مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الرسالة

الحمد لله الذي تجلى لكافة عباده بصفاته وأسمائه وتاهت عقول الطالبين في بيداء كبريائه ، وقص أجنحة الأفكار دون حمى عزته وتعالى بجلاله عن أن تدرك الأفهام كنه حقيقته. واستوفى قلوب أوليائه وخاصته واستغرق أرواحهم حتى احترقوا بنار محبته وبهتوا في إشراق أنوار عظمته ، وخرست ألسنتهم عن الثناء على جمال حضرته إلا بما أسمعهم من أسمائه وصفاته وأنبأهم على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير خليقته وعلى أصحابه وعترته.

أما بعد : فقد سألتني أرشدك الله عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلال حيث اعتقدوا في الله وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش والاستقرار ، وما يجري مجراه مما أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها ، وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف ، وأردت أن أشرح لك اعتقاد السلف ، وأن أبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه الأخبار ، وأكشف فيه الغطاء عن الحق ، وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب الإمساك والكف عن الخوض فيه ، فأجبتك إلى طلبتك متقربا إلى الله سبحانه وتعالى بإظهار الحق الصريح من غير مداهنة ومراقبة جانب ومحافظة على تعصب لمذهب دون مذهب ، فالحق أولى بالمراقبة ، والصدق والإنصاف أولى بالمحافظة عليه ، وأسأل الله التسديد والتوفيق وهو بإجابة داعيه حقيق ، وها أنا أرتب الكتاب على ثلاثة أبواب :

باب في بيان حقيقة مذهب السلف في هذه الأخبار.

وباب في البرهان على الحق فيه مذهب السلف وأن من خالفهم فهو مبتدع. وباب في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن.

الباب الأول

في شرح اعتقاد السلف في هذه الأخبار.

اعلم : أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف أعني مذهب الصحابة والتابعين وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه.

فأقول : حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور : التقديس ، ثم التصديق ، ثم اعتراف بالعجز ، ثم

٣٠١

السكوت ، ثم الإمساك ، ثم الكف ، ثم التسليم لأهل المعرفة.

أما التقديس : فأعني به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية وتوابعها.

وأما التصديق : فهو الإيمان بما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن ما ذكره حق وهو فيما قاله صادق وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده.

وأما الاعتراف بالعجز : فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته.

وأما السكوت : فأن لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه ، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر.

وأما الإمساك : فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة.

وأما الكف : فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه.

وأما التسليم لأهله : فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء ، فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على كل العوام لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها ، فلنشرحها وظيفة وظيفة إن شاء الله تعالى:

الوظيفة الأولى : التقديس ومعناه أنه إذا سمع اليد والإصبع وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إنّ الله خمّر طينة آدم بيده. وإنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن" ، فينبغي أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الأصلي وهو عضو مركب من لحم وعصب ، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان ، (وقد يستعار هذا اللفظ) أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا كما يقال : البلدة في يد الأمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلا فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم ودم وعظم ، وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس ، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضائه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق ، وعبادة المخلوق كفر ، وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق ، وكان مخلوقا لأنه جسم فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف. سواء كان ذلك الجسم كثيفا كالجبال الصم الصلاب ، أو لطيفا كالهواء والماء ، وسواء كان مظلما كالأرض أو مشرقا كالشمس والقمر والكواكب. أو مشفا لا لون له كالهواء ، أو عظيما كالعرش والكرسي والسماء ، أو صغيرا كالذرة والهباء ، أو جمادا كالحجارة ، أو

٣٠٢

حيوانا كالإنسان. فالجسم صنم فإن يقدر حسنة وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن كونه صنما ، ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وإصبعه فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث ، وليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق ذلك المعنى بالله تعالى ، فإن كان لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلا ، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه أن لا يخوض فيه كما سيأتي.

مثال آخر : إذا سمع الصورة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله خلق آدم على صورته" ، " وإنّي رأيت ربّي في أحسن صورة" فينبغي أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئة الحاصلة في أجسام مؤلفة مرتبة ترتيبا مخصوصا مثل الأنف والعين والفم والخد التي هي أجسام وهي لحوم وعظام ، وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا هيئة في جسم ولا هو ترتيب في أجسام. كقولك عرف صورته وما يجري مجراه ، فليتحقق كل مؤمن أن الصورة في حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذي هو جسم لحمي وعظمي مركب من أنف وفم وخد ، فإن جميع ذلك أجسام وهيئات في أجسام ، وخالق الأجسام والهيئات كلها منزه عن مشابهتها وصفاتها ، وإذا علم هذا يقينا فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى فما الذي أراده فينبغي أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بأن لا يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته ، لكن ينبغي أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلال الله وعظمته بما ليس بجسم ولا عرض في جسم.

مثال آخر : إذا قرع سمعه النزول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ينزل الله تعالى في كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا". فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يطلق إطلاقا يفتقر فيه إلى ثلاثة أجسام : جسم عال هو مكان لساكنه ، وجسم سافل كذلك ، وجسم منتقل من السافل إلى العالي ومن العالي إلى السافل ، فإن كان من أسفل إلى علو سمي صعودا وعروجا ورقيا ، وإن كان من علو إلى أسفل سمي نزولا وهبوطا ، وقد يطلق على معنى آخر ولا يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة في جسم ، كما قال الله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦]. وما رئي البعير والبقر نازلا من السماء بالانتقال بل هي مخلوقة في الأرحام ولإنزالها معنى لا محالة ، كما قال الشافعي رضي الله عنه : دخلت مصر فلم يقيموا كلامي ، فنزلت ثم نزلت ثم نزلت فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل فتحقق المؤمن قطعا أن النزول في حق الله تعالى ليس بالمعنى الأول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل ، فإن الشخص والجسد أجسام والرب جل جلاله ليس بجسم فإن خطر له أنه لم يرد هذا فما الذي أراد فيقال له : أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله تعالى أعجز ، فليس هذا بعشك فادرجي ، واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت ، واعلم أنه أريد به معنى من المعاني التي يجوز أن يراد بالنزول في لغة العرب. ويليق ذلك المعنى بجلال الله تعالى وعظمته وإن كنت لا تعلم حقيقته وكيفيته.

ومثال آخر : إذا سمع لفظ الفوق في قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨].

