شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اصطفاه رحمة للعالمين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد : فإن مذهب السّلف هو المذهب المنصور ، والحق الثابت المأثور ، وأهله هم الفرقة الناجية والطائفة المرحومة ، التي هي بكل خير فائزة ، ولكلّ مكرمة راجية ، من الشفاعة والورود على الحوض المورود ورؤية الحق وغير ذلك من سلامة الصدر ، والإيمان بالقدر ، والتسليم لما جاءت به النصوص.

ومقصودنا من مذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وتابعوهم بإحسان ممّن شهد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخيرة ثم أئمة المسلمين ممّن شهد لهم بالإمامة وتلقّى الناس كلامهم خلفا عن سلف أمثال الأئمة الأربعة المجتهدين ، فكل إمام منهم عبّر عن معتقده ومن هؤلاء الأئمّة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، فقد أعلن في كتابه الفقه الأكبر أن معتقده هو معتقد السلف أهل السّنّة والجماعة ، فقد أثبت رحمه‌الله جميع ما جاء به القرآن والسّنّة دون تأويل ، أو تحريف للكلم عن مواضعه.

وقد تصدّى العلماء لشرح الفقه الأكبر ، وقام غير واحد بهذه المهمة ومنهم على سبيل الذكر الإمام أبو منصور الماتريدي المتوفّى سنة ٣٣٣ ه‍ وقد طبع هذا الشرح بالهند.

ومنهم العلّامة الفقيه علي بن سلطان الهروي المكّي الشهير بالقاري المتوفّى سنة ١٠١٤ ه‍ ، وهو شرحنا هذا ، وهو شرح جيد أكثر فيه من التقوّل عن أئمة المذهب الحنفي وخاصّة كتاب الوصية لأبي حنيفة وهو كتاب لم يطبع بعد ، وكتاب شرح العقيدة الطحاوية للقاضي ابن أبي العز الدمشقي الحنفي المتوفى سنة ٧٩٢ ه‍ ولكنه رحمه‌الله لا يصرّح باسمه فتارة يقول : قال شارح الطحاوية أو عقيدة الطحاوي وأحيانا لا يصرّح بذلك ، ورأيته رحمه‌الله ينقل من شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني ، ويزيّن شرحه

٣

بأقوال السّلف أحيانا ويميل إلى نصرة مذهب الخلق تارة أخرى وقد ذيّله بفتاوى لأئمة المذهب ووضع فيه شيئا من التصوّف والرقائق فجاء شرحا لا بأس به. ولمّا كان الكتاب بحاجة إلى الضبط والإيضاح ، وحاجة العلماء وطلاب العلم إليه ماسّة أقدمت على تحقيقه وضبطه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه سائلا المولى عزوجل أن يجعله في ميزان حسناتي ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

المنهج العلمي في التحقيق :

١ ـ مقدمة بيّنت فيها أهمية الكتاب.

٢ ـ توثيق نسبة الكتاب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله وأهم من تصدّى لشرحه من العلماء.

٣ ـ ترجمة الإمام أبي حنيفة والعلّامة علي القاري الهروي.

٤ ـ تخريج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الواردة في ثنايا الكتاب.

٥ ـ ضبط الكلمات المصحّفة واستدراك النقص بالرجوع إلى مصادر النقول التي أخذ عنها الشارح.

٦ ـ ترجمة الأعلام ، والكتب الواردة في ثنايا الكتاب.

٧ ـ التعليق على بعض المسائل الهامة زيادة منّا في الإيضاح.

٨ ـ المراجع التي اعتمدت عليها في التحقيق والتخريج.

هذا وأسأل الله عزوجل أن ينفعني بهذا العمل وينفع به قارئه ، وإن أحسنت فذلك من الله وإن أسأت فذلك تقصير مني وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتبه علي محمد دندل

٤

توثيق نسبة الكتاب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله :

أقول وبالله المستعان : حاول البعض التشكيك في نسبة الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة ولكن محاولاتهم لن تفيدهم شيئا فقد نسبه شارح العقيدة الطحاوية لأبي حنيفة فقد قال رحمه‌الله في شرحه : ١ / ٥ : «ولهذا سمّى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين : «الفقه الأكبر». ونقل عن هذا الكتاب في أكثر من موضع من شرحه ونسبه العلّامة اللكنوي في الفوائد البهيّة ص ٨ في ترجمة الشيخ علي القاري ، ونسبه حاجي خليفة في كشف الظنون ٢ / ١٢٨٧ فقال : الفقه الأكبر في الكلام للإمام الأعظم أبي حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي المتوفى سنة ١٥٠ ه‍ روى عنه أبو مطيع البلخي واعتنى به جماعة من العلماء فشرحه غير واحد من الفضلاء منهم محيي الدين محمد بن بهاء الدين المتوفى سنة ٩٥٦ ه‍ شرحا جمع فيه بين الكلام والتصوّف وأتقن المسائل وأوضحها غاية الإيضاح سمّاه القول الفصل ، والمولى إلياس بن إبراهيم السينوبي المتوفى ببلدة بروسا سنة ٨٩١ ه‍ ، والمولى أحمد بن محمد المغنيساوي ... وشرحه مولانا علي القاري في مجلد وسمّاه «منح الروض الأزهر» وهو شرح كبير ممزوج أوله الحمد لله واجب الوجود ... إلخ وشرحه الشيخ أكمل الدين وسمّاه الإرشاد. ا. ه.

