شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

المرجئة الصرفة على فناء أهل النار ففيه أن الحديث على تقدير صحته لا يعارض النصوص القاطعة مع أنه مؤوّل بأن المراد بجهنم طبقة من طبقاتها المختصّة بعصاة المؤمنين فإنهم إذا خرجوا منها وذهبوا إلى الجنة تبقى صحراء ليس أحد فيها.

__________________

 ـ عن أبي نضرة ، عن جابر أو أبي سعيد (يعني الخدري) أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ، قال : وسمعت أبا مجلز يقول : هو جزاؤه فإن شاء الله تجاوز عن عذابه.

وهو وإن كان صحيح الإسناد محمول على الموحدين ، فقد أورده ابن جرير بعد أن نقل قول من قال في تأويل معنى الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إنه في أهل التوحيد ، وقالوا معنى قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم ، فلا يدخلهم النار ، ووجّهوا الاستثناء إلى أنه من قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ إِلَّا ما شاءَ اللهُ) لا من الخلود. فقد بان بما ذكرنا أن القول بفناء النار لا يثبت عن أحد من الصحابة وأن ما صحّ عنهم من عبارات لا تدلّ على المدّعى ، وهو القول بفناء النار.

١٢١

والمسح على الخفّين سنّة ، والتراويح في ليالي شهر رمضان سنّة ....

____________________________________

فصل

(والمسح على الخفّين) أي للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها (سنّة) أي ثابت بالسّنّة التي كادت أن تكون متواترة ولا يبعد أن يؤخذ ثبوته من الكتاب أيضا لأن قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (١) قرئ بالنصب في السبعة الأظهر في الغسل والجر الأظهر في المسح وهما متعارضان وبحسب الحكم مبهمان فبينهما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث مسحهما حال لبس الخفّين وغسلهما عند كشف الرجلين (والتراويح) أي صلاتها (في شهر رمضان) أي في لياليها (سنّة) أي بأصلها لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلّاها في ليال ، ثم تركها شفقة على الأمة لئلا تجب وعلى العامة أن يحسبوها أنها واجبة ، وأما قول عمر رضي الله عنه في حقها نعمت البدعة (٢) إنما هو باعتبار إحيائها ، أو سبب الإجماع عليها بعد ما كان الناس ينفردون بها مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين» (٣). ثم خصّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : اقتدوا بالذين من بعدي (٤) ، وفيه وفيما قبله ردّ على الروافض ، وكذا في قوله

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) أخرجه البخاري ٢٠١٠ ومالك في الموطأ ١ / ١١٤ كلاهما من حديث عبد الرحمن بن عبد القاري موقوفا.

فائدة : قال ابن الأثير في جامع الأصول : ٦ / ١٢٢ : وأما قول عمر رضي الله عنه : «نعمت البدعة هذه» فإنه يريد بها صلاة التراويح ، فإنه في حيّز المدح ، لأنه فعل من أفعال الخير ، وحرص على الجماعة المندوب إليها ، وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، فقد صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما قطعها إشفاقا من أن تفرض على أمته ، وكان عمر ممّن نبّه عليها وسنّها على الدوام ، فله أجرها وأجّر من عمل بها إلى يوم القيامة ، وقد قال في آخر الحديث : «والتي تنامون عنها أفضل» تنبيها منه على أن صلاة آخر الليل أفضل ، قال : وقد أخذ بذلك أهل مكة ، فإنهم يصلّون التراويح بعد أن يناموا. ا. ه.

(٣) هو بعض حديث أخرجه أبو داود ٤٦٠٧ ، والترمذي ٢٦٧٦ وقال حسن صحيح ، وابن ماجة ٤٣ و ٤٤ ، وأحمد ٤ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ، والدارمي ١ / ٤٤ ، والبيهقي ٦ / ٥٤١ ، والطحاوي في المشكل ٢ / ٦٩ ، وابن حبان ٥ / ، وصحّحه الحاكم ١ / ٩٥ ، ووافقه الذهبي والآجري ص ٤٦ و ٤٧ ، والبغوي ١٠٢ ، وابن أبي عاصم ٣٢ و ٥٧ و ٢٧ كلهم من حديث العرباض بن سارية.

(٤) أخرجه الترمذي ٣٦٦٢ و ٣٦٦٣ ، وابن ماجة ٩٧ ، وأحمد ٥ / ٣٨٢ و ٣٨٥ و ٣٩٩ و ٤٠٢ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ١١ ، والحميدي ٤٤٩. وابن أبي عاصم ١١٤٨ و ١١٤٩ ، والطحاوي في مشكل الآثار ٢ / ٨٣ و ٨٤ و ٨٥ ، وأبو نعيم في الحلية ٢ / ١٨٥ وسنده حسن ، وصحّحه الحاكم ٣ / ٧٥ ووافقه الذهبي ، وصحّحه ابن حبان من : ٢١٩٣ من طريق آخر. كلهم من حديث حذيفة بن اليمان ـ

١٢٢

والصلاة خلف كل برّ وفاجر من المؤمنين جائزة ...

____________________________________

رحمه‌الله تعالى (والصلاة خلف كل برّ وفاجر) أي صالح وطالح (من المؤمنين جائزة) أي لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلّوا خلف كل برّ وفاجر». أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وكذا البيهقي وزاد قوله : «صلوا على كل برّ وفاجر وجاهدوا مع كل برّ وفاجر» (١). فمن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء ، والصحيح أنه يصلّيها ولا يعيدها.

وكان ابن مسعود وغيره يصلّون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم الصبح مرة أربعا ، ثم قال : أزيدكم ، فقال ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة (٢) ، وفي المنتقى (٣) سئل أبو حنيفة رحمه‌الله عن مذهب أهل السّنّة والجماعة ، فقال : أن تفضل الشيخين أي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وتحب الختنين أي عثمان وعليّا رضي الله عنهما ، وأن ترى المسح على الخفّين وتصلّي خلف كل برّ وفاجر (٤).

__________________

 ـ وتمامه : «أبي بكر وعمر».

(١) أخرجه الدارقطني ٢ / ٥٧ ، ومن طريقه البيهقي ٤ / ١٩ من رواية ابن وهب ، حدّثنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث ، عن مكحول عن أبي هريرة ، قال الدارقطني : مكحول لم يسمع من أبي هريرة ، ومن دونه ثقات.

(٢) رواه عمر بن شبة فيما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧ عن هارون بن معروف عن ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب قال : صلى الوليد بن عقبة ... ، وفي صحيح مسلم ١٧٠٧ من طريق حضين بن المنذر ، قال شهدت عثمان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال : أزيدكم ، فشهد عليه رجلان أحدهما : حمران أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ، فقال عثمان : إنه لم يتقيأ حتى شربها ، فقال : يا علي قم فاجلده ، فقال علي : قم يا حسن فاجلده ، فقال الحسن : ولّ حارّها ، من تولّى قارّها ، فكأنه وجد عليه فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعليّ يعدّ حتى بلغ أربعين فقال : أمسك ، ثم قال : جلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين ، وكلّ سنّة ، وهذا أحبّ إليّ. وانظر الإصابة ٣ / ٦٠١ ، وأسد الغابة ٥ / ٤٥١ ـ ٤٥٣.

(٣) المنتقى : لعلي بن أبي بكر الفرغاني الراشدي أحد الأئمة الفقهاء ، له تصانيف كثيرة منها الهداية والتجنيس والمزيد ، توفي سنة ٥٩٣ ه‍.