٣٠٣

وفي قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠]. فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين.

أحدهما : نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل يعني أن الأعلى من جانب رأس الأسفل وقد يطلق لفوقية الرتبة ، وبهذا المعنى يقال : الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير ، وكما يقال : العلم فوق العلم ، والأول يستدعي جسما ينسب إلى جسيم.

والثاني : لا يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعا أن الأول غير مراد وأنه على الله تعالى محال ، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام وإذا عرف نفى هذا المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لما ذا أطلق وما ذا أريد فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره.

الوظيفة الثانية : الإيمان والتصديق وهو أنه يعلم قطعا أن هذه الألفاظ أريد بها معنى يليق بجلال الله وعظمته ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق في وصف الله تعالى به ، فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لا ريب فيه وليقل آمنا وصدقنا ، وأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي قاله ، وإن كنت لا تقف على حقيقته فإن قلت التصديق إنما يكون بعد التصور ، والإيمان إنما يكون بعد التفهم ، فهذه الألفاظ إذا لم يفهم العبد معانيها كيف يعتقد صدق قائلها فيها؟ فجوابك أن التصديق بالأمور الجملية ليس بمحال وكل عاقل يعلم أنه أريد بهذه الألفاظ معان ، وأن كل اسم فله مسمى إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى فيمكنه أن يعتقد كونه صادقا مخبرا عنه على ما هو عليه ، فهذا معقول على سبيل الإجمال ، بل يمكن أن يفهم من هذه الألفاظ أمور جملية غير مفصلة ، ويمكن التصديق كما إذا قال في البيت حيوان أمكن أن يصدق دون أن يعرف أنه إنسان أو فرس أو غيره ، بل لو قال فيه شيء أمكن تصديقه وإن لم يعرف ما ذلك الشيء ، فكذلك من سمع الاستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة إلى العرش فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة هي نسبة الاستقرار عليه أو الإقبال على خلقه أو الاستيلاء عليه بالقهر أو معنى آخر من معاني النسبة فأمكن التصديق به ، وإن قلت فأي فائدة في مخاطبة الخلق بما لا يفهمون وجوابك أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله وهم الأولياء والراسخون في العلم وقد فهموا ، وليس من شرط من خاطب العقلاء بكلام أن يخاطبهم بما يفهم الصبيان والعوام بالإضافة إلى العارفين كالصبيان بالإضافة إلى البالغين ، ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما يفهمونه ، وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من شأنكم ولستم من أصله فخوضوا في حديث غيره فقد قيل للجاهل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣]. فإن كانوا يطيقون فهموهم وإلا قالوا لهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥]. فلا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، ما لكم ولهذا السؤال. هذه معان الإيمان بها واجب والكيفية مجهولة أي لكم ، والسؤال عنها بدعة كما قال مالك :

٣٠٤

الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب ، فإذن الإيمان بالجمليات التي ليست مفصلة في الذهن ممكن ولكن تقديسه الذي هو نفي للمحال عنه ينبغي أن يكون مفصلا ، فإن المنفى هي الجسمية ولوازمها ونعني بالجسم هاهنا الشخص المقدر الطويل العريض العميق الذي يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو الذي يدفع ما يطلب مكانه إن كان قويا ويندفع ويتنحى عن مكانه بقوة دافعة إن كان ضعيفا ، وإنما شرحنا هذا اللفظ مع ظهوره لأن العامي ربما لا يفهم المراد به.

الوظيفة الثالثة : الاعتراف بالعجز ويجب على كل من لا يقف على كنه هذه المعاني وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى والمراد به أن يقر بالعجز ، فإن التصديق واجب وهو عن دركة عاجز ، فإن ادعى المعرفة فقد كذب وهذا معنى قول مالك : الكيفية مجهولة ، يعني تفصيل المراد به غير معلوم ، بل الراسخون في العلم والعارفون من الأولياء إن جاوزوا في المعرفة حدود العوام وجالوا في ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميالا كثيرة فما بقي لهم مما لم يبلغوه بين أيديهم أكثر بل لا نسبة لما طوى عنهم إلى ما كشف لهم لكثرة المطوى وقلة المكشوف بالإضافة إليه والإضافة إلى المطوي المستور. قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه : " لا أحصى ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك". وبالإضافة إلى المكشوف ، قال صلوات الله عليه : " أعرفكم بالله أخوفكم لله وأنا أعرفكم بالله". ولأجل كون العجز والقصور ضروريا في آخر الأمر بالإضافة إلى منتهى الحال قال سيد الصديقين : العجز عن درك الإدراك إدراك ، فأوائل حقائق هذه المعاني بالإضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالإضافة إلى خواص الخلق ، فكيف لا يجب عليه الاعتراف بالعجز!.

الوظيفة الرابعة : السكوت عن السؤال وذلك واجب على العوام لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلا له ، فإن سأل جاهلا زاده جوابه جهلا وبما ورطه في الكفر من حيث لا يشعر ، وإن سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه بل عجز عن تفهيم ولده مصلحته في خروجه إلى المكتب ، بل عجز الصائغ عن تفهيم النجار دقائق صناعته ، فإن النجار وإن كان بصيرا بصناعته فهو عاجز عن دقائق الصياغة لأنه إنما يعلم دقائق النجر لاستغراقه العمر في تعلمه وممارسته ، فكذلك يفهم الصائغ الصياغة أيضا لصرف العمر إلى تعلمه وممارسته وقبل ذلك لا يفهمه فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التي ليست من قبيل معرفة الله عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية عجز كافة المعرضين عن الصناعات عن فهمها ، بل عجز الصبي الرضيع عن الاعتذار بالخبز واللحم لقصور في فطرته لا لعدم الخبز واللحم ولا لأنه قاصر على تغذية الأقوياء ، لكن طبع الضعفاء قاصر عن التغذي به فمن أطعم الصبي الضعيف اللحم والخبز وأمكنه من تناوله فقد أهلكه ، وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة كنا كان يفعله عمر رضي الله عنه بكل من سأل عن الآيات المتشابهات ، وكما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنكار على قوم رآهم خاضوا

