مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

الباب الثالث

في بيان معنى السلوك والتصوف

اعلم : أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف. وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن ، والعبد في جميع ذلك مشغول عن ربه إلا أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول. والذي يفسد على السالك سلوكه شيئان : اتباع الرخص بالتأويلات ، والاقتداء بأهل الغلط من متبعي الشهوات. ومن ضيع حكم وقته فهو جاهل ، ومن قصر فيه فهو غافل ، ومن أهمله فهو عاجز. لا تصح إرادة المريد حتى يكون الله ورسوله وسواس قلبه ، ويكون نهاره صائما ولسانه صامتا. لأن كثرة الطعام والكلام والمنام تقصي القلب. وظهره راكعا وجبهته ساجدة وعينه دامعة وغامضة ، وقلبه حزينا ولسانه ذاكرا.

وبالجملة : قد شغل كل عضو فيه ومعنى فيه بوظيفة ندبه الله ورسوله إليها وترك ما كره الله ورسوله له. وللورع معانقا ولأهوائه تاركا مطلقا ورائيا جميع ما وفقه الله تعالى له من فضل الله عليه ، ويجتهد أن يكون ذلك كله احتسابا لا ثوابا ، وعبادة لا عادة ، لأنه من لاحظ المعمول له اشتغل به عن رؤية الأعمال ونفسه تاركة للشهوات ، فصحة الإرادة ترك الاختيار والسكون الى مجاري الأقدار كما قيل :

أريد وصاله ويريد هجري

فأترك ما أريد لما يريد

وافن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمر الله ، وعن إرادتك بفعل الله ، فحينئذ تصلح أن تكون وعاء لعلم الله فعلامة فنائك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم والإياس عما في أيديهم ، وعلامة فنائك عنك وعن هواك ترك التكسب ، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك ، ولا تعتمد عليك لك ، ولا تذب عنك ولا تضر نفسك ، لكن تكل ذلك كله الى من تولاه أولا ليتولاه آخرا ، كما كان ذلك موكلا اليه في حال كونك مغيبا في الرحم ، وكونك رضيعا في مهدك ، وعلامة فنائك عن إرادتك بفعل الله أن لا تريد مرادا قط لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها ، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله وفعله ساكن الجوارح مطمئن الجنان ، مشروح الصدر ، منور الوجه ، عامر الباطن ، تقلبك القدرة ويدعوك لسان الأزل ، ويعلمك رب الملك ، ويكسوك من نور الحلل ، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم.

فصل في لزوم العزلة

على السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها على أعدائه. وهي نوعان : فريضة وفضيلة.

١٠١

فالفريضة : العزلة عن الشر وأهله. والفضيلة العزلة عن الفضول وأهله. وقيل : الخلوة غير العزلة ، والخلوة من الأغيار ، والعزلة من النفس وما تدعو إليه وتشغل عن الله. وقيل : السلامة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وواحدة في العزلة. وقيل : الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت عما لا يعني. والعاشرة في العزلة عن الناس. كثير من ندم على الكلام وقلّ من ندم على السكوت. وقيل : الخلوة أصل والخلطة عارض ، فيلزم الأصل ولا يخالط إلا بقدر الحاجة ، وإذا خالط يلازم الصمت فإنه أصل.

وإذا صفا لك من زمانك واحد

فهو المراد فأين ذاك الواحد

وقيل : الخلوة بالقلب فيكون مستغرقا بكليته مع الحق تعالى معكوفا قلبه عليه مشغوفا به والها إليه متحققا كأنه بين يديه. قيل : أول مبادئ السالك أن يكثر الذكر بقلبه ولسانه بقوة حتى يسري الذكر في أعضائه وعروقه ، وينتقل الذكر إلى قلبه فحينئذ يسكت لسانه ويبقى قلبه ذاكرا يقول (الله الله) باطنا مع عدم رؤيته لذكره ، ثم يسكن قلبه ويبقى ملاحظا لمطلوبه مستغرقا به معكوفا عليه مشغوفا اليه مشاهدا له ، ثم يغيب عن نفسه بمشاهدته ، ثم يفني عن كليته بكليته حتى كأنه في حضرة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] فحينئذ يتجلى الحق على قلبه فيضطرب عند ذلك ويندهش ويغلب عليه السكر وحالة الحضور والإجلال والتعظيم ، فلا يبقى فيه متسع لغير مطلوبه الأعظم. كما قيل : فلا حاجة لأهل الحضور الى غير شهود عوانه. وقيل في قوله تعالى : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [البروج : ٣] فالشاهد : هو الله ، والمشهود : هو عكس جمال الحضرة الصمدية فهو الشاهد والمشهود.

فصل

يا حبيبي أطبق جفنيك وانظر ما ذا ترى ، فإن قلت لا أرى شيئا حينئذ فهو خطأ منك بل تبصر. ولكن ظلام الوجود لفرط قربه من بصيرتك لا تجده. فإن أحببت أن تجده وتبصره قدامك مع أنك مطبق جفنيك ، فانقص من وجودك شيئا أو أبعد من وجودك شيئا وطريق تنقيصه والإبعاد منه قليلا المجاهدة ومعنى المجاهدة بذل الجهد في دفع الأغيار أو قتل الأغيار والأغيار الوجود والنفس والشيطان. وبذل الجهد مضبوط بطرق :

الأول : تقليل الغذاء بالتدريج ، فإن مدد الوجود والنفس والشيطان من الغذاء ، فإذا قلّ الغذاء قلّ سلطانه.

والثاني : ترك الاختيار وإفنائه في اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه ، فإنه مثل الطفل والصبي الذي لم يبلغ مبلغ الرجال أو السفيه المبذر. وكل هؤلاء لا بد لهم من وصي أو ولي أو قاض أو سلطان يتولى أمرهم.

والثالث : من الطرق طريقة الجنيد قدس الله روحه وهو ثمان شرائط. دوام الوضوء ، ودوام الصوم ، ودوام السكوت ، ودوام الخلوة ودوام الذكر وهو قول (لا إله إلا الله) ، ودوام ربط

١٠٢

القلب بالشيخ واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه في تصرف الشيخ ، ودوام نفي الخواطر ، ودوام ترك الاعتراض على الله تعالى في كل ما يرد منه عليه ضرا كان أو نفعا وترك السؤال عنه من جنة أو تعوذ من نار.

والفرق بين الوجود والنفس والشيطان في مقام المشاهدة : أن الوجود شديد الظلمة في الأول ، فإذا صفا قليلا تشكل قدامك بشكل الغيم الأسود فإذا كان عرش الشيطان كان أحمر فإذا صلح وفني الحظوظ منه وبقي الحقوق صفا وابيض مثل المزن ، والنفس إذا بدت فلونها لون السماء وهي الزرقة ، ولها نبعان كنبعان الماء من أصل الينبوع. فإذا كانت عرش الشيطان فكأنها عين من ظلمة ونار ويكون نبعها أقل. فإن الشيطان لا خير فيه وفيضان النفس على الوجود وتربيته منها فإن صفت وزكت أفاضت عليه الخير وما نبت منه. فإن أفاضت عليه الشر فكذلك ينبت منه الشر ، والشيطان نار غير صافية ممتزجة بظلمات الكفر في هيئة عظيمة وقد يتشكل قدامك كأنه زنجي طويل ذو هيبة يسعى كأنه يطلب الدخول فيك. فإذا طلبت منه الانفكاك فقل في قلبك يا غياث المستغيثين أغثنا فإنه يفر عنك.

