مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

أيها الولد : بعض مسائلك من هذا القبيل ، وأما البعض الذي يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في إحياء العلوم وغيره. وتذكر هاهنا نبدأ منه ونشير إليه فنقول : قد وجب على السالك أربعة أمور :

الأمر الأوّل : اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة.

والثاني : توبة نصوح لا يرجع بعدها إلى الزلّة.

والثالث : استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حقّ.

والرابع : تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى. ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة. حكي أن الشبلي رحمه‌الله خدم أربعمائة أستاذ ، وقال : قرأت أربعة آلاف حديث ، ثم اخترت منها حديثا واحدا وعملت به وخليت ما سواه لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه. وكان علم الأولين والآخرين كله مندرجا فيه فاكتفيت به ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبعض أصحابه : " اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للنار بقدر صبرك عليها".

أيها الولد : إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثير ، وتأمّل في حكاية أخرى : وذلك أن حاتما الأصمّ كان من أصحاب الشقيق البلخي رحمة الله تعالى عليهما ، فسأله يوما قال : صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصلت فيها؟ قال : حصلت ثماني فوائد من العلم وهي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها ، فقال شقيق : ما هي! قال حاتم الأصمّ :

الفائدة الأولى : إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ومعشوقا يحبه ويعشقه وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه إلى شفير القبر ، ثم يرجع كله ويتركه فريدا وحيدا ولا يدخل معه في قبره منهم أحد ، فتفكرت وقلت : أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره ويؤانسه فيه فما وجدت غير الأعمال الصالحة فأخذتها محبوبا لي لتكون سراجا لي في قبري ، وتؤانسني فيه ولا تتركني فريدا.

الفائدة الثانية : إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم ويبادرون إلى مرادات أنفسهم فتأمّلت قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠ و ٤١]. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمرت بمجاهدتها وما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالى وانقادت.

الفائدة الثالثة : إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكها قابضا يده عليه ، فتأمّلت في قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦]. فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ، ففرّقته بين المساكين ليكون ذخرا لي عند الله تعالى.

الفائدة الرابعة : إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فاغترّ بهم ، وزعم آخر أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها ، وحسب بعضهم الشرف

٢٦١

والعزّ في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم ، واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه وتبذيره ، وتأمّلت في قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]. فاخترت التقوى واعتقدت أن القرآن حقّ صادق وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل.

الفائدة الخامسة : إني رأيت الناس يذمّ بعضهم بعضا ويغتاب بعضهم بعضا ، فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم ، فتأمّلت في قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف : ٣٢]. فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى في الأزل فما حسدت أحدا ورضيت بقسمة الله تعالى.

الفائدة السادسة : إني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضا لغرض وسبب فتأمّلت قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦]. فعلمت أنه لا يجوز عداوة آخر غير الشيطان.

والفائدة السابعة : إني رأيت كل أحد يسعى بجد ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش بحيث يقع به في شبهة وحرام ، ويذل نفسه ، وينقص قدره ، فتأمّلت في قوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦]. فعلمت أن رزقي على الله تعالى ، وقد ضمنه فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه.

الفائدة الثامنة : إني رأيت كل واحد معتمدا على شيء مخلوق بعضهم إلى الدينار والدرهم ، وبعضهم إلى المال والملك ، وبعضهم إلى الحرفة والصناعة ، وبعضهم إلى مخلوق مثله ، فتأمّلت في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق: ٣]. فتوكّلت على الله تعالى فهو حسبي ونعم الوكيل ، فقال شقيق : وفقك الله تعالى إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثمانية ، فمن عمل بها كان عاملا بهذه الكتب الأربعة.

أيها الولد : قد علمت من هاتين الحكايتين أنك لا تحتاج إلى تكثير العلم ، والآن أبيّن ما يجب على سالك سبيل الحق.

فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مربي ليخرج الأخلاق السيّئة منه بتربيته ويجعل مكانها خلقا حسنا. ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه ، ولا بدّ للسالك من شيخ يؤديه ويرشده إلى سبيل الله تعالى ، لأن الله أرسل للعباد رسولا للإرشاد إلى سبيله ، فإذا ارتحل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد خلف الخلفاء في مكانه حتى يرشدوا إلى الله تعالى ، وشرط الشيخ الذي يصلح أن يكون نائبا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وأن يكون عالما ، ولكن لا كل عالم يصلح للخلافة ، وإني أبيّن لك بعض علامته على سبيل الإجمال حتى لا يدّعي كل أحد أنه مرشد.

فنقول : من يعرض عن حبّ الدنيا وحبّ الجاه ، وكان قد تابع لشخص بصير يتسلسل متابعته إلى سيّد

٢٦٢

المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان محسنا رياضة نفسه من قلة الأكل والقول والنوم ، وكثرة الصلوات والصدقة والصوم ، وكان بمتابعته الشيخ البصير جاعلا محاسن الأخلاق له سيرة كالصبر والصلاة والشكر والتوكّل واليقين والقناعة وطمأنينة النفس والحلم والتواضع والعلم والصدق والحياء والوفاء والوقار والسكون والتأنّي وأمثالها ، فهو إذا نور من أنوار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلح للاقتداء به ، ولكن وجود مثله نادر أعزّ من الكبريت الأحمر ، ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا كما ذكرنا وقبله الشيخ ينبغي أن يحترمه ظاهرا وباطنا. أمّا احترام الظاهر فهو أن لا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه ، ولا يلقي بين يديه سجادته إلا وقت أداء الصلاة فإذا فرغ يرفعها ، ولا يكثر نوافل الصلاة بحضرته ، ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته. وأمّا احترام الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا فعلا ولا قولا لئلا يتّسم بالنفاق ، وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق باطنه ظاهره ، ويحترز عن مجالسة صاحب السوء ليقصر ولاية شياطين الجنّ والإنس من صحن قلبه فيصفى عن لوث الشيطنة ، وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى. ثم اعلم ، أن التصوّف له خصلتان : الاستقامة والسكون عن الخلق ، فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو صوفي. والاستقامة أن يفدي حظّ نفسه لنفسه ، وحسن الخلق مع الناس أن لا تحمل الناس على مراد نفسك بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع ، ثم إنك سألتني عن العبودية ، وهي ثلاثة أشياء أحدها : محافظة أمر الشرع ، وثانيها : الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى ، وثالثها : ترك رضاء نفسك في طلب رضاء الله تعالى ، وسألتني عن التوكّل هو أن تستحكم اعتقادك بالله تعالى فيما وعد يعني تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه عنك ، وما لم يكتب لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم. وسألتني عن الإخلاص ، وهو أن تكون أعمالك كلها لله تعالى ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس ولا تبالي بمذمتهم. واعلم ، أن الرياء يتولّد من تعظيم الخلق ، وعلاجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقّة لتخلص من مراءاتهم ، ومتى تحسبهم ذوي قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء.