٣٠٥

في مسألة القدر وسألوا عنه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " فبهذا أمرتم" وقال : " إنّما هلك من كان قبلكم بكثرة السّؤال" أو لفظ هذا معناه كما اشتهر في الخبر. ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رءوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض في التأويل والتفصيل ، بل الواجب عليهم الاقتصار على ما ذكرناه وذكره السلف ، وهو المبالغة في التقديس ونفي التشبيه وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوارضها وله المبالغة في هذا بما أراد حتى يقول : كل ما خطر ببالكم وهجس في ضميركم وتصور في خاطركم فإنه تعالى خالقها وهو منزه عنها وعن مشابهتها وأن ليس المراد بالأخبار شيئا من ذلك ، وأما حقيقة المراد فلستم من أهل معرفتها والسؤال عنها ، فاشتغلوا بالتقوى فما أمركم الله تعالى به فافعلوه وما نهاكم عنه فاجتنبوه وهذا قد نهيتم عنه فلا تسألوا عنه ومهما سمعتم شيئا من ذلك فاسكتوا وقولوا : آمنا وصدقنا وما أوتينا من العلم إلا قليلا ، وليس هذا من جملة ما أوتيناه.

الوظيفة الخامسة : الإمساك عن التصرف في ألفاظ واردة يجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوجه : التفسير ، والتأويل ، والتصرف ، والتفريع ، والجمع ، والتفريق.

الأول : التفسير وأعني به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها في العربية أو معناها بالفارسية أو التركية ، بل لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها. ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها منها. ومنها ما يكون مشتركا في العربية ولا يكون في العجمية كذلك.

أما الأول : مثاله لفظ الاستواء فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس من المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إيهام إذ فارسيته أن يقال راستا باستان وهذان لفظان : الأول : ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أن ينحني ويعوج.

والثاني : ينبئ عن سكون وثابت فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليها ، فإذا تفاوت في الدلالة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول وإنما تجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه لا بما يباينه أو يخالفه ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه.

ومثال الثاني : أن الإصبع يستعار في لسان العرب للنعمة يقال لفلان عندي إصبع أي نعمة ومعناها بالفارسية انكشفت وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة ، وتوسع العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم ، فإذا أحسن إرادة المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم نفر القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه ، فإذا تفاوتا لم يكن التفسير تبديلا بالمثل بل بالخلاف ولا يجوز التبديل إلا بالمثل.

مثال الثالث : العين فإن من فسره بأظهر معانيه ، فيقول هو جسم وهو مشترك في لغة العرب بين

٣٠٦

العضو الناصر وبين الماء والذهب والفضة ، وليس اللفظ اسم وهو مشترك هذا الاشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه ، فلأجل هذا نرى المنع من التبديل والاقتصار على العربية ، فإن قيل : هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع الألفاظ فهو غير صحيح إذ لا فرق بين قولك خبز ونان وبين قولك لحم وگوشت ، وإن اعترف بأن ذلك في البعض فامنع من التبديل عند التفاوت لا عند التماثل ، فالجواب الحق أن التفاوت في البعض لا في الكل فلعل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان في اللغتين وفي الاشتراك والاستعارة وسائر الأمور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما لا يجوز وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جليا سهلا يسيرا على كافة الخلق بل يكثر فيه الإشكال ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل ، فنحن بين أن نحسم الباب احتياطا إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر ، فليت شعري أي الأمرين أعزم وأحوط ، والمنظور فيه ذات الإله وصفاته وما عندي أن عاقلا متدينا لا يقر بأن هذا الأمر مخطر ، فإن الخطر في الصفات الإلهية يجب اجتنابه. كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة البراءة الرحم وللحذر من خلط الأنساب احتياطا لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب ، فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل ، لأن باطن الأرحام إنما يطلع عليه علام الغيوب فإنه يعلم ما في الأرحام ، فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل كنا راكبين متن الخطر فإيجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطر ، فكما أن إيجاب العدة حكم شرعي فتحريم تبديل العربية حكم شرعي عن ثبت بالاجتهاد وترجيح طريق الأول ، ويعلم أن الاحتياط في الخبر عن الله وعن صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط في العدة وكل ما احتاط به الفقهاء من هذا القبيل.

أما التصرف الثاني : التأويل ، وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره وهذا إما يقع من العامي نفسه ، أو من العارف مع العامي ، أو من العارف مع نفسه وبينه وبين ربه ، فهذه ثلاثة مواضع.

الأول : تأويل العامي على سبيل الاشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن لا يحسن السباحة. ولا شك في تحريم ذلك ، وبحر معرفة الله أبعد غورا وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء ، لأن هلاك هذا البحر لا حياة بعده وهلاك بحر الدنيا لا يزيل إلا الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة الأبدية فشتان بين الخطرين.

الموضع الثاني : أن يكون ذلك من العالم مع العامي وهو أيضا ممنوع ، ومثاله : أن يجر السباح الغواص في البحر مع نفسه عاجزا عن السباحة مضطرب القلب والبدن وذلك حرام لأنه عرضة لخطر الهلاك فإنه لا يقوى على حفظه في لجة البحر ، وإن قدر على حفظه في القرب من الساحل ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل لا يطيعه ، وإن أمره بالسكون عند التطام الأمواج واقبال التماسيح وقد فغرت فاها للالتقام اضطرب قلبه وبدنه ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته ، وهذا هو المثال الحق للعالم إذا فتح للعامي باب التأويلات والتصرف في خلاف الظواهر ، وفي معنى العوام الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم بل

٣٠٧

كل عالم سوى المتجردين لعلم السباحة في بحار المعرفة القاصرين أعمارهم عليه ، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات ، المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات ، المخلصين لله تعالى في العلوم والأعمال ، بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات ، المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله تعالى لله ، المستحقرين للدنيا بل الآخرة والفردوس الأعلى في جنب محبة الله تعالى ، فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالدر المكنون والسر المخزون ، أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى فهم الفائزون : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) [القصص : ٦٩].

الموضع الثالث : تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه وهو على ثلاثة أوجه ، فإن الذي انقدح في سره أن المراد من لفظ الاستواء والفوق مثلا إما أن يكون مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا. فإن كان قطعيا فليعتقده ، وإن كان مشكوكا فليجتنبه ولا يحكمن على مراد الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح ، بل الواجب على الشاك التوقف ، وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين : أحدهما : أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى أم هو محال؟ والثاني : أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد في أنه هل هو مراده أم لا؟

مثال الأول : تأويل لفظ الفوق بالعلو المعنوي الذي هو المراد بقولنا : السلطان فوق الوزير ، فإنا لا نشك في ثبوت معناها لله تعالى لكنا ربما نتردد في أن لفظ الفوق في قوله (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠]. هل أريد به العلو المعنوي أم أريد به معنى آخر يليق بجلال الله تعالى دون العلو بالمكان الذي هو محال على ما ليس بجسم ولا هو صفة في جسم.

