شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

جميعها لا يخلقها الله تعالى فأخرجوها من عموم كل وأدخلوا كلام الله في عمومه مع أنه صفة من صفات الله به تكون الأشياء المخلوقة إذ بأمره تكون كل المخلوقات. قال الله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (١). ففرّق بين الخلق والأمر وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة كالعلم والقدرة وغيرهما فذلك صريح كفر فإن علمه شيء وقدرته شيء وحياته شيء فيدخل ذلك في عموم كل فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا وكيف يصح أن يكون متكلما بكلام يقوم بغيره ، ولو صحّ للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات والحيوانات كلامه ولا يفرّق بين نطق وأنطق الله وإنما قالت الجلود (أنطقنا الله) ، ولم تقل نطق الله بل يلزم أن يكون متكلّما بكل كلام خلقه في غيره زورا كان أو كذبا ، أو كفرا أو هذيانا تعالى الله عن ذلك ، قال القونوي : وقد طرد ذلك الاتحادية فقال ابن عربي (٢) :

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه (٣)!!

وبمثل ذلك ألزم (٤) الإمام عبد العزيز المكي بشر المريسي بين يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزما أن لا يخرج عن نص التنزيل وألزمه الحجة ، فقال بشر يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره ، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.

قال عبد العزيز : تسألني أو (٥) أسألك؟ فقال بشر : أنت وطمع فيّ قال : فقلت له : يلزمك واحدة من ثلاث لا بدّ منها إما أن تقول إن الله خلق القرآن في نفسه (٦) أو خلقه

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.

(٢) هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي الأندلسي المعرّف بابن عربي المتوفى بدمشق سنة ٦٣٨ ه‍ مترجم في السير ٢٣ / ٣٤ وله ترجمة مطوّلة في العقد الثمين ٢ / ١٦٠ ـ ١٩٩ للفاسي.

(٣) البيت في الفتوحات المكية ٤ / ١٤١ وإنشاده فيه :

ألا كل قول في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

ومن قول الشارح الشيخ علي القاري : وأما استدلالهم بقوله سبحانه الله خالق كل شيء إلى هنا مأخوذ من شرح العقيدة الطحاوية ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٤) وقع في الأصل لزم وهذا تصحيف وصوابه [ألزم] كما في شرح الطحاوية ١ / ١٨٠.

(٥) في شرح الطحاوية أم بدلا من أو.

(٦) في شرح الطحاوية : وهو عندي أنا كلامه في نفسه.

٦١

____________________________________

قائما بذاته ونفسه أو خلقه في غيره؟ قال أقول : خلقه كما خلق الأشياء كلها وحاد عن الجواب ، فقال المأمون : اشرح أنت هذه المسألة ودع بشرا فقد انقطع ، فقال عبد العزيز : إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لأن الله لا يكون محلّا للحوادث (١) ولا يكون منه شيئا مخلوقا ، وإن قال خلقه في غيره فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه ، وإن قال : خلقه قائما بنفسه وذاته ، فهذا محال لأن الكلام لا يكون (٢) إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ، ولا العلم إلا من عالم ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته ، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا علم أنه صفة لله ، هذا مختصر من كلام عبد العزيز في [الحيدة] (٣).

قال القونوي : وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) (٤). على أن الكلام خلقه الله في الشجرة فسمعه موسى منها وعموا عما قبل هذه الكلمة فإنه تعالى قال : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) (٥). والنداء هو الكلام من بعد فسمع موسى عليه الصلاة والسلام النداء من حافة الوادي ، ثم قال في البقعة المباركة من الشجرة أي النداء كان من البقعة المباركة من عند الشجرة ، كما تقول سمعت كلام زيد من البيت يكون البيت لابتداء الغاية لا أن البيت هو المتكلم ، ولو كان الكلام مخلوقا في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) (٦). ولو كان هذا الكلام بدأ من غير الله لكان قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٧). صدقا إذ كلّ من الكلامين عندهم مخلوق ، وقد قاله غير الله وقد فرّقوا بين الكلامين على أصلهم الفاسد أن ذلك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا كلام خلقه فرعون ، فحرّفوا وبدّلوا واعتقدوا خالقا غير الله ، وقد قال الله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٨). فإن قيل : قال

__________________

(١) زاد في شرح الطحاوية الحوادث المخلوقة.

(٢) في شرح الطحاوية : فهذا محال لا يكون الكلام إلا ...

(٣) وقع في الأصل تصحيف فقال : الجيدة وهذا خطأ وصوابه الحيدة والكلام الذي نقله الشارح موجود في الحيدة ص ٧٩ ـ ٨٠ وموجود في شرح الطحاوية ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٤) القصص : ٣٠.

(٥) القصص : ٣٠.

(٦) القصص : ٣٠.

(٧) النازعات : ٢٤.

(٨) فاطر : ٣.

٦٢

____________________________________

الله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١). وهذا يدل على أن الرسول أحدثه إما جبريل عليه الصلاة والسلام ، أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل : ذكر الرسول معرّفا لأنه مبلغ عن مرسله ، لأنه لم يقل إنه قول ملك ، أو نبي فعلم أنه بلغه عمّن أرسله به لا أنه أنشأه من جهة نفسه.

وأيضا فالرسول في إحدى الآيتين جبريل عليه الصلاة والسلام وفي الأخرى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإضافته إلى كلّ منهما تبيّن أن الإضافة للتبليغ ، إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر ، وأيضا فإن الله تعالى قد كفّر من جعله قول البشر فمن جعله قول محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بمعنى أنه أنشأه فقد كفر ، ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جنّ أو ملك ، إذ الكلام كلام من قاله مبتدئا لا من قاله مبلغا أما ترى أن من سمع قائلا يقول :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (٢)

قال : هذا شعر امرئ القيس (٣) ، وإن سمعه يقول : إنما الأعمال بالنيّات (٤) ، قال : هذا كلام الرسول ، وإن سمعه يقول : الحمد لله رب العالمين ، وقل هو الله أحد قال : هذا كلام الله.

__________________

(١) الحاقة : ٤٠ ، والتكوير : ١٨.

(٢) وتمامه :

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل وهو مطلع معلقته في ديوانه ص ٨.

(٣) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية في كندة. وهو معدود في الطبقة الأولى من شعراء الجاهليات التي اجتمع عليها أهل النقد بأنها أشعر شعراء العرب. قتل سنة ٥٤٥ م. راجع أخباره في الأغاني ٩ / ٧٧.