والمنتقى : لمحمد بن محمد الشهير بالحاكم الشهيد البلخي ، صنّف المنتقى ، والكافي ، وهما أصلان من أصول المذهب بعد كتاب محمد ، توفي سنة ٣٤٤ ه‍.

(٤) هذا الكلام موجود أيضا في شرح العقائد النسفية ص ٢٥٥. وهذا القول مأخوذ من قول الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه فإنه قال : «ومن السّنّة أن تفضل الشيخين ، وتحب الختنين ، وترى المسح على الخفّين». انظر فتح القدير ١ / ٩٩.

١٢٣

____________________________________

فصل

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : ثم نقرّ بأن أفضل هذه الأمة يعني وهم خير الأمم بعد نبيّنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو بكر ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عليّ رضي الله عنهم أجمعين لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١). وكلّ من كان أسبق أي في الخلافة من هؤلاء فهو أفضل ويحبهم كل مؤمن تقي ويبغضهم كل منافق شقي.

ثم قال الإمام الأعظم فيه : نقرّ بأن المسح على الخفّين جائز للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها (٢) ، لأن الحديث قد ورد هكذا كما قلنا ، ومن أنكر هذا فإنه يخشى عليه الكفر لأنه قريب من الخبر المتواتر أي اللفظي ، وإلا فهو المتواتر المعنوي ، ثم قال فيه : والقصر والإفطار رخصة في حالة السفر بنص الكتاب ، ففي القصر قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٣) ، وفي

__________________

(١) الواقعة : ١٠.

(٢) يشير أبو حنيفة رحمه‌الله هنا إلى حديث علي بن أبي طالب ونصه : يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ والمقيم يوما وليلة». أخرجه مسلم ٢٧٦ ، والنسائي ١ / ٨٤ ، وابن ماجة ٥٥٢ ، والدارمي ٧١٥.

وحديث صفوان بن عسال المرادي ونصه : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كنّا مسافرين أو سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنّ إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم». أخرجه الترمذي ٩٦ ، والنسائي ١ / ٨٤ ، والبيهقي ١ / ١١٤ ، وأحمد ٤ / ٢٣٩ و ٢٤٠ ، وابن ماجة ٤٧٨ وهو حديث حسن.

وحديث عوف بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالمسح على الخفّين ثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر ويوما وليلة للمقيم». أخرجه أحمد ٦ / ٢٧ ، والطحاوي في شرح معاني الآثار ١ / ٥٠ ، والبيهقي ١ / ٢٧٥ ، وأورده الهيثمي في المجمع ١ / ٢٥٩ ، وقال : رواه البزار ، والطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح.

وأورده الزيلعي في نصب الراية ١ / ١٦٨ ، ونقل عن أحمد قوله : هذا أجود حديث في المسح على الخفّين لأنه في غزوة تبوك. ا. ه.

ولذلك قال الإمام أبو حنيفة رحمه‌الله : «ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار». انظر فتح القدير : ١ / ٩٩ ، وأحاديث المسح على الخفّين بلغت حدّ التواتر ، انظر نصب الراية ١ / ١٧٤ ، وتلخيص الحبير ١ / ١٥٧.

(٣) النساء : ١٠١.

١٢٤

ولا نقول : إن المؤمن لا تضرّه الذنوب ولا نقول إنه لا يدخل النار ولا نقول : إنه يخلد فيها ، وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا ، ...

____________________________________

الإفطار قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (١). انتهى. والرخص في الآية الأولى واجبة العمل لقوله عليه الصلاة والسلام : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (٢). ولهذا لو صلى المسافر أربعا يكون مسيئا وأما الرخصة في الآية الثانية غير ظاهرة بحسب الدلالة بل الظاهرية (٣) ذهبوا إلى وجوب ترك الصوم هنالك وقضائه بعد ذلك ، وإنما الرخصة مستفادة من قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤). ومن الأخبار التي تثبت جواز الإفطار في الأسفار (ولا نقول) أي بحسب الاعتقاد (إن المؤمن لا تضرّه الذنوب) أي ارتكاب المعصية بعد حصول الإيمان والمعرفة (وأنه) أي المؤمن المذنب (لا يدخل النار) كما يقوله المرجئة والملاحدة والإباحية (ولا أنه) أي ولا نقول إن المؤمن المذنب (يخلد فيها وإن كان فاسقا) أي ارتكاب الكبائر جميعها (بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا) أي مقرونا بحسن الخاتمة خلافا لما يقوله المعتزلة ، وذلك لأن صاحب المعصية تحت المشيئة عند أهل السّنّة والجماعة لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٥) من غير توبة وإلا فهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويغفر بها الشرك وغيره بمقتضى وعده وإخباره خلافا للمعتزلة حيث يقولون : يجب على الله تعالى عقاب العاصي وثواب المطيع وقبول التوبة وأمثالها.

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

(٢) أخرجه مسلم ٦٨٦ ، وأبو داود ١١٩٩ و ١٢٠٠ ، والترمذي ٣٠٣٤ ، والنسائي ٣ / ١١٦ ـ ١١٧ ، وابن ماجة ١٠٦٥ ، والدارمي ١ / ٣٥٤ ، وأحمد ١ / ٢٥ و ٣٦ ، والبيهقي ٣ / ١٣٤ و ١٤٠ ، والبغوي ١٠٢٤ ، والطبري ١٠٣١٠ ، وصححه ابن خزيمة ٩٤٥ ، وابن حبان ٢٧٣٩ ، والطحاوي في معاني الآثار ١ / ٤١٥ ، والشافعي في «السّنن المأثورة» ١٥ كلهم من حديث عمر بن الخطاب.

(٣) قال ابن حزم في المحلى ٦ / ٥٤٤ ، مسألة ٧٦٢ : ومن سافر في رمضان سفر طاعة ، أو سفر معصية ، أو لا طاعة ، ولا معصية ففرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا أو بلغه ، أو إزاءه وقد بطل صومه حينئذ ، لا قبل ذلك ، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر. وله أن يصومه تطوّعا ، أو عن واجب لزمه أو قضاء عن رمضان خال لزمه ، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره». ا. ه. وانظر في الرد على هذا الكلام المجموع للنووي ٦ / ٢٨٤ ـ ٢٨٦ ، والمغني لابن قدامة ٣ / ١٠٠ ، وفتح القدير ٢ / ٨٩.

(٤) البقرة : ١٨٤.

(٥) النساء : ٤٨.

١٢٥

ولا نقول : إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة. ولكن نقول : من عمل حسنة بجميع شرائطها خالية عن العيوب المفسدة والمعاني المبطلة ...