فصل في التصوف

حكم الصوفي أن يكون الفقر زينته والصبر حليته والرضى مطيته والتوكل شأنه. والله عزوجل وحده حسبه يستعمل جوارحه في الطاعات وقطع الشهوات والزهد في الدنيا والتورع عن جميع حظوظ النفس ، وأن لا يكون له رغبة في الدنيا البتة ، فإن كان ولا بدّ فلا تجاوز رغبته كفايته ويكون صافي القلب من الدنس ولها بحب ربه فارا الى الله تعالى بسره يأوي اليه كل شيء ، ويأنس به وهو لا يأوي الى شيء ، أي لا يركن الى شيء ولا يأنس بشيء سوى معبوده آخذا بالأولى والأهم والأحوط في دينه مؤثرا الله على كل شيء.

التصوف : طرح النفس في العبودية وتعلق القلب بالربوبية. وقيل : كتمان الفاقات ومدافعة الآفات.

وقال سهل بن عبد الله : الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والمدر. وقيل : التصوف تصفية القلب عن مرافقة البرية ، ومفارقة الأخلاق الطبيعية ، وإخماد صفات البشرية ، ومجانبة الدواعي النفسانية ، ومنازلة الصفات الروحانية ، والتعلق بالعلوم الحقيقية واتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشريعة. وقيل : الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس ومعينه على هذه دوام افتقاره الى مولاه ، فبدوام الافتقار يتفطن للكدر كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها الى ربه ، فبدوام تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه. قال الله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٨] وهذه لله على النفس وهو تحقق بالتصوف.

١٠٣

فصل في أصول التصوف

أكل الحلال والاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته. ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مضبوط بالكتاب والسنة. أخذ هذا المذهب بالورع والتقوى لا بالدعاوى.

التصوف : أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة. فالعلم : يكشف عن المراد ، والعمل : يعين على الطلب ، والموهبة : تبلغ غاية الأمل.

وأهله على ثلاث طبقات : مريد طالب ، ومتوسط سائر ، ومنته واصل. فالمريد صاحب وقته ، والمتوسط صاحب حال ، والمنتهي صاحب يقين ، وأفضل الأشياء عندهم عد الأنفاس. فمقام المريد المجاهدات والمكابدات وتجرع المرارات ومجانبة الحظوظ وما على النفس فيه تبعة. ومقام المتوسط ركوب الأهوال في طلب المراد ومراعاة الصدق واستعمال الأدب في المقامات وهو مطالب بآداب المنازل وهو صاحب تلوين ، لأنه ينتقل من حال الى حال وهو الزيادة. ومقام المنتهي الصحو والثبات وإجابة الحق من حيث دعاه قد تجاوز المقامات ، وهو في محل التمكين لا تغيره الأهوال ولا تؤثر فيه الأحوال. قد استوى في حال الشدة أو الرخاء والمنع والعطاء والجفاء والوفاء. أكله كجوعه ونومه كسهره. قد فنيت حظوظه وبقيت حقوقه ظاهرة مع الخلق ، وباطنه مع الحق كل ذلك من أحوال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. المنتهي لو نصب له سنان في أعلى شاهق في الأرض وهبت له الرياح الثمانية ما حركت منه شعرة واحدة. وقيل : سموا صوفية لأنهم وقفوا في الصف الأول بين يدي الله عزوجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بين يديه بسرائرهم.

فصل في الملامتية

حكم الملامتي أن لا يظهر خيرا ولا يضمر شرا. وشرح هذا : هو أن الملامتي تشربت عروقه طعم الإخلاص وتحقق بالصدق فلا يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله. والملامتية لهم مزيد اختصاص بالتمسك بالإخلاص يرون كتم الأحوال ويتلذذون بكتمها حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد استوحشوا من ذلك ، كما يستوحش العاصي من ظهور معصيته. فالملامتي عظّم موقع الإخلاص وموضعه وتمسك به معتمدا به. والصوفي غاب في إخلاصه. قال أبو يعقوب السوسي : متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم الى إخلاص. قال بعضهم : صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر الى الحق ، والملامتي يرى الخلق فيخفي عمله وحاله. قال جعفر الخلدي : سألت أبا القاسم الجنيد قلت : بين الإخلاص والصدق فرق؟ قال : نعم الصدق أصل وهو الأول والإخلاص فرع وهو تابع. وقال : بينهما فرق لأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل. ثم قال : إنما هو

١٠٤

إخلاص ومخالصة الإخلاص وخالصته كائنة في المخالصة. فعلى هذا الإخلاص حال الملامتي ، ومخالصة الإخلاص حال الصوفي ، والخالصة الكائنة في المخالصة ثمرة مخالصة الإخلاص وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه ، بل غيبته عن رؤية قيامه وهو الاستغراق في العين عن الآثار والتخلص عن لوث الاستتار وهو فقد حال الصوفي. والملامتي مقيم في أوطان إخلاصه غير متطلع الى حقيقة إخلاصه.

وهذا فرق واضح بين الملامتي والصوفي. فالملامتي وإن كان متمسكا بعروة الإخلاص مستفرشا بساط الصدق. ولكن عليه بقية رؤية الخلق وما أحسنها من بقية تحقق الإخلاص والصدق. والصوفي صفاء من هذه البقية في طرفي العمل والترك للخلق وعزلهم بالكلية وراءهم بعين الفناء والزوال ، ولاح له ناصية التوحيد وعاين سر (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] كما قال بعضهم في بعض غلباته : ليس في الدارين غير الله. وقد يكون إخفاء الملامتي الحال على وجهين : أحد الوجهين لتحقيق الإخلاص والصدق ، والوجه الآخر ، وهو الأتم لستر الحال عن غيره بنوع غيره ، فإنه من خلا بمحبوبه يكره اطلاع الغير عليه ، بل يبلغ في صدق المحبة أن يكره اطلاع أحد على حبه لمحبوبه ، وهذا وإن علا ففي طريق الصوفي علة ونقص. فعلى هذا يتقدم الملامتي على المتصوف ويتأخر عن الصوفي. وقيل : من أصول أهل الملامة أن الذكر على أربعة أقسام : ذكر باللسان ، وذكر بالقلب ، وذكر بالسر ، وذكر بالروح. فإذا صح ذكر الروح سكت السر والقلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر المشاهدة ، وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر الهيبة ، وإذا صح ذكر القلب فتر اللسان عن الذكر وذلك ذكر الآلاء والنعماء ، وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر. وذلك ذكر العادة.

ولكل واحد من هذه الأذكار عندهم آفة ، فآفة ذكر الروح اطلاع السر عليه وآفة ذكر السر اطلاع القلب عليه ، وآفة ذكر القلب اطلاع النفس عليه ، وآفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه وطلب ثواب أو ظن أنه يصل الى شيء من المقامات به.

وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك. وسر هذا الأصل الذي بنوا عليه أن ذكر الروح ذكر اللذات ، وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم ، وذكر القلب من الآلاء والنعماء ذكر أثر الصفات ، وذكر النفس متعرض للعلات ، فمعنى قولهم : اطلاع السر على الروح يشيرون الى التحقيق بالفناء عند ذكر الذات ، وذكر الهيبة في ذلك الوقت ذكر الصفات وهو وجود الهيبة ، ووجود الهيبة يستدعي وجودا أو بقية. وذلك يناقض حال الفناء. وهكذا ذكر السر وجود هيبة وهو ذكر الصفات مشعر بنصيب القرب ، وذكر القرب الذي هو ذكر الآلاء والنعماء مشعر ببعد ما لا به اشتغال بذكر النعمة وذهول عن المنعم ، والاشتغال برؤية العطاء عن رؤية المعطي ضرب من بعد المنزلة واطلاع النفس نظرا الى الأغراض اعتداد بوجود العمل ، وذلك عين الاعتلال حقيقة ، وهذه أقسام هذه الطائفة وبعضها أعلى من بعض. والله أعلم.