(٤) أخرجه البخاري ١ و ٥٤ و ٢٥٢٩ و ٣٨٩٨ ومسلم ١٩٠٧ وأبو داود ٢٢٠١ والترمذي ١٦٤٧ وابن ماجة ٢٤٢٤٧ والنسائي ١ / ٥٨ ـ ٦٠ و ٦ / ١٥٨ ـ ١٥٩ و ٧ / ١٣ ومالك في الموطأ ص ٤٠١ برواية محمد بن الحسن وأحمد ١ / ٢٥ و ٤٣ والطيالسي ص ٩ وأبو نعيم في الحلية ٨ / ٤٢ وفي أخبار أصبهان ٢ / ١١٥ و ٢٢٢ وابن مندة في الإيمان ١٧ و/ ٢٠١ والبغوي (١) كلهم من حديث عمر بن الخطاب. واتفق المسلمون على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وصحته. قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره : ينبغي لمن صنّف كتابا أن يبدأ فيه بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النيّة.

٦٣

وهو شيء لا كالأشياء ....

____________________________________

وبالجملة فأهل السّنّة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن القرآن غير مخلوق ، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله (١) بعد أن لم يكن متكلما ، أو أنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وأن نوع الكلام (٢) قديم وهو مختار الإمام الطحاوي ، والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقا خلقه الله أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته (وهو شيء لا كالأشياء) هذا فذلكة الكلام ومجملة المرام ، فإنه سبحانه شيء أي موجود بذاته وصفاته إلا أنه ليس كالأشياء المخلوقة ذاتا وصفة كما يشير إليه قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣). سواء يقال الكاف زائدة للتأكيد والمبالغة كقول العرب مثلك لا يبخل وهم يريدون نفيه عن نفسه ، وأنهم إذا نفوه عن مثله فقد نفوه عنه بأبلغ وجه منه فالكناية أبلغ في باب الرعاية والتلويح أولى من التصريح ، أو يقال : الكاف ثابتة والمراد بمثله ذاته أو صفاته.

والحاصل كما قاله العارف الكامل ما خطر ببالك فالله سوى ذلك ، وقد قال الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤). والعجز عن درك الإدراك إدراك ، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت ، كما أثنيت على نفسك» (٥) ، ويعلم من قوله شيء لا كالأشياء أنه سبحانه ليس في مكان من الأمكنة ولا في الزمان من الأزمنة ، لأن المكان والزمان من جملة المخلوقات وهو سبحانه كان موجودا في الأزل ولم يكن معه شيء من الموجودات ، ثم اعلم أن الشيء في أصله مصدر قد يستعمل بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦). وبهذا المعنى لا يجوز

__________________

(١) زاد في شرح الطحاوية : تكلم الله بها.

(٢) من قوله : وأيضا فالرسول في إحدى الآيتين إلى هنا مأخوذ من شرح الطحاوية ١ / ١٨٤ ـ ١٨٥ بشيء من التصرف.

تنبيه : لا يلتفت إلى تنازع المتأخرين ، وإنما الحق فيما اجتمع عليه سلف الأمة وهو ما أشار إليه الشارح بقوله : «لم يزل متكلّما إذا شاء» فاستمسك بغرز هذا القول واستقم عليه واحذر مما أحدثه المتأخّرون.

(٣) الشورى : ١١.

(٤) طه : ١١٠.

(٥) هو بعض حديث صحيح أخرجه مسلم وقد تقدّم تخريجه.

(٦) البقرة : ٢٨٤.

٦٤

ومعنى الشيء إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض ، ولا حدّ له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا مثل له ...

____________________________________

إطلاقه على الله تعالى ، وبمعنى الفاعل كقوله سبحانه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ، قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (١). وحينئذ يجوز إطلاقه عليه سبحانه ، وقد يراد به مطلق الموجود إلا أنه فرّق بين المعبود الموصوف بأنه واجب الوجود وبين الممكن الموجود الذي يستوي وجوده وعدمه في مقام المقصود ، فبهذا الاعتبار إطلاق لفظ الشيء عليه سبحانه أحق من إطلاقه على غيره. (ومعنى الشيء) أي : معنى كونه شيئا لا كالأشياء (إثباته) أي إثبات وجود ذاته (بلا جسم ولا جوهر ولا عرض) أي في اعتبار صفاته لأن الجسم متركب ومتحيّز وذلك إمارة الحدوث والجوهر متحيّز وجزء لا يتجزأ من الجسم والعرض كل موجود يحدث في الجواهر والأجسام وهو قائم بغيره لا بذاته كالألوان والأكوان من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وكالطعوم والروائح والله تعالى منزّه عن ذلك.

وحاصله أن العالم أعيان وأعراض فالأعيان ما له قيام بذاته ، وهو إما مركب ، وهو الجسم ، أو غير مركب كالجوهر وهو الذي لا يتجزّأ والله سبحانه منزّه عن ذلك كله ، وما أحسن قول الرازي رحمه‌الله : المجسم ما عبد الله قطّ لأنه يعبد ما تصوّره في وهمه من الصورة والله تعالى منزّه عن ذلك ، ونقل أن أبا حنيفة رحمه‌الله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام فقال : لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا. (ولا حد له) أي ليس له حد ولا نهاية. (ولا ضدّ له) أي ليس له منازع وممانع أبدا لا في البداية ولا في النهاية (ولا ندّ له) أي لا شبيه له ولا شريك له ، كما قال الله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) (٢). أي (بالأصنام) وغيرها من الأنام. (ولا مثل له) أي لا شبيه له ولا كفؤ ولا نوع له حيث لا جنس له ...

واقتتلت طائفتان في باب الصفات فطائفة غلت في النفي ، وطائفة غلت في الإثبات ، ونحن صرنا إلى الطريق المتوسط بين الغلو والتقصير فأثبتنا صفات الكمال ونفينا المماثلة من جميع الأحوال بقي أنه يتوهم من قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أن هذه الصفة لا تكون إلا مخصوصة بحضرته تعالى لأن الاختصاص ينتقض بالعدم ، إذ العدم من حيث هو عدم ليس كمثله شيء ، فقوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، دفع لهذا الوهم والخيال والإشكال فإن من المحال أن يكون العدم سميعا بصيرا ، ويسمى مثل ذلك

__________________

(١) الأنعام : ١٩.

(٢) البقرة : ٢٢.

٦٥

وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ...

