شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

يدخله بعمله الصالح ، والحاصل أن الباء للسببية لا للمقابلة والبدلية ، وقد يقال : إن إيمانه وعمله الصالح قد تحقّق منه بفضل الله تعالى فلا مناقضة بين القول بأنه يدخل الجنة بفضل الله ورحمته وبين القول بأنه يدخلها بعمله وطاعته وبعضهم قدّر الدرجات مقابلة للطاعات ، فالتقدير ادخلوا درجات الجنة ، وأما نفس الدخول فبالفضل المجرّد حيث لا يجب عليه شيء والخلود بالنيّة كما أن دخول الكفّار في النار بمجرد العدل ، والدركات بحسب اختلاف ما لهم من الحالات والخلود باعتبار النيّات.

ثم لما جاز عندنا غفران الكبيرة بدون التوبة مع عدم الشفاعة فمع وجود الشفاعة أولى وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١). وهو يحتمل أن يكون قبل دخول النار ، وأن يكون بعده وتقييد المعتزلة تلك الشفاعة برفع الدرجة يأبى تخصيصه لأهل الكبائر وعندهم لمّا امتنع العفو فلا فائدة في الشفاعة. واستدلوا بقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٢). مع أن الآية في الكفّار بإجماع المفسرين على أن أصحابنا استدلّوا بهذه الآية على ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، لأنه ذكر ذلك في معرض التهديد للكفار ، ولو كان لا شفاعة لغير الكفار أيضا لم يكن لتخصيص الكفار بالذكر في حال تقبيح أمرهم معنى.

ثم اعلم أن الحسنات يذهبن السيئات كما قال الله تعالى إلا أنها مختصّة بالصغائر ولا تبطل الحسنات بشؤم المعاصي إلا بالكفر لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٣). والفسق ليس في معنى الكفر فلا يلحق به في الإحباط خلافا للمعتزلة لا يقال إن قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٤). يفيد أن من عمل صالحا وأتى خيرا ثم مات كافرا يرى جزاء ذلك الخير وهو باطل بالإجماع لأنّا نقول : إن

__________________

(١) حديث صحيح بطرقه وشواهده ، أخرجه أبو داود ٤٧٣٩ ، والترمذي ٢٤٣٥ ، وأحمد ٣ / ٢١٣ ، والطيالسي ٢٠٢٦ ، وأبو نعيم في الحلية ٧ / ٢٦١ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٦٠ من حديث أنس ، وصحّحه ابن حبان ٢٥٩٦ ، والحاكم ١ / ٦٩. وأخرجه الترمذي ٢٤٣٦ ، وابن ماجة ٤٣١٠ ، والطيالسي ١٦٦٩ ، وأبو نعيم في الحلية ٣ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ من حديث جابر بن عبد الله وصححه الحاكم ١ / ٦٩. وأخرجه الطبراني ١١٤٥٤ من حديث ابن عباس ، والخطيب البغدادي ٨ / ١١ من حديث ابن عمر.

(٢) المدّثر : ٤٨.

(٣) المائدة : ٥.

(٤) الزلزلة : ٧.

٢٦١

____________________________________

معناه يره في الدنيا ليرد الآخرة ، ولا خير له كما أن المؤمن يرى في الدنيا جزاء ما ارتكبه من السيئات بأن يصيبه بعض البليّات ليرد الآخرة بريئا من الذنوب نقيّا من العيوب. وقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا ، أو شرّا إلّا أراه الله إيّاه فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذّب بسيئاته.

وقال شارح عقيدة الطحاوي (١) : وهل يجبّ الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها أم لا بدّ مع الإسلام من التوبة من غير الشرك حتى لو أسلم وهو مصرّ على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ، أم لا بدّ أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ، أو يتوب توبة عامه من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح أنه لا بدّ من التوبة مع الإسلام (٢). انتهى.

ولا يخفى أن هذا ميل إلى قول من قال : إن الكافر مكلّف بالفروع ، والمذهب الصحيح بخلافه فبعد ما أسلم لا يحتاج إلى توبة أخرى بعد توبته من الشرك الذي يجبّ ما قبله من الذنوب إلا بعض ما يتعلق بحقوق العباد ، كما بيّن في محله. نعم يجب عليه أن يكون نادما على شركه وسائر معاصيه ، وأن يقلع عن مباشرة المناهي وأن يعزم على عدم العود إليها ، ثم كون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة وليس شيئا يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، كما قال الله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣). وهذا مختصّ بمن تاب من الكفر ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ، ولذا قال الله تعالى : (لا تَقْنَطُوا) ، وقال بعدها : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٤).

ثم اعلم أن التوبة لغة هي الرجوع ولها مراتب ، توبة عن المعصية وهي توبة العوام ، وتوبة عن الغفلة وهي للخواص ، وتسمى الأوبة أيضا ومنه قوله تعالى في حق الأنبياء : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، أي رجّاع إلى الله بالتوبة ، وفي حق الصلحاء : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ

__________________

(١) هو الإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العزّ الدمشقي الحنفي المتوفى سنة ٧٩٢ ه‍.

أشهر مصنفاته شرح العقيدة الطحاوية ، والتنبيه على مشكلات الهداية وغيرها.

(٢) شرح الطحاوية ٢ / ٤٥١.

(٣) الزّمر : ٥٣.

(٤) الزّمر : ٥٤.

٢٦٢

____________________________________

غَفُوراً) (١). أي الراجعين عن المعصية إلى الطاعة ، وحديث صلاة الأوّابين (٢) وهي إحياء ما بين العشاءين بالطاعة ، وتوبة عن ملاحظة غير الله ، وهي للعارفين والموحدين (٣) كما قال ابن الفارض رحمه‌الله تعالى :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري سهوا حكمت بردّتي

وفي الشريعة هي الندم على المعصية من حيث هي معصية مع عزم ألّا يعود إليها إذا قدر عليها كذا عرفه المتكلمون فقولهم على معصية لأن الندم على فعل لا يكون معصية ، بل مباحا أو طاعة لا يسمى توبة ، وقولهم من حيث هي معصية لأن من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع وخفة العمل وكثرة النزاع والإخلال بالعرض والمال لم يكن تائبا شرعا ، وقولهم مع عزم أن لا يعود إليها لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك ، ولذا ورد في الحديث الندم توبة (٤) ، كذا في المواقف ، قال شارحه : واعترض

__________________

(١) الإسراء : ٢٥.

(٢) لم يثبت شرعا أن صلاة الأوّابين ما بين العشاءين فكل الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة لا يعوّل عليها وإنما الثابت هو حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال». أخرجه مسلم ٧٤٨ ح ١٤٣ ، وأحمد ٤ / ٣٦٧ و ٣٧٢ ، والبيهقي ٣ / ٤٩ ، والطيالسي ٦٨٧ ، والبغوي ١٠١٠ ، وابن خزيمة ١٢٢٧ ، وابن حبان ٢٥٣٩ ، والطبراني في الصغير ١٥٥ ، وفي الكبير ٥١٠٨ و ٥١٠٩ ، وأبو عوانة ٢ / ٢٧٠.

وقوله : حين ترمض الفصال : يريد ارتفاع الشمس فتبرك الفصال ـ وهي أولاد الإبل ، جمع فصيل ـ من شدة حرّها وإحراقها أخفافها.

(٣) لم يرد في شرعنا وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقوال العلماء المجتهدين تقسيم التوبة إلى هذه الأقسام التي أوردها الشارح وإنما هذا التقسيم هو تقسيم الصوفية ولا يعوّل عليه شرعا.