ترجمة الإمام أبي حنيفة صاحب الفقه الأكبر :

قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٦٨ : هو النعمان بن ثابت بن زوطى مولاهم الكوفي ، مولده سنة ٨٠ ه‍ ، رأى أنس بن مالك غير مرة لمّا قدم عليهم الكوفة ، حدّث عن عطاء ونافع ومحمد الباقر.

تفقه به زفر ، وداود الطائي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأسد بن عمرو ، والحسن اللؤلؤي ، ونوح الجامع ، وعدّة ، وكان قد تفقّه بحماد بن أبي سليمان وغيره. حدّث عنه وكيع ، وعبد الرزاق ، وأبو نعيم شيخ البخاري ، وكان إماما ورعا عالما عاملا كبير الشأن لا يقبل جوائز السلطان بل يتّجر ويتكسّب.

سئل يزيد بن هارون ، أيما أفقه الثوري أو أبو حنيفة ، فقال : أبو حنيفة أفقه ، وسفيان أحفظ للحديث ، ضربه يزيد بن عمر على القضاء ، فأبى أن يكون قاضيا. ومناقب هذا الإمام قد أفردتها في جزء ، كان موته في رجب سنة ١٥٠ ه‍ رضي الله عنه. ا. ه.

٥

 «ترجمة الشّارح» :

قال العلّامة اللكنوي في الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص ٨ : هو علي بن سلطان محمد الهروي نزيل مكة المعروف بالقاري الحنفي ، أحد صدور العلم ، فردّ عصره الباهر السّمت في التحقيق ، ولد بهراة ورحل إلى مكة ، وأخذ عن الأستاذ أبي الحسن البكري وأحمد بن حجر المكي ، وعبد الله السندي ، وقطب الدين المكي ، واشتهر ذكره وطار صيته وألف التأليف النافعة منها شرحه على المشكاة ، وشرح الشمائل ، وشرح النخبة ، وشرح الشاطبية ، وشرح الجزرية ، والأثمار الجنيّة في أسماء الحنفية ، ونزهة الخاطر الفاتر في مناقب الشيخ عبد القادر ، وكانت وفاته بمكة سنة ١٠١٤ ه‍. كذا في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر لمحمد بن فضل الله الدمشقي ، وقد طالعت تصانيفه المذكورة كلها وشرح موطأ محمد ، وسند الأنام شرح مسند الإمام ، وتزيين العبارة لتحسين الإشارة ، والتدهين للتزيين كلاهما في مسألة الإشارة بالسّبّابة في التشهّد ، والحظّ الأوفر في الحج الأكبر ، ورسالة في العمامة ، ورسالة في حبّ الهرّة في الإيمان ، ورسالة في العصا ، ورسالة في أربعين حديثا في النكاح ، وأخرى في أربعين حديثا في فضائل القرآن ، وأخرى في تركيب لا إله إلّا الله ، وأخرى في قراءة البسملة أول سورة براءة ، وفرائد القلائد في تخريج أحاديث العقائد ، والمصنوع في معرفة الموضوع ، وكشف الخدر عن أمر الخضر ، وضوء المعالي شرح بدء الأمالي ، والمعدن العدني في فضائل أويس القرني ، ورسالة في حكم سباب الشيخين وغيرهما من الصحابة ، وشرح الفقه الأكبر ، وفتح باب العناية في شرح النقاية ، والاهتداء في الاقتداء. وكلها نفيسة في بابها فريدة ، وله رسالة في حجّ أبي بكر كان في ذي الحجة ، ورسالة في والديّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسالة في صلاة الجنازة في المسجد ، وبهجة الإنسان في مهجة الحيوان ، وشرح عين العلم ، وغير ذلك من رسائل لا تعدّ ولا تحصى وكلها مفيدة. ا. ه.

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الكتاب

الحمد لله واجب الوجود. ذي الكرم والفضل والجود. الأول القديم بلا ابتداء. والآخر الكريم بلا انتهاء. لم يزل ولا يزال صاحب نعوت الكمال. من صفات الجلال والجمال. المنزّه عن سمات النقصان والحدوث والزوال. والصلاة والسلام على أكمل مظاهر الحق. في مرأى الخلق. نبي الرحمة. وشفيع الأمة. وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. وعلى أتباعه وأشياعه إلى يوم الدين.

أما بعد ... فيقول أفقر العباد إلى برّ ربّه الباري علي بن سلطان محمد القاري. عاملهما الله بلطفه الخفي. وكرمه الوفي : اعلم أن علم التوحيد الذي هو أساس بناء التأييد أشرف العلوم تبعا للمعلوم ، لكن بشرط أن لا يخرج من مدلول الكتاب والسّنّة وإجماع العدول ، ولا يدخل فيه مداخل مجردة لأدلة العقول كما وقع فيه أهل البدعة ، فتركوا طريق الجادة التي عليها السّنّة والجماعة ، كما أخبر به الصادق وفق الواقع المطابق على ما رواه الترمذي وغيره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين وسبعين ملة وتفرّق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي» (١).