____________________________________

في الكلام احتراسا ، ومجمل الكلام وزبدة المرام أن الواجب لا يشبه الممكن ، ولا الممكن يشبه الواجب ، فليس بمحدود ولا معدود ولا متصوّر ولا متبعّض ولا متحيّر ، ولا متركّب ، ولا متناه ولا يوصف بالمائية والماهية ، ولا بالكيفية من اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة واليبوسة ، وغير ذلك مما هو من صفات الأجسام ، ولا متمكّن في مكان لا علو ولا سفل ولا غيرهما ، ولا يجري عليه زمان كما يتوهمه المشبهة والمجسمة والحلولية ، وليس حالّا ولا محلا (ولا) أي لله سبحانه (يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن) أي كما يليق بذاته وصفاته : (فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه) أي كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١). وقوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢). وقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (٣). وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٤). (واليد) أي كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٥). وقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٦).

وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٧) (والنفس) أي كقوله تعالى حكاية عن عيسى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (٨). وأما ما قيل من أن إطلاق النفس عليه سبحانه من باب المشاكلة فمدفوع حيث ورد من غير المقابلة كما في حديث «أنت كما أثنيت على نفسك» (٩) ، والتحقيق أن النفس باعتبار مأخذه من النفس بالتحريك لا يصحّ إطلاقه عليه سبحانه ، وإما باعتبار أخذه من النفس فيجوز إطلاقه عليه سبحانه ، لأنه سبحانه أنفس الأشياء ، وأعزّها ، وكذا العين في قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (١٠). وكذا بصيغة الجمع في قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ

__________________

(١) القصص : ٨٨.

(٢) البقرة : ١١٥.

(٣) الرحمن : ٢٧.

(٤) الليل : ٢٠.

(٥) الفتح : ١٠.

(٦) ص : ٧٥.

(٧) يس : ٨٣.

(٨) المائدة : ١١٦.

(٩) تقدم تخريجه ص ٤٨ رقم : ١١.

(١٠) طه : ٣٩.

٦٦

فهو له صفات بلا كيف ولا يقال : إن يده قدرته أو نعمته ، لأن فيه إبطال الصفة. وهو قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ...

____________________________________

فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (١). وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٢).

وكذا قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣). (فهو) أي جميع ما ذكر (له) أي للحق سبحانه (صفات) أي متشابهات. (بلا كيف) أي مجهول الكيفيات ، وفي نسخة : وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن إلى آخره (ولا يقال) أي في مقام التأويل كما عليه بعض الخلف مخالفين للسلف (إن يده قدرته) أي بطريق الكناية (أو نعمته) أي بناء على أن اليد تطلق على النعمة ومنه قول الشاطبي (٤) :

إليك يدي منك الأيادي تمدّها (٥)

قال شارحه المراد باليد هنا الجارحة ، والأيادي جمع يد بمعنى النعمة فالمعنى الأيادي الفائضة من حضرتك حملتني على مدّ يدي إليك في طلب المسئول وبغية المأمول ، وكذا لا يقال أن وجهه ذاته وعينه بصره واستواءه على العرش استيلاؤه (لأن فيه) أي في تأويله (إبطال الصفة) أي في الجهلة لأنه تعالى حيث أطلق اليد ، ولم يذكر القدرة والنعمة بدلها فالظاهر أنه أراد بها غير معنييهما (وهو) أي إبطال الصفة من أصلها وبأسرها (قول أهل القدر) أي عموما (والاعتزال) أي خصوصا بناء على توهّم لزوم تعدّد القدماء ؛ فإن صفة القديم لا يكون إلا قديما ، وإلا فليلزم أن تكون ذاته محلا للحوادث هنالك وهو منزّه عن ذلك وقد علمت أن صفاته سبحانه ليست عين ذاته ولا غيرها فلا يلزم تعدّد القدماء ثم أكد القضية بقوله : (ولكن يده صفته بلا كيف) أي بلا معرفة كيفيته

__________________

(١) الطور : ٤٨.

(٢) الأنعام : ٩١.

(٣) طه : ٥.

(٤) هو القاسم بن منيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الحافظ أبو محمد الرعيني الأندلسي المعروف بالشاطبي المالكي المقرئ النحوي توفي بمصر سنة ٥٩٠ ه‍ أهم مصنفاته تتمة الحرز من قراءة الأئمة الكنز ومنظومة حرز الأماني الشهيرة بالشاطبية وغيرها.

(٥) وتمامه :

أجرني فلا أجري بجور فأخطلا

وهو في منظومته الشاطبية المعروفة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع ص ٨.

٦٧

وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف ...

____________________________________

كعجزنا عن معرفة كنه بقية صفاته فضلا عن معرفة كنه ذاته (وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف) أي بلا تفصيل أنهما من صفات أفعاله ، أو من نعوت ذاته.

والمعنى وصف غضب الله ورضاه ليس كوصف ما سواه من الخلق ، فهما من الصفات المتشابهات في حق الحق على ما ذهب إليه الإمام تبعا لجمهور السلف واقتدى به جمع من الحلف ، فلا يؤولان بأن المراد بغضبه ورضاه إرادة الانتقام ، ومشيئة الإنعام ، والمراد بهما غايتهما من النقمة والنعمة ... قال فخر الإسلام إثبات اليد والوجه حق عندنا لكنه معلوم بأصله متشابه بوصفه ، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن الوصف بالكيف ، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردّوا الأصول لجهلهم بالصفات على الوجه المعقول فصاروا معطلة ، وكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي (١) ، ثم قال : وأهل السّنّة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص ، أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية وتوقفوا فيما هو المتشابه وهو الكيفية ولم يجوّزوا الاشتغال بطلب ذلك كما وصف الله به الراسخين في العلم فقال : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) انتهى.

وكذا ما ورد في الأحاديث المرويّات من العبارات المتشابهات كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض» وعجنت بالمياه المختلفة وسوّاه ونفخ فيه الرّوح فصار حيوانا حسّاسا بعد أن كان جمادا» (٣). الحديث. وكقوله عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم : «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلب واحد يصرّفه كيف يشاء» (٤). وكقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تزال جهنم تقول

__________________

(١) هو شمس الأئمة أبو بكر بن أحمد السرخسي ، شرح الجامع الصغير والكبير للشيباني والسير الكبير وله كتاب المبسوط والمحيط. توفي سنة ٤٩٠ وقيل ٥٠٠ ه‍.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) أخرج صدره أبو داود ٤٦٩٣ ، والترمذي ٢٩٥٥ ، وأحمد ٤ / ٤٠٠ ، وابن سعد في الطبقات ١ / ٢٦ ، وعبد بن حميد في المنتخب ٥٤٨ ، والطبري في جامع البيان ٦٤٥ ، وصحّحه ابن حبان ٦١٦٠ ، والحاكم ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ووافقه الذهبي ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص ٣٨٥ كلهم من حديث أبي موسى الأشعري بإسناد صحيح. وباقي الحديث لا أصل له وهو على ما يبدو من الإسرائيليات.