أيها الولد : والباقي من مسائلك بعضها مسطور في مصنفاتي فاطلبه منه وكتابة بعضها حرام ، اعمل أنت بما تعمل ليكشف لك ما لم تعلم.

أيها الولد : بعد اليوم لا تسألني ما أشكل عليك إلا بلسان الجنان قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [الحجرات : ٥]. واقبل نصيحة الخضر عليه‌السلام حين قال : (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) [الكهف : ٧٠]. ولا تستعجل حتى تبلغ أو أنه يكشف لك وتراه : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء : ٣٧]. فلا تسألني قبل الوقت: وتيقن أنك لا تصل إلا بالسير لقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [الروم : ٩. غافر : ٢١].

أيها الولد : بالله إن تسر تر العجائب في كل منزل ، وابذل روحك فإن رأس هذا الأمر بذل الروح كما قال ذو النون المصري رحمه‌الله تعالى لأحد من تلامذته : إن قدرت على بذل الروح فتعال وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية.

٢٦٣

أيها الولد : إني أنصحك بثمانية أشياء اقبلها مني لئلا يكون علمك خصما عليك يوم القيامة ، تعمل منها أربعة ، وتدع منها أربعة أما اللواتي تدع :

أحدها : أن لا تناظر أحدا في مسألة ما استطعت لأن فيها آيات كثيرة فإثمها أكبر من نفعها ، إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها ، نعم لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو قوم وكانت إرادتك فيها أن تظهر الحق ولا يضيع جاز البحث لكن لتلك الإرادة علامتان : إحداهما : أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك ، والثانية : أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملأ ، واسمع إني أذكر لك هاهنا فائدة. واعلم أن السؤال عن المشكلات عرض مرض القلب إلى الطبيب والجواب له سعي لإصلاح مرضه. واعلم : أن الجاهلين المرضى قلوبهم والعلماء الأطباء والعالم الناقص لا يحسن المعالجة والعالم الكامل لا يعالج كل مريض بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلاح. وإذا كانت العلّة مزمنة أو عقيما لا تقبل العلاج فحذاقة الطبيب فيه أن يقول هذا لا يقبل العلاج فلا تشتغل فيه بمداواته لأن فيه تضييع العمر ، ثم اعلم ، أن مرض الجهل على أربعة أنواع :

أحدها : يقبل العلاج والباقي لا يقبل أما الذي لا يقبل" أحدها" من كان سؤاله واعتراضه عن حسده وبغضه فكلما تجيبه بأحسن الجواب وأفصحه وأوضحه فلا يزيد له ذلك إلا بغضا وعداوة وحسدا ، فالطريق أن لا تشغل بجوابه فقد قيل :

كلّ العداوة قد ترجى إزالتها

إلّا عداوة من عاداك عن حسد

فينبغي أن تعرض عنه وتتركه مع مرضه ، قال الله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) [النجم : ٢٩]. والحسود بكل ما يقول ويفعل أوقد النار في زرع علمه ، الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

والثاني : أن تكون علته من الحماقة وهو أيضا لا يقبل العلاج ، كما قال عيسى عليه‌السلام : إني ما عجزت عن إحياء الموتى وقد عجزت عن معالجة الأحمق ، وذلك رجل يشتغل بطلب العلم زمنا قليلا ويتعلم شيئا من العلم العقلي والشرعي فيسأل ويعترض من حماقته على العالم الكبير الذي مضى عمره في العلوم العقلية والشرعية ، وهذا الأحمق لم يعلم ويظن أن ما أشكل عليه هو أيضا مشكل للعالم الكبير ، فإذا لم يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة ، فينبغي أن لا يشتغل بجوابه.

والثالث : أن يكون مسترشدا وكل ما لا يفهم من كلام الأكابر يحمل على قصور فهمه وكان سؤاله للاستفادة لكن يكون بليدا لا يدرك الحقائق فلا ينبغي الاشتغال بجوابه أيضا ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : " نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم". وأما المرض الذي يقبل العلاج فهو أن يكون مسترشدا عاقلا فهما لا يكون مغلوب الحسد والغضب وحبّ

٢٦٤

الشهوة والجاه والمال ، ويكون طالب الطريق المستقيم ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد وتعنّت وامتحان ، وهذا يقبل العلاج فيجوز أن تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته.