١٠٥

الباب الرابع

في بيان معنى الوصول والوصال

اعلم : أن الوصول هو أن ينكشف للعبد حلية الحق ويصير مستغرقا به ، فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلّا الله وإن نظر الى همته فلا همة له سواه. فيكون كله مشغولا بكله مشاهدة وهما ولا يلتفت في ذلك الى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة أو باطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البداية ، وأما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول ، فافهم جدا. ومعنى الوصال هو الرؤية والمشاهدة بسر القلب في الدنيا وبعين الرأس في الآخرة ، فليس معنى الوصال اتصال الذات بالذات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال بعضهم :

وإنّ طرفي موصول برؤيته

وإن تباعد عن مثواي مثواه

اعلم : أن مباني طريق الصوفية على أربعة أشياء وهي : اجتهاد ، وسلوك ، وسير ، وطير. فالاجتهاد : التحقق بحقائق الإسلام. والسلوك : التحقق بحقائق الإيمان. والسير : التحقق بحقائق الإحسان. والطير : الجذبة بطريق الجود والإحسان الى معرفة الملك المنان ، منزلة الاجتهاد من السلوك منزلة الاستنجاء من الوضوء ، فمن لا استنجاء له لا وضوء له. فهكذا من لا اجتهاد له لا سلوك له. ومنزل السلوك من السير منزلة الوضوء من الصلاة ، فمن لا وضوء له لا صلاة له. فكذا من لا سلوك له لا سير له. وبعده الطير وهو الوصول والله تعالى أعلم. فهذه طريق السالكين ومنازل السائرين ، وبعد ذلك طريق الوصول ومنازل الواصلين وهو الطير. والله أعلم.

فصل في الاتصال

قال الثوري : الاتصال مكاشفات القلوب ومشاهدات الأسرار في مقام الذهول.

اعلم : أن الاتصال والمواصلة فيما أشار إليه الشيوخ وكل من وصل إلى صفو اليقين بطريق الذوق والوجد فهو رتبة من الوصول. ثم يتفاوتون فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال وهو رتبة في التجلي فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع الله تعالى ويخرج في هذه الحالة من التدبير والاختيار. وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يوقف في مقام الهيبة والأنس بما يكاشف قلبه من مطالعة الجلال والجمال ، وهذا تجلي بطريق الصفات وهو رتبة في الوصول. ومنهم من يرقى الى مقام الفناء مستمليا على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة مغيبا في شهوده عن وجوده ، وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين ، وهذه رتبة في الوصول وفوق هذا حق اليقين ويكون من ذلك في الدنيا للخواص لمح وهو سريان نور المشاهدة في كلية العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه حتى قالبه. وهذا من أعلى رتب الوصول ، وإذا تحققت الحقائق يعلم العبد مع هذه الأحوال الشريفة أنه يعد في أول المنزل. فأين الوصول؟ هيهات منازل طريق الوصول لا تقطع أبد

١٠٦

الآباد في عمر الآخرة الأبدي. فكيف في العمر القصير الدنيوي؟ والله أعلم.

الباب الخامس

في بيان معنى التوحيد والمعرفة ويضاف اليهما البصيرة

والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة واليقين والإلهام

والفراسة لأنها من مواريثهما

أما التوحيد : فهو إفراد القدم عن الحدوث والإعراض عن الحادث والإقبال على القديم حتى لا يشهد نفسه فضلا عن غيره ، لأنه لو شاهد نفسه في حال توحيد الحق تعالى أو غيره لكان مثنيا لا موحدا ذاته القديمة بوصف الوحدانية موصوفة وبنعت الفردانية منعوتة ، وصفات المحدثات من المشاكلة والمماثلة والاتصال والانفصال والمقارنة والمجاورة والمخالطة والحلول والخروج والدخول والتغيير والزوال والتبدل والانتقال من قدس ذاته ونزاهة صفاته مسلوبة ، ولا ينسب نقصان الى كمال جماله وكمال جمال أحديته مبرأ عن وصمة ملاحظة الأفكار ، وجلال صمديته معرى عن مزاحمة ملابسة الأذكار ، ضاقت عبارات المبارزين في ميدان الفصاحة عن وصف كبريائه ، وعجز بيان السابقين في عرصة المعرفة عن تعريف ذاته تعالى ، وتعالى إدراكه عن مناولة الحواس ومحاولة القياس ، وليس لأصحاب البصائر في أشعة أنوار عظمته سبيل التعامي والتغاشي. إن قلت : أين؟ فالمكان خلقه ، وإن قلت : متى؟ فالزمان إيجاده ، وإن قلت : كيف؟ فالمشابهة والكيف مفعوله ، وإن قلت : كم؟ فالمقدار والكمية مجعوله ، الأزل والأبد مندرج تحت إحاطته ، والكون والمكان منطو في بساطه كل ما يسع في العقل والفهم والحواس والقياس ذات الله تعالى مقدسة عنه. اذ كل ذلك محدث والمحدث لا يدرك إلا المحدث دليل وجوده ، وبرهان شهوده الإدراك في هذا المقام عجز. والعجز عن درك الإدراك إدراك. لا يصل بكنه الواحد إلا الواحد ، وكل ما انتهى إدراك الموحد اليه فهو غاية إدراكه لا غاية الواحد تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وكل من ادعى أن معرفة الواحد منحصرة في معرفته فهو بالحقيقة ممكور ومغرور. وقوله تعالى : (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [الحديد : ١٤] إشارة الى هذا الغرور.

فصل في التوحيد

والتوحيد في البداية نفي التفرقة والوقوف على الجمع. وأما في النهاية فيمكن أن يكون الموحد حال التفرقة مستغرقا في عين الجمع وفي عين الجمع بعين الجمع ناظرا الى التفرقة بحيث كل واحد من الجمع والتفرقة لا يمنع من الآخر. وهذا هو كمال التوحيد وذلك أن يصير حال التوحيد وصفا لازما لذات الموحد ، وتتلاشى وتضمحل ظلمة رسوم وجوده في غلبة إشراق أنوار توحيده ، ونور علم توحيده يستتر ويندرج في نور حاله على مثال اندراج الكواكب في نور الشمس ، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أضواء نور الكواكب. وفي هذا المقام يستغرق وجود الموحد في مشاهدة جمال الواحد في عين الجمع بحيث لا يشاهد غير ذات الواحد تعالى وغير صفاته عزوجل واستلبه أمواج بحر التوحيد وغرق في عين الجمع من هنا.

١٠٧

قال الجنيد : قدس الله روحه. معنى ذلك تضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ويكون الله تعالى كما لم يزل. وقيل : من وقع في بحار التوحيد لا يزداد على ممر الزمان إلا عطشا.

فصل في بيان أنواع التوحيد

اعلم : أن إثبات التوحيد خمسة أشياء في أصول التوحيد لا بدّ لكل مكلف من اعتقادهن.

أحدها : وجود البارئ تعالى ليبرأ به من التعطيل.

ثانيها : وحدانيته تعالى ليبرأ به من الشرك.

وثالثها : تنزيهه تعالى عن كونه جوهرا أو عرضا. وعن لوازم كل منهما ليبرأ به من التشبيه.

ورابعها : إبداعه تعالى بقدرته واختياره لكل ما سواه ليبرأ به عن القول بالعلة والمعلول.

وخامسها : تدبيره تعالى لجميع مبتدعاته ليبرأ به عن تدبير الطبائع والكواكب والملائكة ، وقوله (لا إله إلا الله) يدل على الخمسة.