ومثال الثاني : تأويل لفظ الاستواء على العرش ، بأنه أراد به النسبة الخاصة التي للعرش ونسبته أن الله تعالى يتصرف في جميع العالم ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض بواسطة العرش فإنه لا يحدث في العالم صورة ما لم يحدثه في العرش ، كما لا يحدث النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه في الدماغ ، بل لا يحدث البناء صورة الأبنية ما لم يحدث صورتها في الدماغ ، فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذي هو بدنة فربما نتردد في أنّ إثبات هذه النسبة للعرش إلى الله تعالى هل جائز ، إما لوجود في نفسه أو لأنه أجرى به سنته وعادته وإن لم يكن خلافه محالا كما أجرى عادته في حق قلب الإنسان بأن لا يمكنه التدبير إلا بواسطة الدماغ ، وإن كان في قدرة الله تعالى تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الأزلية وحقت به الكلمة القديمة التي هي علمه فصار خلافه ممتنعا لا لقصور في ذات القدرة لكن لاستحالة ما يخالف الإرادة القديمة والعلم السابق الأزلي ، ولذلك قال : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢ ، الفتح : ٢٣]. وإنما لا تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن إرادة أزلية واجبة ، ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالا في

٣٠٨

ذاته ، ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب العلم الأولي جهلا ويمنع نفوذ المشيئة الأزلية ، فإذا إثبات هذه النسبة لله تعالى مع العرش في تدبير المملكة بواسطته إن كان جائزا عقلا ، فهل واقع وجودا؟ هذا مما قد يتردد فيه الناظر وربما يظن وجوده هذا مثال الظن في نفس المعنى ، والأول مثال الظن في كون المعنى مرادا باللفظ مع كون المعنى في نفسه صحيحا جائزا وبينهما فرقان ، لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح في النفس وحاك في الصدر فلا يدخل تحت الاختيار دفعة عن النفس ولا يمكنه أن يظن ، فإن للظن أسبابا ضرورية لا يمكن دفعها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لكن عليه وظيفتان :

إحداهما : أن لا يدع نفسه تطمئن إليه جزما من غير شعور بإمكان الغلط فيه ، ولا ينبغي أن يحكم من نفسه بموجب ظنه حكما جازما.

والثانية : أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بأن بالاستواء كذا ، أو المراد بالفوق كذا ، لأنه حكم بما لا يعلم ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦]. لكن يقول : أنا أظن أنه كذا فيكون صادقا في خبره عن نفسه وعن ضميره ، ولا يكون حكما على صفة الله ولا على مراده بكلامه ، بل حكما على نفسه ونبأ عن ضميره ، فإن قيل : وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة الخلق والتحدث به كما اشتمل ضميره ، وكذلك لو كان قاطعا ، فهل له أن يتحدث به؟ قلنا : تحدثه به إنما يكون على أربعة أوجه : فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله في الاستبصار أو مع من هو مستعد للاستبصار بذكائه وفطنته وتجرده لطلب معرفة الله تعالى ، أو مع العامي فإن كان قاطعا فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله في الاستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة مستعد له خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة بالمعارف والتظاهر بذكرها مع العوام. فمن اتصف بهذه الصفات فلا بأس بالتحدث معه لأن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة لا لغرض آخر يحيك في صدره أشكال الظواهر وربما يلقيه في تأويلات فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر ومنع العلم أهله. علم. كبثه إلى غير أهله ، وأما العامي فلا ينبغي أن يحدث به وفي معنى العامي كل من لا يتصف بالصفات المذكورة ، بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع الأطعمة القوية التي لا يطيقها. وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار فإن ما ينطوي عليه الذهن من ظن وشك وقطع لا زالت النفس تتحدث به ولا قدرة على الخلاص منه ، فلا منع منه ولا شك في منع التحدث به مع العوام ، بل هو أولى بالمنع من المقطوع. أما تحدثه مع من هو في مثل درجته في المعرفة أو مع المستعد له ففيه نظر ، فيحتمل أن يقال هو جائز ولا يزيد على أن يقول أظن كذا وهو صادق ، ويحتمل المنع لأنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف بالظن في صفة الله تعالى أو في مراده من كلامه وفيه خطر ، وإباحته تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ولم يرد شيء من ذلك بل ورد قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ

٣٠٩

لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦]. فإن قيل يدل على الجواز ثلاثة أمور :

الأول : الدليل الذي دل على إباحة الصدق وهو صادق ، فإنه ليس يخبر إلا عن ظنه وهو ظان.

والثاني : أقاويل المفسرين في القرآن بالحدس والظن ، إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هو مستنبط بالاجتهاد ولذلك كثرت الأقاويل وتعارضت.

والثالث : اجماع التابعين على نقل الأخبار المتشابهة التي نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر ، وما اشتمل عليه الصحيح الذي نقله العدل عن العدل فإنهم جوزوا روايته ولا يحصل بقول العدل إلا الظن.

والجواب عن الأول : أن المباح صدق لا يخشى منه ضرر ، وبث هذه الظنون لا يخلو عن ضرر فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده جزما فيحكم في صفات الله تعالى بغير علم وهو خطر والنفوس نافرة عن أشكال الظواهر ، فإذا وجد مستروحا من المعنى ولو كان مظنونا سكن إليه واعتقد جزما ، وربما يكون غلطا فيكون قد اعتقد في صفات الله تعالى ما هو الباطل أو حكم عليه في كلامه بما لم يرد به.

وأما الثاني : وهو أقاويل المفسرين بالظن فلا نسلم ذلك فيما هو من صفات الله تعالى كالاستواء والفوق وغيره ، بل لعل ذلك في الأحكام الفقهية أو في حكايات أحوال الأنبياء والكفار والمواعظ والأمثال وما لا يعظم خطر الخطأ فيه.