والرابع : مما تدع وهو أن تحذر من أن تكون واعظا ومذكرا لأن فيه آفة كثيرة إلا أن تعمل بما تقول أولا ، ثم تعظ به الناس فتفكر فيما قيل لعيسى عليه‌السلام ، يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتّعظت فعظ الناس وإلا فاستحي من ربك وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز عن خصلتين :

الأولى : عن التكلّف في الكلام بالعبارات والإشارات والطامات والأبيات والأشعار لأن الله تعالى يبغض المتكلفين ، والمتكلّف المتجاوز عن الحدّ يدل على خراب الباطن وغفلة القلب ، ومعنى التذكير أن يذكر العبد نار الآخرة وتقصير نفسه في خدمة الخالق ، ويتفكر في عمره الماضي الذي أفناه فيما لا يعنيه ، ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم الإيمان في الخاتمة وكيفية حاله في قبض ملك الموت ، وهل يقدر على جواب منكر ونكير ، ويهتم بحاله في القيامة وموابقها ، وهل يعبر عن الصراط سالما أم يقع في الهاوية ، ويستمر ذكر هذه الأشياء في قلبه فيزعجه عن قراره ، فغليان هذه النيران وتوجه هذه المصائب يسمى تذكيرا وإعلامهم الخلق واطلاعهم على هذه الأشياء وتنبيههم على تقصيرهم وتفريطهم وتبصيرهم بعيوب أنفسهم التمس حرارة هذه النيران أهل المجلس وتجزعهم تلك المصائب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة ، ويتحسروا على الأيام الخالية في غير طاعة الله تعالى ، هذه الجملة على هذا الطريق يسمى وعظا كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد وكان هو وأهله فيها فتقول : الحذر الحذر ، فرّوا من السيل وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خبرك بتكليف العبارات والنكت والإشارات فلا تشتهي البتة فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها.

والخصلة الثانية : أن لا تكون همتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد ويشقوا الثياب ليقال نعم المجلس هذا ، لأن كله ميل للدنيا وهو يتولّد من الغفلة ، بل ينبغي أن يكون عزمك وهمتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الآخرة ، ومن المعصية إلى الطاعة ومن الحرص إلى الزهد ، ومن البخل إلى السخاء ، ومن الغرور إلى التقوى وتحبب إليهم الآخرة وتبغض إليهم الدنيا ، وتعلمهم علم العبادة والزهد لأن الغالب في طباعهم الزيغ عن منهج الشرع والسعي فيما لا يرضى الله تعالى به ، والاستعثار بالأخلاق الردية فألق في قلوبهم الرعب وروعهم وحذرهم عما يستقبلون من المخاوف ، ولعل صفات باطنهم تتغير ومعاملة ظاهرهم تتبدل ، وينظروا الحرص والرغبة في الطاعة ، والرجوع عن المعصية ، وهذا طريق الوعظ والنصيحة ، وكل وعظ لا يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع ، بل قيل إنه غول وشيطان يذهب بالخلق عن طريق ويهلكهم. فيجب عليهم أن يفروا منه لأن ما يفيد هذا القائل من دينهم لا يستطيع يمله الشيطان ، ومن كانت له يد وقدرة يجب عليه أن ينزله عن منابر المواعظ ويمنعه عما باشر ، فإنه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٦٥

والثالث : مما تدع أنه لا تخالط الأمراء والسلاطين ، ولا تراهم لأن رؤيتهم ومجالسهم ومخالطتهم آفة عظيمة ، ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم ، ومن دعا بطول بقائهم فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه.

والرابع : مما تدع أن لا تقبل شيئا من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلال لأن الطمع منهم يفسد الدين لأنه يتولد منه المداهنة ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ، وهذا كله فساد في الدين وأقلّ مضرته أنك إذا قبلت عطاياهم وانتفعت من دنياهم أحببته ومن أحب أحدا يحب طول عمره وبقائه بالضرورة ، وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظالم على عباد الله تعالى وإرادة خراب العالم ، فأي شيء يكون أضر من هذا الدين والعاقبة ، وإياك وإياك أن يخدعك استهواء الشياطين أو قال بعض الناس لك بأن الأفضل والأولى أن تأخذ الدينار والدرهم منهم وتفرقها بين الفقراء والمساكين ، فإنهم ينفقون في الفسق والمعصية ، وإنفاقك على ضعفاء الناس خير من إنفاقهم ، فإن اللعين قد قطع أعناق كثيرة من الناس بهذه الوسوسة. وقد ذكرناه في إحياء العلوم فاطلبه ثمة.

وأما الأربعة التي ينبغي لك أن تفعلها :

الأول : أن تجعل معاملتك مع الله تعالى بحيث لو عامل معك بها عبدك ترضى بها منه ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب ، والذي لا ترضى لنفسك من عبدك المجازي فلا ترضى أيضا لله تعالى وهو سيّدك الحقيقي.

والثاني : كلما عملت بالناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم لأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لسائر الناس ما يحبّ لنفسه.

والثالث : إذا قرأت العلم أو طالعته ينبغي أن يكون علمك يصلح قلبك ويزكّي نفسك ، كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع ، فبالضرورة لا تشتغل فيها بعلم الفقه والأخلاق والأصول والكلام وأمثالها لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تغنيك ، بل تشتغل بمراقبة القلب ومعرفة صفات النفس ، والإعراض عن علائق الدنيا ، وتزكّي نفسك عن الأخلاق الذميمة وتشتغل بمحبة الله تعالى وعبادته ، والاتّصاف بالأوصاف الحسنة. ولا يمر على عبد يوم وليلة إلا ويمكن أن يكون موته فيه.

أيها الولد : اسمع مني كلاما آخر وتفكر فيه حتى تجد خلاصا لو أنك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يختارك وزيرا. اعلم أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن والدار والفراش وغيرها ، والآن تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم والكلام الفرد يكفي ، أليس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونيّاتكم". وإن أردت علم أحوال القلب فانظر إلى الإحياء وغيره من مصنفاتي. وهذا العلم فرض عين وغيره فرض كفاية إلا مقدار ما يؤدي به فرائض الله تعالى وهو يوفّقك حتى تحصله.

٢٦٦

والرابع : أن لا تجمع من الدنيا أكثر من كفاية سنة ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعدّ ذلك لبعض حجراته ، وقال : " اللهمّ اجعل قوت آل محمّد كفافا". ولم يكن يعد ذلك لكل حجراته بل كان يعده لمن علم أن في قلبها ضعفا ، وأمّا من كانت صاحبة يقين ما كان يعدّ لها أكثر من قوت يوم ونصف.