وفي رواية أحمد وأبي داود عن معاوية رضي الله عنه : «اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة وهي الجماعة» (٢). يعني أكثر أهل الملّة ، فإن أمته عليه الصلاة والسلام

__________________

(١) إسناده حسن ، أخرجه أبو داود ٤٥٩٦ ، والترمذي ٢٦٤٠ ، وابن ماجة ٣٩٩١ ، وأحمد ٢ / ٣٣٢ ، وصحّحه ابن حبان ٦٧٣١ و ٦٢٤٧ ، والحاكم ١ / ١٢٨ ، وأبو يعلى ٥٩١٠ و ٣٩٩١ ، وابن أبي عاصم في السنة ٦٦ كلهم من حديث أبي هريرة. قال الترمذي : حديث حسن صحيح. وذكره الألباني في الصحيحة برقم ٢٠٣.

(٢) أخرجه أبو داود ٤٥٩٧ ، وأحمد ٤ / ١٠٢ ، وابن أبي عاصم في السنة ٢ و ٦٥ كلهم من حديث معاوية وهو حديث صحيح بما قبله ، وله شاهد آخر من حديث أنس عند ابن ماجة ٣٩٩٣ ، وأحمد ٣ / ١٤٥ ، وابن أبي عاصم ٦٤ قال الألباني في تخريج السّنّة عقب حديث أنس : «والحديث صحيح قطعا لأن له ستّ طرق أخرى عن أنس وشواهد عن جمع من الصحابة». وهو في صحيحه برقم ٢٠٤.

٧

لا تجتمع على الضلالة (١) على ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام ، وفي رواية : عليكم بالسواد الأعظم ، وعن سفيان رضي الله عنه : لو أن فقيها واحدا على رأس جبل لكان هو الجماعة ومعناه أنه حيث قام بما قام به الجماعة فكأنه جماع ومنه قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) (٢). أي وحده ، وقد قيل :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

وقد قال ابن عباس رضي الله عنه : تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في العقبى (٣) ، ثم قرأ هذه الآية : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (٤). وأما ما وقع من كراهة أكثر السلف وجمع من الخلف ومنعهم من علم الكلام وما يتبعه من المنطق وما يقربه من المرام حتى قال الإمام أبو يوسف (٥) رحمه‌الله لبشر المريسي (٦) : العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم ، وكأنه أراد

__________________

(١) أخرجه الحكم ١ / ١١٥ ـ ١١٦ ، والطبراني في الكبير ٣ / ٢٠٩ / ١ ، وابن أبي عاصم في السنة ٨٠ من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف.

ولفظه : «ما كان ليجمع هذه الأمة على الضلالة أبدا ، ويد الله على الجماعة هكذا فعليكم بسواد كذا الأعظم ، فإنه من شذّ شذّ في النار».

(٢) النحل : ١٢٠.

(٣) أخرجه الحاكم ٢ / ٣٨١ ، وصحّحه ووافقه الذهبي من طريق محمد بن فضيل بن غزوان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ «أجار الله تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا أو يشقى في الآخرة ، ثم قرأ : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) ، قال : لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وأورده السيوطي في الدرّ المنثور : ٤ / ٣١١ ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان» من طرق عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق في المصنّف ٦٠٣٣ من طريق ابن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، قال : قال ابن عباس : من قرأ القرآن ، فاتّبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة في الدنيا ، ووقاه يوم القيامة الحساب ، وذلك أن الله تعالى يقول : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى).

(٤) طه : ١٢٣.

(٥) هو الإمام المجتهد العلّامة المحدّث ، كبير القضاة ، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي ، صحب أبا حنيفة سبع عشرة سنة ، وتفقّه به ، وهو أنبل تلامذته وأعلمهم ، توفي سنة ١٨٢ ه‍. سير أعلام النبلاء ٨ / ٥٣٥ ـ ٥٣٩.

(٦) هو بشير بن غياث المريسي ، أبو عبد الرحمن العدوي ، مولاهم البغدادي ، فقيه متكلّم معتزلي ، رأس الطائفة المريسية ، أخذ الفقه عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ـ رحمهما‌الله ـ روى عنه حمّاد بن سلمة وغيره ، توفي سنة ٢١٨ ه‍ وقد قارب الثمانين. قال الذهبي في ميزان الاعتدال : مبتدع ضالّ لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة ، ولم يدرك جهم بن صفوان وإنما تقلّد مقالته في ـ

٨

بالجهل به اعتقاد عدم صحته ، فإن ذلك علم نافع ، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره ، فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علما بهذا الاعتبار ، وعنه أيضا : من طلاب العلم بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن طلب غريب الحديث فقد كذب (١).