____________________________________

وأما قول التفتازاني رحمه‌الله في شرح العقائد عند قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) من الصغائر والكبائر مع التوبة ، أو بدونها خلافا للمعتزلة ففيه أن قوله مع التوبة سهو قلم ليس في محله من جهتين حيث خالف الطائفتين لأن المشيئة بدون التوبة محل خلاف للمعتزلة ، وأما معها فلا خلاف في المسألة كما صرّح في شرح المقاصد بأنهم أجمعوا على أن لا عذاب على التائب كما صحّ في حديث التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وكقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (١). ثم لا نزاع في أن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة التكذيب وعلم كونه كذلك بالأدلة الشرعية كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات والتلفّظ بكلمة الكفر ، ونحو ذلك مما يثبت بالأدلة أنه كفر وبهذا يندفع ما يقال إن الإيمان إذا كان عبارة عن التصديق والإقرار فينبغي أن لا يصبر المقرّ باللسان المصدق بالجانّ كافرا بشيء من أفعال الكفر وألفاظه ما لم يتحقّق منه التكذيب أو الشك ، وأما احتجاج المعتزلة بأن الأمة بعد اتفاقهم على أن مرتكب الكبيرة فاسق ، اختلفوا في أنه مؤمن ، وهو مذهب أهل السّنّة والجماعة ، أو كافر. وهو قول الخوارج ، أو منافق ، وهو قول الحسن البصري رحمه‌الله ، فأخذنا بالمتفق عليه وتركنا المختلف فيه ، وقلنا : هو فاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق فمدفوع بأن هذا إحداث للقول المخالف لما أجمع عليه السلف من عدم المنزلة بين المنزلتين فيكون باطلا على أن الحسن البصري رحمه‌الله رجع عنه آخرا كما صرّح به في البداية.

والحاصل أن المعتزلة والخوارج خوارج عمّا انعقد عليه الإجماع فلا اعتداد بهم (ولا نقول إن حسناتنا مقبولة) أي مبرورة (وسيئاتنا مغفورة) أي البتّة (كقول المرجئة) بالهمز والياء (ولكن نقول) أي بل نعتقد المسألة مبينة مفصلة كما أوضحه بقوله : (من عمل حسنة شرائطها) أي بجميع شرائطها كما في نسخة ، أي واقعة بجميع مصححاتها في الابتداء (خالية عن العيوب المفسدة) أي الظاهرية (والمعاني المبطلة) أي الباطنية في الانتهاء كالكفر والعجب والرياء لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٢). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) (٣) الآية ، وأما قول الشارح وكالأخلاق السيئة وغيرها من المعصية فغير جار على مذهب أهل السّنّة

__________________

(١) الشورى : ٢٥.

(٢) المائدة : ٥.

(٣) البقرة : ٢٦٤.

١٢٦

ولم يبطلها بالكفر والردّة حتى خرج من الدنيا مؤمنا فإن الله تعالى لا يضيعها ، بل يقبلها منه ويثيبه عليها. وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب عنها صاحبها حتى مات مؤمنا فإنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه بالنار ، وإن شاء عفا عنه ولم يعذّبه بالنار أصلا ...

____________________________________

والجماعة ، بل مبني على قواعد المعتزلة ، ثم ما ورد من نحو قوله عليه الصلاة والسلام : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (١). فمؤوّل بأن الحسد غالبا يحمل الحاسد على ارتكاب سيئات بالنسبة إلى المحسود فيعطي له من حسنات يعملها الحاسد في اليوم الموعود (ولم يبطلها) تأكيد لما قبلها وتأييد لتعلّق ما بعدها (حتى خرج من الدنيا) وفيه إيماء إلى أنه ما دام فيها فهو في خطر من إبطال الطاعة وإفسادها (فإن الله تعالى لا يضيعها) بتخفيف الياء وتشديدها وذلك لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٢). وفي آية أخرى : (أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣). (بل يقبلها منه) أي بفضله وكرمه (ويثيبه عليها) أي بمقتضى وعده وحكمه (وما كان من السيئات) أي المعاصي جميعها (دون الشرك) أي الإشراك خصوصا (والكفر) أي عموما (ولم يتب عنها) أي عن السيئات صغيرها وكبيرها دون ما استثنى منها (حتى مات مؤمنا) أي غير تائب (فإنه في مشيئة الله تعالى) أي تحت تعلّق إرادته سبحانه بعذابه عليها أو عفوه عنها كما بيّنه بقوله : (إن شاء عذبه) أي بعدله على قدر استحقاق عقابه ، (وإن شاء عفا عنه) أي بفضله ولو وقع شفاعة في بابه (ولم يعذبه بالنار أصلا) بل يدخله الجنة ويجعله فيها مخلّدا.

__________________

(١) أخرجه أبو داود ٤٩٠٣ ، والبيهقي في الآداب ص ٢٩ من طريق إبراهيم بن أبي أسيد عن جدّه عن أبي هريرة ، قال الحافظ في التقريب : إبراهيم بن أبي أسيد عن جده لا يعرف.

وأخرجه من حديث أنس بن ماجة ٤٢١٠ وفيه عيسى بن أبي عيسى الحناط متروك ، والديلمي ٢٨١٢ ، والقضاعي في مسند الشهاب ١٠٤٩ ، والخطيب في تاريخه ٢ / ٢٢٧ ، وفيه محمد بن محمد بن حسين بن حريقا البزار ذكره الخطيب وقال : روى عنه عبد الله بن إسحاق الخراساني المعدل ، فهو مجهول.

وأخرجه من حديث ابن عمر القضاعي في مسند الشهاب ١٠٤٨ وفيه عمر بن محمد بن حفصة الخطيب. قال الحافظ الذهبي في الميزان ٣ / ٢٢٢ له في مسند الشهاب ، ثم ذكر هذا الحديث ثم قال : فهذا بهذا الإسناد باطل. وأقرّه الحافظ في اللسان.

والخلاصة : أن الحديث ضعيف.

(٢) التوبة : ١٢٠.

(٣) آل عمران : ١٧١.

١٢٧

والرياء إذا وقع في عمل من الأعمال فإنه يبطل أجره ...

____________________________________

فصل

(والرياء) وفي معناه السمعة ، وقد توسّع في إطلاق أحدهما وإرادة كلّ منهما لمآل أمرهما إلى عدم الإخلاص حيث المرائي يظهر العمل ليراه الناس ويستحسنوه في مقام الإيناس والمسمع بفعل الفعل ليسمعه الخلق ، وليس في غرضه رضى الحق (إذا وقع في عمل من الأعمال) أي في ابتدائه أو أثنائه قبل الإكمال (فإنه يبطل أجره) أي أجر ذلك العمل ، بل يثبت وزره حيث ظلم نفسه بوضع الشيء في غير موضعه قال الله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١). أي لا شركا جليّا ولا خفيّا ، وفيه إيماء إلى أنه إذا قصد الرياء والسمعة وقصد الطاعة والعبادة جميعا يوصف بالشركة مطلقا لغلبة أحدهما على الآخر أو التسوية بينهما ، فإنه يبطل أجره ويثبت وزره لعموم حديث : «من كان أشرك أحدا في عمل عمله لله فليطلب ثوابه مما سواه فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» (٢) ، وكذا حديث «لا يقبل الله عملا فيه مقدار ذرّة

__________________

(١) الكهف : ١١٠.

(٢) أخرجه الترمذي ٣١٥٤ ، وابن ماجة ٤٢٠٣ ، وأحمد ٣ / ٤٦٦ و ٤ / ٢١٥ ، وصحّحه ابن حبان ٤٠٤ ، والطبراني في الكبير ٢٢ / ٧٧٨ ، والدولابي في الكنى ١ / ٣٥ كلهم من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري.

قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن بكر البرساني. وقال علي بن المديني فيما نقله الحافظ في الإصابة ٤ / ٨٦ : سنده صالح.