أيها الولد : إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك فينبغي لك أن تعمل بها ولا تنساني فيه من أن تذكرني في صالح دعائك ، وأمّا الدعاء الذي سألت مني فاطلبه من دعوات الصحاح واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك خصوصا أعقاب صلواتك ، اللهمّ إنّي أسألك من النعمة تمامها ، ومن العصمة دوامها ، ومن الرحمة شمولها ، ومن العافية حصولها ، ومن العيش أرغده ، ومن العمر أسعده ، ومن الإحسان أتمه ، ومن الإنعام أعمّه ، ومن الفضل أعذبه ، ومن اللطف أقربه ، اللهمّ كن لنا ولا تكن علينا ، اللهمّ اختم بالسعادة آجالنا ، وحقّق بالزيادة آمالنا ، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا ، واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ، واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ، ومنّ علينا بإصلاح عيوبنا ، واجعل التقوى زادنا ، وفي دينك اجتهادنا ، وعليك توكّلنا واعتمادنا ، اللهمّ ثبّتنا على نهج الاستقامة ، وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة ، وخفّف عنا ثقل الأوزار ، وارزقنا عيشة الأبرار ، واكفنا واصرف عنا شر الأشرار ، واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمّهاتنا وإخواننا وأخواتنا من النار برحمتك يا عزيز يا غفّار يا كريم يا ستّار يا عليم يا جبّار يا الله يا الله يا الله برحمتك يا أرحم الرّاحمين ، ويا أوّل الأوّلين ، ويا آخر الآخرين ويا ذا القوّة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله ربّ العالمين.

٢٦٧

مشكاة الأنوار

٢٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

الحمد لله مفيض الأنوار ، وفاتح الأبصار ، وكاشف الأسرار ، ورافع الأستار ، والصلاة على محمد نور الأنوار ، وسيد الأبرار ، وحبيب الجبار ، وبشير الغفار ، ونذير القهار ، وقامع الكفار ، وفاضح الفجار ، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الأخيار.

أما بعد ، فقد سألتني أيها الأخ الكريم قيضك الله لطلب السعادة الكبرى ، ورشحك للعروج إلى الذروة العليا ، وكحل بنور الحقيقة بصيرتك ، ونفى عما سوى الحق سريرتك أن أبث إليك أسرار الأنوار الإلهية مقرونة بما يشير إليه ظواهر الآيات المتلوة والأخبار المروية مثل قوله تعالى: (اللهُ نُورُ السَّماواتِوَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥]. ومعنى تشبيهه ذلك بالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت والشجرة مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ من أدركه بصره" ، ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقى صعبا تنخفض دون أعاليه مرامي أعين الناظرين ، وقرعت بابا مغلقا لا ينفتح إلا للعلماء الراسخين ، ثم ليس كل سر يكشف ويغشى ، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى بل صدور الأحرار قبور الأسرار ، ولقد قال بعض العارفين إفشاء سر الربوبية كفر ، بل قال سيد الأولين والآخرين : " إنّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلّا العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره عليهم إلّا أهل الاغترار بالله" ، ومهما كثر أهل الاغترار بالله وجب حفظ الأسرار عن وجه الأشرار ، لكني أراك منشرح الصدر بالنور منزه السر عن ظلمات الغرور فلا أشح عليك بالإشارة إلى لوامع ولوائح والرمز إلى حقائق ودقائق. فليس الظلم في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إلى غير أهله فقد قيل :

فمن منح الجهّال علما أضاعه

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

فاقنع باشارات مختصرة ، وتلويحات موجزة فإن تحقيق القول فيه يستدعي تمهيد أصول ، وشرح فصول ليس يتسع له الآن وقتي ولا ينصرف إليه ذهني ولا همتي ، ومفاتيح القلوب بيد الله يفتحها إذا شاء كما شاء بما شاء ، وإنما ينفتح في هذا الوقت فصول ثلاثة :

٢٦٩

الفصل الأول

في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره

مجاز محض لا حقيقة له

وبيانه بأن تعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام ، ثم بالوضع الثاني عند الخواص ، ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص ، ثم تعرف درجات النور المنسوبة إلى الخواص وحقائقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى ، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقي وحده لا شريك له فيه. أما الوضع الأول العامي فالنور يشير إلى الظهور والظهور أمر إضافي إذ يظهر الشيء لا محالة لغيره ويبطن عن غيره فيكون ظاهرا بالإضافة باطنا بالإضافة وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة. وأقوى الإدراكات وأجلها عند العوام الحواس ومنها حاسة البصر ، والأشياء بالاضافة إلى الحس البصري ثلاثة أقسام : منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة ، ومنها ما يبصر بنفسه ولا يبصر به غيره كالأجسام المضيئة مثل الكواكب وجسم النار إذا لم تكن مشعلة ، ومنها ما يبصر به غيره كالشمس والقمر والنيران المشعلة والسرج ، والنور اسم لهذا القسم الثالث ، ثم تارة يطلق على ما يفيض من هذه الأجسام المنيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الأرض ، ونور السراج على الحائط والثوب ، وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة أيضا لأنها في أنفسها مستنيرة. وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس. هذا حده وحقيقته بالوضع الأول.

دقيقة : لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك وكان الإدراك موقوفا على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا إذ النور هو الظاهر المظهر وليس شيء من الأنوار ظاهرا في حق العميان ولا مظهرا ، فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهر في كونه ركنا لا بدّ منه للإدراك ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك ، وأما النور فليس بمدرك ولا به إدراك بل عنده الإدراك ، وكأن اسم النور بالنور أحق منه بالنور المبصر ، فأطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف ، وفي الأعمش إنه ضعيف نور البصر ، وفي الأعمى أنه فقد نور بصره ، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه والاجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد وجعل العين مجفونة بها لتجمع ضوء العين. وأما البياض فيفرق نور العين فيضعف نوره حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما يمحق الضعيف في جنب القوي ، فقد عرفت بهذا أن الروح الباصرة يسمى نورا وأنه لم يكن بهذا الاسم أولى وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص.

حقيقة : اعلم أن نور البصر موسوم بأنواع من النقصان فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ولا

٢٧٠

يبصر ما بعد منه ولا ما قرب ولا يبصر ما هو وراء حجاب ، ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها ، ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له ويغلط كثيرا في إبصاره فيرى الكبير صغيرا ويرى البعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا ، فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها ، فليت شعري هل هو أولى باسم النور فاعلم أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة النفس الإنساني ، دع عنك هذه العبارات ، فإنها إذا كثرت أوهمت عند الضعيف البصيرة كثرة المعاني فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون ولنسمه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع.