وقال الإمام الشافعي رحمه‌الله : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسّنّة وأقبل على كلام (٢) أهل البدعة وقال أيضا :

كل العلوم سوى القرآن مشغلة

إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال : حدّثنا

وما سوى ذاك وسواس الشياطين (٣)

ومن كلامه أيضا لأن يلقى الله العبد بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ، وقال : لقد أطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ، وذكر أصحابنا (٤) في الفتاوى أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون ، ولو

__________________

 ـ خلق القرآن ، واحتجّ بها ، ودعا إليها. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٠ / ١٩٩.

(١) أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ٤ من طريق جعفر بن محمد الفريابي حدّثنا بشر بن الوليد ، قال : سمعت أبا يوسف يقول : كان يقال : من طلب الدين بالكلام تزندق ، ومن طلب غريب الحديث كذب ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس.

وأورده الإمام الذهبي في السّير ٨ / ٥٣٧ في ترجمة أبي يوسف ، وهو في ذمّ الكلام للهروي ٦ / ١٠٤ / ١.

(٢) وفي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ١ / ١٨ وأقبل على الكلام. والكلام هنا ـ أي كلام السلف ـ نقله الشارح القاري بأكمله من شرح الطحاوية فانظره هناك.

وقول الشافعي : ذكره البيهقي في مناقب الشافعي ١ / ٤٦٢ ، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» ١٦٨ ، وابن حجر في توالي التأسيس ص ٤٦ ، والذهبي في السير ١٠ / ٢٩.

والإمام الشافعي : هو عالم عصره ، وناصر الحديث ، وفقيه الملّة أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلبي العنزي المولد ، أحد الأئمة المتبوعين توفي سنة ٢٠٤ ه‍ ، مترجم في السير ١٠ / ٥ ـ ٩٩.

(٣) البيتان منسوبان للشافعي في طبقات السبكي ١ / ٢٩٧ ، والبداية والنهاية لابن كثير ١٠ / ٢٥٤ ، والمرتضى الزبيدي في «الأمالي الشيخونية» فيما نقله عن صديق حسن خان في «الحطة» ص ٤٦.

وهما منسوبان لبعض علماء الشاش في «شرف أصحاب الحديث» ص ٧٩ ، و «الإلماع» ص ٤١ ، و «صون المنطق والكلام» ص ١٤٧ للسيوطي.

(٤) في الطحاوية ١ / ١٨ الأصحاب بدلا من أصحابنا.

٩

أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم فأفتى السلف أنه يباع ما فيه من كتب الكلام ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية (١) وهو كلام مستحسن عند أرباب العقول إذ كيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير اتّباع ما جاء به الرسول ولله درّ القائل في هذا القول :

أيها المغتدي لتطلب علما

كل علم عبد لعلم الرسول

تطلب العلم كي تصحّح أصلا

كيف أغفلت علم أصل الأصول (٢)

وقد قال شيخ مشايخنا الجلال السيوطي (٣) : إنه يحرم علوم الفلسفة كالمنطق لإجماع السلف ، وأكثر المفسرين المعتبرين من الخلف ، وممّن صرّح ذلك ابن الصلاح (٤) والنووي (٥) وخلق لا يحصون ، وقد جمعت في تحريمه كتابا نقلت فيه نصوص الأئمة في الحطّ عليه.

وذكر الحافظ سراج الدين القزويني (٦) من الحنفية في كتاب ألّفه في تحريمه أن الغزالي (٧) رجع إلى تحريمه بعد ثنائه عليه في أول المنتقى وجزم السلفي من أصحابنا وابن (٨) رشد من المالكية بأن المشتغل به لا تقبل روايته. انتهى.

__________________

(١) هي لظهير الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن عمر البخاري الفقيه الأصولي القاضي ، تولى الحسبة ببخارى ، وتوفي سنة ٦١٩ ه‍. الفوائد البهية ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٢) الكلام من عند ذكر أصحابنا إلى «كيف أغفلت علم أصل الأصول» مأخوذ من شرح العقيدة الطحاوية ١ / ١٨ لابن أبي العز فلينظر.

(٣) هو الإمام المجدّ الحافظ المجتهد عبد الرحمن في الكمال في أبي بكر بن محمد بن سابق الأسيوطي المصري الشافعي الملقب بجلال الدين المولود عام ٨٤٩ ه‍ والمتوفى عام ٩١١ ه‍ صاحب التصانيف الكثيرة القيّمة ، أشهر كتبه «الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور» وغيرها كثير.

(٤) هو الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري الشافعي ، ولد سنة ٧٥٧ وتوفي ٢٥ ربيع الآخر سنة ٦٤٣ ، وترجمة الحافظ الذهبي في تذكرة الحفّاظ ٤ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٥) هو الإمام المحدّث الفقيه أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المولود سنة ٦٣١ صاحب التصانيف القيّمة العظيمة أشهر آثاره «المجموع شرح المهذب ـ وروضة الطالبين ـ وشرح صحيح مسلم» وغيرها من التصانيف الكثيرة القيّمة ، توفي رحمه‌الله في نوى سنة ٦٧٦ ه‍.