فصل

اتفق المسلمون على أن الله تعالى موصوف بكل كمال. بريء من كل نقصان ، لكنهم اختلفوا في بعض الأوصاف فاعتقد بعضهم أنها كمال فأثبتها له واعتقد آخرون أنها نقصان فنفوها عنه. ولذلك أمثلة:

أحدها : قول المعتزلة إن الانسان خالق لأفعاله ، لأن الله لو خلقها ثم نسبها اليه ، ولأنه لو فعلها مع أنه لم يفعلها وعذبه عليها مع أنه لم يوجدها ، لكان ظالما له والظلم نقصان. وكيف يصح أن يفعل شيئا ثم يلوم غيره عليه ويقول له : كيف فعلته ولم فعلته؟ وأهل السنة يقولون : وجدنا كمال الإله في التفرد ونفي القدرة عيب ونقصان ، وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيب البهائم والمجانين والأطفال ، لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] والقول بالتحسين والتقبيح باطل فرأوا أن يكون هو الخالق لأفعال العباد ورأوا تعذيبهم على ما لا يخلقون جائزا من أفعاله غير قبيح.

المثال الثاني : اختلاف المجسمة مع المنزهة. قالت المجسمة : لو لم يكن جسما لكان معدوما ولا عيب أقبح من العدم. وكذا النفي عن الجهات قول بعدمه لأن من لا جهة له لا يتصور وجوده. وقالت المنزهة : لو كان جسما لكان حادثا ولفاته كمال الأزلية والنفي عن الجهات كلها إنما يوجب عدم من كان محدودا منحصرا في الجهات. فأما ما كان موجودا قديما لم يزل ولا جهة فلا ينصرف إليه النفي.

المثال الثالث : إيجاب المعتزلي على الله أن يثبت الطائعين كيلا يظلمهم والظلم نقصان ، وقول الأشعري : ليس ذلك بظلم إذ لا يجب عليه حق لغيره إذ لو وجب عليه حق غيره لكان في قيده والتقييد بالأغيار نقصان.

المثال الرابع : قول المعتزلة إن الله تعالى يريد الطاعات وإن لم تقع ، لأن إرادتها كمال

١٠٨

ويكره المعاصي وإن وقعت ، لأن إرادتها نقصان. وقول الأشعري : لو أراد ما لا يقع لكان ذلك نصا في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به ولو كره المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالا في كراهته. وكذلك نقصان.

المثال الخامس : إيجاب المعتزلي على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده لما في تركه من النقصان. وقول الأشعري : لا يلزمه ذلك ، لأن الإلزام نقصان وكمال الإله أن لا يكون في قيد المتألهين. وبالله التوفيق.

فصل

اعلم : أن من نسب المشيئة ، والكسب الى نفسه فهو قدري ، ومن نفاهما عن نفسه فهو جبري. ومن نسب المشيئة الى الله تعالى والكسب الى العبد فهو سني صوفي رشيد ، فقدرة العبد وحركته خلق للرب تعالى وهما وصف للعبد وكسب له ، والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر والقضاء هو الخلق ، والفرق بين القضاء والقدر هو أن القدر أعم والقضاء أخص ، فتدبير الأوليات قدر وسوق تلك الأقدار بمقاديرها وهيئاتها الى مقتضياتها هو القضاء ، فالقدر إذا تقدير الأمر بدءا والقضاء فصله وقطع ذلك الأمر كما يقال قضى القاضي.

فصل في الأهواء

اعلم : أن أهل الأهواء المختلفة ست فرق ، وكل اثنين منها ضدان وهي : التشبيه والتعطيل ، والجبر والقدر ، والرفض والنصب ، وكل واحدة منها تفترق الى اثنتي عشرة فرقة ، فالتشبيه والتعطيل ضدان ، والجبر والقدر ضدان ، والرفض والنصب ضدان ، وكل من هؤلاء منحرفون عن الصراط المستقيم ، والفرقة الناجية الوسط وهم أهل السنة والجماعة. فأما الفرقة المشبهة فإنهم بالغوا وغلوا في إثبات الصفات حتى شبهوا وجوزوا الانتقال والحلول والاستقرار والجلوس وما أشبه ذلك ، وأما الفرقة المعطلة : فإنهم بالغوا وغلوا وبالغوا في نفي التشبيه حتى وقعوا في التعطيل ، وأما أهل السنة والجماعة : فإنهم سلكوا الطريق الوسط وأثبتوا صفات الله كما وردت من غير تشبيه ولا تعطيل ، فعلمت بذلك سبيل الشيطان ما عليه المشبهة والمعطلة ، وأما الجبرية والقدرية : فكل منهم بعيد عن الصراط المستقيم ، فمن نفى المشيئة والكسب عن نفسه فهو جبري ، ومن نسبهما الى نفسه فهو قدري ، ومن نسب المشيئة الى الله تعالى والكسب الى العبد فهو سني ، وأما الرافضة والناصبة : فكل منهما بعيد عن الصراط. فالرافضي : ادعى محبة أهل البيت وبالغ في سب الصحابة وبغضهم ، والناصبي : بالغ في التعصب من جهة الصحابة حتى وقع في عداوة أهل البيت ونسب عليا رضي الله عنه الى الظلم والكفر ، وأما أهل السنة : فإنهم سلكوا الطريق الوسط فأحبوا أهل البيت وأحبوا الصحابة وحفظ الله تعالى ألسنتهم من الوقيعة في أحد منهم إلا بالحمد والثناء عليهم فلله الحمد والمنة والشكر.

١٠٩

فصل في القضاء

القضاء يطلق تارة يراد به الأمر المبرم نحو قوله تعالى : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [غافر : ٦٨] وتارة يراد به الإعلام بوجوب الحكم الواجب لله كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣]. إذ لو كان هذا من القضاء المبرم لما عبد غيره تعالى إذ يستحيل تخلف الأثر عن مؤثره ، وكذا قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٧]. والمراد به الإعلام اذ لو كان قضاء وحكما مبرما لعبده الكل فنشأ الخلاف لعدم الفرقان.

فصل

اعلم : أن الله تعالى قضى فيما قضاه أزلا أن بعض الأمور يكون منوطا بالعبد موقوفا عليه في أفعاله وأقواله ما قضاه فقد أمضاه فلا يجوز تغيره ولا يقال : إن الله تعالى يغير ما قضاه لأنه تعالى لا يعارض نفسه فيما قضاه ، إذا لم يكن عبثا ولا تبعا للشهوات تعالى عن ذلك ، وإنما قضى بمقتضى الحكمة وما صدر عن الحكمة فلا مغير له ، فما قضاه منوطا بفعل العبد ، فكالحرث والنسل ، وما قضاه موقوفا على فعل العبد فكالدعاء والاستغفار.

واعلم : أن الله تعالى أثبت فعل العبد في مواضع نحو قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : ٢٤] وقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ومحاه في مواضع أخر نحو قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] والحكمة فيه أنه تعالى خالق الأفعال ومقدرها والعبد كاسبها ومسببها ، فالعبد يعمل العبادة والله تعالى يجازي عليها ولو لا نسبة هذه الأفعال خلقا وكسبا لما سمي عابدا ومعبودا ، فثبت أن العبد عابد كاسب وأن الله تعالى معبود خالق ، واعلم أن الأفعال قسمان :

أحدهما : قوله ما يقع من العبد وهو الكسب المنسوب اليه ولهذا أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وثبتت الحاجة الى العقول لتقوم بها الحجة وتتضح بها المحجة.