(٤) أخرجه ابن أبي شبة ٩ / ٣٦١ و ٣٦٢ ، وأحمد ٣٥٦٨ و ٤١٢٤ ، وابن ماجة ٤٢٥٢ ، والحميدي ١٠٥ ، والبغوي ١٣٠٧ ، والقضاعي ١٣ و ١٤ ، والبيهقي ١٠ / ١٤٥ ، وابن حبان ٦١٢ ، وأبو نعيم ٨ / ٣١٢ ، والحاكم ٤ / ٢٤٣ ، وصححه ووافقه الذهبي.

وأخرجه أحمد في المسند ٤٠١٢ ، والطبراني في الصغير ١ / ٣٣ ، من طريقين عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن الجراح عن عبد الله بن معقل عن ابن مسعود ، وهذا إسناد صحيح إن كان محفوظا ، فإن زياد بن الجراح ثقة ، وقد رواه جماعة عن عبد الكريم عن زياد بن أبي مريم منهم السفيانان ، وكذلك رواه خصيف عن زياد بن أبي مريم لأن رواة ذلك أكثر وأحفظ. وانظر التاريخ الكبير للبخاري ٣ / ٣٧٣ و ٣٧٥ ، وتاريخ يحيى بن معين ١٧٧ ، وتهذيب التهذيب ٣ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، وتعليق العلّامة أحمد شاكر على الحديث ٣٥٦٨ في مسند أحمد.

وفي الباب عن أنس : أخرجه ابن حبان ٦١٣ ، والحاكم ٤ / ٢٤٣ وصحّحه وتعقبه الذهبي بقوله : ـ

٢٦٣

____________________________________

عليه بأن النادم على فعل في الماضي قد يريده في الحال ، أو الاستقبال ، فهذا القيد احتراز منه وما ورد في الحديث محمول على الندم الكامل وهو أن يكون مع العزم على عدم العود أبدا ورد بأن الندم على المعصية من حيث هي معصية يستلزم ذلك العزم كما لا يخفى. انتهى.

ولا يخفى أن هذا الاستلزام ممنوع عقلا ونقلا على ما صرّح به علماء الأنام حيث صرّحوا بأن التوبة عن معصية دون أخرى صحيحة عند أهل السّنّة خلافا للمعتزلة ، وأيضا قد نصّوا على أن أركان التوبة ثلاثة : الندامة على الماضي ، والإقلاع في الحال ، والعزم على عدم العود في الاستقبال ، فالأولى أن يقال : معنى الندم توبة أنه عمدة أركانها كقوله عليه الصلاة والسلام : «الحج عرفة» (١). ثم هذا إن كانت التوبة فيما بينه وبين الله كشرب الخمر ، وإن كانت عمّا فرط فيه من حقوق الله كصلاة وصيام وزكاة فتوبته أن يندم على تفريطه أولا ، ثم يعزم على أن لا يعود أبدا ولو بتأخير صلاة عن وقتها ثم يقضي ما فاته جميعا ، وإن كانت عما يتعلق بالعباد فإن كانت من مظالم الأموال فتتوقف صحة التوبة منها مع ما قدّمناه في حقوق الله تعالى على الخروج عن عهدة الأموال وإرضاء الخصم في الحال والاستقبال بأن يتحلّل منهم ، أو يردّها إليهم أو إلى من يقوم مقامهم من وكيل ، أو وارث هذا.

__________________

 ـ هذا من مناكير يحيى ، والبزار ٣٢٣٩ ، وقال الهيثمي في المجمع ١٠ / ١٩٩ : رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الرواسي ، وضعّفه غير واحد ، ووثّقه ابن حبان وقال : يغرب ويخطئ ، وباقي رجاله رجال الصحيح وهذا حديث على ضعفه شاهد لحديث ابن مسعود المتقدّم.

وعن عائشة عند أحمد ٦ / ٢٦٤ ولفظه : «فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار» وإسناده صحيح ، وعن وائل بن حجر عند الطبراني ٢٢ / ٤١ وفي سنده إسماعيل بن عمرو البجلي. وعن أبي سعد الأنصاري عند الطبراني ٢٢ / ٣٠٦ ، وأبي نعيم ١٠ / ٣٩٨ ، وابن مندة في المعرفة ٢ / ١٤٥ / ١ قال الهيثمي في المجمع ١٠ / ١٩٩ : وفيه من لم أعرفه.

وعن أبي هريرة عند الطبراني في الصغير ١ / ٦٩ ، وانظر مجمع الزوائد ١٠ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

والخلاصة : أن هذه الطرق المتعددة للحديث يقوّي بعضها بعضا فيصبح جيدا بشواهده والله أعلم.

(١) هو بعض حديث أخرجه أبو داود ١٩٤٩ ، والترمذي ٨٩٠ و ٩٨٩ ، والنسائي ٥ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، وابن ماجة ٣٠١٥ ، وأحمد ٤ / ٣٠٩ و ٣١٠ ، والطيالسي ١٣٠٩ ، والدارمي ٢ / ٥٩ ، والبيهقي ٥٦ / ١١٦ ، والبخاري تعليقا في التاريخ الكبير ٥ / ٢٤٣ ، والدارقطني ٢٨٢٢ ، والطحاوي ٢ / ٢١٠ ، وابن خزيمة ٢٨٢٢ ، وابن حبّان ٣٨٩٢ ، وصححه الحاكم ٢ / ٢٧٨ ، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. كلهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي.

٢٦٤

____________________________________

وفي القنية : رجل عليه ديون لأناس لا يعرفهم من غصوب أو مظالم ، أو جنايات يتصدّق بقدرها على الفقراء على عزيمة القضاء إن وجدهم مع التوبة إلى الله ولو صرف ذلك المال إلى الوالدين والمولودين أي الفقراء يصير معذورا ، وفيها أيضا عليه ديون لأناس شتّى كزيادة في الأخذ ونقص في الدفع فلو تحرّى في ذلك وتصدّق بثوب قوم بذلك يخرج عن العهدة ، قال : فعرف بهذا أن في هذا لا يشترط التصدّق بجنس ما عليه ، وفي فتاوى قاضي خان : رجل له حق على خصم فمات ولا وارث له تصدّق عن صاحب الحق بقدر ماله عليه ليكون وديعة عند الله يوصلها إلى خصمائه يوم القيامة ، وإذا غضب مسلم من ذميّ مالا أو سرق منه فإنه يعاقب به يوم القيامة لأن الذميّ لا يرجى منه العفو ، فكانت خصومة الذميّ أشد ثم هل يكفيه أن يقول لك على دين فاجعلني في حلّ أم لا بدّ أن يعيّن مقداره ، ففي النوازل رجل له على آخر دين وهو لا يعلم بجميع ذلك فقال له المديون : أبرأني مما لك عليّ فقال الدائن : أبرأتك. قال نصير رحمه‌الله : لا يبرأ إلا عن مقدار ما يتوهّم أي يظن أنه عليه ، وقال محمد بن سلمة رحمه‌الله عن الكل ، قال الفقيه أبو الليث : حكم القضاء ما قاله محمد بن سلمة وحكم الآخرة ما قاله نصير ، وفي القنية من عليه حقوق فاستحلّ صاحبها ولم يفصلها فجعله في حلّ يعذر أن علم أنه لو فصله يجعله في حلّ ؛ وإلا فلا ، قال بعضهم : إنه حسن وإن روي أنه يصير في حلّ مطلقا.