(٦) هو عمر بن عبد الرحمن الفارسي ، سراج الدين أبو حفص القزويني المتوفى سنة ٧٤٥ ه‍ ، من تصانيفه : «الكشف عن الكشاف للزمخشري» و «نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلي ببحث المنطق».

(٧) هو الشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي صاحب التصانيف الكثيرة في الفقه والفلسفة والرقائق المتوفى سنة ٥٠٥ ه‍. ترجم في السّير ١٩ / رقم الترجمة ٢٠٤. وفي كتبه مؤاخذات نبّه عليها أهل العلم. وذكر معظمها الإمام الذهبي في ترجمته فلتراجع.

(٨) هو محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي ، أبو الوليد الفيلسوف ، المتوفى سنة ٥٩٥ ، عني ـ

١٠

وقد فصل الإمام حجة الإسلام في إحياء العلوم (١) هذا المرام حيث قال : فإن قلت فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم (٢) أو هو مباح أو مندوب ، [إليه] (٣)؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوّا وإسرافا في أطراف ، فمن قائل : إنه بدعة وحرام (٤) وإن العبد أن يلق (٥) الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ، ومن قائل : إنه فرض (٦) أما على الكفاية ، وأما (٧) على الأعيان ، وأنه أفضل العبادات (٨) وأكمل القربات ، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله المجيد (٩) قال : وإلى التحريم ذهب الشافعي (١٠) ومحمد ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان (١١) وجميع أئمة الحديث من السلف رضي الله عنهم ، وساق ألفاظا عن هؤلاء وإنهم قالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من سائر الخلائق إلا لما يتولد منه من الشر ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : «هلك المتنطّعون» (١٢). أي المتعمّقون في البحث واحتجوا

__________________

 ـ بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية ، وزاد عليه زيادات كثيرة ، وصنّف نحو خمسين كتابا من كتبه «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة» في العقيدة وانتقد فيه مدارس علم الكلام ، «وبداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه المقارن ، ويلقب بابن رشد الحفيد تمييزا له عن جده أبي الوليد محمد بن أحمد المتوفى سنة (٥٢٠ ه‍) مترجم في سير أعلام النبلاء ١٩ / رقم الترجمة (٢٩٠).

(١) انظر الإحياء ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية ١ / ٢٣٦ ، والمؤلف رحمه‌الله نقل كلام الغزالي من الطحاوية.

(٢) في الإحياء ١ / ٩٤ ـ ٩٥ فتعلّم الجدل والكلام مذموم كتعلّم النجوم.

(٣) [إليه] زيدت من الإحياء ١ / ٩٥.

(٤) في الإحياء أو حرام.

(٥) في الإحياء : إن لقي الله.

(٦) في الإحياء : إنه واجب وفرض.

(٧) في الإحياء : إما على الكفاية أو على الأعيان.

(٨) في الإحياء : وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات.

(٩) في الإحياء : ونضال عن دين الله تعالى.

(١٠) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد ، من موالي بني شيبان ، أصله من دمشق من قرية حرستا ، ولد بواسط بالعراق سنة ١٣١ ه‍ ، ونشأ في الكوفة ، وصحب أبا حنيفة وأخذ عنه الفقه ثم عنه الفقه ثم عن أبي يوسف. توفي بالريّ سنة ١٨٩ ه‍. نعته الخطيب البغدادي بإمام أهل الرأي ، من تصانيفه : «الجامع الكبير» و «الجامع الصغير» كلاهما في الفقه الحنفي و «المخارج في الحيل» و «السير» وغيرهما.

(١١) هو شيخ الإسلام ، إمام الحفّاظ ، سيد العلماء العاملين في زمانه ، سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب ، أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد ، أمير المؤمنين في الحديث ، توفي سنة ١٦١ ه‍ ، له ترجمة حافلة في السير ٧ / رقم الترجمة (٨٢).

(١٢) أخرجه مسلم ٢٦٧٠ ، وأبو داود ٤٦٠٨ ، وأحمد ١ / ٣٨٦ من حديث عبد الله بن مسعود.

١١

أيضا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلم طريقه ويثني (١) على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم ، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر إلى أن قال : فإن قلت فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل فقال : فيه منفعة ، وفيه مضرّة ، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب ، كما يقتضيه الحال ، وهو باعتبار مضرّته في وقت الاستضرار ومحله حرام قال : فأما مضرّته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وذلك مما يحصل بالابتداء (٢) ، ورجوعه (٣) بالدليل المشكوك (٤) فيه وتختلف (٥) فيه الأشخاص ، فهذا ضرورة في اعتقاد المحق (٦) ، وله ضرر (٧) في تأكيد اعتقاد المبتدعة (٨) وتثبيتها (٩) في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه. ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب (١٠) الذي يثور عن الجدل.

وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق لديه (١١) ومعرفتها على ما هي عليه ، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، ولعل التخبيط والتضليل [فيه] (١٢) أكثر ، من الكشف والتعريف قال : وهذا إذا سمعته من محدّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممّن خبر الكلام ، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين ، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى (١٣) سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه

__________________

 ـ والمتنطعون : قال الخطابي في معالم السّنن ٤ / ٣٠٠ : المتنطّع : المتعمّق في الشيء المتكلّف في البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم ، وقال ابن الأثير : هم المتعمّقون المغالون في الكلام ، المتكلّمون بأقصى حلوقهم ، مأخوذ من النّطع ، وهو الغار الأعلى من الفم ، ثم استعمل في كل تعمّق قولا وفعلا.