(٤) أخرجه مسلم ٢٦٥٤ وأحمد ٢ / ١٧٣ وابن حبان ٩٠٢ والبيهقي في الأسماء والصفات ص ١٤٧ ـ

٦٨

____________________________________

هل من مزيد حتى يضع فيها ربّ العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قطّ قطّ» (١). الحديث.

وكقوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (٢). كما رواه مسلم. وكقوله عليه الصلاة والسلام : «الحجر الأسود يمين الله في أرضه يصافح بها عباده» (٣). وروى ابن ماجة نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعا ولفظه : «من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن» (٤). وقد سئل أبو حنيفة رحمه‌الله عمّا ورد من أنه سبحانه ينزل من السماء فقال : ينزل بلا كيف ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله خلق آدم على صورته» (٥). وفي رواية على صورة الرحمن وأمثاله ، فيجب أن يجري على ظاهره ،

__________________

 ـ وابن أبي عاصم في السّنّة ١ / ١٠٠ والآجري في تنزيه الشريعة ص ٣١٦ كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

وفي الباب عن النواس بن سمعان عند الآجري ص ٣١٧ والبيهقي ص ١٤٨ والحاكم ١ / ٥٢٥ وصحّحه ووافقه الذهبي.

وعن أم سلمة وأنس وعائشة عند الآجري ص ٣١٧ ـ ٣١٨.

(١) أخرجه البخاري ٦٦٦١ ومسلم ٢٨٤٨ والترمذي ٣٢٦٨ وأحمد ٣ / ٢٣٤ وابن أبي عاصم في السنة ٥٣١ وابن خزيمة في التوحيد ص ٦٥ وصحّحه الترمذي وابن خزيمة والبيهقي في الأسماء ص ٣٤٨ ـ ٣٤٩ وأحمد ٣ / ١٣٤ ـ ١٤٠ ـ ٢٢٩ من طرق عن قتادة به وصرّح قتادة في بعضها بالتحديث عن أنس بن مالك.

قال ابن الأثير في جامع الأصول عقب الحديث ٨٠٧٢ : قط قط : بمعنى حسبي وكفايتي.

(٢) أخرجه مسلم ٢٧٥٩ من حديث أبي موسى الأشعري بزيادة إن الله تعالى.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٤٥٧ من حديث عبد الله بن عمرو وقال الذهبي في التلخيص قلت : عبد الله بن المؤمل واه.

وأخرجه من حديث أنس بن مالك الديلمي في الفردوس ٢٨٠٧. ومن حديث جابر عند الديلمي أيضا ٢٨٠٨ وهو ضعيف. وفي الباب أحاديث كلها ضعيفة انظر كشف الخفاء رقم ١١٠٩.

(٤) هو بعض حديث طويل أخرجه ابن ماجة ٢٩٥٧ من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف ولم يتكلم عليه في الزوائد. وقال السندي : وذكر الدميري ما يدل على أنه حديث غير محفوظ. ولفظه «من فاوضه».

(٥) أخرجه البخاري ٢٥٥٩ ومسلم ٢٦١٢ ح ١١٢ و ١١٣ و ١١٤ و ١١٥ و ١١٦ وأحمد ٢ / ٣٤٧ و ٤٦٣ و ٥١٩ وابن حبان (٥٦٠٥) والبيهقي في الأسماء ص ٢٩١ والسّنن ٨ / ٣٢٧ والبغوي ٣٢٧٣ وابن خزيمة في التوحيد ص ٣٧ ـ ٤٠ ـ ٤١ والآجري في الشريعة ص ٣١٥ كلهم من حديث أبي هريرة.

٦٩

____________________________________

ويفوّض أمر علمه إلى قائله وينزّه الباري عن الجارحة ومشابهة الصفات المحدثات.

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : نقرّ بأن الله على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه ، وهو الحافظ للعرش وغير العرش : فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق ، ولو صار محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى فهو منزّه عن ذلك علوّا كبيرا. انتهى.

ونعم ما قال الإمام مالك رحمه‌الله حيث سئل عن ذلك الاستواء فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب ، وهذه طريقة السلف وهي أسلم والله أعلم ، وقد سبق تأويلات بعض الخلف ، وقد قيل : إنه أحكم لكنه نقل بعض الشافعية أن إمام الحرمين كان يتأوّل أولا ، ثم رجع في آخر عمره وحرم التأويل ، ونقل إجماع السلف على منعه كما بيّن ذلك في الرسالة النظامية ، وهو موافق لما عليه من أصحابنا الماتريدية وتوسط ابن دقيق العيد (١) فقال : يقبل التأويل إذا كان المعنى الذي أوّل به قريبا مفهوما من تخاطب العرب ويتوقف فيه إذا كان بعيدا ، وجرى ابن الهمام على التوسّط بين أن تدعو الحاجة إلى التأويل لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو الحاجة لذلك المرام بحسب اختلاف المقام.

قال شارح العقيدة الطحاوية : ولا يقال إن الرضى إرادة الإكرام والغضب إرادة الانتقام ، فإن هذا نفي للصفة ، وقد اتفق أهل السّنّة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا يريده ولا يشاءه وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه [ويغضب] (٢) على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده فقد يحب [عندهم] (٣) ويرضى ما لا يريده ويكرهه (٤) ويسخط ويغضب لما أراده ، ويقال لمن تأول الغضب [والرضى] (٥) بإرادة [الانتقام (٦)

__________________

 ـ جاء في الفتح ٥ / ٢١٧ : اختلف في الضمير على من يعود فالأكثر أنه يعود على المضروب ، لما تقدّم في الأمر بإكرام وجهه ، ولو لا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها.

(١) هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري القوصي المعروف بابن دقيق العيد الحافظ أبو الفتح المصري المالكي ثم الشافعي الفقيه المحدّث المتوفى سنة ٧٠٢ ه‍.

(٢) سقطت [ويغضب] من الأصل فاستدركناها من شرح الطحاوية ٢ / ٦٨٥.

(٣) سقطت كلمة [عندهم] من الأصل واستدركناها من شرح الطحاوية.

(٤) في شرح الطحاوية : ويكره.

(٥) سقطت كلمة [الرضا] من الأصل واستدركناها من شرح الطحاوية.

(٦) في شرح الطحاوية [الإحسان].