قال الحافظ في الإصابة : ٤ / ٨٦ : أبو سعد بن فضالة الأنصاري ، ويقال : ابن أبي فضالة ، ويقال : أبو سعيد بن فضالة بن أبي فضالة ذكره ابن سعد في طبقة أهل الخندق ، وقال ابن السكن لا يعرف. وأخرج الترمذي ، وابن ماجة ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم من طريق عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن زياد بن ميناء عن أبي سعد بن فضالة وكان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...

قال علي بن المديني : سنده صالح. وقع عند الأكثر بسكون العين وبه جزم أبو أحمد الحاكم ، وقال : له صحبة لا أحفظ له اسما ولا نسبا وفي ابن ماجة بالوجهين ، وفي الترمذي زيادة الياء ، وقال الإمام الذهبي في «التجريد» أبو سعد بن فضالة له حديث متّصل في الكنى لأبي أحمد ، ثم قال : أبو سعيد بن فضالة ، ويقال أبو سعد ، أخرج له الترمذي في الرياء ، وجعله اثنين مع أن الحديث الذي أخرجه الحاكم أبو أحمد هو الذي أخرجه الترمذي بعينه ، ورأيته في الترمذي كما في «الكنى» للحاكم : أبو سعد بسكون العين ، وكذا ذكره البغوي في «الكنى» فقال : أبو سعد بن أبي فضالة الأنصاري سكن المدينة ، ثم ساق حديثه بسنده إلى زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي ـ

١٢٨

وكذلك العجب .....

____________________________________

من الرياء» (١). (وكذلك العجب) أي وكذا حكم العجب في أنه يبطل أجر العمل الذي وقع فيه العجب ، وفي اقتصار حكم الإمام الأعظم رحمه‌الله على الرياء والعجب دون سائر الأنام إشعار بأن باقي السيئات لا تبطل الحسنات ، بل قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٢). وذلك للحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» (٣) وقد خالفه شارح حيث قال : وكذا غيرهما من الأخلاق السيئة يبطل أجور الأعمال الحسنة ، واستدلّ بقوله عليه الصلاة والسلام : «خمس يفطرن الصائم الغيبة والكذب والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة» (٤). ولم يعرف تأويل الحديث بأن المراد به أنه يفطر كمال الصوم ، ويبطل جماله لا أصله ، فإن النظر بشهوة صغيرة وهو لا يبطل العمل لا عند أهل السّنّة ، ولا عند المعتزلة.

وأما استدلاله بقوله عليه الصلاة والسلام : «سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل» (٥). فمدفوع لأن الحديث مؤوّل بأن سوء خلقه من ريائه وعجبه يفسد ثواب

__________________

 ـ فضالة وكان من الصحابة قال : سمعت ... وكذا أخرجه ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين ، عن محمد بن بكر ، عن عبد الحميد ...

(١) قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء : ٣ / ٢٩٤ : لم أجده هكذا. ا. ه. ولقد بحثت عنه فلم أجده.

(٢) هود : ١١٤.

(٣) أخرجه البخاري ٧٤٠٤ و ٧٤٢٢ و ٧٤٥٣ ، ومسلم ٢٧٥١ واللفظ له ، والترمذي ٥٣٣٧ ، كلهم من حديث أبي هريرة.

(٤) أخرجه الديلمي في الفردوس ٢٩٧٩ من حديث أنس بن مالك. وقال : الحافظ العراقي في تخريج الإحياء : ١ / ٢٣٤ : أخرجه الأزدي في الضعفاء من رواية جابان عن أنس قال أبو حاتم الرازي : هذا كذاب. ا. ه.

قال الزيلعي في نصب الراية : ٢ / ٤٨٣ : رواه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث عنبسة.

وقال : هذا حديث موضوع وقال ابن معين : سعيد كذاب ومن سعيد إلى أنس كلهم مطعون فيهم.

وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل : سألت أبي عن حديث رواه بقية عن محمد بن الحجاج عن ميسرة بن عبد ربه عن جابان عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ... فذكره. فقال أبي : إن هذا كذب وميسرة كان يفتعل الحديث. ا. ه.

(٥) أخرجه ابن حبان في الضعفاء ٣ / ٥١ من حديث أبي هريرة وفيه النضر بن معبد أبو قحذم : قال فيه ابن حبان : كان ممّن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات على قلّة روايته ، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد ، فأما عند الوفاق فإن اعتبر به معتبر فلا ضير. روى عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه قال ... الحديث. ا. ه.

١٢٩

والآيات ثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكرامات للأولياء حق ، ...

____________________________________

عمله جمعا بين الأدلة كما هو مقتضى مذهب أهل السّنّة والجماعة (والآيات) أي خوارق العادات المسمّاة بالمعجزات (ثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكرامات للأولياء حق) أي ثابت بالكتاب والسّنّة ، ولا عبرة بمخالفة المعتزلة وأهل البدعة في إنكار الكرامة ، والفرق بينهما أن المعجزة أمر خارق للعادة كإحياء ميت ، وإعدام جبل على وفق التحدي ، وهو دعوى الرسالة ، فخرج غير الخارق كطلوع الشمس من مشرقها كل يوم والخارق على خلافه بأن يدّعي نطق طفل بتصديقه فينطق بتكذيبه كما يقع للدجّال والكرامة خارق للعادة ، إلا أنها غير مقرونة بالتحدّي ، وهي كرامة للولي وعلامة لصدق النبي ، فإن كرامة التابع كرامة المتبوع ، والولي هو العارف بالله وصفاته بقدر ما يمكن له المواظب على الطاعات المجتنب عن السيئات المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات والغفلات واللهوات ، وذلك كما وقع من جريان النيل (١) بكتاب عمر رضي الله عنه ورؤيته على المنبر بالمدينة جيشه بنهاوند حتى قال لأمير الجيش : يا سارية الجبل الجبل (٢) ، محذّرا له من وراء الجبل لكمن العدو هنالك وسماع سارية كلامه وذلك مع

__________________

 ـ وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء ٣ / ٥٠ أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي هريرة والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وأبي هريرة أيضا وضعّفهما ابن جرير. ا. ه.

وذكره العجلوني في كشف الخفاء ١٤٩٨ بلفظ : «سوء الخلق ذنب لا يغفر». وقال رواه الطبراني من حديث عائشة ما من شيء إلا وله توبة إلا صاحب سوء الخلق فإنه لا يتوب من ذنب إلا عاد في شرّ منه وإسناد ضعيف ، ورواه الحاكم في الكنى بلفظ : سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل. ا. ه.

(١) أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة : بسند فيه مبهم. ورواه الواقدي في فتوح مصر ٢ / ٦٩ ، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ١١٤ ـ ١١٥ في أحداث سنة عشرين من الهجرة ونصّ رسالة عمر : «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أما بعد : فإن كنت تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك ، وإن كنت ، إنما تجري بأمر الله الواحد القهّار ، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك». قال : فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وقطع الله تلك السّنّة عن أهل مصر إلى اليوم.

(٢) رواه أبو نعيم في دلائل النبوّة برقم : ٥٢٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ١٥٨ ، بسندين : أحدهما حسن كما ذكر ذلك ابن حجر ٢ / ٣ في الإصابة في ترجمة سارية بن زنيم ، وفي الفتاوى الحديثية ص ٢١٩ ـ ٢٢٠ حيث قال : أخرجه البيهقي في الدلائل ، واللالكائي في شرح السّنّة ، والدير عامولي في فوائده ، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء عن ابن عمر أن عمر بعث جيشا ، وأمر عليهم رجلا يدعى سارية ، قال : فقام عمر يخطب الناس يوم الجمعة ، فأقبل يصيح وهو على ـ

١٣٠

____________________________________

بعد المسافة ، وكشرب خالد السمّ (١) من غير تضرّر به.