(١) في الإحياء : ويثني عليه وعلى أربابه.

(٢) في الإحياء ١ / ٩٧ : فذلك مما يحصل في الابتداء.

(٣) في الإحياء ١ / ٩٧ : ورجوعها بالدليل.

(٤) في الإحياء : مشكوك فيه.

(٥) في الإحياء : ويختلف فيه الأشخاص.

(٦) في الإحياء : فهذا ضرره في الاعتقاد الحق.

(٧) في الإحياء : وله ضرر آخر.

(٨) في الإحياء : المبدعة للبدعة.

(٩) في الإحياء : وتثبيته.

(١٠) في الإحياء : التعب.

(١١) كلمة لديه زيادة عن الإحياء.

(١٢) أسقط المؤلّف رحمه‌الله كلمة فيه وأثبتناها في الإحياء.

(١٣) في الإحياء : علوم أخر تناسب نوع الكلام.

١٢

مسدود ، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ، ولكن على النذور (١). انتهى.

فإنما صدر هذا كله عنهم لأمور منها ما فهم مما سبق في أثناء الكلام من أن سبب ذمهم عدولهم عن الأخذ بأصول الإسلام واشتغالهم بما لا يعنيهم في مقام المرام ، ومنها منازعتهم ومجادلتهم ، ولو كان على الحق لانجراره غالبا إلى مخاصمتهم المؤدية إلى الأخلاق الفاسدة والأحوال الكاسدة كما بيّنه حجة الإسلام الغزالي في الأحياء.

فقد ذكر في غياث المفتي (٢) عن أبي يوسف إنه لا تجوز الصلاة خلف المتكلم ، وإن تكلم بحق لأنه مبتدع ، ولا تجوز خلف المبتدع وعرضت هذه الرواية على أستاذي فقال : تأويله انه لا يكون غرضه إظهار الحق ، والذي قاله أستاذي رأيته في تلخيص الإمام الزاهدي (٣) حيث قال : وكان أبو حنيفة يكره الجدل على سبيل الحق ، حتى روي عن أبي يوسف رحمه‌الله أنه قال : كنا جلوسا عند أبي حنيفة إذ دخل عليه جماعة في أيديهم رجلان فقالوا : إن أحد هذين يقول القرآن مخلوق ، وهذا ينازعه ويقول : هو غير مخلوق. قال : لا تصلّوا خلفهما ، فقلت : أما الأول فنعم فإنه لا يقول بقدم القرآن ، وأما الآخر فما باله لا يصلى خلفه؟ فقال : إنهما يتنازعان في الدين ، والمنازعة في الدين بدعة ، كذا في مفتاح السعادة (٤) ، ولعل وجه ذم الآخر حيث أطلق فإنه محدث إنزاله ، وأنه مكتوب في مصاحفنا ومقروء بألسنتنا ومحفوظ في صدورنا.

وقال الشافعي رحمه‌الله : إذا سمعت الرجل يقول : الاسم هو المسمى ، أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام ، ولا دين له ... وقال أيضا : لو علم الناس ما في

__________________

(١) انظر إحياء علوم الدين ١ / ٩٧.

(٢) لم أجد كتابا بهذا الاسم في فروع الحنفية وإنما وجدت كتاب بعنوان «غنية المفتي لعبد المؤمن في رمضان الكافي وهي حاوية لأكثر الفتاوى. انظر كشف الظنون ٢ / ١٢١٢ ، وربما تصحّفت الكلمة في الكتاب من غنية المفتي إلى غياث المفتي.

(٣) هو مختار بن محمود أبو الرجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني ـ نسبة إلى غزمين من قصبات خوارزم ـ الحنفي المتوفّى سنة ٦٥٨ ه‍. كان من كبار الأئمة ، وأعيان الفقهاء عالما كاملا ، له اليد الباسطة في الخلاق والمذهب ، والباع الطويل في الكلام والمناظرة ، له «الرسالة الناصرية في النبوّة والمعجزات» ، و «القنية» ، و «المجتبى» في الفقه. انظر كشف الظنون ص ١٣٥٧ و ١٨٨٦ ، والفوائد البهية ص ٥٤ و ٢١٢ ـ ٢١٣ ، والجواهر المضنية ٢ / ١٦٦.

(٤) هو مفتاح السعادة في الفروع ، وهو كتاب مشتمل على العبادات وألفاظ الكفر والاستحسان فقط وختمها بالإيمان والتوبة. لكمال الدين في آسايش الشرواني ذكر فيه أنه اختار مسائل الصلاة والصوم والصيد والأضحية والذبائح ومسائل الكفر والكراهية وبعضها يتعلّق بالزكاة والحج والوصية وختم بالإيمان والتوبة. جمعها من الكتب المعتبرة.