وفي الخلاصة (١) : رجل قال لآخر : حلّلني من كل حق هو لك ، ففعل فأبرأه إن كان صاحب الحق عالما به برئ حكما بالإجماع ، وإما ديانة فعند محمد رحمه‌الله لا يبرأ وعند أبي يوسف يبرأ وعليه الفتوى. انتهى. وفيه أن خلاف ما اختاره أبو الليث ، ولعل قوله مبني على التقوى ، وأما إن كانت المظالم في الأعراض كالقذف والغيبة فيجب في التوبة فيها مع ما قدّمناه في حقوق الله أن يخبر أصحابها بما قال من ذلك ويتحلّل منهم ، فإن تعذّر ذلك فليعزم على أنه متى وجدهم تحلّل منهم فإذا حلّلوه سقط عنه ما وجب عليه لهم من الحق ، فإن عجز عن ذلك كله بأن كان صاحب الغيبة ميتا أو غائبا مثلا فليستغفر الله ، والمرجو من فضله وكرمه أن يرضي خصماءه من خزائن إحسانه فإنه جواد كريم رءوف رحيم.

__________________

(١) الخلاصة : هي خلاصة الدلائل في تنقيح المسائل للشيخ علي بن أحمد الرازي ، شرح فيه كتاب القدوري وهو شرح مفيد مختصر ، توفي سنة ٥٩٨ ه‍.

٢٦٥

____________________________________

وفي روضة العلماء (١) : الزاني إذا تاب تاب الله عليه ، وصاحب الغيبة إذا تاب لم يتب الله عليه حتى يرضى عنه خصمه ، قلت : ولعل هذا معنى ما ورد الغيبة أشد من الزنا.

وقال الفقيه أبو الليث : قد تكلم الناس في توبة المغتابين هل تجوز من غير أن يستحل من صاحبه؟ قال بعضهم : يجوز ، وقال بعضهم : لا يجوز وهو عندنا على وجهين : إحداهما إن كان ذلك القول قد بلغ إلى الذي اغتابه فتوبته أن يستحلّ منه ، وإن لم يبلغ إليه فليستغفر الله سبحانه ويضمر ألّا يعود إلى مثله.

وفي روضة العلماء : سألت أبا محمد رحمه‌الله ، فقلت له : إذا تاب صاحب الغيبة قبل وصولها إلى المغتاب عنه هل تنفعه توبة؟ قال : نعم ، فإنه تاب قبل أن يصير الذنب ذنبا أي ذنبا يتعلق به حق العبد ، لأنها إنما تصير ذنبا إذا بلغت إليه ، قلت : فإن بلغت إليه بعد توبته قال : لا تبطل توبته ، بل يغفر الله لهما جميعا المغتاب بالتوبة والمغتاب عنه بما يلحقه من المشقة لأنه كريم ، ولا يجمل من كرمه ردّ توبته بعد قبولها ، بل يعفو عنهما جميعا. انتهى.

ولا يخفى أنه إنما علّق الأمر بالكرم لأنه يحتمل أن يكون قبول توبته بشرط عدم علم المغتاب عنه بغيبته مطلقا ، أما إذا قال بهتانا بأن لم يكن ذلك فيه فإنه يحتاج إلى التوبة في ثلاثة مواضع : أحدها أن يرجع إلى القوم الذين تكلم بالبهتان عندهم فيقول : إني قد ذكرته عندكم بكذا وكذا ، فاعلموا إني كنت كاذبا في ذلك ، والثاني أن يذهب إلى الذي قال عليه البهتان ، ويطلب الرضى عنه حتى يجعل في حلّ منه ، والثالث أن يتوب كما سبق في حقوق الله تعالى ، فليس شيء من العصيان أعظم من البهتان ، ثم هل يكفيه أن يقول اغتبتك فاجعلني في حلّ ، أم لا بدّ أن يبيّن ما اغتاب؟ ففي منسك ابن العجمي في الغيبة لا يعلمه بها إن علم أن إعلامه يثير فتنة ، ويدل عليه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة جائز عندنا لكن سبق أنه هل يكفيه حكومة ، أو ديانة ، ثم يستحب لصاحب الغيبة إن يبرأه منها ليخلص أخاه عن المعصية ويفوز هو بعظيم التوبة.

__________________

(١) روضة العلماء : للشيخ أبي علي حسين بن يحيى البخاري الزندويسي الحنفي وقد اختصره محمد الثيروي المعروف بعيشي المتوفّى سنة ١٠١٦ ه‍.

٢٦٦

____________________________________

وفي الملتقط (١) إن رجلا له على آخر دين لا يقدر على استيفائه كان إبراؤه خيرا له من أن يدعه عليه ، وفي القنية : تصافح الخصمين لأجل العذر استحلال.

وعن شرف الأئمة (٢) : إذا تشاتما يجب الاستحلال عليهما. انتهى. وفيه ورد على ما اشتهر بين العوام أن الغيبة فاشية حتى بيّن العلماء الأعلام فكل واحد منهم له حق في ذمة الآخر منهم فيحصل التقاصّ فيما بينهم. وفي القنية : سلم المؤذي على المؤذى مرة بعد أخرى وكان يردّ عليه‌السلام ويحسن إليه حتى غلب على ظنه أنه قد برئ منه ، ورضي عنه لا يعذر والاستحلال واجب عليه ، وعن شرف الأئمة المكي : آذاه ولا يستحله للحال لأنه يقول : هو ممتلئ غضبا فلا يعفو عني لا يعذر في التأخير ، قال الكرماني في منسكه : ثم إذا تاب توبة صحيحة صارت مقبولة غير مردودة قطعا من غير شك وشبهة بحكم الوعد بالنص أي : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (٣) الآية. ولا يجوز لأحد أن يقول : إن قبول التوبة الصحيحة في مشيئة الله تعالى ، فإن ذلك جهل محض ، ويخاف على قائله الكفر لأنه وعد قبول التوبة قطعا من غير شك في قبول توبته ، وإذا تشكّك التائب في قبول توبته إذا كانت صحيحة فإنه بتلك التوبة والاعتقاد به يكون مذنبا بذنب أعظم من الأول نعوذ بالله من ذلك ومن جميع المهالك. انتهى.

وتوضيحه ما ذكره الإمام الغزالي من أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة ، ثم قال : ومن تاب فإنما يشك في قبول توبته لأنه ليس يستيقن حصول شروطها ، ولو تصوّر أن يعلم ذلك لتصوّر أن يعلم القبول في حق الشخص المعين ، ولكن هذا الشك في الأعيان لا يشكّكنا في أن التوبة في نفسها طريق القبول لا محالة انتهى. وهو غاية المنتهى فلنرجع إلى المدّعي فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية ، ونقول : وقولهم في تعريف التوبة : إذا قدر لأن من القدرة على الزنا وسلب انقطع طمعه عن عود القدرة إليه إذا عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه ، كذا في المواقف ، وقال شارحه : وفيه بحث لأن قوله : إذا قدّر ظرف لترك الفعل المستفاد من قوله : أن لا يعود ، وإنما قيّد به لأن

__________________

(١) هو الملتقط في الفتاوى الحنفية للإمام ناصر الدين أبي القاسم محمد بن يوسف الحسيني السمرقندي المتوفّى سنة ٥٥٦ ه‍.

(٢) هو محمود الترجماني برهان الدين شرف الأئمة المكي الخوارزمي ، إمام كبير كان موجودا في عصر التمرتاشي ومحمود التاجري وكان ابنه علاء الملة محمد قد بلغ رتبة الاجتهاد في زمانه وإليهما تنتهي رئاسة المذهب الحنفي في زمانهما.

(٣) الشورى : ٢٥.