أما الأولى : فهو أن العين لا تبصر نفسها والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ويدرك صفات نفسه إذ يدرك نفسه عالما وقادرا ، ويدر علم نفسه ، ويدرك علمه بعلمه بنفسه وعلمه بعلمه بعلمه نفسه إلى غير نهاية ، وهذه خاصة لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام ووراءه سر يطول شرحه.

الثانية : أن العين لا تبصر ما قرب منها قربا مفرطا ولا ما بعد والعقل عنده يسوي بين القريب والبعيد ويعرج في طرقه إلى أعلى السماوات رقيا ، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرض هويّا ، بل إذا حقت الحقائق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجنبات قدسه القرب والبعد الذي يعرض بين الأجسام ، فإنه أنموذج من بحور الله تعالى ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة وإن كان لا يرقى إلى ذروة المساوقة ، وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله خلق آدم على صورته" ، فلست أرى الآن الخوض في بيانه.

الثالثة : أن العين لا تدرك ما وراء الحجاب ، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السماوات وفي الملأ الأعلى والملكوت كتصرفه في عالمه الخاص به ومملكته القريبة. أعني بها الخاصة به ، بل الحقائق كلها لا تحجب عن العقل ، وإنما حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.

الرابعة : أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها بل قوالبها وصورها دون حقائقها ، والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ، ويدرك حقائقها وأرواحها ، ويستنبط أسبابها وعللها وحكمها ، وأنها مم حدثت وكيف خلقت ومن كم معنى جمع الشيء وركب وعلى أي مرتبة في الوجود نزل وما نسبته إلى سائر مخلوقاته؟ إلى مباحث أخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.

الخامسة : أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من

٢٧١

المحسوسات ولا تدرك الأصوات ولا الروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة. أعني قوة السمع والشم والذوق ، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد ، فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة عالم الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات ، فإن الأجسام في نفسها أخسّ أقسام الموجودات والألوان ، والأشكال من أخس أعراضها ، والموجودات كلها مجال العقل إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعده وهو الأكثر فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا ، فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية عنده جلية ، فمن أين للعين الباصرة مساواته في استحقاق اسم النور. كلا بها نور بالإضافة إلى غيرها ولكنها ظلمة بالإضافة إليه ، بل هي جاسوس من جواسيسه وكلها بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ ، والحواس جواسيسه سواها وهي من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الحاضر يسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد ، وشرح ذلك يطول ، وقد شرحناه في كتاب عجائب القلب من كتب الإحياء.

السادسة : أن العين لا تبصر ما لا نهاية له فإنها تبصر صفات الأجسام المعلومات. والأجسام لا تتصور إلا متناهية والعقل يدرك المعقولات والمعقولات لا تتصور أن تكون متناهية ، نعم إذا لاحظ العلوم المتحصلة فلا يكون الحاضر الحاصل عنده إلا متناهيا لكن في قوته إدراك ما لا نهاية له. وشرح ذلك يطول فإن أردت له مثالا فخذ من الحساب فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها نهاية ويدرك تضعيفات الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد ولا يتصور لها نهاية ، بل يدرك علمه بالشيء وعلمه بعلمه بالشيء وعلمه بعلمه بعلمه ، وقوته في هذا الوجه أيضا لا تقف عند نهاية.

السابعة : أن العين تدرك الكبير صغيرا فترى الشمس في مقدار بحر والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ، ويرى الكواكب ساكنة بل يرى الظل بين يديه ساكنا ، ويرى الصبي ساكنا في مقداره. والعقل يدرك أن الصبي يتحرك في النمو والتزايد على الدوام والظل متحركا دائما والكواكب تتحرك في كل لحظة أميالا كثيرة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : " أزالت الشّمس؟ فقال : لا. نعم" قال : وكيف؟ قال : " منذ قلت لا إلى أن قلت نعم قد تحرّكت مسيرة خمسمائة عام". وأنواع غلط البصر كثيرة والعقل منزه عنها ، فإن قلت نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن خيالاتهم وأوهامهم قد تحكم باعتقادات يظنون أن أحكامها أحكام العقل فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب معيار العلم وكتاب محكّ النظر ، فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط بل يرى الأشياء على ما هي عليه وفي تجرده عسر ،

٢٧٢

وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدمه من خير أو شر محضرا ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعندها يقال له : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم ، وعندها يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ، فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف المحسوس ، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين ، بل بينهما من التفاوت ما يصح أن يقال معه إنه أولى بل الحق أنه يستحق الاسم دونه.

دقيقة : اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة فليست المبصرات عندها كلها على مرتبة واحدة ، بل بعضها تكون عندها كأنها حاضرة كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديما حديثا ولا يكون موجودا معدوما ، والقول الواحد لا يكون صدقا وكذبا وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله ، وأن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود ، فإذا وجد السواد فقد وجد اللون ، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان ، وأما عكسه فلا يلزم في العقل إذ لا يلزم من الوجود اللون وجود السواد ، ولا من وجود الحيوان وجود الإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات ، ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات ، وإنما ينبهه كلام الحكماء. فعند اشراق نور الحكمة يصير الإنسان مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى : (ومن جملة كلامه القرآن خاصة فيكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة ، إذ به يتم الإبصار فبالحرى أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا فمثال القرآن نور الشمس ، ومثال العقل نور العين) ، وبهذا يفهم معنى قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن: ٨]. وقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء : ١٧٤].

تكملة لهذه الحقيقة : فإذا فهمت من هذا أن العين عينان ظاهرة وباطنة من عالم الحس والمشاهدة ، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار. إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة. والظاهرة من عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة ، والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله المنزلة ، مهما انكشف لك هذا انكشافا تاما فقد انفتح لك باب من أبواب الملكوت وفي هذا العلم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة ، ومن لم يسافر إلى هذا العلم وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة يعد ومحروم عن خاصية الإنسانية بل أضل من البهيمة إذ لم تعط البهيمة أجنحة الطيران إلى هذا العلم ، ولذلك قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩].