٧٠

____________________________________

والرضى ، بإرادة الإنعام والإكراه] (١) لم تأوّلت ذلك [الكلام] (٢) ، فلا بدّ أن يقول : لأن الغضب غليان [دم] (٣) القلب والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى ، فيقال له [غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنه هو الغضب ويقال له أيضا] (٤) : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحيّ إلى الشيء ، أو إلى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحيّ منّا (٥) مائل إلى ما يجلب له منفعة ، أو يدفع عنه مضرّة وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه يزداد بوجوده وينقص بعدمه فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذلك (٦) ، فإن قال : الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد ، وإن كان كلّ منهما حقيقة قيل له (٧) : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد ، وإن كان كلّ منهما حقيقة فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعيّن التأويل ، بل يجب تركه لأنك تسلم من التناقض وتسلم أيضا من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب ، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام [ولا يكون الموجب للصرف ما دلّه عليه عقله ، إذ العقول مختلفة فكلّ يقول : إن عقله دلّه على خلاف ما يقوله الآخر] (٨) ، وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله [تعالى] (٩) لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بدّ أن يثبت شيئا لله [تعالى] (١٠) على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما يليق به ووجود الباري [تعالى] (١١) كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود المخلوق لا

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجود في شرح الطحاوية وأما نص شرح الطحاوية فهو [ويقال لمن تأوّل الغضب والرضى بإرادة الإحسان].

(٢) [الكلام] غير موجودة في شرح الطحاوية.

(٣) سقطت كلمة [دم] من الأصل واستدركت من شرح الطحاوية.

(٤) ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدركناه من شرح الطحاوية.

(٥) في شرح الطحاوية : [لا يريد إلا ما يجلب له منفعة].

(٦) زاد في شرح الطحاوية [وإن امتنع هذا امتنع ذاك].

(٧) زاد في شرح الطحاوية [فقل].

(٨) سقط ما بين حاصرتين من الأصل واستدركناه من شرح الطحاوية.

(٩) سقطت كلمة [تعالى] من الأصل واستدركت من شرح الطحاوية.

(١٠) سقطت أيضا كلمة [تعالى] من الأصل والاستدراك من شرح الطحاوية.

(١١) سقطت كلمة [تعالى] من الأصل واستدركت من المصدر السابق.

٧١

خلق الله تعالى الأشياء لا من شيء ، وكان الله تعالى عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها ، ....

____________________________________

يستحيل عليه العدم فما (١) سمّى به الربّ نفسه وسمّى به مخلوقاته مثل الحيّ والقيوم (٢) والعليم والقدير [أو سمّى به بعض صفاته كالغضب والرضى] (٣) ، أو سمى به بعض صفات عباده فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله (٤) وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضا معاني هذه الأسماء في حق المخلوق ونعقل بين المعنيين قدرا مشتركا ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركا ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركا إلا في الأذهان ولا يوجد في الخارج إلا معينا مختصّا فيثبت في كلّ منهما كما يليق به (٥) (خلق الله تعالى الأشياء) من الذّوات والحالات كالسكون والحركات والأنوار والظلمات والشرور والخيرات والعلويات والسفليات (لا من شيء) أي لا من مادة سابقة على المخلوقات لقوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٦). أي مبدعهما ومخترعهما من غير مثال سبق له فيهما حال ابتدائهما وإنشائهما ولا ينافيه أن خلق بعض الأشياء من بعض المواد على وفق ما أراد فإن أصول تلك المواد خلقت من غير وجود شيء في عالم الكون والفساد ولو تصوّر وجود الشيء السابق فهو تحت خلق الخالق لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٧).

ولأنه سبحانه كان ولم يكن معه شيء بل في نظر العارفين هو الآن على ما كان فهو منزّه على أن يكون له شريك في الخلق والفعل والمادة ولو في إيجاده ذرّة أو إمدادها بسكون أو حركة (وكان الله عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها) أي قبل وجود الأشياء وتحقّقها في عالم الإبداع ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٨). وما ثبت قدمه استحال عدمه فلا يحتاج إلى أن يقال كان زائدة أو رابطة (وهو الذي قدر الأشياء وقضاها). أي والحال أنه قدّر الأشياء على طبق إرادته ، وحكم وفق حكمته في

__________________

(١) في شرح الطحاوية [وما سمي].

(٢) القيوم غير موجودة في الطحاوية.

(٣) سقط ما بين حاصرتين من الأصل واستدرك من الطحاوية.

(٤) زاد في شرح الطحاوية [الله تعالى].

(٥) انظر شرح العقيدة الطحاوية ٢ / ٦٨٥ ـ ٦٨٧.

(٦) فاطر : ١.

(٧) الزمر : ٦٢.

(٨) الأحزاب : ٤٠.

٧٢

____________________________________

الإنشاء ، وفيه إيماء إلى مضمون قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (١). أي ألا يعلم قبل الإنشاء من خلق الأشياء ، فعلمه قديم وبعض متعلقاته حادث ، وقد قال الله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب ، فقال القلم :ما ذا أكتب يا رب؟ فقال الله تعالى : أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» (٣). وفي هذا التحقيق دلالة على ما قاله أهل الحق من أن حقائق الأشياء ثابتة ...

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : ثم نقرّ بأن تقدير الخير والشرّ كله من الله تعالى لقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٤) ومن زعم أن تقدير الخير والشر من عند غير الله كان كافرا بالله وبطل توحيده لو كان له التوحيد. انتهى ... وقد قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥). وردّ فخر الإسلام في أصوله قول من قال المراد بهذا القول سرعة الإيجاد وتحقيق ما أراد حيث أفاد أن هذا عندنا محمول على أنه أريد به التكلّم بهذه الكلمة على الحقيقة لا على المجاز عن سرعة الإيجاد ، بل هو كلام وارد على حقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل في نعته ، وكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي في أصوله حيث قال ردّا على من قال إن ذلك القول مجاز عن التكوين : أما الكتاب فقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٦). فالمراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم يعني أبا منصور الماتريدي ، وأكثر المفسرين : فإنّا نستدلّ به على أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق ، لأنه سابق على المحدثات أجمع ، وحرّف الفاء للتعقيب أي في قوله تعالى :

__________________

(١) الملك : ١٤.

(٢) يونس : ٦١.

(٣) حديث صحيح أخرجه أبو داود ٤٧٠٠ ، والترمذي ٢١٥٥ و ٣٣١٩ ، وأحمد ٥ / ٣١٧ ، والطيالسي ٥٧٧ ، والآجري في الشريعة ص ١٧٧ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص ٣٨٧ ، وأبو نعيم ٥ / ٢٤٨ كلهم من حديث عبادة بن الصامت وله شاهد من حديث ابن عباس عند ابن جرير ٢٩ / ١١ وأبو يعلى ق ١٢٦ / ١ والبيهقي في الأسماء ص ٣٧٨ بلفظ : «إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم فأمره فكتب كل شيء» ورجاله ثقات.