وكذا ما وقع لغيره من الصحابة ومن عداهم من أهل السّنّة والجماعة وخالفهم المعتزلة حيث لم يشاهدوا فيما بينهم هذه المنزلة ، وأما الشيعة فخصّوا الكرامات بالأئمة الاثني عشر من غير دلالة الخصوصية.

ثم ظاهر كلام الإمام الأعظم رحمه‌الله في هذا المقام موافق لما عليه جمهور العلماء الأعلام من أن كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدّي خلافا للقشيري ومن تبعه كابن السبكي حيث قالا : إلا نحو ولد ودون والد ، وقلب جماد بهيمة فلا يكون كرامة ، هذا والكتاب ينطق بظهور الكرامة من مريم ومن صاحب سليمان ، وأما ما قيل من أن الأول إرهاص لنبوّة عيسى ، أو معجزة لزكريا عليهما‌السلام ، والثاني معجزة لسليمان عليه الصلاة والسلام فمدفوع بأنّا لا ندّعي إلا جواز الخارق لبعض الصالحين غير مقرون بدعوى النبوّة ، ولا يضرّنا تسميته إرهاصا أو معجزة لنبي هو من أمته سابقا أو لاحقا ، وسياق القصص يدل على أنه لم يكن هناك دعوى النبوة ، بل ولم يكن لزكريا علم بتلك القضية وإلا لما سأل عن الكيفية.

والحاصل أن الأمر الخارق للعادة هو بالنسبة إلى النبي معجزة سواء ظهر من قبله ، أو من قبل أمته لدلالته على صدق نبوّته وحقيّة رسالته فبهذا الاعتبار جعل معجزة له ، وإلا فحقيقة المعجزة أن تكون مقارنة للتحدّي على يد المدّعي وبالنسبة إلى الولي كرامة.

__________________

 ـ المنبر : يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأله ، فقال يا أمير المؤمنين : لقينا عدوّنا فهزمونا ، فإذا صائح يصيح يا سارية الجبل فاستندنا بأظهرنا إلى الجبل ، فهزمهم الله ، فقيل إنك كنت تصيح بذلك. ورواها الطبري في تاريخه بسنده ٤ / ١٧٨ ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ١٢٥ وقال : كذا رواه الخطيب ، وذكرها ابن تيمية في كتاب النبوّات ص ١٠٧ وصحّحها.

وذكرها الألباني في الصحيحة رقم ١١١٠.

(١) أخرجه أبو يعلى ٧١٨٦ ، وأبو نعيم في الدلائل ٢ / ٥٧٤ رقم ٣٦٨ عن أبي السفر. وذكره الهيثمي في المجمع ٩ / ٣٥٠ وقال : أخرجه أبو يعلى والطبراني بنحوه وأحد إسنادي الطبراني في رجاله رجال الصحيح وهو مرسل ورجالهما ثقات إلا أن أبا السفر وأبا بردة بن أبي موسى لم يسمعا من خالد والله أعلم. ا. ه. ولفظه : «عن أبي السفر قال : نزل خالد بن الوليد الحيرة على أمير من بني المرازبة فقالوا : احذر السمّ لا تسقيكه الأعاجم ، فقال : ائتوني به فأيّ شيء منه فأخذه بيده ثم اقتحمه وقال : بسم الله فلم يضرّه شيئا. ا. ه.

١٣١

____________________________________

قال (١) أبو علي الجوزجاني رحمه‌الله (٢) : كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة فإن نفسك متحرّكة في طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة ، قال الشيخ السهروردي رحمه‌الله في عوارفه (٣) : وهذا أصل كبير في اللباب فإن كثيرا من المجتهدين المتعبدين سمعوا سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا [به] (٤) من الكرامات وخوارق العادات فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك ويحبون أن يرزقوا شيئا منه ، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متّهما لنفسه في صحة عمله حيث لم يحصل له خارق ، ولو علموا سرّ (٥) ذلك لهان عليهم الأمر فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا ، والحكمة فيه أن يزداد مما يرى من خوارق العادات وآثار (٦) القدرة يقينا فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا والخروج من دواعي الهوى فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة ، فهي كالكرامة. انتهى.

والحاصل أن كشف العلم بالأمور الشرعية خير من كشف العلم بالأمور الكونية مع أن عدم الأول ونقصانه مضرّة في الدين بخلاف عدم الثاني ، بل ربما يكون عدمه أنفع له ... ثم اعلم أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». ثم قرأ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧). أي المتفرّسين رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري (٨) رضي الله عنه ، ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الفراسة ثلاثة أنواع :

__________________

(١) الكلام من هنا إلى قوله فهي الكرامة مأخوذ من شرح الطحاوية ٢ / ٧٤٧ ـ ٧٤٨ وعوارف المعارف ص ٥٤.

(٢) رحمه‌الله : زيادة لا توجد في شرح الطحاوية وعوارف المعارف.

(٣) عوارف المعارف ص ٤٥.

(٤) سقط ما بين قوسين من الأصل واستدركناه من شرح الطحاوية وعوارف المعارف.

(٥) في عوارف المعارف : بسر.

(٦) في شرح الطحاوية : وأمارة.

(٧) الحجر : ٧٥.

(٨) أخرجه الترمذي ٣١٢٧ ، وابن جرير ١٤ / ٣٠ ، وفي سنده عطية العوفي ، وهو ضعيف.

وأخرجه الطبراني ٧٤٩٧ من طريق عبد الله بن صالح ، حدّثني معاوية بن صالح ، عن راشد بن سعد ، عن أبي أمامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». وعبد الله بن صالح ـ وهو كاتب الليث ـ سيئ الحفظ ، ومع ذلك فقد حسن الهيثمي إسناده في المجمع ١٠ / ٢٦٨ ، ولعله لشواهده. وفي الباب عن ابن عمر وثوبان عند ابن جرير ١٤ / ٣٢ ، وفي الأول فرات بن السائب وهو متروك ، وفي الثاني مؤمل بن سعيد الرحبي وهو منكر الحديث.

وعن أنس بن مالك عند البزار ٣٦٢٠ بلفظ : «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم». وذكره الهيثمي ـ

١٣٢

وأما التي تكون لأعدائه مثل إبليس وفرعون والدجّال ...

____________________________________

فراسة إيمانية : وسببها نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ويثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنها اشتقاقها وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة ، قال أبو سليمان الداراني (١) رحمه‌الله : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان. انتهى.

وفراسة رياضية : وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجرّدت عن العوائق والعلائق بالخلائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجرّدها. وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية ولا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم.