واعلم أن عالم الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشرة بالإضافة إلى اللب وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح ، وكالظلمة بالإضافة إلى النور وكالسفل بالإضافة إلى العلو ، ولذلك يسمى عالم

٢٧٣

الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني ، وفي مقابلته العالم السفلي والجسماني والظلماني. ولا تظنن أنا نعني بالعالم العلوي السماوات فإنها علو وفوق في حق بعض عالم الشهادة والحس يشارك ادراكها البهائم ، وأما العبد فلا تفتح له أبواب الملكوت ولا يصير ملكوتيا إلا وتبدل في حقه الأرض غير الأرض والسماوات ، ولا يصير كل ما هو داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملتها السماوات ، وكل ما ارتفع عن الحس سماؤه. وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره لقرب حضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل سافلين ومنه يترقى إلى العالم الأعلى ، وأما الملائكة فإنهم من جملة عالم الملكوت عالقون في حضرة القدس ، ومنها يشرفون على العالم الأسفل ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله خلق الخلق في ظلمته ثمّ أفاض عليهم من نوره". وقال : " لله ملائكة هم أعلم بأعمال النّاس منهم". والأنبياء إذا بلغ معراجهم إلى عالم الملكوت فقد بلغوا المبلغ الأقصى وأشرفوا على جملة من عالم الغيب ، إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله وعنده مفاتيح الغيب أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة ، إذ عالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم يجري منه مجرى الظل بالإضافة إلى الشخص ومجرى الثمر بالإضافة إلى المثمر ، والمسبب بالإضافة إلى السبب ، ومفاتيح معرفة المسببات إنما تؤثر من الأسباب ، ولذلك كان عالم الشهادة مثالا لعالم الملكوت كما سيأتي في بيان المشكاة والمصباح والشجرة لأن المشبه لا يخلو من موازاة المشبه به ، ومحاكاته نوعا من المحاكاة على قرب أو بعد وهذا الآن له غور عميق. ومن اطلع على كنه حقيقته انكشفت له حقائق أمثلة القرآن على يسر.

دقيقة ترجع إلى حقيقة النور : قلنا : إن كل ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور ، فإن كان من جملته ما يبصر به غيره أيضا من أنه يبصر نفسه وغيره فهو أولى باسم النور من الذي لا يؤثر في غيره أصلا ، بل بالحري أن يسمى سراجا منيرا لفيضان أنواره على غيره ، وهذه الخاصة توجد للروح القدسي النبوي إذ تفيض بواسطته أنوار المعارف على الخلق وبه يفهم تسمية الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم سراجا منيرا ، والأنبياء كلهم سرج ، وكذلك العلماء ولكن التفاوت بينهم لا يحصى.

دقيقة : إذا كان اللائق بالذي يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجا منيرا فالذي يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار ، وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية والروح القدسي النبوي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار إنما يصير نورا على نور إذا مسته النار ، فبالحري أن يكون مقتبس الأرواح الأرضية من الأرواح الإلهية العلوية التي وصفها علي وابن عباس عليهما‌السلام فقالا : إن لله ملكا له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف فم في كل فم سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها ، وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨]. فهي إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السرج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار ، وذلك لا يؤنس إلا من جانب الطور.

دقيقة : الأنوار السماوية التي منها تقتبس الأنوار الأرضية إن كان لها أن تترتب بحيث يقتبس بعضها

٢٧٤

من بعض ، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبها في عالم الشهادة لا يدركه الإنسان إلا بأن يبصر ضوء القمر داخلا في كوة بيت واقعا على مرآة منصوبة على حائط منعطفا منها على حائط آخر في مقابلتها ، ثم منعطفا منها على الأرض بحيث تستنير منه الأرض ، فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط ، وما على الحائط تابع لما على المرآة ، وما على المرآة تابع للقمر ، وما في القمر تابع لما في الشمس إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مترتبة بعضها أعلى من بعض وأكمل من بعض ، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها ، فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك ، وأن المقرب هو الأقرب تقرب إلى النور الأقصى فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل وأن فيهم الأقرب الذي تقرب درجته من حضرة الربوبية التي هي منبع الأنوار كلها وأن فيهم الأدنى وبينهم درجات تستعصي عن الإحصاء ، وإنما المعلوم كثرتهم وترقيهم في صفوفهم وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذ قالوا : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [الصافات : ١٦٤. ١٦٦].

دقيقة : إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب ، فاعلم أنها لا تتسلسل إلى غير نهاية ، بل ترتقي إلى منبع أول وهو النور لذاته وبذاته ليس يأتيه نور من غيره ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن هل اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره أو بالمنير في ذاته المنور لكل ما سواه؟ فما عندي أنه يخفى عليك الحق فيه وبه تتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذي لا نور فوقه ومنه ينزل النور إلى غيره.

حقيقة : بل أقول ولا أبالي أن اسم النور غير النور الأولي مجاز محض ، إذ كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نوره مستعار من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها. ونسبة المستعار مجاز محض أفترى أن من استعار ثيابا وفرسا ومركبا وسرجا وركبه في الوقت الذي أركبه المعير ، وعلى الحد الذي رسمه له غني بالحقيقة أو بالمجاز أو أن المعير هو الغني كلا بل المستعير هو فقير في نفسه كما كان ، وإنما الغني هو المعير الذي منه الإعارة والاعطاء وإليه الاسترداد والانتزاع ، فإذا النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر ، ومنه الإنارة أولا ، والإدامة ثانيا فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث تسميته به ، ويتفضل عليه بتسميته إياه تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكا ، وإذا انكشف للعبد هذه الحقيقة علم أنه وماله ملك لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا.