(٤) النساء : ٧٨.

(٥) يس : ٨٢.

(٦) الروم : ٢٥.

٧٣

ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتابته في اللوح المحفوظ ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم ، ...

____________________________________

«فيكون». والمعنى فيحدث الشيء بعد الأمر بقوله : «كن» وهو كلامه النفسي القديم ونعته القدسي الكريم فتحقّق أنه سبحانه خلق الأشياء لا من شيء حادث سبق عليها ، ولا من آلة وعدّة وأهبة حاصلة لديها وهو لا ينافي أنه أوجدها بأمر «كن» فإنه ليس داخلا تحت الشيء في قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١). وكلامه سبحانه لا عينه ولا غيره (٢) ، ثم في تحقّق الأشياء كما هو مشاهد في الأرض والسماء ردّ على السوفسطائية (٣) ومن تبعهم من أهل الأهواء حيث ينكرون حقائق الأشياء ويزعمون أنها أوهام وخيالات كالأحلام ويقرّب منه الوجود [كالإلحادية] (٤) والحلولية وأمثالهم من جهلة الصوفية (ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء) أي موجود حادث في الأحوال جميعها (إلا بمشيئته) أي مقرونا بإرادته (وعلمه وقضائه) أي حكمه وأمره (وقدره) أي بتقديره بقدر قدره (وكتبه) بفتح الكاف وسكون التاء أي (وكتابته في اللوح المحفوظ) أي قبل ظهور أمره وأغرب شارح حيث قال : وكتبه عطف تفسير لقدره. انتهى.

ووجه الغرابة أن ثبوت تقديره وتقريره مقدّم على تحريره وتصويره على أن التقدير صفة المنعوت بالقدم والكتابة حادثة بعد إحداث القلم (ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم) أي كتب الله في حق كل شيء بأنه سيكون كذا وكذا لم يكتب بأنه ليكن كذا وكذا وتوضيحه أن وقت الكتابة لم تكن الأشياء موجودة فكتب في اللوح المحفوظ على وجه الوصف أنه ستكون الأشياء على وفق القضاء لا على وجه الأمر بأنه ليكن ، لأنه لو قال : ليكن لكانت الأشياء كلها موجودة حينئذ لعدم تصوّر تخلّف المخلوق عن الأمر الإيجادي للخالق

__________________

(١) الرعد : ١٦.

(٢) قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته : «وإن القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولا ، وأنزله على رسوله وحيا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقّا ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ، ليس بمخلوق كلام البرية». انظر شرح الطحاوية ١ / ١٧٢.

(٣) السوفسطائية : نسبة إلى رجل يسمى سوفسطا وتنقسم إلى ثلاث فرق : الأولى تنكر حقائق الأشياء وتزعم أنها أوهام وتدعى «العنادية». والثانية : تنكر العلم بثبوت الشيء ، وتزعم بأنها تشك وتشك بما تشك وتدعى «اللّاإرادية». والثالثة : تزعم أن الحقائق تابعة للاعتقادات وهي تنكر ثبوتها وتدعى «العندية». انظر تلبيس إبليس ص ٤٩.

(٤) تصحّفت في الأصل إلى الإلحادية والصواب ما أثبتناه بين حاصرتين [].

٧٤

والقضاء والقدر والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف ...

____________________________________

وقال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : نقرّ بأن الله تعالى أمر القلم بأن يكتب وفي نسخة بأن اكتب فقال القلم : ما ذا أكتب يا ربّ؟ فقال الله تعالى : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (١) ، لقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٢). انتهى. يعني الحديث مقتبس من القرآن لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في معرض التبيان ومجمل الأمر أن القدر وهو ما يقع من العبد المقدّر في الأزل من خيره وشرّه وحلوه ومرّه كائن منه سبحانه وتعالى بخلقه وإرادته ما شاء كان وما لا فلا ، (والقضاء والقدر) المراد بأحدهما الحكم الإجمالي وبالآخر التفصيلي ، وأما قول المعتزلة : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا به ، لأن الرضا بالقضاء واجب ، واللازم باطل ، لأن الرضا بالكفر كفر ، فثبت أن الكفر ليس بقضاء الله ، فلم تكن جميع أفعال العباد بقضاء الله تعالى على ما ذهب إليه أهل السّنّة والجماعة فمدفوع بأن الكفر مقضى لا قضاء ، والرضى إنما يجب بالقضاء دون المقضى ، وتوضيحه : أن الكفر له نسبة إليه سبحانه وهي كونه خلقه على مقتضى حكمته ولا اعتراض عليه في مشيئته فإنه مالك الملك يتصرّف فيه كيف يشاء لا يتضرّر بشيء كما لا ينتفع به ، وله نسبة أخرى إلى المكلف وهي وقوعه صفة له بكسبه واختياره والاعتراض واقع عليه في فعله لأنه أسخط مولاه واستحق العقوبة الدائمة في عقباه.

هذا ومن رضي بكفر نفسه فقد كفر اتفاقا ، ومن رضي بكفر غيره ففيه اختلاف المشايخ ، والأصح أنه لا يكفر بالرضا بكفر الغير إن كان لا يحب الكفر ، ولكن يتمنى أن يسلب الله عنه الإيمان حتى ينتقم منه على ظلمه وإيذائه ، كذا في التاتارخانية (٣) ويؤيده قوله تعالى حكاية عن موسى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٤). (والمشيئة) أي الإرادة المتعلقة بهما (صفاته في الأزل بلا كيف) أي بلا وصف لذلك العمل والمعنى : أن هذه الثلاث المذكورة صفات في الأزل ثابتة بالكتاب والسّنّة إلا أنها متشابهة الصفة مجهولة الكيفية كسائر صفاته العلية حيث

__________________

(١) حديث صحيح تقدّم تخريجه فيما سبق.

(٢) القمر : ٥٢ ـ ٥٣.

(٣) هي الفتاوى المشهورة بالتتارخانية لعالم بن علاء الحنفي المتوفى سنة ٢٨٦ ه‍ ، ويسمى هذا الكتاب أيضا بزاد المسافر في الفروع جمع فيه مسائل الكتب التالية : «المحيط البرهاني» و «الذخيرة» و «الظهيرية» و «الخانية» وغيرها.

(٤) يونس : ٨٨.

٧٥

____________________________________

حقيقتها خفيّة عن البريّة فيجب على المؤمن أن يؤمن بها ويعتقد أن موجب العقل باطل في وصفها إذ ليس من مجرد شأنه أن يدركها ، وكذلك يقول : كل راسخ في العلم عند حكمها.