الثاني : ما يقع على العبد جزاء وهو ما بيد الله تعالى ويد العبد ، وكلاهما لا يكون إلا بما كسبت يد العبد لقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وما ناسب هذه الآية ، فمن فهم هذه الجملة أمكنه أن يفقه المراد من كلام الله تعالى فيما هو المضاف الى العباد ، ومثال ذلك : قطع الجلاد يد السارق. يصح أن يقال : القاطع هو الجلاد لأنه كاسب ، ويصح أن يقال : إن الله تعالى هو القاطع بيد الجلاد لأنه تعالى هو المجازي للمقطوع لما بدا منه ، ويصح أن يقال : إن السارق هو القاطع ليده لأنه هو المبتدئ لما جناه فلا يقع عليه إلا ببعض ما كسبت يداه ، فيكون الفعل الواجد من الرب تعالى جزاء من المقطوع ابتداء ومن القاطع كسبا ولا يناقض أحد أحدا وأدلته واضحة في الكتاب ، ومن فهم هذه الجملة حق فهمها لم يخف إلا من نفسه ولم يرج الا رحمة الله سبحانه وتعالى. قال : أين عبد الله كلنا في

١١٠

ذات الله تعالى أحمق ، يعني إن نظرنا الى قضائه نتوهم أن العبد معذور فيما يفعل ، وإن نظرنا إلى الأمر والنهي والى اختيار العبد ربما يظن أن العبد مستبد بما يفعل ، بل الحق فيه أن يعتقد أن العبد غير مستغن عن الله تعالى في سائر أفعاله وأقواله ، وأحواله ، بل هو متقلب في مشيئته وأنه غير مجبور ولا مسخر كالحيوانات والجمادات ، بل هو موفق في ضمن أسباب السعادة ومخذول أو مطرود في ضمن أسباب الشقاوة.

فصل

لو قيل : إن كان للقدرة الحادثة أثر في المقدور فهو شرك خفي ، وإن لم يكن لها أثر فهو جبر. يقال : إنما يكون شركا إذا كان لها في التخليق أثر ، وإنما أثرها في الكسب والله تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركا ولو لم يكن لها أثر في المقدور لزم أن يكون وجودها كعدمها فهو إذا قدير بلا قدرة وهو محال.

واعلم أن من ظن أن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعظ وتواعد لغير قادر مختار ، فهو مختل المزاج يحتاج الى علاج ولسبب اختلاف الناس في الاستدلال بالقرآن قبل فهمه وقعوا في الجبر والقدر ، لأنهم لم يفرقوا بين قدرة الخالق القديمة وبين قدرة المخلوق الحادثة والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة بالخلق ولا مدخل لها في الكسب ، وأن القدرة الحادثة مستقلة بالكسب ولا مدخل لها في الخلق والظلم إنما ينسب الى الحادثة ، وأما القديمة فمبرئة عنه لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤]

فصل الفرق بين العلم والمعرفة

وأما المعرفة : فهي نفس القرب وهو ما أخذ القلب وأثر فيه أثرا يؤثر في الجوارح. فالعلم : كرؤية النار مثلا. والمعرفة كالاصطلاء بها ، والمعرفة في اللغة : هو العلم الذي لا يقبل الشك وفي العرف اسم لعلم تقدمه نكرة ، وفي عبارة الصوفية المعرفة هو العلم الذي لا يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته. فإن قيل : ما معرفة الذات وما معرفة الصفات؟ يقال : معرفة الذات أن يعلم أن الله تعالى موجود واحد فرد وذات وشيء عظيم قائم بنفسه ولا يشبهه شيء ، وأما معرفة الصفات : فأن تعرف أن الله تعالى حي عالم قادر سميع بصير الى غير ذلك من الصفات. فإن قيل : ما سر المعرفة؟ يقال : سرها وروحها التوحيد ، وذلك بأن تنزه حياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه عن التشبيه بصفات الخلق : ليس كمثله شيء.

فإن قيل : ما علامة المعرفة؟ يقال : حياة القلب مع الله تعالى ، أوحى الله تعالى الى داود عليه‌السلام أتدري ما معرفتي؟ قال : لا. قال : حياة القلب في مشاهدتي.

فإن قيل : ففي أي مقام تصح المعرفة الحقيقية؟ يقال : في مقام الرؤية والمشاهدة بسر القلب ، وإنما يرى ليعرف ، لأن المعرفة الحقيقية في باطن الإرادة فيرفع الله تعالى بعض

١١١

الحجب فيريهم نور ذاته تعالى وصفاته عزوجل من وراء الحجاب ليعرفوه تعالى ، ولا يرفع الحجب بالكلية لكيلا يحترق الرائي. قال بعضهم بلسان الحال :

ولو أني ظهرت بلا حجاب

ليتّمت الخلائق أجمعينا

ولكنّ الحجاب لطيف معنى

به تحيا قلوب العاشقينا

اعلم : أن تجلي العظمة يوجب الخوف والهيبة ، وتجلي الحسن والجمال يوجب العشق ، وتجلي الصفات يوجب المحبة ، وتجلي الذات يوجب التوحيد قال بعض العارفين : والله ما نال رجل الدنيا إلا أعمى الله قلبه وبطل عليه عمله إن الله تعالى خلق الدنيا مظلمة ، وجعل الشمس فيها ضياء ، وجعل القلوب مظلمة ، وجعل المعرفة فيها ضياء ، فإذا جاءه السحاب ذهب نور الشمس ، فكذلك يجيء حب الدنيا فيذهب بنور المعرفة من القلب. وقيل : حقيقة المعرفة نور يطرح في قلب المؤمن وليس في الخزانة شيء أعز من المعرفة. وقال بعضهم : إن شمس قلب العارف أضوأ وأشرق من شمس النهار ، لأن شمس النهار قد تكسف وشمس القلوب لا كسوف لها وشمس النهار تغرب بالليل دون شمس القلوب ، وأنشدوا في ذلك :

إنّ شمس النّهار تغرب ليلا

غير شمس القلوب ليس تغيب

من أحبّ الحبيب طار إليه

اشتياقا إلى لقاء الحبيب

قال ذو النون : حقيقة المعرفة اطلاع الحق على الأسرار بمواصلة لطائف الأنوار ، وأنشدوا فيه :

للعارفين قلوب يعرفون بها

نور الإله بسر السر في الحجب

صمّ عن الخلق عمي عن مناظرهم

بكم عن النّطق في دعواه بالكذب

وسئل بعضهم : متى يعرف العبد أنه على تحقيق المعرفة؟ فقال : إذا لم يجد في قلبه مكانا لغير ربه ، وقال بعضهم : حقيقة المعرفة مشاهدة الحق بلا واسطة ولا كيف ولا شبهة ، كما سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقيل : يا أمير المؤمنين أتعبد من ترى أو من لا ترى؟ فقال : لا بل أعبد من أرى لا رؤية العيان ، ولكن رؤية القلب. وقيل لجعفر الصادق رضي الله عنه : هل رأيت الله عزوجل؟ قال : لم أكن لأعبد ربا لم أره. قيل : وكيف رأيته وهو الذي لا تدركه الأبصار؟ قال : لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان ، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس.

وسئل بعض العارفين عن حقيقة المعرفة. فقال : تخلية السر عن كل إرادة وترك ما عليه العادة وسكون القلب إلى الله تعالى بلا علاقة وترك الالتفات منه الى ما سواه ، ولا يمكن معرفة كنه ذاته ولا معرفة كنه صفاته عزوجل ، ولا يعرف من هو إلا هو تبارك وتعالى والمجد لله وحده.