٢٦٧

____________________________________

العزم على ترك الفعل إنما يتصوّر ممّن قدر على ذلك الفعل وتركه في ذلك الوقت ، ففائدة هذا القيد أن العزم على الترك ليس مطلقا حتى يتصوّر ممّن سلب قدرته وانقطع طمعه ، بل هو مقيد بكونه على تقدير فرض القدرة وثبوتها فيتصوّر ذلك العزم من المسلوب أيضا. انتهى. ولا يخفى أنه حينئذ لا يسمى مسلوبا قطعا ، وتحقيق المرام في هذا المقام قول الآمدي : وإنما قلنا عند كونه أهلا للفعل في المستقبل احترازا عما إذا زنى ، ثم جبّ ، أو كان مشرفا على الموت فإن العزم على ترك الفعل في المستقبل غير متصوّر منه لعدم تصوّر صدور الفعل عنه ، ومع ذلك فإنه إذا ندم على ما فعل صحّت توبته بإجماع السلف ، وقال أبو هاشم : الزاني إذا جبّ لا تصحّ توبته لأنه عاجز وهو باطل بما إذا تاب عن الزنا وغيره ، وهو في مرض مخيف فإن توبته صحيحة بالإجماع وإن كان جازما بعجزه عن الفعل في المستقبل. انتهى. ولا يخفى أن الإجماع الأول مبني على أن العزم على ترك الفعل إذا قدّر ركن يسقط عند العذر كما قالوا في إسقاط ركن الإقرار عن نحو الأخرس.

والإجماع الثاني مبني على أن المرض المخيف ليس مما يوجب الجزم بالعجز عن الفعل في المستقبل بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» (١) يعني فإنه حينئذ يتحقق عدم قدرته مع أن توبته عند العيان وهو مأمور بإيقاع الإيمان وما يتعلق به في حال غيّب أمور الآخرة فتبين الفرق بين الزاني إذا جبّ وإذا مرض مرضا مخيفا فلا يصح أن يكون الأول باطلا بالثاني ، لكن مع هذا يجب على المجبوب أيضا أن يعزم على أن لا يعود إليه على تقدير القدرة ، وأما ما ذكره صاحب المقاصد من الترديد حيث قال : إن قلنا لا يقبل ندم المجبوب فمن تاب لمرض مخيف

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٣٥٣١ ، وأحمد في المسند رقم ٦١٦٠ و ٦٤٠٨ ، وابن ماجة ٤٢٥٣ ، وصححه ابن حبان ٢٤٤٩ ، والحاكم ٤ / ٢٥٧ ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ١٩ من حديث عبد الله بن عمر وإسناده حسن.

وله شاهد بمعناه عند أحمد ٥ / ١٧٤ ، وصححه ابن حبان ٢٤٥٠ ، والحاكم ٤ / ٢٥٧ ، ووافقه الذهبي من حديث ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن عمر بن نعيم عن أسامة بن سلمان عن أبي ذر.

والطبري رقم ٨٨٥٧ من حديث بشير بن كعب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». و ٨٨٥٨ من حديث قتادة عن عبادة بن الصامت وهو منقطع لأن عبادة مات سنة ٢٤ ه‍ ، وقتادة ولد سنة ٦١ ه‍.

٢٦٨

____________________________________

فهل يقبل ذلك منه لوجوب التوبة أم لا؟ لأنه ليس باختياره بل بإلجاء الخوف إليه ، فيكون كالإيمان عند اليأس أي في ظهور ما يلجئه إليه فإنه غير مقبول إجماعا ، فهو مناف لما نقل الآمدي من الإجماع على القبول في المسألتين السابقتين.

ثم اعلم أن من أراد أن يكون مسلما عند جميع طوائف الإسلام فعليه أن يتوب من جميع الآثام صغيرها وكبيرها سواء يتعلق بالأعمال الظاهرة ، أو بالأخلاق الباطنة ، ثم يجب عليه أن يحفظ نفسه في الأقوال والأفعال والأحوال من الوقوع في الارتداد نعوذ بالله من ذلك فإنه مبطل للأعمال ، وسوء خاتمة المآل ، وإن قدر الله عليه وصدر عنه ما يوجب الردّة فيتوب عنها ويجدّد الشهادة لترجع له السعادة ، هذا وفي الخلاصة إيمان اليأس غير مقبول وتوبة اليأس المختار أنها مقبولة. انتهى.

ولا يخفى أن هذه الرواية مخالفة لظاهر الدراية حيث ورد قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (١) ، بل النص الصريح في قوله سبحانه : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (٢) فيجب على كل أحد معرفة الكفريات أقوى من معرفة الاعتقاديات ، فإن الثانية يكفي فيها الإيمان الإجمالي بخلاف الأولى ، فإنه يتعين العلم التفصيلي لا سيما في مذهب إمامنا الحنفي ، ولذا قيل : الدخول في الإسلام سهل في تحصيل المرام ، وأما الثبات على الأحكام فصعب على جميع الأنام ويشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (٣) الآية ، وقد قالوا : الاستقامة خير من ألف كرامة ، ومن اللطائف أنه قيل : لو أحد من جيران أبي يزيد [قيل له] (٤) أما تسلم ، فقال : إن كان الإسلام كإسلام أبي يزيد فما أقدر على أن أخرج عن عهدته ، وإن كان الإسلام كإسلامكم فما تعجبني أحوالكم في أحكامكم ، فإذا تبيّن ذلك لك فاعلم أني أذكر ما وصل إليّ من قول العلماء في هذا الباب ، واختلاف بعضهم في الجواب وأبين ما يظهر لي فيه من الصواب.

وقد سبق ذكر بعض هذه المسائل في هذا الكتاب فلنذكر ما عداها وما يترتب

__________________

(١) هو المتقدم.

(٢) النساء : ١٨.

(٣) فصّلت : ٣٠.

(٤) أضفت ما بين قوسين [] ليستقيم المعنى. لوجود نقص في الأصل.

٢٦٩

____________________________________

عليها ، وفي عمدة النسفي : واستحلال المعصية كفر.

قال شارحه القونوي : كأنه أراد والله أعلم بالمعصية ، المعصية الثابتة بالنص القطعي لما في ذلك من جحود مقتضى الكتاب ، أما المعصية الثابتة بالدليل الظني كخبر الواحد فإنه لا يكفر مستحلّها ، ولكن يفسق إذا استخفّ بأخبار الآحاد فأما متأوّلا فلا لما عرفت.

وقال القاضي عضد الدين في المواقف : ولا يكفر أحد من أهل القبلة إلا فيما فيه نفي الصانع القادر العليم ، أو شرك ، أو إنكار للنبوّة أو ما علم مجيئه بالضرورة ، أو المجمع عليه كاستحلال المحرّمات ، وأما ما عداه فالقائل به مبتدع لا كافر انتهى. ولا يكفي أن المراد بقول علمائنا : لا نجوّز تكفير أهل القبلة بذنب ليس مجرد التوجّه إلى القبلة فإن الغلاة من الروافض الذين يدعون أن جبرائيل عليه‌السلام غلط في الوحي فإن الله تعالى أرسله إلى عليّ رضي الله عنه ، وبعضهم قالوا : إنه إله وإن صلّوا إلى القبلة ليسوا بمؤمنين ، وهذا هو المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمّة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته» (١). كذا أورده البخاري في الصحيح.

قال القونوي : ولو تلفّظ بكلمة الكفر طائعا غير معتقد له يكفر لأنه راض بمباشرته وإن لم يرض بحكمه كالهازل به فإنه يكفر ، وإن لم يرض بحكمه ولا يعذر بالجهل ، وهذا عند عامّة العلماء خلافا للبعض.

قال : ولو أنكر أحد خلافة الشيخين رضي الله عنهم يكفر. أقول ولعل وجهه أنها ثبتت بالإجماع من غير نزاع ، أو لأن خلافة الصدّيق رضي الله عنه بإشارة صاحب التحقيق وخلافة عمر رضي الله عنه بنصب الصدّيق من غير تردّد في أمره بخلاف خلافة الختنين ، وأما من أنكر صحبة أبي بكر فيكفر لكونه إنكارا لنص القرآن حيث قال الله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (٢). وإجماع المفسّرين على أنه المراد به.