قال شمس الأئمة رحمه‌الله : وهذا لأن المؤمنين فريقان مبتلي بالإمعان في الطلب لضرب من الجهل به ، ومبتلي بالوقوف عن الطلب لكونه مكرما بنوع من العلم فيه ، ومعنى الابتلاء من هذا الوجه ربما يزيد على معنى الابتلاء في الوجه الأول ، فإن الابتلاء بمجرد الاعتقاد مع التوقف في طلب المراد بيان أن العقل لا يوجب شيئا ، ولا يدفع شيئا فإنه يلزمه اعتقاد الحقيّة فيما لا مجال للعقل فيه ليعرف أن الحكم لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. انتهى.

وحاصله أن الوجه الثاني هو الأقوى فإنه إيمان بالأمر الغيبي اللّاريبي الذي لا حظّ للعقل فيه ، ولا لذة للطبع ، بل مجرد اتّباع الحق على ما ورد به السمع من جانب الشرع بخلاف الأول حيث اعتمد على عقله وعوّل على فهمه ، وبهذا يظهر أن الانقياد في العبادات التعبديّة أفضل وأكمل من غيرها إذ لا حظّ للنفس فيها ، بل محض متابعة أمر الحق في تحصيله ، ومن ثم قال الله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١) ، وورد لا أدري نصف العلم ، وقيل : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن مسألة فقال : لا أدري ، وهو على المنبر ، فقيل له : كيف تطلع فوق هذا المقام الأنور ، وتقول : لا أدري في جواب السؤال الأزهر؟ فقال : إني صعدت بقدر علمي بالأشياء ، ولو طلعت بمقدار جهلي لبلغت السماء.

وقد وقع لأبي يوسف رحمه‌الله مثل هذا السؤال وأجاب بذلك المقال ، فقيل له : إنك تأخذ كذا وكذا من بيت المال وتعجز عن تحقيق هذا الحال ، قال : نعم أنا آخذ المال على قدر علمي ، ولو أخذت على قدر جهلي لاستوعبت جميع الأموال ، وقد كرر الإمام الأعظم رحمه‌الله ذكر الإرادة هنا تحقيقا لكونها صفة قديمة لله تعالى تخصّص المكوّنات بوجه دون وجه في وقت دون وقت وردّا على الكرامية وبعض المعتزلة من أن إرادته حادثة ، وأما جمهورهم فأنكروا إرادته للشرور والقبائح حتى يقولوا : إنه سبحانه وتعالى أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته لا كفره ومعصيته زعما منهم أن إرادة القبيح

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

٧٦

____________________________________

قبيحة كخلقه وإيجاده وهو ممنوع ومدفوع بأن القبيح هو كسبه والاتّصاف به فعندهم يكون أكثر ما يقع من أفعال الخلق على خلاف ما أراد الله في البلاد وهذا شنيع جدّا حيث لا يصبر على ذلك رئيس قرية من العباد.

وإذا عرفت ذلك فللعباد أفعال اختيارية يثابون عليها إن كانت طاعة ويعاقبون عليها إن كانت معصية لا كما زعمت الجبرية أن لا فعل للعبد أصلا كسبا ولا خلقا ، وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة له عليها لا مؤثرة ولا كاسبة في مقام الاعتبار ولا قصد ولا إرادة ولا اختيار ، وهذا باطل لأنّا نفرّق بين حركة البطش وحركة الرعش ، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني لاضطراره ، فإن قيل بعد تعلّق علم الله وإرادته : الجبر لازم قطعا لأنهما أما أن يتعلقا بوجود العقل فيجب ، أو بعدمه فيمتنع لامتناع انقلاب علمه سبحانه جهلا ، وامتناع تخلّف مراده عن إرادته أصلا وحينئذ لا اختيار مع الوجوب والامتناع قطعا ، فالجواب أنه سبحانه يعلم ويريد أن العبد يفعله أو يتركه باختياره فلا إشكال في هذا المقال ، وتحقيقه أن صرف العبد قدرته أو إرادته إلى الفعل كسب وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق فالله تعالى خالق والعبد كاسب ومن أضلّ ممّن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والطاعة من الفاجر والكافر شاء الكفر ، والفاجر شاء الفجور فغلبت مشيئتهما مشيئة الله سبحانه ، فإن قيل يشكل على هذا قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (١) الآية. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) الآية ، وقوله تعالى : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٣). أي يكذبون أو يظنون ويتوهّمون فقد ذمّهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم لمشيئة الله وكذلك ذمّ إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى إذ قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٤). والجواب أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته ، وقالوا : لو كره ذلك وسخط لما شاء فجعلوا مشيئة الله دليل رضاه ، فردّ الله عليهم ذلك فلا ينافي قوله تعالى :

__________________

(١) الأنعام : ٤٨.

(٢) النحل : ٣٥.

(٣) الزخرف : ٢٠.

(٤) الحجر : ٣٩.

٧٧

____________________________________

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (١). وقوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢). والحديث الصحيح الذي اتفق عليه السلف والخلف : «أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (٣). ولقد أحسن القائل :

فما شئت كان وإن لم أشأ

وما شئت إن لم تشأ لم يكن

وقد أجيب بأنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله تعالى دليل على أمره به أو أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد ، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره دافعين بها لشرعه كفعل الزنادقة وجهّال الملاحدة إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر ، وقد احتجّ سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر ، قال : فأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره ويشهد لذلك قوله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (٤). والحاصل أن قولهم كلمة حق أريد بها الباطل ، وأما قول إبليس ربّ بما أغويتني فإنما ذمّ على احتجاجه بالقدر لاعترافه بالقدر وإثباته له ، ولهذا قالوا : إنه أعرف بالله من المعتزلي لمطابقة قوله سبحانه وتعالى : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (٥). أي عدلا. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فضلا. وقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (٦). وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٧). وأما قول آدم عليه الصلاة والسلام في جواب موسى عليه الصلاة والسلام : «أفتلومني على أن عملت عملا قد كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني

__________________

(١) يونس : ٩٩.

(٢) البقرة : ٢٥٣.

(٣) لم أجده بهذا اللفظ ولكن ورد معناه في عدة أحاديث منها حديث العزل في قوله عليه‌السلام : «لا عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قدّر ما هو خالق إلى يوم القيامة». أخرجه البخاري ٥٢١٠ ، ومسلم ٤٣٨ ح ١٢٧ ، وابن أبي شيبة ٤ / ٢٢٢ ، ومالك ٢ / ٥٩٤ ، وأبو داود ٢١٧٢ ، والبيهقي ٧ / ٢٢٩ ، وأحمد ٣ / ٦٨ ، والبغوي ٢٢٩٥ كلهم من حديث أبي سعيد الخدري.