وأما الثالث : فقد قال قائلون لا يجوز أن يعتمده في هذا الباب إلا ما ورد في القرآن أو تواتر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواترا يعيد العلم. فأما أخبار الآحاد ، فلا يقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ، ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية ، لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه ، وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درج عليه السلف ، فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه لا يجوز اتهام العدل بالكذب لا سيما في صفات الله تعالى ، فإذا روى الصديق رضي الله عنه خبرا ، وقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول كذا فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو إلى السهو فقبلوه وقالوا : قال أبو بكر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا في التابعين ، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فمن أين يجب أن لا يتهم ظنون الآحاد وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم. فإذا قال الشارع : ما أخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه واظهروه فلا يلزم من هذا أن يقال ما حدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه واظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته ، فليس هذا في معنى المنصوص ، ولهذا تقول ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولا يروى ويحتاط فيه أكثر مما يحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها.

والجواب الثاني : أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوه يقينا فما نقلوا إلا تيقنوه والتابعون

٣١٠

قبلوه ورووه ، وما قالوا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، بل قالوا : قال فلان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكانوا صادقين ، وما أهملوا روايته لاشتمال كل حديث على فوائد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقيا يفهمه منه ليس ذلك ظنيا في حقه. مثاله رواية الصحابي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : " ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له" ، الحديث. فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتجهد الذي هو أفضل العبادات ، فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولا سبيل إلى إهمالها وليس فيه إلا إيهام لفظ النزول عند الصبي ، والعامي الجاري مجرى الصبي ، وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن يقول له : إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا فأي فائدة في نزوله ، ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا ، فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع شخص في المغرب ومناداته ، فيتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع ، فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وفعلا كفعل المجانين ، فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ، بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه واستحالة الانتقال على غير الأجسام كاستحالة النزول من غير انتقال ، فإذا الفائدة في نقل هذه الأخبار عظيمة والضرر يسير ، فأنى يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس ، فهذه سبل تجاذب طرق الاجتهاد في إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع ، ولا يبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر إلى قرائن حال السائل والمستمع ، فإن علم أنه ينتفع به ذكره ، وإن علم أنه يتضرر تركه ، وإن ظن أحد الأمرين كان ظنه كالعلم في إباحة الذكر ، وكم من إنسان لا تتحرك داعيته باطنا إلى معرفة هذه المعاني ولا يحيك في نفسه إشكال من ظواهرها ، فذكر التأويل معه مشوش ، وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاده في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينكر قوله الموهم ، فمثل هذا لو ذكر معه الاحتمال المظنون بل مجرد الاحتمال الذي ينبو عنه اللفظ انتفع به ولا بأس بذكره معه فإنه دواء لدائه ، وإن كان داء في غيره ، ولكن لا ينبغي أن يذكر على رءوس المنابر لأن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر المستمعين ، وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين ، ولما كان زمان السلف الأول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب ، فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة وألقى هذه الشكوك في القلوب مع الاستغناء عنه فباء بالإثم. أما الآن وقد فشا ذلك في بعض البلاد فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر واللوم عن قائله أقل فإن قيل فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون فبما ذا يحصل القطع بصحة التأويل؟ قلنا بأمرين :

أحدهما : أن يكون المعنى مقطوعا ثبوته لله تعالى كفوقية المرتبة.

الثاني : أن لا يكون اللفظ محتملا إلا لأمرين وقد بطل أحدهما وتعين الثاني مثاله قوله تعالى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨]. فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق لا يحتمل إلا

٣١١

فوقية المكان أو فوقية الرتبة ، وقد بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس لم يبق إلا فوقية الرتبة كما يقال: السيد فوق العبد ، والزوج فوق الزوجة ، والسلطان فوق الوزير ، فالله فوق عباده بهذا المعنى وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق وأنه لا يستعمل لسان العرب إلا في هذين المعنيين ، أما لفظ الاستواء إلى السماء وعلى العرش ربما لا ينحصر مفهومه في اللغة هذا الانحصار ، وإذا تردد بين ثلاثة معان معنيان جائزان على الله تعالى ومعنى واحد وهو الباطل ، فتنزيله على أحد المعنيين الجائزين أن يكون بالظن وبالاحتمال المجرد وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل.

التصرف الثالث : الذي يجب الإمساك عنه التصريف ، ومعناه أنه إذا ورد قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). فلا ينبغي أن يقال مستو ويستوي ، لأن المعنى يجوز أن يختلف لأن دلالة قوله هو مستو على العرش على الاستقرار أظهر من قوله : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الرعد : ٢]. بل هو كقوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩]. فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته ، ففي تغيير التصاريف ما يوقع في تغيير الدلالات والاحتمالات ، فليجتنب التصريف كما يجتنب الزيادة فإن تحت التصرف الزيادة والنقصان.

التصرف الرابع : الذي يجب الإمساك عنه القياس والتفريغ مثل : أن يرد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرا إلى أن هذا من لوازم اليد ، وإذا ورد الأصبع لم يجز ذكر الأنملة كما لا يجوز ذكر اللحم والعظم والعصب ، وإن كانت اليد المشهورة لا تنفكّ عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد ، وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك ، وإثبات الأذن والعين عند ورود السمع والبصر ، وكل ذلك محال وكذب وزيادة ، وقد يتجاسر بعض الحمقى من المشبهة الحشوية فلذلك ذكرناه.

التصرف الخامس : لا يجمع بين متفرق ، ولقد بعد عن التوفيق من صنّف كتابا في جمع الأخبار خاصة ورسم في كل عضو بابا فقال : باب في إثبات الرأس وباب في اليد إلى غير ذلك ، وسماه : كتاب الصفات. فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوقات متفرقة متباعدة اعتمادا على قرائن مختلفة تفهم السامعين معنا صحيحة ، فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه وصار الإشكال في أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نطق بما يوهم خلاف الحق أعظم في النفس وأوقع ، بل الكلمة الواحدة يتطرق إليها الاحتمال ، فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متواليا يضعف الاحتمال بالإضافة إلى الجملة ، ولذلك يحصل من الظن بقول المخبرين وثلاثة ما لا يحصل بقول الواحد ، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ما لا يحصل بالآحاد ويحصل من وكل ذلك نتيجة الاجتماع إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائن ، فإذا انقطع الاحتمال أو ضعف فلذلك لا يجوز جمع المفترقات.