ونقل عن التاتارخانية أن من قيل له : افعل هذا لله ، فأجاب لا أفعله كفر. وفيه أن أبرار المقسم من المستحبات كما ورد في الأحاديث ، فينبغي أن لا يكفر نعم ولو صرّح بأنه لا أفعله لله تعالى ، فالظاهر أنه يكفر.

__________________

(١) أخرجه البخاري ٣٩١ ، والنسائي ٨ / ١٠٥ من حديث أنس بن مالك.

(٢) التوبة : ٤٠.

٢٧٠

____________________________________

ثم اعلم أن باب التكفير عظمت فيه المحنة والفتنة وكثر فيه الافتراق والمخالفة وتشتّت فيه الأهواء والآراء وتعارضت فيه دلائلهم وتناقضت فيه وسائلهم فالناس في جنس تكفير أهل المقالات الفاسدة والعقائد الكاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله تعالى به رسوله إلى الخلق على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية ، فطائفة تقول : لا نكفّر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عامّا مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة ، وفيهم من قد يظهر بعد ذلك حيث يمكنهم وهم يتظاهرون بالشهادتين ، وأيضا فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرّمات الظاهرة المتواترة فإنه يستتاب فإن تاب فيها ، وإلا قتل كافرا مرتدّا والنفاق والردّة مظنتها البدع والفجور كما ذكر الخلال (١) في كتاب السّنّة بسنده إلى محمد بن سيرين (٢) أنه قال : إن أسرع الناس ردّة أهل الأهواء وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٣). ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنّا لا نكفّر أحدا بذنب ، بل يقال : إنّا لا نكفّرهم بكل ذنب كما يفعله الخوارج ، وفرّق بين النفي العام ونفي العموم ، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب ، وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأوّلا فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرّقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، ويقولون بكفر كل مبتدع ، وهذا القول يقرب إلى مذهب الخوارج والمعتزلة فمن عيوب أهل البدعة أنه يكفّر بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل السّنّة والجماعة أنهم يخطئون ولا يكفّرون ، نعم من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، فهو كافر وإن عدّ قائله من أهل البدعة ، وكذا من قال : بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر

__________________

(١) هو الإمام العلّامة الحافظ الفقيه ، شيخ الحنابلة ، وعالمهم ، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي ، الخلال ، المتوفّى سنة ٣١٠ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٤ / ٢٩٧.

(٢) هو الإمام شيخ الإسلام أبو بكر الأنصاري ، مولى أنس بن مالك ، حديثه مخرّج في الصحاح والسّنن والمسانيد كان ـ فيما وصفه ابن جرير الطبري ـ فقيها عالما ، ورعا ، أديبا ، كثير الحديث ، صدوقا شهد له أهل الفضل بذلك وهو حجّة ، توفي سنة ١١٠ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ٤ / ٦٠٦ و ٦٢٢.

(٣) الأنعام : ٦٨.

٢٧١

____________________________________

حيث لم تثبت له حقيقة الإيمان ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (١) ، كما رواه الشيخان فمحمول على الاستحلال ، أو على قتاله من حيث إنه مسلم ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» (٢) ، كما في الصحيحين يحمل على أنه إذا اعتقد ذلك ولم يرد به إهانة هنالك أو قصد به كفر النعمة ، ونحو ذلك وقوله عليه الصلاة والسلام : «من حلف بغير الله فقد كفر» (٣) كما رواه الحاكم بهذا اللفظ فمعناه كفر دون كفر كما رواه غيره فقد أشرك أي شركا خفيّا أو يحمل على أنه إذا اعتقد تعظيم غيره سبحانه باليمين أو استحلّ هذا الأمر المبين.

اعلم أن قدامة بن [مظعون] (٤) شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة وتأوّلوا قوله

__________________

(١) أخرجه ـ من حديث عبد الله بن مسعود ـ البخاري ٤٨ و ٦٠٤٤ ، ومسلم ٦٤ ، وابن ماجة ٦٩ و ٣٩٣٩ ، وأحمد ١ / ٣٨٥ و ٤١١ و ٤٣٣ ، والنسائي ٧ / ١٢٢ ، والطيالسي ٢٤٨ و ٢٥٨ ، والحميدي ١٠٤ ، والترمذي ١٩٨٣ و ٢٦٣٤ ، والطبراني في الكبير ١٠١٠٥ ، والبغوي ٣٥٤٨ ، والخطيب ١٠ / ٨٦ ـ ٨٧ ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٢٣ و ٣٤ ، والبخاري في الأدب المفرد ٤٣١ ، والطحاوي في المشكل ١ / ٣٦٥. وفي الباب عن أبي هريرة عند ابن ماجة ٣٩٤٠ ، والخطيب ٣ / ٣٩٧ ، وأبي نعيم ٨ / ٣٥٩. وعن سعد بن أبي وقاص عند أحمد ١ / ١٧٦ و ١٧٨ ، وابن ماجة ٣٩٤١ ، والنسائي ٧ / ١٢١ ، والبخاري في الأدب المفرد ٤٢٩ ، والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٣٦٥.

(٢) أخرجه البخاري ٦١٠٣ من حديث أبي هريرة وأخرجه من حديث ابن عمر البخاري ٦١٠٤ ، ومسلم ١١ ح ٦٠ ، والترمذي ٢٦٣٧ ، ومالك ٢ / ٩٨٤ ، وأحمد ٢ / ١٨ و ٤٤. والحميدي ٦٩٨ ، والبغوي ٣٥٥٠ ، والبخاري في الأدب المفرد ٤٣٩ ، والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٣٦٨ ، وابن مندة في الإيمان ٥٩٤ ، وأبو داود ٤٦٨٧ ، وابن حبان ٢٤٩.

(٣) أخرجه من حديث ابن عمر أحمد ٢ / ٦٩ و ٨٧ و ١٢٥ ، وأبو داود ٣٢٥١ ، والطيالسي ١٨٩٦ ، والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٣٥٨ وإسناده صحيح ولفظه : «من حلف بغير الله فقد أشرك».

وأخرجه الترمذي ١٥٣٥ بلفظ : «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». وإسناده صحيح ، وصحّحه الحاكم ١ / ١٨.

(٤) في الأصول : قدامة بن عبد الله ، وهو تحريف ، وهو قدامة بن مظعون بن وهب بن حذافة بن جمع القرشي يكنّى أبا عمرو ، وقيل : أبو عمر ، وهو أخو عثمان بن مظعون ، وخال حفصة وعبد الله ابني عمر بن الخطاب ، وهو من السابقين إلى الإسلام ، هاجر إلى الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله وشهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، توفي سنة ٣٦ ه‍ وله ثمان وستون سنة. مترجم في سير أعلام النبلاء ١ / ١٦١ ـ ١٦٢.

وخبره هذا أخرجه عبد الرزاق في المصنف ١٧٠٧٦ ، ومن طريقه البيهقي ٨ / ٣١٦ عن معمر ، عن الزهري أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة ـ وكان أبوه شهد بدرا ـ أن عمر بن الخطاب استعمل ـ

٢٧٢

____________________________________

تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) الآية. فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة رضي الله عنهم على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن أصرّوا على استحلالها قتلوا ، وقال عمر رضي الله عنه لقدامة : أخطأت استك الحفرة أما أنك لو اتّقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرّم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل التحريم ، وكيف ببعضنا الذين قتلوا يوم أحد شهداء والخمر في بطونهم؟ فأنزل الله هذه الآية (٢) المذكورة ، وبيّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان هو من المؤمنين المتّقين المصلحين ، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة ، فكتب عمر رضي الله عنه إلى قدامة يقول له : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) (٣) ما أدري أيّ ذنبيك أعظم استحلالك المحرّم أولا ، أم يأسك من رحمة الله ثانيا؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة الكرام ، وهو متّفق عليه بين أئمة الإسلام.