وفراسة خلقية : وهي التي صنّف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكم الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره على كبره وبسعة الصدر على سعة الخلق ، وبضيقه على ضيقه وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك (٢) (وأما التي تكون) أي الخوارق للعادة التي توجد (لأعدائه) أي لأعداء الله سبحانه (مثل إبليس) أي في طيّ الأرض له حتى يوسوس لمن في المشرق والمغرب وفي جريه مجرى الدم من بني آدم ونحو ذلك (وفرعون) أي حيث كان يأمر النيل فيجري على وفق حكمه ، كما أشار إليه سبحانه حكاية عنه بقوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (٣) وحيث حكي عنه أنه كان إذا أراد أن يصعد قصره وينزل عنه راكبا كانت تطول قدما فرسه وتقصران على وفق غرضه (والدجال) أي حيث ورد أنه يقتل شخصا

__________________

 ـ في المجمع وزاد نسبته إلى الطبراني في الأوسط. وقال : إسناده حسن ، وحسّنه أيضا السخاوي في المقاصد الحسنة ص ٢٠ ، وانظر تفسير ابن كثير ٤ / ٤٦١.

(١) هو عبد الرحمن بن أحمد الداراني ، ولد في حدود الأربعين ومائة ، وهو من كبار الزهّاد. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٠ / رقم الترجمة ٣٤.

(٢) الكلام من قوله : اتقوا فراسة المؤمن إلى هنا مأخوذ من شرح الطحاوية لابن أبي العز ٢ / ٧٥٢ و ٧٥٣ ـ ٧٥٤ بتصرّف يسير.

(٣) الزخرف : ٥١.

١٣٣

مما روي في الأخبار أنه كان ويكون لهم لا نسمّيها آيات ولا كرامات ، ولكن نسمّيها قضاء حاجات لهم ، وذلك لأن الله تعالى يقضي حاجات أعدائه استدراجا لهم وعقوبة لهم فيغترّون به ويزدادون طغيانا وكفرا وذلك كله جائز وممكن ...

____________________________________

ويحييه (مما روي في الأخبار) أي الأحاديث والآثار (أنه كان) أي بعض الخوارق (يكون لهم) أي ولأمثالهم وفي نسخة ويكون لهم نظرا إلى أن خرق العادة للدجّال إنما يكون في حال الاستقبال (فلا نسمّيها) أي تلك الخوارق (آيات) أي معجزات لأنها مختصّة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام (ولا كرامات) أي لاختصاصها بالأصفياء ، (ولكن نسمّيها قضاء حاجات لهم) أي للأعداء من الأغبياء أعمّ من الكفّار والفجار (وذلك) أي ما ذكر من أن خوارق العادات قد تكون للأعداء على وفق قضاء الحاجات (لأن الله تعالى) لعموم كرمه وجوده في عباده (يقضي حاجات أعدائه استدراجا) أي مكرّا بهم في الدنيا (وعقوبة لهم) في العقبى ، كما قال الله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١). أي سنستدنيهم وسنقرّبهم إلى العقوبة والنقمة والعذاب والهلاك قليلا قليلا بإكثار النعمة وإطالة المدة ليتوهموا أن ذلك تقريب من الله وإحسان ، وإنما هو تبعيد وخذلان ففي الحديث : إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب من النعمة وهو مقيم على المعصية ، فإنما ذلك استدراج ، ثم تلا هذه الآية : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٢). أي من أنواع النّعم استدراجا لهم وامتحانا لهم : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٣) أي متحيّرون آيسون من كل خير لأن العقوبة فجأة في حال النعمة أشد منها في العقوبة فتكون كثرة نعمتهم الصورية موجبة لنقمتهم الأخروية.

وأصل الاستدراج الاستصعاد والاستنزال درجة بعد درجة (فيغترّون به) أي من حيث يحسبونه إحسانا (ويزدادون طغيانا) أي إن كانوا فجّارا (وكفرا) أي إن كانوا كفّارا فأو للتنويع ، وفي نسخة : ويزدادون كفرا وطغيانا يعني كما وقع لفرعون حيث عاش في الدنيا أربعمائة سنة ، ولم ينكسر في مطبخه قصعة (وذلك كله جائز) أي وقوعه من الله أو ثابت نقلا (وممكن) أي عقلا كما في قضية إبليس ودعوته بقوله أنظرني إلى يوم يبعثون ، وإجابته بقوله سبحانه : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ

__________________

(١) الأعراف : ١٨٢.

(٢) الأنعام : ٤٤.

(٣) الأنعام : ٤٤.

١٣٤

____________________________________

الْمَعْلُومِ) (١). ففي الجملة استجبت دعاءه (٢) حيث أريد إغواءه (٣) فإنه رئيس أرباب الضلالة كما أن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رئيس أصحاب الهداية ، فالأول من مظاهر الجلال ، والثاني من مظاهر الجمال ، ولا بدّ منهما لظهور نور نعت الكمال ، ولذا قال الشيخ أبو مدين المغربي رضي الله عنه :

لا ينكر الباطل في طوره

فإنه بعض ظهوراته (٤)

يعني باعتبار تجليات صفاته في مرأى مصنوعاته ، وإنما جمع الإمام الأعظم رحمه‌الله بين إبليس وفرعون ذي التلبيس ، لما روي عن الساعدي رضي الله عنه : بلغنا أن جبرائيل عليه‌السلام قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أبغضت عبدا من عباد الله ما أبغضت عبدين أحدهما من الجن ، والآخر من الإنس ، أما الذي من الجن فإبليس حين أبى أن يسجد لآدم عليه‌السلام ، وأما الذي من الإنس ففرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى (٥) ، وأقول بل فرعون أشد من إبليس بوجهين. أحدهما : أنه من نسل الإنسان ، وظهر منه هذا الطغيان ، وإبليس من الجنّ ولا يبعد منهم ظهور العصيان. وثانيهما : أن إبليس ترك السجدة لغير الله استحقارا وفرعون ادّعى الربوبية استكبارا ، ومن الغريب أن الشيطان يغوي الإنسان بعبادة غير الرحمن ، ولم يأمر بعبادة نفسه في زمان الطغيان ، ولعل ذلك لكمال تنفّره عن قلوب الإنسان ، ولكونه عارفا إلا أنه بوعد من مقام الإحسان.

ومن اللطائف الملحقة بالظرائف أن إبليس دقّ باب قصر فرعون حيث لم يكن عنده أحد من أصحاب العون فقال : من هذا على الباب؟ فضحك وقال في الجواب : الضرطة في ذقن من يدّعي الإلهية والربوبية ، ولم يدر من يقف على بابه من الرعية وأرباب العبودية ، هذا وقد يكون خرق العادة إهانة بأن يقع على خلاف الإرادة ، كما نقل أن مسيلمة الكذاب ، دعا للأعور أن تصير عينه العوراء سليمة فصارت عينه الصحيحة عوراء سقيمة.

واعلم أن ظهور خرق العادة بطريق الموافقة على يد المتألّه جائز دون المتنبي ، لأن

__________________

(١) الحجر : ٣٧.

(٢) كتبت همزة دعاءه في الأصل على واو هو خطأ والصواب على السطر.

(٣) كتبت همزة إغواءه على الواو والصواب على السطر كما أثبتنا.

(٤) تقدم التعليق على قول أبو مدين هذا فيما سبق فانظره لزاما.

(٥) السدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن تابعي صغير روى الكثير عن أهل الكتاب وهذا منها.