التصرف السادس : التفريق بين المجتمعات فكما لا يجمع بين متفرقة فلا يفرق بين

٣١٢

مجتمعة ، فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة لها مؤثرة في تفهم معناه مطلقا ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه ، فإذا فرقت وفصلت سقطت دلالتها مثال قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨]. لا تسلط على أن يقول القائل هو فوق ، لأنه إذا ذكر القاهر قبلة ظهر دلالة الفوق على الفوقية التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة ولفظ القاهر يدل عليه بل يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره ، بل ينبغي أن يقول فوق عبادة لأن ذكر العبودية في وصفه في الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة إذ لا يحسن أن يقال زيد فوق عمر. وقبل أن يتبين تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ الأمر بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجية ، فهذه الأمور يغفل عنها العلماء فضلا عن العوام ، فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير ، ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف كما ورد على الوجه الذي ورد وباللفظ الذي ورد والحق ما قالوه والصواب ما رأوه ، فأهم المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله وصفاته ، وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الحريان فيما يعظم فيه الخطر وأي خطر أعظم من الكفر.

الوظيفة السادسة : في الكف بعد الإمساك. وأعني بالكف كف الباطن عن التفكر في هذه الأمور ، فذلك واجب عليه كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ، وهذا أثقل الوظائف وأشدها وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن أن يخوض غمرة البحار ، وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ، ولكن لا ينبغي أن تغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها ، بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ، فإن غرق أو التقمه تمساح فإنه أصل الحياة. فإن قلت : إن لم ينصرف قلبه من التفكر والتشوف إلى البحث فما طريقه؟ قلت : طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وقراءة القرآن والذكر ، فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ، فإن لم يقدر فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه العظيم خطره وضرره ، بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى ، فإن ذلك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦].

فإن قلت : العامي إذا لم تكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل ، فهل يجوز أن يكون له الدليل فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكر والنظر ، وأي فرق بينه وبين غيره؟

الجواب : أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الآخر ولكن بشرطين : أحدهما : أن لا يزاد معه على الأدلة التي في القرآن. والآخر : أن لا يماري فيه مراء ظاهرا ولا يتفكر فيه إلا تفكرا سهلا جليا ولا يمعن في التفكر

٣١٣

ولا يوغل غاية الإيغال في البحث ، وأدلة هذه الأمور الأربعة ما ذكر في القرآن.

أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ) [يونس : ٣١]. وقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ* وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ٦ ـ ١٠]. وكقوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا* وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدائِقَ غُلْباً* وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٢٤. ٣١]. وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً* وَالْجِبالَ أَوْتاداً). إلى قوله : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ٦. ١٦]. وأمثال ذلك هي قريب من خمسمائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن بها ينبغي أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته لا بقول المتكلمين إن الأعراض حادثة ، وإن الجواهر لا تخلو عن الأعراض الحادثة ثم الحارث يفتقر إلى محدث ، فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش قلوب العوام ، والدلالات الظاهرة القريبة من الأفهام على ما في القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم الاعتقادات الجازمة.

وأما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]. فإن اجتماع المدبرين سبب إفساد التدبير ، وبمثل قوله : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢]. وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُمِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]. وأما صدق الرسول فيستدل عليه بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨]. وبقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]. وقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣]. وأمثاله ، وأما اليوم الآخر : فيستدل عليه بقوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٨ و ٧٩]. وبقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى). إلى قوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٣٦ و ٤٠]. وبقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ). إلى قوله : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) [الحج : ٥]. وأمثال ذلك كثير في القرآن ، فلا ينبغي أن يزاد عليه.

فإن قيل : فهذه الأدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دلالتها ، فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الأدلة ولا يمتنعون عنها ، وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله فإن فتح للعامي باب

٣١٤

النظر فليفتح مطلقا أو ليسد عليه طريق النظر رأسا وليكلف التقليد من غير دليل.

الجواب : إن الدلالة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ، وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادي الرأي من أول النظر مما يدركه كافة الناس بسهولة ، فهذا لا خطر فيه ، وما يفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ، فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس وتستضر به الأكثرون ، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولا ينتفع بها الصبيان أصلا ، ولهذا قلنا أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغى إليها إصغاء إلى كلام جلي ولا يمارى في الإمراء ظاهرا ، ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر ، فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]. وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين ، فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤]. فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ، فهو الذي ينبغي أن يتوقى. والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك ، ويدل عليه أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك ، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض.

فإن قيل : إنما أعرضوا عنه لقلة الحاجة ، فإن البدع إنما نبغت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين ، وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع ، فلما قلّت في زمانهم أمراض البدع قلّت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ، فالجواب من وجهين.

أحدهما : أنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع ، بل وضعوا المسائل وفرضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله لأن ذلك مما أمكن وقوعه فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها ، والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم فلم يتخذوا ذلك صناعة لأنهم عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الانتفاع ، ولو لا أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه.

والجواب الثاني : أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى إثبات البعث مع منكريه ، ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن ، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إفشاء أدلة وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحريم طريق المجادلة وتذليل طرقها

٣١٥

ومنهاجها ، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان ، فيما بعد بيان الله بيان على أننا ننصف ولا ننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرا في إثارة الإشكالات وأن للعلاج طريقين : أحدهما : الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ، فإن صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله وما أقل الأكياس وما أكثر البله والعناية بالأكثرين أولى.

والطريق الثاني : طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ، وذلك مما يقتنع الأكثرين وإن كان لا يقنع الأقلين ، وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السيوف ثم يستمرون عليه حتى يصير طوعا ما كان في البداية كرها ، ويصير اعتقادا جزما ما كان في الابتداء مراء وشكا ، وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ، فإذا كان كل واحد من العلاجين يناسب قوما دون قوم وجب ترجيح الأنفع في الأكثر ، فالمعاصرون للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحى إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالأصوب والأصلح قطعا ، فسلوك سبيلهم لا محالة أولى.