حقيقة : مهما عرفت أن النور راجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه ، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من ظلمة العدم لأنه مظلم ، وسمي مظلما لأنه ليس يظهر للأبصار إذ ليس يصير موجودا للبصر مع أنه موجود في نفسه فالذي ليس موجودا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة وفي مقابلته الوجود فهو النور ، فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر

٢٧٥

لغيره ، والوجود بنفسه أيضا ينقسم إلى ما له الوجود من ذاته وإلى ما له الوجود من غيره. وماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه ، بل إذا نسبته إلى غيره وليس ذلك بوجود حقيقي كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغنى ، فالموجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله تعالى.

حقيقة الحقائق : من هاهنا يترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، لأنه يصير هالكا في وقت من الأوقات ، بل هو هالك أزلا وأبدا إذ لا يتصور إلا كذلك ، فإن كل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض ، وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رئي موجودا لا في ذاته بل من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله فقط. ولكل شيء وجهان : وجه إلى نفسه ، ووجه إلى ربه. فهو باعتبار وجه نفسه عدم ، وباعتبار وجه الله وجود ، فإذا لا موجود إلا الله ووجهه ، فإذا كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا. ولم يفتقر هؤلاء إلى قيام القيامة ليستمعوا نداء الباري : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦]. بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا ، ولم يفهموا معنى قوله" الله أكبر" أنه أكبر من غيره. حاشى لله إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون هو أكبر منه ، بل ليس لغيره رتبة المعية بل رتبة التبعية ، بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه فالموجود وجهه فقط ، ومحال أن يكون أكبر من وجهه بل معناه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه نبيا كان أو ملكا ، بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا هو إذ كل معروف داخل تحت سلطان العارف واستيلائه وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقق ذكرناه في كتاب : " المقصد الأسنى في معاني أسماء الله الحسنى".

إشارة : العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق ، لكن منهم من كان له هذه الحالة عرفانا علميا ومنهم من صار له ذوقا وحالا وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستهوت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا ، فلم يبق عندهم إلا الله فسكروا سكرا وقع دونه سلطان عقولهم ، فقال بعضهم : أنا الحق. وقال الآخر : سبحاني ما أعظم شأني. وقال الآخر : ما في الجنة إلا الله ، وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل يشبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرض العشق :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فلا يبعد أن يفجأ الإنسان مرآة فينظر فيها ، ولم ير المرآة قط ، فيظن أن الصور التي رآها في المرآة هي صورة المرآة متحدة بها ، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج

٢٧٦

فإذا صار ذلك عنده مألوفا ورسخ فيه قدمه استغرقه فقال :

رقّ الزّجاج وراقت الخمر

وتشابها فتشاكل الأمر

فكأنّما خمر ولا قدح

وكأنّما قدح ولا خمر

وفرق بين أن يقال الخمر قدح وبين أن يقال كأنه قدح ، وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحال فناء ، بل فناء لأنه فني عن نفسه وفني عن فنائه ، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعد شعوره بنفسه ، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه ، وتسمى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز اتحادا ، وبلسان الحقيقة توحيدا ، ووراء هذه الحقائق أيضا أسرار لا يجوز الخوض فيها.

خاتمة : لعلك تشتهي أن تعرف وجه إضافة نور إلى السماوات والأرض ، بل وجه كونه في ذاته نور السماوات والأرض ، ولا ينبغي أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار وأنه النور الكلي ، لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما ينكشف به وله أعلى منه ما ينكشف به وله ومنه وأن الحقيقي منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته من ذاته لا من غيره ، ثم عرفت أن هذا لا يتصور ولن يتصف به إلا النور الأول ، ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نورا من طبيعة النور. أعني المنسوب إلى البصر والبصيرة أي إلى الحس والعقل.

أما البصري فما تشاهده في السماوات من الكواكب والشمس والقمر وما تشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على كل ما في الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصا في الربيع ، وعلى كل حال من الحيوانات والنباتات والمعادن وأصناف الموجودات ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود ، ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرك تبعا للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها.

أما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة ، والعالم الأسفل مشحون بها وهي الحياة الحيوانية ثم الإنسانية وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام العالم السفلي كما أن بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي وهو المعنيّ بقوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١]. وقال : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥]. وقال : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢]. وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: ٣٠]. فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية ، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج ، وأن السراج هو النور النبوي القدسي ، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النار. وأن العلويات بعضها مقتبس من بعض ، وأن ترتيبها ترتيب مقامات ، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول ، وأن ذلك وهو الله وحده لا شريك له ، وأن سائر

٢٧٧

الأنوار مستعارة منه ، وإنما الحقيقي نوره فقط وإن الكل من نوره بل هو لا هوية لغيره إلا بالمجاز ، فإذا لا نور إلا هو وسائر الأنوار أنوار من الوجه الذي تليه لا من ذاتها فوجه كل موجه إليه ومولّ شطره (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥]. فإذا لا إله إلا هو فإن الإله عبارة عما الوجوه مولية نحوه بالعبادة والتأليه ، أعني وجوه القلوب فإنها الأنوار والأرواح ، بل كما أنه لا إله إلا هو فلا هو إلا هو فإن هو عبارة عما إليه الإشارة ، وكيفما كان فلا إشارة إلا إليه بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الإشارة إليه ، وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التي ذكرناها ، ولا إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس ، فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس ، فإذا لا إله إلا الله توحيد العوام ولا هو إلا هو توحيد الخواص ، لأن ذلك أعم وهذا أخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة ، ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية فليس وراء ذلك مرقاة إذ الرقي لا يتصور إلا بكثرة ، فإنه نوع إضافة يستدعي ما منه الارتقاء وما إليه الارتقاء ، وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الإضافة وطاحت الإشارة فلم يبق علو ولا سفل ولا نازل ولا مرتفع ، فاستحال الترقي واستحال العروج فليس وراء الأعلى علو ولا مع الوحدة كثرة ولا مع انتفاء الكثرة عروج ، فإن كان ثمة تغيير من حال فبالنزول إلى السماء الدنيا. أعني بالإشراق من علو إلى أسفل لأن الأعلى وإن لم يكن له أعلى فله أسفل.