فصل وأما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة

فهي أسماء مترادفة على معنى واحد ، وإنما تحصل التفرقة في كمال الوضوح لا في أصله ، فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور العين من العين ، والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس

١١٢

لنور العين فتدرك بذلك الجليات والخفيات. وأما الحياة : فهي نفس التوحيد. قال الله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] وأما اليقين : فاعلم أن الاعتقاد والعلم إذا استوليا على القلب ولم يكن لهما معارض أثمرا في القلب المعرفة ، فسميت هذه المعرفة يقينا ، لأن حقيقة اليقين صفاء العلم المكتسب حتى يصير كالعلم الضروري ويصير القلب مشاهدا لجميع ما أخبر عنه الشرع من أمر الدنيا والآخرة. يقال : أيقن الماء إذا صفا من كدورته.

وأما الإلهام : فهو حصول هذه المعرفة بغير سبب ولا اكتساب ، بل بإلهام من الله تعالى بعد طهارة القلب عن استحسان ما في الكونين.

وأما الفراسة : فهي التوسم بعلامة من الله تعالى بينه وبين العبد يستدل بها على أحكام باطنة ، وذلك لا يكون إلا في درجة التقريب وهو دون الإلهام ، لأن الإلهام لا يفتقر إلى علامة والفراسة تفتقر الى علامة وهو عام وخاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الباب السادس

في بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل

اعلم أن هذه الأسامي الأربعة مشتركة بين مسميات مختلفة ونحن نشرح من معانيها ما يتعلق بغرضنا.

الأول : لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين :

أحدهما : اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر وفي باطنه تجويف فيه دم أسود وهو منبع الروح الحيواني ومعدنه.

والمعنى الثاني : هي لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات ، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان المدرك العالم المخاطب المطالب المثاب المعاقب.

اللفظ الثاني : الروح وهو أيضا يتعلق بغرضنا لمعنيين :

أحدهما : جسم لطيف بخاري حامله دم أسود منبعه تجويف القلب الجسماني ، وينشر بواسطة العروق الضوارب الى سائر أجزاء البدن وجريانها في البدن وفيضان أنوار الحياة ، والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج في زوايا البيت. فالحياة : مثالها النور الحاصل في الحيطان والروح مثاله السراج ، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحرك محركه فالأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب.

والمعنى الثاني : هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الذي هو أحد معيني القلب وهو الذي أراده الله تعالى بقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] وهو

١١٣

أمر عجيب رباني يعجز أكثر العقول والأفهام عن درك فهم حقيقته.

اللفظ الثالث : النفس وهو أيضا مشترك بين معنيين :

أحدهما : أنه يراد به المعنى الجامع لقوتي الغضب والشهوة في الإنسان وهذا الاستعمال هو الغالب على الصوفية فهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان فيقولون : لا بدّ من مجاهدة النفس وكسر شهوتها ، وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك».

والمعنى الثاني : اللطيفة التي ذكرناها وهي حقيقة الإنسان ونفسه وذاته ، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٧ و ٢٨] والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها الى الله تعالى ، فإنها مبعدة عن الله سبحانه وتعالى وهي حزب الشيطان ، وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية سميت النفس اللوامة ، فإذا تركت الاعتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء.

اللفظ الرابع : العقل والمتعلق بغرضنا منه معنيان :

أحدهما : أنه يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور. فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله خزانة القلب.

والثاني : قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم ، فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان وحيث ورد في القرآن والسنة ذكر القلب فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء ، وقد يكنى عنه بالقلب الجسماني الذي في الصدر لأن بينه وبين تلك اللطيفة العالمة التي هي حقيقة الإنسان علاقة خاصة لأن تعلقها بسائر البدن إنما هو بواسطته فهو مملكتها ومطيتها والمجرى الأول لتدبيرها وتصرفها. فالقلب الجسماني والصدر بالنسبة الى الإنسان كالعرش والكرسي بالنسبة الى الله تعالى من وجه.

فصل في بيان جنود القلب

اعلم : أن الله تعالى في القلب والأرواح وغيرها من العوالم جنودا مجندة لا يعلم حقيقتها وتفصيل عددها إلا الله تعالى. ونحن الآن نشير الى بعض جنود القلب وهو الذي يتعلق بغرضنا. فاعلم أن له جندين جند يرى بالإبصار وجند لا يرى إلا بالبصائر ، فالقلب في حكم الملك ، والجنود في حكم الخدم والأعوان.

فأما جنوده المشاهدة بالبصر فهي اليد والرجل والأذن والعين واللسان فجملة جنود القلب تحصره ثلاثة أصناف :

١١٤

الصنف الأول : باعث مستحث الى جلب الموافق النافع كالشهورة وإما إلى دفع المخالف الضار كالغضب وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة.

الصنف الثاني : هو المحرك للأعضاء الى تحصيل هذه المقاصد وقد يعبر عنه بالقدرة وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء.

الصنف الثالث : هو المدرك المعرف بهذه الأشياء كالجواسيس وهو قوة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في الأعضاء الظاهرة المركبة من اللحم والشحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود. ويعبر عن عمل هذا الصنف بالعلم والإدراك ، وهذا الصنف الثالث هو المدرك من هذه الجملة ، وينقسم الى ما أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس. أعني السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وإلى ما أسكن منازل باطنة وهي تجاويف الدماغ وهي أيضا خمسة : حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ.

فأما الحس المشترك فيرتسم فيها صورة ما أدته اليها الحواس الظاهرة مما أدركته كما ترسم الصورة في المرآة ومحل تصرفها مقدم البطن الأول من الدماغ.

القوة الثانية : الخيال وهي خزانة الحس المشترك يخزن فيها ما ارتسم فيه لتحفظها له الى وقت حاجته اليه ، فإن له قوة القبول وليس له قوة الحفظ والخيال له قوة الحفظ وليس له قوة القبول ومحل تصرف الخيال مؤخر البطن من الدماغ.

القوة الثالثة : الوهم موضع تصرفه مقدم البطن المؤخر من الدماغ ، لأن تصرفه هو المعاني الجزئية المتنوعة من الصور المخزونة في الخيال فكانت بعدها في الرتبة لتقليبها منه.

القوة الرابعة : الحافظة ومحل تصرفها مؤخر البطن المؤخر من الدماغ يلي محل تصرف الوهم لأنها خزانته.

القوة الخامسة : المتصرفة ومحل تصرفها في وسط الدماغ ، لأنها أشرف القوى ولأنها تأخذ من الخيال في حال دون حال وتعطيه أيضا في حال دون حال في النوم واليقظة ، وتعطي الحافظة وتطلب منها عند النسيان فكان الأليق بها أن تكون بين الحرارتين ليسهل عليها أخذها منهما وإعطاؤها إياهما والله أعلم.

وإنما افتقر القلب الى هذه الجنود من حيث افتقاره الى المركب والزاد لسفره الى الله تعالى وقطع المنازل الى لقائه الذي لأجله خلق وإنما مركبه البدن ، وإنما زاده العلم والعمل وليس يمكن أن يصل العبد الى الله تعالى ما لم يسكن البدن وتجاوز الدنيا ليتزود منها للمنزل الأقصى فافتقر الى تعهد بدنه بأن يجلب اليه ما يوافقه من الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما يؤذيه ، ويمكن منه أسباب الهلاك فافتقر لأجل الغذاء الى جندين : باطن وهو الشهوة ، وظاهر وهو الأعضاء الحالبة للغذاء فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج اليه وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوة وافتقر لأجل

١١٥

دفع المهلكات الى جندين : باطن ، وهو الغضب ، الذي يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء ، وظاهر وهي اليد والرجل والأسلحة التي بها تعمل بمقتضى الغضب ثم المحتاج الى الغذاء اذا لم يعرف الغذاء ، لا تنفعه شهوة معرفة الغذاء وآلته فافتقر في المعرفة الى جندين باطن : وهو إدراك السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وظاهر : وهو العين والأذن والأنف وغيرها وتفصيل الحاجة اليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة ، فسبحان الكريم الحليم.