الوظيفة السابعة : التسليم لأهل المعرفة وبيانه أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها ليس منطويا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الصديق ، وعن أكابر الصحابة ، وعن الأولياء والعلماء الراسخين ، وأنه إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته ، فلا ينبغي أن يقيس بنفسه غيره فلا تقاس الملائكة بالحدادين وليس ما يخلو عنه مخادع العجائز يلزم منه أن يخلو عنه خزائن الملوك ، فقد خلق الناس أشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر ، فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة ، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف ، فبعضها معدن النبوة والولاية والعمل ومعرفة الله تعالى ، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية ، بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف والصناعات فقد يقدر الواحد بخفة يده وحذاقة صناعته على أمور لا يطمع الآخر في بلوغ أوائله فضلا عن غايته ، ولو اشتغل بتعلمه جميع عمره. فكذلك معرفة الله تعالى ، بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز لا يطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان على ساحله ، وإلى من يطيق ذلك ولكن لا يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائما في الماء على رجله ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق رفع الرجل عن الأرض اعتمادا على السباحة ، وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن لا يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذي فيه نفائسه وجوهره ، فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله حذو القذة من غير فرق.

فإن قيل : فالعارفون محيطون بكمال معرفة الله سبحانه حتى لا ينطوي عنهم شيء.

٣١٦

قلنا : هيهات فقد بيّنا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد الأقصى في معاني أسماء الله الحسنى أنه لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله ، وأن الخلائق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم ، فإذا أضيف ذلك إلى علم الله سبحانه فما أوتوا من العلم إلا قليلا ، لكن ينبغي أن يعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله ، فالكل من الحضرة الإلهية كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر فهم من جملة الحضرة السلطانية ، وأنت لا تفهم الحضرة الإلهية إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية ، فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية ، ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر خاص وفي فناء قصره ميدان واسع ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا ولا يمكنون من مجاوزة العتبة ولا إلى طرف الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم ، وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إلا الوزير وحده ، ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على ما يريد ويستأثر عنه بأمور لا يطلعه عليها ، فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة الإلهية ، فالعتبة التي هي آخر الميدان موقف جميع العوام ومردهم لا سبيل لهم إلى مجاوزتها ، فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل ، وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة وانسرحوا في الميدان ولهم فيه جولان على حدود مختلفة في القرب والبعد وتفاوت ما بينهم كثير ، وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة وتقدموا على العوام المفترشين. وإما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن يطأها أقدام العارفين وأرفع من أن يمتد إليها أبصار الناظرين ، بل لا يلمح ذلك الجناب الرفيع صغير وكبير إلا غص من الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير ، فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلا ، فهذه الوظائف السبع الواجبة على عوام الخلق في هذه الأخبار التي سألت عنها وهي حقيقة مذهب السلف ، وأما الآن فنشغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف.

الباب الثاني

في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف وعليه برهانان : عقلي وسمعي. أما العقلي فاثنان كلي وتفصيلي. أما البرهان الكلي على أن الحق مذهب السلف فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل.

الأول : أن أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ما ينتفع به في الآخرة أو يضر لا سبيل إلى معرفته بالتجربة ، كما عرف الطبيب إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر ، ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضر وأخبر عنه ولا يدرك بقياس العقل ، فإن العقول قاصرة عن ذلك ، والعقلاء بأجمعهم معترفون بأن العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت ولا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات. لا سيما على سبيل التفصيل والتحديد كما وردت به الشرائع بل أقروا بجملتهم أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوة وهي قوة وراء العقل يدرك بها من أمر الغيب في

٣١٧

الماضي والمستقبل أمور لا على طريق التعرف بالأسباب العقلية ، وهذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء فضلا عن الأولياء والعلماء والراسخين القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوة المقربين بقصور كل قوة سوى هذه القوة.

الأصل الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفاض إلى الخلق ما أوحى إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، وأنه ما كتم شيئا من الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق فإنه لم يبعث إلا لذلك ، ولذلك كان رحمة للعالمين ، فلم يكن منهما فيه وعرف ذلك علما ضروريا من قرائن أحواله في حرصه على إصلاح الخلق وشغفه بإرشادهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم ، فما ترك شيئا مما يقرب الخلق إلى الجنة ورضاء الخالق إلا دلهم عليه وأمرهم به وحثهم عليه ولا شيئا مما يقربهم إلى النار وإلى سخط الله إلا حذرهم منه ونهاهم عنه ، وذلك في العلم والعمل جميعا.

الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلامه وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسرار الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعاصروه وصاحبوه ، بل لازموه آناء الليل والنهار متشمرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول للعمل به أولا ، وللنقل إلى من بعدهم ثانيا ، وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره ، وهم الذين حثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السماع والفهم والحفظ والأداء فقال : " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها" الحديث. فليت شعري أيّتهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخفائه وكتمانه عنهم حاشا منصب النبوة عن ذلك ، أو يتّهم أولئك الأكابر في فهم كلامه وإدراك مقاصده أو يتهمون في إخفائه وأسراره بعد الفهم أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته على سبيل المكابرة مع الاعتراف بتفهيمه وتكليفه. فهذه الأمور لا يتسع لتقديرها عقل عاقل.

الأصل الرابع : أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرض لمثل هذه الأمور بل بالغوا في زجر من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به على ما سنحكيه عنهم ، فلو كان ذلك من الدين أو كان من مدارك الأحكام وعلم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا ودعوا إليه أولادهم وأهليهم وتشمروا عن ساق الجد في تأسيس أصوله وشرح قوانينه تشمرا أبلغ من تشمرهم في تمهيد قواعد الفرائض والمواريث ، فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه ، لا سيما وقد أثنى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : " خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ستفترق أمّتي نيّفا وسبعين فرقة النّاجية منهم واحدة". فقيل من هم؟ فقال : " أهل السّنّة والجماعة". فقال" ما أنا عليه الآن وأصحابي".