١٣

هذا الكلام من الأهواء لفرّوا منهم فرارهم من الأسد (١).

وقال مالك رحمه‌الله : لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء ، فقال بعض أصحابه في تأويل (٢) ذلك : إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا ، ومنها أنه يؤدي إلى الشك ، وإلى التردّد فيصير زنديقا بعد ما كان صديقا ... فروي عن أحمد بن حنبل رحمه‌الله أنه قال : علماء الكلام زنادقة ، وقال أيضا : لا يصلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل ، ولقد بالغ فيه حتى هجر الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكّر في الشبهة فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث والفتنة؟

هذا وفي كتاب الخلاصة (٣) تعلم علم الكلام والنظر فيه والمناظرة وراء قدر الحاجة منهيّ عنه ، وتعلم علم النجوم قدر ما يعلم به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به والزيادة حرام ، ثم تكلمه على الإنصاف لا يكره بلا تعنت واعتساف ، وإن تكلم من يريد التعنت ويريد أن يطرحه لا يكره ، قال : وسمعت القاضي الإمام : إن أراد تخجيل الخصم يكفر. قال : وعندي لا يكفر. ويخشى عليه الكفر. انتهى كلام صاحب الخلاصة.

وخلاصة الكلام وسلالة المرام أن العقائد الصحيحة وما يقويها من الأدلة الصريحة كما تؤثر في قلوب أهل الدين وتثمر كمال الإيمان واليقين كذلك العقائد الباطلة تؤثّر في القلب وتقسّيه وتبعده عن حضور الرب وتسوده وتضعف يقينه وتزلزل دينه ، بل هي أقوى أسباب سوء الخاتمة نسأل الله العفو والعافية. ألا ترى إن الشيطان إذا أراد أن يسلب إيمان العبد بربه فإنه لا يسلبه منه إلا بإلقاء العقائد الباطلة في قلبه ، ومنها الخوض في علم الكلام وترك العلم بأحكام الإسلام المستفادة من الكتاب والسّنة وإجماع الأمة حتى أن بعضهم يجتهد ثلاثين سنة ليصير كلاميا ، ثم يدرس فيه ويتكلم بما يوافقه ويدفع ما ينافيه ولو سئل عن معنى آية أو حديث أو مسألة مهمة من الفروع المتعلقة بالطهارة والصلاة والصوم كان جاهلا عنها وساكتا فيها مع أن جميع العقائد الثابتة موجودة في الكتاب قطعيّا ، وفي السّنّة ظنيّا ولذا قال الله تعالى : (هذا بَلاغٌ

__________________

(١) انظر إحياء علوم الدين للغزالي ١ / ٩٥.

(٢) في الإحياء ١ / ٩٥ تأويله.

(٣) هو الخلاصة في اختصار النوادر لأبي الليث السمرقندي واختصره مطهر بن حسن اليزيدي وسمّاه الخلاصة.

١٤

لِلنَّاسِ) (١). أي القرآن كفاية لهم في الموعظة في أمر معاشهم ومعادهم ، وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (٢). أي القرآن تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان مع علمهم بأنك أمّيّ لا تكتب ولا تقرأ ، ومنها أن مآل علم الكلام والجدل إلى الحيرة في الحال والضلال والشك في المآل ، كما قال ابن رشد الحفيد ، وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم في كتابه تهافت التهافت (٣) : ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتدّ به ، وكذلك الآمدي (٤) أفضل أهل زمانه واقف في المسائل الكبار جائر ، وكذلك الغزالي انتهى آخر أمره إلى التوقف والحيرة في المسائل الكلامية ، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمات والبخاري على صدره ، وكذا الرازي (٥) قال في كتابه الذي صنّفه في أقسام [اللذّات] (٦) :

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذّى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا (٧)

__________________

(١) إبراهيم : ٥٢.

(٢) العنكبوت : ٥١.

(٣) ص ٨٨ ونصّه فيه : ... مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتدّ به.

(٤) هو أبو الحسن علي بن أبي محمد بن سالم التغلبي الفقيه الأصولي الملقّب سيف الدين ، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب ثم انتقل إلى المذهب الشافعي وتعلّم في بغداد ، والشام ، وانتقل إلى القاهرة فدرس فيها ثم خرج إلى حماه ومنها إلى دمشق وتوفي بها سنة ٦٣١ ه‍ ودفن بسفح جبل قاسيون. من كتبه الجيدة في أصول الفقه «الإحكام في أصول الأحكام» ، وهو مطبوع مترجم في سير أعلام النبلاء ٣٢٢ / رقم الترجمة (٢٣٠).

(٥) ترجمة الذهبي في السير ٢١ / رقم الترجمة ٢٦١ فقال العلّامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني الأصولي ، المفسّر كبير الأذكياء والحكماء والمصنّفين ، ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة واشتغل على أبيه ضياء الدين خطيب الريّ ، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقا وغربا. وكان يتوقّد ذكاء ، وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وانحرافات عن السّنّة ، والله يعفو عنه ، فإنه توفي على طريقة حميدة والله يتولى السرائر.