__________________

 ـ قدامة بن مظعون على البحرين ... ورجاله ثقات.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ٩ / ٥٤٦ من طريق ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي قال : شرب قوم من أهل الشام الخمر ، وعليهم يزيد بن سفيان ، وقالوا : هي لنا حلال وتأوّلوا هذه الآية : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) وفيه أن عمر كتب إلى يزيد أن ابعث بهم إليّ ، واستشار الناس في أمرهم ، فأشار عليّ أن يستتيبهم ، فإن تابوا جلدهم ثمانين لشرب الخمر ، وإن لم يتوبوا ضرب رقابهم ، لكونهم كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به الله ، فاستتابهم فتابوا ، فضربهم ثمانين ثمانين. ورواه ابن حزم في المحلى ١١ / ٢٨٧ بنحوه من طريق الحجاج في منهال ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن جحادة بن دثار : أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شربوا الخمر بالشام ... وانظر فتح الباري ١٢ / ٧٠ ، والمغني ٨ / ٣٠٤ لابن قدامة.

(١) المائدة : ٩٣.

(٢) أخرجه من حديث البراء بن عازب الترمذي ٣٠٥٠ و ٣٠٥١ ، والطيالسي ٧١٥ ، والطبري ١٣٧٣ و ١٧٤٠ ، وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي ٣٠٥٢ ، وأحمد ١ / ٢٣٤ و ٢٧٢. وقال الترمذي : حسن صحيح وصححه الحاكم ٤ / ١٤٣ وأقرّه الذهبي.

وعن أنس بن مالك عند البخاري ٢٤٦٤ و ٤٦١٧ و ٤٦٢٠ و ٥٥٨٠ ، وأحمد ٣ / ٢٢٧ ، والدارمي ٢ / ١١١.

(٣) غافر : ١ ـ ٣.

٢٧٣

____________________________________

وروي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورؤي في ذلك اليوم بمكة ، فقال ابن مقاتل : من اعتقد جوازه كفر ، لأنه من المعجزات لا من الكرامات (١) ، أما أنا فأستجهله ولا أكفّره.

أقول : ينبغي أن لا يكفّر ولا يستجهل لأنه من الكرامات لا من المعجزات إذ المعجزة لا بدّ فيها من التحدّي ولا تحدّي هنا فلا معجزة ، وعند أهل السّنّة والجماعة : تجوز الكرامة كذا في الفصولين ، وأقول التحدّي فرع دعوى النبوّة ودعوى النبوّة بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر بالإجماع ، فظهور خارق العادات من الاتّباع كرامة من غير نزاع.

ثم اعلم أنه إذا تكلم بكلمة الكفر عالما بمعناها ولا يعتقد معناها لكن صدرت عنه من غير إكراه ، بل مع طواعية في تأديته فإنه يحكم عليه بالكفر بناء على القول المختار عند بعضهم من أن الإيمان هو مجموع التصديق والإقرار فبإجرائها يتبدّل الإقرار بالإنكار ، أما إذا تكلم بكلمة ولم يدر أنها كلمة كفر ففي فتاوى قاضي خان حكاية خلاف من غير ترجيح حيث قال : قيل : لا يكفر لعذره بالجهل ، وقيل : يكفر ، ولا يعذر بالجهل ، أقول : والأظهر الأول إلا إذا كان من قبيل ما يعلم من الدين بالضرورة فإنه حينئذ يكفر ، ولا يعذر بالجهل.

ثم اعلم أن المرتد يعرض عليه الإسلام على سبيل الندب دون الوجوب لأن الدعوة بلغته ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم‌الله تعالى وتكشّف عنه شبهته ، فإن طلب أن يمهل حبس ثلاثة أيام للمهلة لأنها مدة ضربت لأجل الأعذار فإن تاب فيها وإلا قتل.

وفي النوادر (٢) عن أبي حنيف وأبي يوسف رحمهما‌الله تعالى : يستحبّ أن يمهل ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب ، وفي أصحّ قولي الشافعي رحمه‌الله تعالى إن تاب في الحال ، وإلا قتل وهو اختيار ابن المنذر ، وقال الثوري رحمه‌الله : يستتاب ما رجي عوده ، وفي المبسوط وإن ارتدّ ثانيا وثالثا ، فكذلك يستتاب ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وقال مالك وأحمد رحمهم‌الله : لا يستتاب من تكرر منه كالزنديق ، ولنا في الزنديق روايتان في رواية : لا تقبل توبته كقول مالك رحمه‌الله ، وفي رواية تقبل وهو قول

__________________

(١) الصواب ما قاله ابن مقاتل رحمه‌الله أن هذا من المعجزات وليس من الكرامات ومعتقد جوازه كافر وهذه القصص من مخرقة الصوفية التي لا يعوّل عليها ولم يصحّ منها شيء.

(٢) النوادر : مجموعة مسائل كتبها محمد بن الحسن وأبو بكر إبراهيم بن رستم المروزي المتوفى سنة ٢١١ ه‍.

٢٧٤

____________________________________

الشافعي رحمه‌الله ، وهو في حق أحكام الدنيا ، وأما فيما بينه وبين الله فتقبل بلا خلاف ، وعن أبي يوسف رحمه‌الله تعالى : إذا تكرر منه الارتداد يقتل من غير عرض الإسلام أيضا لاستخفافه بالدين.

ثم اعلم أن الشيخ العلّامة المعروف بالبدر الرشيد رحمه‌الله تعالى من الأئمة الحنفية جمع أكثر الكلمات الكفرية بالإشارة الإيمائية فهنا أبين رموزها وأعين كنوزها وأحلّ غموزها وأجلى غموضها.

ففي حاوي الفتاوى (١) : من كفر باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، فهو كافر ، وليس بمؤمن عند الله. انتهى. وهو معلوم من مفهوم قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) (٢). وفي خلاصة الفتاوى (٣) من خطر بباله ما يوجب الكفر لو تكلم به ولم يتكلم وهو كاره لذلك ، فذاك محض الإيمان. انتهى ، وقد ورد حديث في هذا المعنى وقال عليه الصلاة والسلام : «الحمد لله الذي ردّ أمر الشيطان إلى الوسوسة» (٤). وفيه أيضا إن من عزم على الكفر ولو بعد مائة سنة يكفّر في الحال. انتهى. وقد بيّنت وجهه في ضوء المعالي شرح بدء الأمالي ... وفيه أيضا أن من ضحك مع الرضاء عمّن تكلم بالكفر كفر. انتهى. ومفهومه أن من ضحك تعجبا من مقالته مع عدم الرضاء بحالته لا يكفر ، فالمدار على الرضاء ، وإنما قيّد المسألة بالضحك لأن الغالب أن يكون مع الرضاء ، ولذا أطلق في مجمع الفتاوى (٥) ، وقال : من تكلم بكلمة الكفر وضحك به غيره كفر.

ولو تكلم به مذكّر وقبل القوم ذلك كفروا يعني لو تكلم به واعظ أو مدرّس أو

__________________

(١) هو الحاوي للفتاوى للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة ٩١١ ه‍ وهو مجلد أورد فيه اثنتين وثمانين رسالة من مهمات الفتاوى التي أفتى ورتبه على أبواب.

(٢) النحل : ١٠٦.

(٣) خلاصة الفتاوى كتاب معتبر معتمد في مجلدين ، جمعه طاهر بن أحمد من الواقعات والخزانة.

توفي سنة ٧٨٨ ه‍.

(٤) لم أجده فيما بين يدي من مراجع.

(٥) مجمع الفتاوى لأحمد بن محمد بن أبي بكر الحنفي ثم اختصره وسماه خزانة الفتاوى جمع فيه غرائب المسائل وهو مأخوذ من الفتاوى الكبرى والصغرى للصدر وفتاوى محمد بن الفضل البخاري وفتاوى محمد بن الوليد السمرقندي وفتاوى الرستغني وفتاوى عطاء بن حمزة والناطفي وغريب الرواة وغيرها.