البرهان الثاني : هو التفصيلي. فتقول ادّعينا أن الحق هو مذهب السلف وأن مذهب السلف هو توظيف الوظائف السبع على عوام الخلق في ظواهر الأخبار المتشابهة ، وقد ذكرنا برهان كل وظيفة معها فهو برهان كونه حقا فمن يخالف؟ ليت شعري يخالف في قولنا الأول أنه يجب على العامي التقديس للحق عن التشبيه ومشابهة الأجسام ، أو في قولنا الثاني إنه يجب

٣١٨

عليه التصديق والإيمان بما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعنى الذي أراده أو في قولنا الثالث إنه يجب عليه الاعتراف بالعجز عن درك حقيقة تلك المعاني ، أو في قولنا الرابع إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيهما وراء طاقته ، أو في قولنا الخامس إنه يجب عليه إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزيادة والنقصان والجمع والتفريق ، أو في قولنا السادس إنه يجب عليه كف القلب عن التذكير فيه والفكر مع عجزه عنه ، وقد قيل لهم تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، أو في قولنا السابع إنه يجب عليه التسليم لأهل المعرفة من الأنبياء والأولياء والعلماء الراسخين فهذه أمور بيانها برهانها ولا يقدر أحد على جحدها وإنكارها إن كان من أهل التمييز فضلا عن العلماء والعقلاء. فهذه هي البراهين العقلية.

النمط الثاني : البرهان السمعي على ذلك ، وطريقه أن نقول : الدليل على أن الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة والبدعة مذمومة وضلالة ، والخوض من جهة العوام في التأويل ، والخوض بهم فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة ، وكان نقيضه وهو الكف عن ذلك سنة محمودة فها هنا ثلاثة أصول :

أحدها : أن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه الأمور بدعة.

والثاني : أن كل بدعة فهي مذمومة.

والثالث : أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضها ، وهي السنة القديمة محمودة ولا يمكن النزاع في شيء من هذه الأصول ، فإذا سلم ذلك ينتج أن الحق مذهب السلف.

فإن قيل : فبم تنكرون على من يمنع كون البدعة مذمومة أو يمنع كون البحث والتفتيش بدعة فينازع في هذين وإن لم ينازع في الثالث لظهوره؟ فنقول : الدليل على إثبات الأصل الأول من كون البدعة مذمومة اتفاق الأمة قاطبة على ذم البدعة وزجر المبتدع وتغيير من يعرف بالبدعة ، وهذا مفهوم على الضرورة من الشرع وذلك غير واقع في محل الظن ، فذم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البدعة علم بالتواتر بمجموع أخبار يفيد العلم القطعي جملتها ، وإن كان الاحتمال يتطرق إلى آحادها ، وذلك كعلمنا بشجاعة علي رضي الله عنه ، وسخاوة حاتم ، وحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة رضي الله عنها وما يجري مجراه ، فإن علم قطعا بأخبار آحاد بلغت في الكثرة مبلغا لا يحتمل كذب ناقليها ، وإن لم تكن آحاد تلك الأخبار متواترة ، وذلك مثل ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي عضّوا عليها بالنّواجذ وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار" وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " اتّبعوا ولا تبتدعوا وإنّما هلك من كان قبلكم لمّا ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن أنبيائهم وقالوا بآرائهم فضلّوا وأضلّوا" وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إذا مات صاحب بدعة فقد فتح على الإسلام فتح". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من مشى إلى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له في الله ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ، ومن انتهر

٣١٩

صاحب بدعة رفع الله له مائة درجة ، ومن سلّم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسرّه فقد استخفّ بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم". وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إنّ الله لا يقبل لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا زكاة ولا حجّا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا ، ويخرج من الإسلام كما يخرج السّهم من الرّمية أو كما تخرج الشّعرة من العجين". فهذا وأمثاله مما يجاوز حد الحصر أفاد علما ضروريا بكون البدعة مذمومة.

فإن قيل : سلمنا أن البدعة مذمومة ، ولكن ما دليل الأصل الثاني وهو أن هذه بدعة ، فإن البدعة عبارة عن كل محدث ، قال الشافعي رضي الله عنه الجماعة في التراويح بدعة وهي بدعة حسنة ، وخوض الفقهاء في تفاريع الفقه ومناظرتهم فيها مع ما أبدعوه من نقص وكسر وفساد وضع وتركيب ونحوه من فنون مجادلة والزام كل ذلك مبدع لم يؤثر عن الصحابة شيء من ذلك فدل على أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة مأثورة ، ولا نسلم أن هذا رافع لسنة ثابتة لكنه محدث خاض فيه الألوان إما لاشتغالهم لما هو أهم منه وإما لسلامة القلوب في العصر الأول عن الشكوك والترددات فاستغنوا لذلك وخاض فيه من بعدهم لمسيس الحاجة ، حيث حدثت الأهواء والبدع إلى إبطالها وإفحام منتحلها؟

الجواب : أما ما ذكرتموه من أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة قديمة هو الحق وهذا بدعة رفعت سنة قديمة. إذ كان سنّة الصحابة المنع من الخوض فيه ، وزجر من سأل عنه ، والمبالغة في تأديبه ومنعه بفتح باب السؤال عن هذه المسائل ، والخوض بالعوام في غمرة هذه المشكلات على خلاف ما تواتر عنهم ، وقد صح ذلك عن الصحابة بتواتر النقل عند التابعين من نقلة الآثار ، وسير السلف حجة لا يتطرق إليها ريب ولا شك كما تواتر خوضهم في مسائل الفرائض ومشاورتهم في الوقائع الفقهية وحصل العلم به أيضا بأخبار آحاد لا يتطرق الشك إلى مجموعها ، كما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه سأل سائل عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة ، وكما روي أنه سأله سائل عن القرآن أهو مخلوق أم لا ، فتعجب عمر من قوله فأخذ بيده حتى جاء به إلى علي رضي الله عنه ، فقال : يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل. قال : وما يقول يا أمير المؤمنين؟ فقال الرجل : سألته عن القرآن أمخلوق هو أم لا؟ فوجم لها رضي الله عنه وطأطأ رأسه ، ثم رفع رأسه وقال : سيكون لكلام هذا نبأ في آخر الزمان ولو وليت من أمره ما وليت لضربت عنقه.

وقد روى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن أبي هريرة ، فهذا قول علي بحضور عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ولم يقولا له ولا أحد ممن بلغه ذلك من الصحابة ، ولا عرف علي رضي الله عنه في نفسه أن هذا سؤال عن مسألة دينية وتعرف لحكم كلام الله تعالى وطلب معرفة لصفة القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الرسول ، بل هو الدليل المعرف لأحكام التكليف ، فلم يستوجب طالب المعرفة هذا التشديد ، فانظر إلى فراسة علي وإشرافه على أن ذلك قرع لباب الفتنة ، وأن ذلك سينتشر في آخر الزمان الذي هو موسم الفتن ومطيتها بوعد

٣٢٠