١٣٥

وكان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق. والله تعالى يرى في الآخرة

____________________________________

ظهوره على يد المتنبي يوجب انسداد باب معرفة النبي فأما ظهوره على يد المتألّه فلا يوجب انسداد باب معرفة الإله لأن كل عاقل يعرف أن المدّعي المشتمل على دلالات الحدوث وسمات القصور لا يكون إلها ، وإن رأى منه ألف خارق للعادة ، ثم الناقض للعادة كما يكون فعلا غير معتاد يكون تعجيزا عن الفعل المعتاد كمنع زكريا عليه الصلاة والسلام ، إذ المنع عن المعتاد نقض العادة أيضا إذا لم يكن عن علة ، ولذا كان سكوته إلا رمزا آية دالّة على تحقّق الولد ويسمى معجزة ، (وكان الله خالقا قبل أن يخلق) أي يحدث المخلوق (ورازقا قبل أن يرزق) أي يوجد المرزوق فهما من قبيل إطلاق المشتق قبل وجود المعنى المشتق منه.

ولعل الإمام الأعظم رحمه‌الله كرّر هذا المرام للأنام للإعلام بأن هذا هو المعتقد الصحيح الذي يجب أن يعتمده الخواص والعوام.

وقال الزركشي (١) : إطلاق نحو الخالق والرازق في وصفه سبحانه قبل وجود الخلق والرزق حقيقة ، وإن قلنا صفات الفعل حادثة ، وأيضا لو كان مجازا لصحّ نفيه ، والحال أن القول بأنه ليس خالقا ورازقا وقادرا في الأزل أمر مستهجن لا يقال مثله ولا يصحّ دفعه بأنه لا يقال. أوجد المخلوق في الأزل حقيقة ، لأنه يؤدي إلى قدم المخلوق فإن الفرق بينهما بين بل قوله : أوجد المخلوق إلى آخره بنفسه دليل بيّن حيث يشير إلى حدوثه إلا أنه غير واقع في محله (والله تعالى يرى) بصيغة المجهول أي ينظر إليه بعين البصر (في الآخرة) أي يوم القيامة لقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناضرة) أي حسنة منعمة بهية مشرقة متهلّلة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢). أي تراه عيانا بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة ومن يرى ربه لا يلتفت إلى غيره ولقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ) أي الكفّار (عَنْ رَبِّهِمْ) أي عن رؤية ربهم فلا يرونه أو عن رحمة ربهم وكرامة ربهم (يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٣). أي لممنوعون أي بخلاف الأبرار والمؤمنين فإنهم في نظر ربهم مقرّبون ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الصحيحين وغيرهما : «إنكم سترون ربكم [كما] (٤) ترون القمر ليلة

__________________

(١) هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي بدر الدين المصري الشافعي المتوفى سنة ٧٩٤ ه‍. له من الكتب أعلام الساجد بأحكام المساجد ، والبرهان في علوم القرآن وغيرها.

(٢) القيامة : ٢٣.

(٣) المطفّفين : ١٥.

(٤) سقطت [كما] من الأصل واستدركناها من مصادر التخريج.

١٣٦

ويراه المؤمنون ، وهم في الجنة بأعين رءوسهم بلا تشبيه ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة ....

____________________________________

البدر لا تضامون في رؤيته» (١). وفي رواية : لا تضارون وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما مذكور ، وقد رواه أحد وعشرون من أكابر الصحابة (٢) (ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رءوسهم) لقوله عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ، أم تدخلنا الجنة ، وتنجينا من النار! قال : فيرفع الحجاب أي عن وجوه أهل الجنة فينظرون إلى وجه الله سبحانه فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم» (٣). ثم تلا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) أي الجن العليا (وَزِيادَةٌ) (٤) أي النظر إلى وجه المولى ، وهو قول الأكثر من السلف (بلا تشبيه) أي رؤية مقرونة بتنزيه لا مكنونة بتشبيه (ولا كيفية) أي في الصورة (ولا كمية) أي في الهيئة المنظورة (ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة) أي لا في غاية من القرب ، ولا في نهاية من البعد ، ولا يوصف بالاتصال ولا بنعت الانفصال ، ولا بالحلول والاتحاد كما يقوله الوجودية المائلون إلى الاتحاد فذات رؤيته ثابت بالكتاب والسّنّة إلا أنها متشابهة من حيث الجهة والكمية والكيفية فنثبت ما أثبته النقل وننفي عنه ما نزّهه العقل ، كما أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٥) أي لا تحيط به الأبصار في مقام الأبصار فإن الإدراك أخصّ من الرؤية والتشابه (٦) فيما يرجع إلى الوصف الذي يمنعه العقل لا يقدح في العلم بالأصل المطابق للنقل.

__________________

(١) أخرجه البخاري ٥٥٤ و ٥٧٣ و ٤٨٥١ و ٧٤٣٤ و ٧٤٣٥ و ٧٤٣٦ ، ومسلم ٦٣٣ ، وأبو داود ٤٧٢٩ ، والترمذي ٢٥٥٤ ، وابن ماجة ١٧٧ ، وأحمد ٤ / ٣٦٠ و ٣٦٢ و ٣٦٥ ، وابن مندة في الإيمان ٧٩١ و ٧٩٢ و ٧٩٣ و ٧٩٤ ، وابن خزيمة في التوحيد ص ١٦٨ و ١٦٩ ، واللالكائي ٨٢٥ و ٨٢٦ و ٨٢٧ ، وابن أبي عاصم في السّنّة ٤٤٣ و ٤٤٤ و ٤٤٥ ، والآجري في الشريعة ص ٢٥٧ و ٢٥٩ ، والطبراني في الكبير ٢٢٢٤ و ٢٢٢٥ و ٢٢٢٦ ، والحميدي ٧٩٩ ، كلهم من حديث جرير في عبد الله.

(٢) انظر الشريعة للآجري ص ٢٦٤ ـ ٢٧٠ ، والنهاية لابن كثير ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠٣ ، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي ٣ / ٤٧٠ ـ ٤٩٩.

(٣) أخرجه مسلم ١٨١ ، والترمذي ٢٥٥٥ و ٣١٠٤ ، وابن ماجة ٨٨٧ ، وأحمد ٤ / ٣٢٢ و ٣٣٣.

والطيالسي ٥ / ١٣ ، والطبري ١٧٦٢٦ ، والآجري ص ٢٦١ كلهم من حديث صهيب الرومي.

(٤) يونس : ٢٦.

(٥) الأنعام : ١٠٣.

(٦) تصحّفت في الأصل إلى [ولتشابه] والصواب ما أثبتناه.

١٣٧

____________________________________

فصل

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ، ولا جهة حق. انتهى. والمعنى : أنه يحصل النظر بأن ينكشف انكشافا تامّا بالبصر منزّها عن المقابلة والجهة والهيئة فهي أمر زائد على صفة العلم ، فإنّا إذا نظرنا إلى البدر مثلا بعين البصر ، ثم غمضنا العين عن النظر فلا خفاء في أنه وإن كان منكشفا لدينا في الحالين لكن انكشافه حال النظر إليه أتم وأكمل ، وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الخبر كالمعاينة» (١). وقول إبراهيم عليه‌السلام : ولكن ليطمئن قلبي فإن عين اليقين رتبة فوق علم اليقين ، ومن هنا قال موسى عليه‌السلام : ربّ أرني أنظر إليك ...

والحاصل أن رؤيته تكون على وجه خارق للعادة من غير اعتبار المقابلة لهذه الحاسة كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتمّوا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» (٢). على ما رواه الشيخان ، وكما يرانا الله تعالى اتفاقا فإن الرؤية نسبة خاصة بين طرفي الرائي والمرئي ومتعلقي رؤيتهما.