(٤) الأنعام : ١٤٨.

(٥) المدّثر : ٣١.

(٦) الأعراف : ١٧٨.

(٧) الرعد : ٣٢.

٧٨

____________________________________

بأربعين سنة» (١) فمبني على أن لا اعتراض على العاصي بعد توبته ورجوعه إلى طاعته ، وأن له حينئذ أن يتعلق بالقضاء والقدر ، بل يحتاج أن يعتقد أن معصيته كانت مقدّرة قبل خلقه.

وليس له حين مباشرته قبل تحقّق توبته أن يتشبث بالقضاء والقدر في قضيته فإنه حينئذ كالمعارض لنهيه سبحانه عن معصيته وأمره بطاعته ، ولا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه ولا غالب لأمره ...

وعن وهب بن منبه (٢) أنه قال : نظرت في القدر فتحيّرت ، ثم نظرت فيه فتحيّرت ، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفّهم عنه ، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه (٣) ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «وإذا ذكر القدر فأمسكوا» (٤). يعني عن بيان حقيّته لا عن الإيمان به وحقيقته ، وأما قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) (٥) الآية. فالأصح أن المراد بالحسنة هنا النعمة وبالسيئة البليّة

__________________

(١) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري ٤٣٠٩ و ٤٧٣٦ و ٤٧٣٨ و ٦٦١٤ ، ومسلم ٢٦٥٢ ، ومالك ٢ / ٨٩٨ ، والحميدي ١١١٥ ، وأحمد ٢ / ٢٤٨ و ٢٦٤ و ٢٦٨ ، وأبو داود ٤٧٠١ ، وابن ماجة ٨٠ ، والترمذي ٢١٣٤ ، وابن أبي عاصم ١٣٩ و ١٤٠ ، وابن خزيمة في التوحيد ص ٩ و ٥٤ و ٥٦ ، والبغوي ٩٦ ، والآجري في الشريعة ص ١٨١ ، واللالكائي ١٠٣٣ و ١٠٣٤. وأخرجه من حديث ابن عمر أبو داود ٤٧٠٢ ، والبزار ٢١٤٦ ، وابن خزيمة في التوحيد ص ١٤٣ ـ ١٤٤ ، والآجري ص ١٨٠ ، وابن أبي عاصم ١٣٧.

(٢) هو الإمام العلّامة الأخباري القصصي ، وهب بن منبّه بن كامل بن سيج بن ذي كبار اليماني الصغاني. أخو همام بن منبّه ، مولده زمن عثمان سنة أربع وثلاثين ، ورحل وحجّ وأخذ عن غير واحد من الصحابة والتابعين ، وروايته للمسند قليلة ، إنما غزارة علمه في الإسرائيليات ومن صحائف أهل الكتاب ، توفي سنة ١١٠ ه‍ وقيل ١١٣ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ٤ / ٥٤٤ ـ ٥٥٧.

(٣) الكلام من قوله : فما شئت كان وإن لم أشأ إلى هنا مأخوذ من شرح الطحاوية ١ / ١٣٥ ـ ١٣٧ بشيء من التصرّف.

(٤) رواه الطبراني كما في المجمع ٧ / ٢٠٢ من حديث ثوبان وقال الهيثمي : فيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف.

وأورده الهيثمي في المجمع من حديث عبد الله بن مسعود وقال : رواه الطبراني وفيه مسهر بن عبد الملك وثّقه ابن حبّان وغيره ، وفيه خلاف ، وبقية رجاله رجال الصحيح. ا. ه. وتمامه : «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا».

(٥) النساء : ٧٨.

٧٩

____________________________________

فلا حجة لنا ولا علينا ، وقيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية ، ومع هذا فليس للقدرية أن يحتجّوا بقوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (١). فإنهم يقولون إن فعل العبد حسنة كانت أو سيئة فهو من الله ، والقرآن قد فرّق بينهما ، وهم لا يفرّقون ، ولأنه سبحانه قال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢) فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله ، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال ، بل في الجزاء وأما على المعنى الأول ففرّق سبحانه بين الحسنات التي هي النّعم وبين السيئات التي هي المصائب والنقم ، فجعل هذه من الله وهذه من نفس الإنسان لأن الحسنة مضافة إلى الله إذ هو أحسن بها من كل وجه ، وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه ، فإن الربّ سبحانه لا يفعل سيئة قطّ ، بل فعله كله حسن وخير ، وبهذا ورد حديث «الخير كله بيديك ، والشر ليس إليك» (٣) أي فإنك لا تخلق شرّا محضا ، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة باعتبارها يكون خيرا ، ولكن قد يكون شرّا لبعض الناس فهذا شرّ جزئي إضافي فإما شرّ كلّي أو شرّ مطلق ، فالرب تعالى منزّه عن ذلك ومن هاهنا قال أبو مدين المغربي (٤) :

لا تنكر الباطل في طوره

فإنه بعض ظهوراته (٥)

ولهذا لا يضاف الشرّ إليه مفردا قطّ ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات كقوله

__________________

(١) النساء : ٧٩.

(٢) النساء : ٧٨.

(٣) أخرجه أحمد ٥ / ١٩١ والطبراني في الكبير ٤٨٠٣ و ٤٩٣٢ من حديث زيد بن ثابت ولفظه : «من قال حين يصبح لبّيك اللهمّ لبّيك وسعديك والخير في يديك ومنك وبك وإليك ...». قال الهيثمي في المجمع ١٠ / ١١٣ : رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثّقوا وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. ا. ه.

(٤) أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري أصله من «حصن قطنيانة» قرية تابعة لإشبيلية بالأندلس ، هاجر إلى بجاية صغيرا ، وعاش فيها ، وتوفي في «العباد» خارج تلمسان عام ٥٩٤ ه‍ وقيل قبل ذلك.

(٥) عزاه البرهان البقاعي في تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ص ٢٤٥ إلى ابن عربي وقال : فقد أفاد هذا أنهم ـ أي الصوفية ـ يعتقدون أن الباطل هو الله ، ولو لم يكن في هذا إلا أنه يدعو إلى البطالة والخلاعة والضلالة لكان كافيا في استهجانه ومنابذته للدين. وقد نقل شيخنا حافظ العصر ابن حجر في لسان الميزان أنه كان لهذا الناظم ـ أي ابن عربي ـ جوار في البهنسة موظفات للغناء ، والضرب بآلات الملاهي ، وكلما ماتت واحدة منهنّ اشترى بدلها أخرى ، وكان يذهب إليهنّ في بعض الأوقات ، فيسمعهنّ ويرقص على غنائهنّ ويرجع». ا. ه.

٨٠