الفعل ، فتنبعث في الأعصاب والعضلات والرباطات من القلب. إما ببسط عن جهة المبدأ وإما بقبض إليه إذ هي إذا فرحت نشرت الدماء في العروق فكان الفرح. وإذا حزنت انجذبت فانجذب الروح الحيواني إلى القلب فاغتم وحزن. ثم من شأن النفس إدراك المعلومات المغيبة. ولها قوتان إما عملية وإما علمية. فالعملية قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الصناعات الإنسانية. وأما العلمية فهي المدركة لحقائق العلوم مجردة عن المادة والصورة. وهي القضايا الكلية المجردة وهي للعقل وبهذه القوة تتلقف عن الملائكة العلوم. وبالقوة الثانية تصلح ما وكلت به من الأمور الجسمانية. وهذه الأمور كلها محسوسة يستند برهانها إلى الحس فلا نطول بتمهيده كما أن ما ذكرناه من الجسمانية أكثرها محسوس وما غاب فقلدنا فيه المعتنين بالتشريح على أنه أكثر ما يوصف. وإذا فهمت الجسم والقوى الحيوانية وأن النفس هي المحركة الباعثة وأن قواها باعتبار الإضافة إلى المواضع كان كالثوب الواحد يسمى موضع منه كما وموضع منه طوقا وموضع منه جيبا. وقد قدمنا أن لها قوتين عملية وعلمية. وأن العلمية مستعدة لقبول العلوم إلى ما لا يتناهى بالقوة وأن الجسم منفعل للقوى المحركة والمحركة العملية تحت هذه العلمية الشوقية النزوعية. ومنها مبدأ الفعل إلى أن يبرز ويظهر.

٥٨

فإن قيل : فلم لا ترى النفس فإن في رؤيتها ما يدل على صحة وجودها وهلا تخيلناها.

قلنا : فهاتان مسألتان أحدهما لم لا ترى ، والثانية لم لا تتخيل. فالجواب عن أحدهما وهي لم لا ترى بثلاثة أجوبة :

أحدها : أن كل موجود ليس من شرطه أن يرى. إذ صحة وجود الموجود لا تستدعي أن يكون مرئيا فإن الأحوال اللازمة للشيء إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون عرضية ، والموجود من الأحوال اللازمة ذاتي وكونه مرئيا عرضي له إذ يثبت وجود الموجود مع عدم من يراه ، ومع ذلك يثبت الموجود ولا يبطل وجود عدم الرائي له. والدليل على ذلك وجود البارئ سبحانه وتعالى في الأزل لا إلى نهاية ولم ير حتى الآن وذلك لا يبطل وجوده. نعم يستدعي الوجود أن يثبت له ما يصحح وجوده والشيء قد يستدل عليه إما بقضايا عقلية وإما بأثر يثبت للحس فيقضي عليه. وقد شاهدنا آثار النفس ووجود أنفسنا بالضرورة ، وعلمنا أن في أجسامنا معنى يزيد عليها بالضرورة إذ يبقى الجسم ولا روح له ويكون الجنين تاما في الشهر الرابع ولا روح له.

الجواب الثاني : أن المرئي يجب أن يكون من الرائي في جهة وعلى مسافة ويكون قابلا للألوان إذ هي العلة في إظهار المبصرات. وإننا قلنا إن النفس لا تقبل الألوان إذ اللون مركب من أمور تجتمع.

الجواب الثالث : أن المرئي لا بدّ أن يكون في حيز ، وسنقيم الدليل على أن القوة العقلية لا حيز لها.

الفصل الثاني في كون النفس جوهرا

النفس جوهر قائم بنفسه ولا بدّ من كشف هذه العبارة. فنقول : النفس تطلق على جهات فيقال للقوة الغازية نفس وكذلك المنمية وكذلك النباتية. وهذه أنفس وليست المراد في هذا الغرض. فأول النفوس النباتية ثم الغازية ثم النامية ثم الحيوانية. وهذه أول مراتب خروج فعل النفس من القوة إلى الفعل ، فالنفوس الحيوانية هي كمال جسم طبيعي بها يحس ويتحرك ، والبهيمة والإنسان يشتركان في هذه النفس ، وهذه النفس ، هي حرارة مودعة في النطفة ، ودم الطمث المجتمع في الرحم لها كالقالب ، فإذا أسقط المني على بقية دم يجتمع في الرحم انتشر عليه كالنتق في اللبن وعقده بحره فسخن وامتد بالحر من خارج وتزايدت الحرارة الغريزية. فأول ما يتكون القلب ثم تنتشر من العروق والعصب وينتقش ذلك الجزء فيه إلى أن تكمل أعضاء الجنين ، ومن يوم تسقط النطفة في الرحم إلى يوم خروجها مقدار ما تقطع الشمس ثلاثة أرباع الفلك. والنطفة تستمد الحر من جهة الأم والأم من الأغذية ، فإذا دخلت في الشهر التاسع صارت كالمفتول الخشن المشرب بالزيت الصافي في شدة الملاءمة والتأتي للاشتعال. وهذا مثل بل الأمر أغمض وأدق.