فصل

اعلم : أن القسمة ثلاثة : الجسم والعرض والجوهر الفرد. فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل ، والحياة هو السراج والدم دهنه والحس والحركة نوره ، والشهوة حرارته ، والغضب دخانه ، والقوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات ، لأنه مشترك بين البهائم وسائر الحيوانات والإنسان هو جسم وآثاره أعراض ، وهذا الروح لا يهتدي إلى العلم. ولا يعرف طريق المصنوع ولا حق الصانع ، وإنما هو خادم أسير يموت البدن لو يزيد دهن الدم وينطفئ لزيادة الحرارة ولو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة ، وانطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب البارئ جلت عظمته وتكليف الشارع عليه الصّلاة والسّلام لهذا الروح ، لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين ولا مخاطبين بأحكام الشرع ، والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا خاصا وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح اللطيفة ، وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض ، لأنه من أمر الله تعالى كما أخبر بقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وأمر الله تعالى ليس بجسم ولا عرض ، بل هو جوهر ثابت دائم لا يقبل الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت ، بل يفارق البدن وينتظر العود إليه يوم القيامة كما ورد به الشرع ، وهذا الروح يتولد منه صلاح البدن وفساده والروح الحيواني وجميع القوى كلها من جنوده ، فإذا فارق الروح الحيواني البدن ، تعطل أحوال القوى الحيوانية فيسكن المتحرك ، فيقال لذلك السكون موت ، وإن كان الروح من أمر الله تعالى في البدن كالغريب ، فاعلم أنه لا يحل في محل ولا يسكن في مكان وليس البدن مكان الروح ولا محل القلب ، بل البدن آلة الروح والله أعلم.

فصل

في بيان المعنى المراد من قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩]. قال رحمه‌الله تعالى ورضي عنه :

أما التسوية : فهي عبارة عن فعل في المحل القابل للروح وهو الطين في حق آدم عليه‌السلام ، والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج والتردد في أطوار الخلقة إلى الغاية حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية فيستعد لقبول الروح وإمساكها كاستعداد

١١٦

الفتيلة بعد شرب الدهن لقبول النار وإمساكها.

وأما النفخ : فهو عبارة عن اشتعال نور الروح في المحل القابل ، فالنفخ سبب الاشتعال وصورة النفخ في حق الله تعالى محال ، والسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ بالنفخ وهو الاشتعال في فتيلة النطفة ، وللنفخ صورة ونتيجة.

وأما صورته : فهو إخراج هواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه. وهو فتيلة النطفة. فيشتعل فيها. وأما السبب الذي اشتعل به نور الروح فهو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل ، وأما صفة الفاعل فالجود الذي هو ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ، ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل الاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما ، والقابل هو الملونات دون الهواء الذي لا لون له. وأما صفة القابل فالاستواء واعتدال الحاصل في التسوية كما قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ).

ومثال صفة القابل : صفات المرآة فإن المرآة قبل صقالتها لا تقبل الصورة وإن كانت محاذية لها ، فإذا صقلت حدثت فيها صورة من ذي الصورة المحاذية لها فكذلك إذا حصل على الاستواء في النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق تعالى الآن لا بل إنما حدث الروح قبله لتغير المحل بحصول الاستواء الآن لا قبله.

وأما فيضان الجود ، فالمراد به أن الجود الإلهي سبب لحدوث أنوار الوجود في كل ماهية قابلة للجود فعبر عنه بالفيض لا كما يفهم من فيض الماء من الإناء على اليد فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء مما في الإناء واتصاله باليد ، فإن الله سبحانه تعالى عن مثل هذا.

وأما كشف معنى ماهية الروح ومعرفة حقيقتها فهو من السر الذي لم يؤذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كشفه لمن ليس من أهله فإن كنت من أهله فاسمع. واعلم أن الروح ليس بجسم يحل في البدن حلول الماء في الإناء ، ولا هو عرض يحل في القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم ، بل هو جوهر لا يتجزأ باتفاق أهل البصائر ، لأنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه العلم بالشيء وبجزء آخر منه الجهل بذلك الشيء بعينه فيكون في حالة واحدة عالما بشيء وجاهلا به وذلك محال ، فدل بذلك على أنه واحد لا ينقسم.

فإن قيل : لم منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إفشاء سر الروح وكشف حقيقته؟ فيقال : لأنه يتصف بصفات لا تحملها الأفهام إذ الناس قسمان عوام وخواص أما من غلب على طبعه العامية فإنه لا يصدق بما هو وصف الروح أن يكون وصفا لله تعالى ، فكيف يصدق به في وصف الروح الإنساني؟ وكذلك أنكرت الكرامية والحنبلية وغيرهم ممن غلبت عليهم العامية بتنزيه الإله تعالى عن الجسمية وعوارضها إذ لا يعقلون موجودا إلا متجسما مشارا إليه. ومن ترقى عن العامية قليلا نفى الجسمية عن الإله تعالى. وما أطلق أن ينفي عوارض الجسمية عنه ، فأثبت الجهة وترقى عن هذه العامية الأشعرية والمعتزلة فنزهوا الإله تعالى عن الجسمية والجهة.

١١٧

فإن قيل : لم لا يجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟ فيقال : لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفة لغير الله تعالى ، فإذا ذكرت هذا معهم كفروك ، وقالوا : هذا تشبيه لأنك تصف نفسك بما هو صفة الإله تعالى على الخصوص وذلك جهل بأخص أوصاف الله تعالى.

فإن قلنا : إن الإنسان حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم والله تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لأن هذه الصفات ليست أخص أوصاف الله تعالى ، فكذلك البراءة عن المكان والجهة ليست أخص وصف الإله تعالى ، بل أخص وصفه تعالى أنه قيوم أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وهو موجود بذاته لا بغيره وليس للأشياء من أنفسها إلا العدم ، وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية فالوجود لله تعالى ذاتي ليس بمستعار وما سواه فوجوده منه تعالى لا من نفسه وهذه القيومية ليست إلّا لله تعالى.

فإن قيل : ما معنى نسبة الروح إلى الله تعالى في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر: ٢٩]. فاعلم أن الروح منزهة عن الجهة والمكان وفي قوتها العلم بجميع المعلومات والاطلاع عليها ، فهذه مضاهاة ومناسبة ليست لغيره من الجسمانيات ، فلذلك اختصت بالإضافة إلى الله تعالى.

فإن قيل : فما معنى قوله (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وما معنى عالم الأمر وعالم الخلق؟ فيقال : إن كل ما يقع عليه مساحة وتقدير فهو الأجسام وعوارضها. فهذا هو عالم الخلق والخلق هاهنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإحداث. يقال : خلق الشيء أي قدره وكل ما لا كمية له ولا تقدير. يقال : إنه أمر رباني وتلك المضاهاة التي ذكرناها ، فكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشرية وأرواح الملائكة يقال : إنه من عالم الأمر وعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز والدخول تحت المساحة والتقدير لانتفاء الكمية عنه.