قال الفخر الرازي : مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي

__________________

(١) أخرجه ابن حبان ٢٠٨٨ ، وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير ٢ / ٢٤٨ ، والبزار ٢٠٠ ، والطبراني ١٢٤٥١ من طريقين ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عزوجل أن قومه فتنوا بعده ، فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح». وسنده صحيح.

وأخرجه أحمد ١ / ٢١٥ و ٢٧١ ، وابن حبان ٢٠٨٧ ، والحاكم ٢ / ٣٢١ ، والخطيب ٩ / ٥٦ من طريق هشيم ، عن أبي بشر به بلفظ : «ليس الخبر كالمعاينة ، إن الله عزوجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح ، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت». ورجاله ثقات ، وهشيم وإن كان مدلسا فقد انتفت شبهة تدليسه بمتابعته أبي عوانة في الرواية المتقدمة ، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي ، وذكره السيوطي في الدرّ المنثور ٣ / ١٢٧ ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وأبي الشيخ وابن مردويه.

وله شاهد عن أنس عند الطبراني في الأوسط ٢٨ مجمع البحرين من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدّثنا أبي ، عن ثمامة عن أنس رفعه قال الهيثمي في المجمع ١ / ١٥٣ : ورجاله ثقات.

وآخر من حديث أبي هريرة عند الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ / ٢٨.

(٢) أخرجه البخاري ٦٦٤٤ ، ومسلم ٤٣٣ و ٤٣٤ ، وأبو داود ٦٦٧ و ٦٦٨ و ٦٦٩ و ٦٧٠ و ٦٧١ ، والنسائي ٢ / ٩١ ، كلهم من حديث أنس بن مالك.

١٣٨

____________________________________

أن نتمسك بالدلائل السمعية في إثبات مذهبنا فإنه أسرع في إلزام الخصوم وأظهر في تفهيم العوامّ ، وإذا ذكر الخصوم شبهتهم على هذه الدلائل الثقيلة نعارضهم بالمعقول على وجه الدفع والردّ هذا وذهبت طائفة من مثبتي الرؤية استحالة رؤية الله تعالى في المنام منهم الشيخ أبو منصور الماتريدي ، قيل : وعليه المحقّقون واحتجوا بأن ما يرى في المنام خيال ومثال والله تعالى ينزّه عن ذلك وجوّزها بعض أصحابنا لكن بلا كيفية وجهة ومقابلة وخيال ومثال متمسكين بالمحكي عن السلف ، كما روي عن أبي يزيد قال : رأيت ربي في المنام فقلت : كيف الطريق إليك؟ فقال : اترك نفسك وتعال (١) ، وقيل : رأى أحمد بن حنبل ربه في المنام ، فقال : يا أحمد كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد ، فإنه يطلبني (٢) ، ولعل سببه أنه قيل لأبي يزيد ما تريد؟ فقال : أريد أن لا أريد ، وروي عن حمزة الزيّات (٣) وأبي الفوارس شاه بن شجاع الكرماني ، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي (٤) والعلّامة شمس الأئمة الكردي (٥) أنهم رأوه في المنام ، وسيأتي بعض ما يتعلق بهذه المسألة على وجه التكملة ، وأما قول قاضي خان أن ترك الكلام في هذه المسألة حسن (٦) فغير مستحسن لأن ترك الكلام لا يفيد تحقيق المرام وتثبيت الأحكام.

ثم اعلم أنه وقع بحث طويل بمقتضى أدلة العقل بين الإمام نور الدين الصابوني (٧) وبين الشيخ رشيد الدين في أن المعدوم مرئي ، أو ليس بمرئي ، وقد رجع الشيخ إلى قول الإمام في آخر الكلام لأنه كان مؤيدا بالنقل ، فقد أفتى أئمة سمرقند وبخارى على أنه غير

__________________

(١) لا يصح شيء من هذا الكلام فهو من خرافات الصوفية.

(٢) لم تصح رؤيا الإمام أحمد ربه وكلها من عند العلماء بل قالوا كلها قصص واهية الإسناد لا يعوّل عليها في شيء.

(٣) هو حمزة بن حبيب بن عمارة الزيّات ، أبو عمارة التميمي أحد السبعة من القرّاء ، وفي الطبقة الرابعة من الكوفيين توفي سنة ١٥٨ ه‍. من تصانيفه كتاب الفرائض وكتاب القراءة.

(٤) هو محمد بن علي بن الحسين بن بشير المؤذّن المعروف بالحكيم الترمذي ، المحدّث الزاهد المتوفى سنة ٢٥٥ ه‍. من تصانيفه إثبات العلل للشريعة ، وختم الأنبياء ، ونوادر الأصول وغيرها.

(٥) هو أحمد بن مظفر الرازي شمس الأئمة الكردري ، شرح كتاب القدوري وسمّاه المجتبى. توفي سنة ٦٤٢ ه‍.

(٦) الصواب ما قاله قاضي خان رحمه‌الله وهو ترك الكلام في هذه المسألة لأنه لها فائدة من الجري وراء هذه الخرافات.

(٧) هو نور الدين أحمد بن محمد الصابوني الحنفي ، من تصانيفه الهداية في علم الكلام ، ثم اختصره وسمّاه البداية توفي سنة ٥٠٨ ه‍.

١٣٩

____________________________________

مرئي ، وقد ذكر الإمام الزاهد الصفار (١) في آخر كتاب التلخيص : أن المعدوم مستحيل الرؤية ، وكذا المفسّرون ذكروا أن المعدوم لا يصلح أن يكون مرئي الله تعالى ، وكذا قول السلف من الأشعرية والماتريدية أن الوجود علة جواز الرؤية مع الاتفاق على أن المعدوم الذي يستحيل وجوده لا يتعلق برؤيته سبحانه.

واختلف في المعدوم أنه شيء أم لا ، فقالت المعتزلة : هو شيء لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢). فإن كل شيء مقدور بهذا النص ، والموجود ليس بمقدور أصلا لاستحالة إيجاد الموجود فتعيّن أن يكون المراد منه المعدوم ولقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٣). سمّى الزلزلة قبل وجودها شيئا وعندنا المعدوم ليس بشيء لقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٤). فالله تعالى أخبر أنه لم يكن شيئا قبل الوجود ، وهذا لا يحتمل التدويل ، فكيف يكون المعدوم شيئا فتسمية الشيء في الآيتين السابقتين باعتبار المال. والله أعلم بالحال ، وسيأتي زيادة تحقيق لذلك.

ثم اعلم أن إضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بإلى الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أنه تعالى أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الربّ جلّ جلاله ، فإن النظر له عدّة استعمالات بحسب صلاته واختلاف متعلقاته وتعديته بنفيه فإنه إن عدّي بنفسه فمعناه التوقيف والانتظار كقوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٥). وقوله تعالى : (لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) (٦). وإن عدّي نفي فمعناه التفكّر والاعتبار كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٧) وإن عدّي بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار ، كقوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) (٨). فكيف إذا أضيف إلى الوجه

__________________

(١) هو أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن إسحاق بن شيث الأنصاري البخاري الحنفي الصفّار. توفي سنة ٥٣٤. صنّف من الكتب تخليص الزاهد ، تلخيص الأدلة لقواعد التوحيد.

(٢) البقرة : ٢٠.

(٣) الحج : ١.

(٤) مريم : ٩.

(٥) الحديد : ١٣.

(٦) البقرة : ١٠٤.

(٧) الأعراف : ١٨٥.

(٨) الأنعام : ٩٩.

١٤٠