فهذا غاية الغايات ومنتهى الطلبات يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله ، وهو من العلم الذي هو كنهه المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ملك ، فقد توهم بعض العارفين ما هو أبعد منه إذ قال هذا المستغرق بالفردانية له نزول إلى سماء الدنيا وإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : " صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به". وإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه فهو السامع والباصر والناطق إذا لا غيره ، وإليه الإشارة بقول لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " مرضت فلم تعدني" الحديث. فحركات هذا الموحد من السماء الدنيا وإحساساته من سماء فوقها وعقله فوق ذلك وهو يترقى من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلائق ومملكة الفردانية إلى سبع طبقات ، ثم بعد يستوي على عرش الوحدانية ومنه يدبر الأمر إلى طبقات سماواته فربما نظر الناظر إليه أن ذلك له تأويل كقوله : أنا الحق وسبحاني ، بل كقوله عليه الصلاة السلام : مرضت فلم تعدني وكنت سمعه وبصره ولسانه ، فأرى الآن إمساك عنان البيان فما أراك تطيق من هذا الفن أكثر من هذا المقدار.

مساعدة : لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك ، بل تقصر دون ذروته همتك فخذ إليك كلاما أقرب إلى فهمك وأقرب لضعفك ، واعلم أن معنى كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهري البصري ، فإذا رأيت ألوان الربيع وخضرتها مثلا في ضياء النهار

٢٧٨

فلست تشك في أنك ترى الألوان ، وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها فكأنك تقول لست أرى مع الخضرة غيرها ، ولقد أصر على هذا أقوام فزعموا أن النور لا معنى له وأنه ليس مع الألوان غير الألوان ، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء وكيف لا وبه تظهر الأشياء وهو الذي يبصر في نفسه ويبصر به غيره كما سبق ، لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موضع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة اتحاده بها لا يدرك ولشدة ظهوره يخفى ، وقد تكون شدته سبب الخفاء ، والشيء إذا جاوز حده انعكس على ضده فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئا إلا ورأوا الله معه ، وربما زاد على هذا بعضهم فقال : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله. لأن منهم من يرى الأشياء به ، ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء وإلى الأول الإشارة بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣]. وإلى الثاني الإشارة بقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣]. فالأول صاحب المشاهدة ، والثاني صاحب الاستدلال بآياته ، والأولى درجة الصديق ، والثانية درجة العلماء الراسخين ، وليس بعدهما إلا درجة الغافلين المحجوبين ، فإذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله فهو مع كل شيء لا يفارقه وبه يظهر كل شيء ، ولكن بقي هاهنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل.

أما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل غروبه فيبقى مع الأشياء كلها دائما فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة ولو يضطر غيبته لانهدمت السماوات والأرض ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء ، لكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة لوحدانية خالقها إذ كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء ، وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفع التفريق وخفي الطريق إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا نقيض تتشابه الأحوال في الشهادة له ، فلا بد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه : فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم لإشراق نوره ، وربما أيضا لا يفهم هذا الكلام بعض القاصرين فيفهم من قولنا إن الله مع كل شيء كالنور مع الأشياء ، إنه في كل مكان تعالى وتقدس عن النسبة إلى مكان ، بل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول لك قبل كل شيء وأنه فوق كل شيء وأنه مظهر كل شيء ، والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة صاحب البصيرة ، فهذا الذي نعني بقولنا إنه مع كل شيء ، ثم لا يخفى عليك أيضا أن المظهر قبل المظهر وفوقه مع أنه معه لكنه معه بوجه وقبله بوجه فلا تظن أنه متناقض واعتبر بالمحسوسات التي هي قدر درجتك في العرفان ، وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضا ، ومن لم يتسع صدره

٢٧٩

لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم فلكل علم رجال وكل ميسر لما خلق له.

الفصل الثاني

في بيان مثال المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة

والزيت والنار

وبيان ذلك : يستدعي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود ، ولكني أشير إليهما بالرمز والاختصار.

أحدهما : في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعاني بقوالب الأمثلة ، ووجه كيفية المناسبة بينهما وكنه الموازنة بين عالم الشهادة التي منها يتخذ طينة الأمثال ، وبين عالم الملكوت الذي منه تنزل أرواح المعاني.

والقطب الثاني : في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنوارها ، فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك ، وقد قرأ ابن مسعود مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها [النور : ٣٥]. وقرأ أبي بن كعب" مثل نور قلب من آمن كمشكاة فيها".

القطب الأول في بيان سر التمثيل ومناهجه

اعلم أن العالم عالمان روحاني وجسماني ، وإن شئت قلت حسي وعقلي ، وإن شئت قلت علوي وسفلي والكل متقارب ، وإنما يختلف باختلاف العبارات ، فإذا اعتبرتهما في أنفسهما قلت : جسماني وروحاني ، وإذا اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت : حسي وعقلي ، وإن اعتبرتهما بإضافة أحدهما إلى الآخر قلت علوي وسفلي ، وربما سميت أحدهما عالم الملك والشهادة ، والآخر عالم الغيب والملكوت ومن ينظر إلى الحقائق من الألفاظ ربما يتحير من كثرتها ويتخيل كثرة المعاني والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلا والألفاظ تابعة وأمر الضعيف بالعكس منه إذ يطلب الحقائق من الألفاظ وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك : ٢٢]. وإذا قد عرفت معنى العاملين ، فاعلم أن العالم الملكوتي العلوي عالم غيب إذ هو غائب عن الأكثر ، والعالم الحسي عالم الشهادة إذ يشهده الكافة ، والعالم الحسي مرقاة إلى العالم العقلي ، ولو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لا نسدّ طريق الترقي إليه ، ولو تعذر ذلك لتعذّر السفر إلى الحضرة الربوبية والقرب من الله فلن يقرب من الله أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس ، والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذي نعنيه بعالم القدس ، وإذا اعتبرت جملته بحيث لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس ، وربما سمينا الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس الوادي المقدس. ثم هذه

٢٨٠