فإن قيل : فهذا يوهم أن الروح قديم ليس بمخلوق. فيقال : قد توهم هذا قوم جهال ضلال ، فمن قال إنه ليس بمخلوق بمعنى أنه غير مقدر بكمية لأنه لا يتجزأ ولا يتحيز فهو مصيب إلا أنه مخلوق بمعنى أنه حادث وليس بقديم ، لأن حدوث الروح البشرية متوقف على استعداد النطفة كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقالة.

فإن قيل : ما معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى خلق آدم على صورته» وروي «على صورة الرحمن» فيقال : إن الصورة اسم مشترك قد يطلق على ترتيب الأشكال ووضع بعضها على بعض واختلاف تركيبها وهي الصورة المحسوسة. وقد يطلق على ترتيب المعاني التي ليست محسوسة وللمعاني أيضا تركيب وترتيب وتناسب يسمى ذلك صورة. يقال : صورة المسألة كذا وصورة الواقعة كذا وصورة العلوم الجسمانية والعقلية كذا ، فالمسألة بالصورة المذكورة هي الصورة المعقولة المعنوية والإشارة إلى المضاهاة التي ذكرناها ، ويرجع ذلك إلى الذات والصفات

١١٨

والأفعال وحقيقة ذات الروح أنه قائم بنفسه ليس بعرض ولا جسم ولا جوهر متحيز ولا يحل المكان والجهة ، ولا هو متصل بالبدن والعالم ، ولا هو منفصل ، ولا هو داخل البدن والعالم ولا هو خارج. وهذا كله صفات ذات الله تعالى. وأما الصفات : فقد خلق حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما والله تعالى كذلك وأما الأفعال : فمبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها أولا في القلب فينتشر منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذي هو بخار لطيف في تجويف ويتصاعد إلى الدماغ ، ثم يسري منه أثر إلى الأعضاء إلى أن تصل الآثار إلى الأصابع مثلا فتتحرك فيتحرك بالأصابع القلم وبالقلم المداد ، فيحدث منه صورة ما يريد كتبه على القرطاس في خزانة التخيل ، فإنه ما لم يتصور في خياله صورة المكتوب أولا لا يمكن إحداثه على البياض. ثانيا فمن استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداث الحيوان والنبات على الأرض بواسطة تحريك الكواكب والسماوات بواسطة الملائكة علم أن تصرف الآدمي في عالمه يشبه تصرف الخالق سبحانه في العالم الأكبر ، فحينئذ يعرف معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق آدم عليه‌السلام على صورته».

فإن قيل : فإذا كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله عليه الصلاة والسّلام : «خلق الله تعالى الأرواح قبل خلق الأجساد بألفي عام» ، وقوله : «أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطّين»؟ فاعلم أن شيئا من ذلك لا يدل على قدم الروح لكن قوله : «أنا أوّل الأنبياء خلقا». ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على جسده وغير الظاهر متعين. فإن تأويله ممكن والبرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل ليسلط على تأويل الظاهر ، كما في ظواهر التشبيه في حق الله تعالى.

فأما قوله : «خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» أراد بالأرواح أرواح الملائكة ، والأجساد أجسام العالم من العرش والكرسي والسماوات والكواكب والهواء والماء والأرض.

وأما قوله : «أنا أوّل الأنبياء خلقا» فالخلق هاهنا بمعنى التقدير دون الإيجاد ، فإنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن تلده أمه لم يكن موجودا مخلوقا ، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، فإن الله تعالى يقدر أولا أي يرسم في اللوح المحفوظ الأمور الإلهية على وفق علمه تعالى ، فإذا فهمت نوعي الوجود فقد كان عليه الصلاة والسّلام قبل وجود آدم عليه‌السلام أعني الوجود الأول التقديري دون الوجود الحسي العيني. هذا آخر الكلام في معنى الروح والله أعلم.

الباب السابع

في بيان معنى المحبة

اعلم : أن المحبة ميراث التوحيد والمعرفة وكل مقام وحال قبلها فلها يرد ومنها يستفاد. وأما المعرفة الخاصة بها : فكل ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته من سلب نقص وإثبات كمال وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وإنما وقع الخلاف في حقيقتها ومعناها وليس للمحبة معنى غير الميل

١١٩

إلى اللذيذ الموافق ، واعلم أن معرفة الله تعالى بنفسها ذكر الله تعالى ، لأنها حضور معه وشهود له ومن علامته في بدايته اللوائح والطوالع واللوامع والبروق ، وهذه ألفاظ متقاربة المعاني والفرق بين البرق والوجد أن البرق إذن في دخول طريق التوحيد والوجد يصحبك فيها فإذا دام صار ذوقا.

وأما الذوق : فهو استحلاء وشرب لما شاهدت من ضياء البرق. وأما اللحظ فهو اسم يعبر به عن رؤية الحق تعالى بالقلب ، كما قال عليه الصلاة والسّلام : «اعبد الله كأنّك تراه» وأما الوقت : فهو اسم ظرف للكائن فيه من الأحوال فوقت العبد ما هو فيه. وأما الصفاء : فهو اسم للبراءة من الكدر. وأما النفس : فهو تنفس العبد لعجزه عن حمل الأحوال الواردة عليه إما صعدا وإما تلفظا بكلام أو إشارة مما هو فيه ، لأن العبد ما دام حيا لا بدّ أن يتروح بدخول النفس وخروجه فإذا قوي النفس أدى إلى الغرق : وأما الغرق فهو عدم القدرة على النفس لكظمه فهو غير متنفس ولا غائب فإذا قوي عليه دخل في الغيبة. وأما الغيبة : فهي اسم للذهول عن المهمات بما هو أهم منها. وأما السكر : فهو اسم يشار به إلى سقوط التمالك في الطرب فإذا لحقته العناية أصحاه ليزيده علما ، لأن السكران لا يرتقي بالمسكر في الحق والصحو إنما هو بالحق. أما السكر في الحق : فهو النظر إلى صفاته والتنعم بما يرد عليه منه والتلذذ به. وأما الصحو بالله تعالى : فهو أن يتبرأ من نفسه ومن التذاذه وأحواله فإذا منح بعد ذلك بشهود الذات كوصف بالقيومية وهي صفات الألوهية فأفتنه عما سوى معبوده ثم فني عن فنائه. وأما الفناء : فحقيقته في الحس تلاشي الأجسام والأعراض وذهابها بالكلية.

ولما كان كل ما سوى الله تعالى موجودا بالله وقائما به لا بنفسه كان وجوده مجازا وكان القائم بنفسه المقيم لغيره وجوده ثابتا حقيقيا استعير لمن أكرم بهذه المعرفة لفظ الفناء لتلاشي الموجودات في عين قلبه حيث شهد الكل مع القدرة ، كالطفل لا حكم له في الفعل ، فإذا أيد هذا العبد وكمل رقاه إلى مقام البقاء. لأنه إذا لم يبق في القلب التفات إلى غير الله تعالى لدوام الشغل به عبر عن هذه الحالة بالبقاء مع الله بالله تعالى ، والوجود والبقاء اسمان مترادفان على معنى واحد ، فالوجود اسم للظفر بحقيقة الشيء ، والبقاء هو أجل الحقائق التي يقصد الظفر بها. وكذلك مقام الجمع. قال بعض السادة : الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الإشارة ومعناه أن يكون مذكورا بالله تعالى ومذكورا منه تعالى والحمد لله وحده.

الباب الثامن

في بيان معنى الأنس بالله تعالى

اعلم : أن من أجل مواريث المحبة الأنس. أما حقيقة الأنس : فهو استبشار القلب وفرحه لما انكشف له من قرب الله تعالى وجماله وكماله. وقال بعضهم : حقيقة القرب فقد حس الأشياء من القلب وهدوء الضمير إلى الله تعالى.

١٢٠