فالنفس الحيوانية لباب الغذاء والنباتات والعناصر ، فإذا بلغت هذه الرتبة استحقت من الجود الإلهي نفسا. فحينئذ يوجد الرب تعالى قوة من عالم الأمر كما قال تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]. وقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩]. والعالم من محدب الفلك التاسع من الصفحة التي تلي جهة

٥٩

فوق والتي تلي أقدامنا إلينا مملوءة جنودا وملائكة : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١]. وقد تبرهن في العلم الطبيعي أنه لا يجوز أن يكون عالم خارج الكرة التاسعة ، وأن لا خلاء البتة وأن كل موجود للبارئ تعالى فهو داخل في جوف هذه الكرة. فأما الأجسام فهي تستحيل عن العناصر الأربعة فكل ما تحت مقعر فلك القمر مستحيل متغير ، والعناصر يستحيل بعضها إلى بعض وما عدا ذلك فهو جواهر من حوادث أخر ، والنفس من جنس تلك الجواهر لا من العناصر فهي روحانية محضة وهي نفس صغيرة موازية لنفس العالم الكبير.

وقد تكرر منا أن الإنسان موجود على مضاهاة العالم ، فالنفس جوهر روحاني لطيف ولا يجب أن ينكر المنكر ذلك وهو يشاهد شعاع الشمس وروحانيته وبساطته ، حتى أن قرصها يكون بالمغرب وشعاعها بالمشرق فما هو إلا أن تغيب خلف جبل فينقطع الشعاع الذي بالمشرق يلازمان. ولو كان جسما لما انقطع ذلك آحاد السنين ، وكذلك إذا أخذت مرآة وعكست بها الشعاع انعكس ذلك إلى حيث شئت ، ثم تقطعه عن موضع عكسته إليه لا في زمان ، وجوهر الشعاع بالإضافة إلى جوهر النفس كثيف فليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولذلك أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالستر في الخلوة وهو أن يجامع الرجل امرأته عريانين ، وقد قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨]. وقال تعالى في الإنسان : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦]. فالأرواح مشحون بها العالم. وإنما نبهنا على ذلك تنبيها أن للنفس شبه عنصر تكون منه يناسب لطاقتها فإذا تأتت الروح الحيوانية أوجد الله تعالى نفسا جوهرا لطيفا روحانيا عالما بالقوة في طبائعه أن يعلم الأمور ويقل بارئه ، فيتشبث بهذا الجسم ويشتغل به وينشأ معه حتى لا يعرف سواه ويشتد إلفه وحرصه عليه حكمة من الله تعالى فيحرك الأجسام. وذلك كمثل الحديد فإنه يكون جمادا لا يتحرك فإذا انضاف إليه أمر يقوي طبيعته وخاصيته قوي الأثر فيه ، ويأتي المحل لفعل النفس الكلية فحركت الحديد فجرى ودار وتراه كالحي فلا يزال على تلك الحال حتى ينخرم ذلك الفطام وتزول تلك الملائكة ، فلا تزال هذه النفس مع هذا الجسم وتمدها الملائكة من خارج بنطق على أنه لا يعرفه إلا العلماء ، وقد أخبر الشارع عليه‌السلام : أن الخير من الملائكة والشر من الشيطان فلا بدّ من أثر يحصل على الملائكة.

ولما كانت النفس روحانية قبلت عن الروحاني وتأثرت عنه. فلو لا العقول المعبر عنها بالملائكة الممدة للنفوس من خارج لما عقلت معقولا البتة فإن النفس عالمة بالقوة فقط والملائكة تخرج ما في القوة إلى الفعل حتى يصيرها عالمة بالفعل فأعلى طبقة في الاستمداد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم من يليهم. وذلك بحسب تهذيب النفس والعكوف على هذه الجنبة وهذا هو المعنى بقوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة : ١١٠]. وقال تعالى في الأولياء : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢]. الناس في الأخذ من الملك تفاوتا لا نهاية له ومن الناس من لا يأخذ شيئا وهم المرادون بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩ والفرقان : ٤٤]. وإنما أوجد الله سبحانه النفس لامتحان الآدمي ، ولو

٦٠