٢٧٥

____________________________________

مصنّف واعتقده القوم الذين اطّلعوا عليه كفروا ، ولا عذر لهم فيه إلا إن كان الكفر مختلفا فيه ، وزاد في المحيط ، وقيل : إذا سكت القوم عن المذكر وجلسوا عنده بعد تكلمه بالكفر كفروا. انتهى ، وهذا محمول على العلم بكفره ...

وفي المحيط (١) من أنكر الأخبار المتواترة في الشريعة كفر مثل حرمة لبس الحرير على الرجال ، ومن أنكر أصل الوتر وأصل الأضحية كفر انتهى ، ولا يخفى أنه قيّده بقوله في الشريعة لأنه لو أنكر متواترا في غير الشريعة كإنكار جود حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وغيرهما لا يكفر ، ثم اعلم أنه أراد بالتواتر هاهنا التواتر المعنوي لا اللفظي لعدم ثبوت تحريم لبس الحرير ، وأصل الوتر والأضحية بالتواتر المصطلح فإن الأخبار المروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثلاث مراتب كما بيّنته في شرح شرح النخبة ونخبته هنا أنه إما متواتر ، وهو ما رواه جماعة لا يتصوّر تواطؤهم على الكذب ، فمن أنكره كفر أو مشهور وهو ما رواه واحد عن واحد ، ثم جمع عن جمع لا يتصوّر توافقهم على الكذب فمن أنكره كفر عند الكل إلا عيسى بن أبان فإن عنده يضلل ولا يكفر وهو الصحيح ، أو خبر الواحد وهو أن يرويه واحد عن واحد فلا يكفر جاحده غير أنه يأثم بترك القبول إذا كان صحيحا أو حسنا.

وفي الخلاصة : من ردّ حديثا قال بعض مشايخنا : يكفر ، وقال المتأخرون إن كان متواترا كفر. أقول : هذا هو الصحيح إلا إذا كان ردّ حديث الآحاد من الأخبار على وجه الاستخفاف والاستحقار والإنكار. وفي الفتاوى الظهيرية : من روى عنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ما بين بيتي ومنبري ، أو ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة (٢) ، فقال الآخر أرى المنبر والقبر ولا أرى شيئا أنه يكفر وهو محمول على أنه أراد به الاستهزاء

__________________

(١) المحيط : هو المحيط البرهاني وهو مرادهم عند الإطلاق ، كما صرّح بذلك ابن أمير حاج في حلية المجليّ ، وقيل بل المحيط الرضوي ، والأول أصح ، ومؤلفه برهان الدين محمود بن أحمد وللسرخسي أيضا المحيط الكبير ، وهو نحو أربعين مجلدا.

(٢) أخرجه من حديث عبد الله بن زيد : البخاري ١١٩٥ ، ومسلم ١٣٩٠ ، والموطأ ١ / ١٩٧ ، والنسائي ٢ / ٣٥ ، وأحمد ٤ / ٣٩ ـ ٤٠.

وأخرجه من حديث أبي هريرة البخاري ١١٩٦ و ١٨٨٨ و ٦٥٨٨ و ٧٣٣٥ ، ومسلم ١٣٩١ ، والترمذي ٣٩١٥ ، وأحمد ٢ / ٢٣٦ و ٣٧٦ و ٤٣٨ و ٥٣٣ و ٥٣٤.

وأخرجه الترمذي ٣٩١٥ من حديث علي وأبي هريرة رضي الله عنهما.

وأخرجه مالك في الموطأ ١ / ١٩٧ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.

٢٧٦

____________________________________

والإنكار وليس مؤمنا بالأمور الغيبية الزائدة على الأحوال العينية الواردة في الأخبار ... وفي المحيط : من أكره على شتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : شتمت ولم يخطر ببالي وأنا غير راض بذلك لا يكفر وكان كمن أكره على الكفر بالله فتكلم وقلبه مطمئن بالإيمان وإن قال خطر ببالي رجل من النصارى اسمه محمد فأردته ونويته بالشتم لا يكفر أيضا وإن قال خطر ببالي نصراني اسمه محمد فأردته ونويته فلم أشتمه وإنما شتمت مع ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكفر في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا لأنه شتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طائعا لأنه أمكنه الدفع يشتم محمد آخر خطر بباله. انتهى ... وفيه أنه إذا لم يخطر بباله محمد آخر حينئذ وشتمه مكرها لا يكفر لكن لا بدّ أن يكون الإكراه بقتل أو ضرب مؤلم ويكون المكره قادرا عليه ولا يمكن للمكره دفعه عنه بوجه آخر فتدبر ...

وفي الخلاصة روي عن أبي يوسف رحمه‌الله أنه قيل له بحضرة الخليفة المأمون إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب القرع (١) فقال رجل أنا لا أحبه فأمر أبو يوسف رحمه‌الله بإحضار النطع والسيف فقال الرجل : أستغفر الله مما ذكرته ، ومن جميع ما يوجب الكفر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتركه ولم يقتله ، وتأويل هذا أنه قال ذلك بطريق الاستخفاف يعني لأن الكراهة طبيعية ليست داخلة تحت الأعمال الاختيارية ولا يكلف بها أحد في القواعد الشرعية.

وفي الخلاصة أيضا : أن في الأجناس (٢) عن أبي حنيفة رحمه‌الله لا يصلى على غير الأنبياء والملائكة ومن صلى على غيرهم إلا على وجه التبعية فهو غال من الشيعة التي نسمّيها الروافض. انتهى ، ومفهومه أن حكم الإسلام ليس كذلك ولعل وجهه أن السلام تحية أهل الإسلام ولا فرق بين السلام عليه وعليه‌السلام إلا أن قول عليّ عليه‌السلام من شهار أهل البدعة فلا يستحسن في مقام المرام.

__________________

(١) القرع. هو اليقطين ، أو الدّباء ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبه ، روى البخاري ٥٣٧٩ ، ومسلم ٢٠٤١ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن خياطا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطعام صنعه. قال أنس : فذهبت مع رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأيته يتتبع الدّباء من حوالي القصعة ، قال : فلم أزل أحب الدّباء من يومئذ.

(٢) هو الأجناس في الفروع لأحمد بن محمد الناطفي الحنفي المتوفى سنة ٤٤٦ ه‍ جمعها له على الترتيب. ثم إن الشيخ أبا الحسن علي بن محمد الجرجاني الحنفي رتبها على ترتيب الكافي.

وجمع صاعد بن منصور الكرماني كتابا في الأجناس ، وجمع الإمام حسام الدين عمر بن عبد العزيز الشهيد أجناسا يقال لها الواقعات ، وللشيخ عمر بن محمد النسفي المتوفى سنة ٥٣٧ ه‍ كتاب في أجناس الفقه.

٢٧٧

____________________________________

فصل في القراءة والصلاة

وفي الفتاوى الظهيرية : يجب إكفار الذين يقولون : إن القرآن جسم إذا كتب وعرض إذا قرئ انتهى. وفيه بحث لا يخفى ، وتحقيقه ما تقدّم في مسألة القول بخلق القرآن. وفي الخلاصة : من قرأ القرآن على ضرب الدفّ والقضيب (١) يكفر ، قلت : ويقرب منه ضرب الدّف والقضيب مع ذكر الله تعالى ونعت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا التصفيق على الذكر.

ثم قال : وكذا من لم يؤمن بكتاب من كتب الله أو جحد وعدا أو وعيدا مما ذكره الله في القرآن أو كذب شيئا منه أي من أخباره ، وهذا ظاهر لا مرية في أمره ولا مخالفة لحكمه. وفي جواهر الفقه من أنكر الأهوال عند النزع والقبر والقيامة والميزان والصراط والجنة والنار كفر. انتهى.

ولعل الجنة والنار عطف على الأهوال لتستقيم الأحوال إلا أن المعتزلة لم يقولوا بعذاب القبر ولا بالميزان والصراط ولا يصحّ إكفارهم في صحيح الأقوال.

وفي فوز النجاة (٢) من قال : لا أدري لم ذكر الله تعالى هذا في القرآن كفر يعني إذا كان بطريق الإنكار ليترتب عليه الإكفار بخلاف ما إذا سأل استفهاما عن حكمته ... وفي المحيط : سئل الإمام الفضلي عمّن يقرأ الظاء المعجمة مكان الضاد المعجمة ، أو يقرأ أصحاب الجنة مكان أصحاب النار ، أو على العكس ، فقال : لا تجوز إمامته ولو تعمّد يكفر قلت : أما كون تعمّده كفرا فلا كلام فيه إذا لم يكن فيه لغتان : (ففي ضنين الخلاف سامي) ، وأما تبديل الظاء مكان الضاد ففيه تفصيل ، وكذا تبديل أصحاب الجنة في موضع أصحاب النار وعكسه ، ففيه خلاف وبحث طويل. وفي تتمة الفتاوى : من استخفّ بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر ، ومن وضع رجله على المصحف حالفا استخفافا كفر انتهى ...

ولا يخفى أن قوله حالفا قيد واقعي لا مفهوم له. وفي جواهر الفقه من قيل له : ألا تقرأ القرآن أو لا تكثر قراءته ، فقال : شبعت أو كرهت أو أنكر آية من كتاب الله أو عاب شيئا من القرآن أو أنكر كون المعوذتين من القرآن غير مؤوّل كفر ، قلت : وقال

__________________

(١) القضيب : آلة من آلات اللهو.

(٢) فوز النجاة : في الأخلاق لأبي بكر علي بن مسكويه المتوفى سنة ٤٢١ ه‍.

٢٧٨

____________________________________

بعض المتأخرين كفر مطلقا أوّل أو لم يؤوّل ، لكن الأول هو الصحيح المعوّل. وفيه أيضا : ومن جحد القرآن أي كله أو سورة منه ، أو آية قلت : وكذا كلمة أو قراءة متواترة ، أو زعم أنها ليست من كلام الله تعالى كفر يعني إذا كان كونه من القرآن مجمعا عليه مثل البسملة في سورة النمل ، بخلاف البسملة في أوائل السور فإنها ليست من القرآن عند المالكية على خلاف الشافعية ، وعند المحقّقين من الحنفية أنها آية مستقلة أنزلت للفصل ، وفيه أيضا من سمع قراءة القرآن فقال : استهزاء بها صوت طرفة كفر أي نغمة عجيبة ، وإنما يكفر إذا قصد الاستهزاء بالقراءة نفسها بخلاف ما إذا استهزأ بقارئها من حيثية قبح صوته فيها وغرابة تأديته لها.

وفي الفتاوى الظهيرية : من قرأ آية من القرآن على وجه الهزل كفر ، قلت : لأنه تعالى قال : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١). وفي تتمة الفتاوى : من استعمل كلام الله تعالى بدل كلامه كمن قال في ازدحام الناس : فجمعناهم جمعا كفر ، قلت : هذا إنما يتصوّر إذا كان قائل هذا الكلام هو جامع الناس بالازدحام ، وإلا فلا مانع من أنه تذكّر في هذا المقام قوله تعالى : فيما سيكون يوم القيامة فالأظهر في مثال هذا الباب : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) (٢). إذا قصد هذا المعنى في الخطاب بخلاف ما إذا طابق لفظه نص الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب.

وفي فوز النجاة : من قال لآخر : اجعل بيته مثل السماء والطارق يكفر لأنه يلعب بالقرآن ، قلت : وكذا من قال : جعلت بيتي مثل ما ذكر فلا مفهوم لآخر فتدبر. وفي جواهر الفقه من قال لآخر : ظهر البيت أو فمه مثل والسماء والطارق قلت : إنما ذكره تقوية لما قبله ... وفي فوز النجاة من قال لآخر : طبخ القدر بقل هو الله أحد كفر. أي لأنه أراد بهذا السخرية لا التبرّك به وتحسين الطويّة.

وفي [الظهيرية] (٣) : من قال سلخت أو سلخ سورة الإخلاص أو قال لمن يكثر قراءة سورة التنزيل أخذت جيب سورة التنزيل كفر قلت : أراد بالتنزيل التمثيل ولذا قال في المحيط أو قال : أخذت جيب ألم نشرح لك كفر. أي لقصده الاستهزاء لا المداومة على قراءته في البلاء والرخاء ... وفي الظهيرية لو قال : فلان أقصر من إنّا أعطيناك كفر ،

__________________

(١) الطارق : ١٣.

(٢) مريم : ١٢.

(٣) تصحفت في الأصل إلى الظهيرة والصواب [الظهيرية].

٢٧٩

____________________________________

أي لاستهزائه به ، أو لمن قال ؛ يقرأ عند المريض سورة يس تلقمها في فم الميت كفر أي لاستخفافه بها.

قال : ومن دعي إلى جماعة فقال : أصلّي موحّدا أي منفردا فإن الله تعالى قال : الصلاة تنهى كفر ، يعني استدلّ بقوله تعالى تنهى أنه بمعنى تنها بلغة العجم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «من فسّر القرآن برأيه فقد كفر» (١). مع أنه بدّل وحرّف وغيّر.

وفي المحيط من قال لمن يقرأ القرآن ولا يتذكّر كلمة والتفّت الساق بالساق أو ملأ قدحا وجاء به ، وقال : وكأسا دهاقا ، أو قال : فكانت سرابا بطريق المزاح ، أو قال عند الكيل أو الوزن : وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون يريد به المزاح فهذا كله كفر أي لأن المزاح بالقرآن كفر كما سبق ...

ومن جمع أهل موضع وقال : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢) ، أو قال : (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٣) ، أو قال : فجمعناهم عندنا كفر. وفيه وجه الكفر في القولين الأوّلين ظاهر ، لأنه وضع القرآن في موضع كلامه ، وأما القول الأخير فلا يظهر وجه كفره لأنه ما جاء جمعناهم عندنا في القرآن وبمجرد مشاركة كلمة تكون في القرآن من جملة أجزاء الكلام لا يخرج من الإسلام باتفاق علماء الأنام فكأن القائل به توهّم أنه من ألفاظ القرآن ، ثم قال : ومن قال والنازعات نزعا أو نزعا يعني بضم النون وأراد به الطنز كفر انتهى. والطنز بالطاء والنون والزاي السخرية.

وفي تتمة الفتاوى قال معلم يوم خلق الله القرآن وضع الخميس كفر ، وفيه أنه إن كان مبنيّا على مسألة خلق القرآن فهي من الخلافية ، وإن كان مبنيّا على قوله وضع بصيغة الفاعل وأنه افترى على الله كذبا أنه شرع إعطاء الخميس للفقيه ، فكفره ظاهر بخلاف ما إذا قال : وضع بصيغة المفعول ، أي المجهول فتأمل فإنه موضع زلل.

ثم قال : ولو قال خذ أجرة المصحف يكفر ، وفيه بحث لأنه يحتمل صدور هذا

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ وإنما ورد بلفظ أخطأ بدل كفر أخرجه الترمذي ٢٩٥٢ من حديث جندب بن عبد الله.

قال الترمذي : هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم أنهم شدّدوا في هذا أن يفسر القرآن بغير علم.

(٢) الكهف : ٤٧.

(٣) الكهف : ٩٩.

٢٨٠