(٦) ورد في الأصل أقسام الذات : والصواب أقسام اللذّات كما ورد في العقيدة الطحاوية ١ / ٢٤٤ ، والمؤلف رحمه‌الله نقل الكلام حرفيّا من هناك فليتنبّه.

(٧) هي في عيون الأنباء ٢ / ٢٨ ، ووفيات الأعيان ٤ / ٢٥٠ ، وطبقات الشافعية للسبكي ٨ / ٩٦.

وزاد شارح الطحاوية : ٢ / ٢٤٤ البيتين التاليين :

فكم ندّ رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال فزالوا والجبال جبال

١٥

ولقد تأمّلت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١). (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٢) وأقرأ في النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤) ، ثم قال : ومن جرّب مثل تجريبي عرف مثل معرفتي (٥) ، وكذا قال الشهرستاني (٦) رحمه‌الله : إنه لم يجد على الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث قال :

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيّرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سنّ نادم (٧)

وكذا قال أبو المعالي الجويني (٨) : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضمّ وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي

__________________

(١) طه : ٥.

(٢) فاطر : ١٠.

(٣) الشورى : ١١.

(٤) طه : ١١٠.

(٥) انظر تاريخ الإسلام للإمام الذهبي ، الطبعة الحادية والستين ، ص ٢٠٥ ؛ وطبقات الشافعية ٢ / ٨٢ ـ ٨٣ ، لابن قاضي شهبة ؛ ودرء تعارض العقل والنقل ١ / ١٦٠.

(٦) هو محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، من فلاسفة الإسلام ، كان إماما في علم الكلام على مذهب الأشعري ، ونحل الأمم ومذاهب الفلاسفة ، ولد في شهرستان بين نيسابور وخوارزم ، وانتقل إلى بغداد سنة ٥١٠ وأقام بها ثلاثين سنة وعاد إلى بلده وتوفي فيها. قال ياقوت الحموي في وصفه :

الفيلسوف المتكلم صاحب التصانيف كان وافر الفضل كامل العقل ولو لا تخبّطه في الاعتقاد ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة والذبّ عنهم لكان هو الإمام ، توفي سنة ٥٤٨ ه‍. من تصانيفه «نهاية الإقدام في علم الكلام» ، وذكر في أوله البيتين الذين استشهد بهما المصنّف ولم يذكر عهدهما ، وقال غيره هما لأبي بكر محمد بن باجة المعروف بابن الصائغ الأندلسي. مترجم في السّير ٢٠ / رقم الترجمة ١٩٤.

(٧) وقد ردّ عليهما بيتين محمد بن إسماعيل الأمير كما وجدا بخطّه بهامش أصل درء تعارض العقل والنقل ١ / ١٥٩ هما :

لعلّك أهملت الطواف بمعهد

الرسول ومن لاقاه في كل عام

فما حار من يهدي بهدي محمد

ولست تراه قارعا سنّ نادم

(٨) شيخ الشافعية ، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني النيسابوري المعروف بإمام الحرمين ، صاحب التصانيف في الأصول والفروع توفي سنة ٤٧٨ ، وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٦٨.

١٦

برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ، أو قال على عقيدة عجائز أهل نيسابور ، وكذا قال الخسروشاهي (١) وكان من أجلّ تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء ودخل عليه يوما ما تعتقده قال : ما يعتقده المسلمون ، فقال : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به ، أو كما قال ، فقال : نعم. فقال : أشكر الله على هذه النعمة ولكني والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى اخضل لحيته. وقال الخونجي (٢) عند موته : ما عرفت مما حصّلته شيئا سوى الممكن مفتقر إلى المرجح ، ثم قال : الافتقار وصف سلبي أموت وما عرفت شيئا. وقال آخر (٣) : أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ، ولم يترجح عندي منها شيء ، ومن يصل إلى مثل هذا الحال لم يتداركه الله بالرحمة والإقبال تزندق وساء له المآل ، فالدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب يتضرّع به إلى علّام الغيوب ويدعو بقوله (٤) : «اللهمّ يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» (٥) ، وبقوله : «اللهمّ فاطر السّماوات والأرض عالم الغيب والشّهادة اهدني لما

__________________

(١) هو عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي ، نسبة إلى خسروشاه ، قرية بمرو التبريزي الشافعي المتكلّم. قال السبكي في «الطبقات» ٨ / ١٦١ : وكان فقيها أصوليّا متكلّما محقّقا بارعا في المعقولات ، قرأ على الإمام فخر الدين الرازي وأكثر الأخذ عنه ، ثم قدم الشام بعد وفاة الإمام ، ودرس وأفاد ، ثم توجّه إلى الكرك ، فأقام عند صاحبها الملك الناصر داود ، فإنه استدعاه ليقرأ عليه ثم عاد إلى دمشق فأقام بها إلى أن توفي سنة ٦٥٢ ه‍. وله من المصنّفات : «مختصر المهذب» في الفقه ، و «مختصر المقالات» لابن سينا ، و «تتم الآيات البيّنات».

(٢) هو محمد بن ناحاور بن عبد الملك أبو عبد الله الخونجي ، فارسي الأصل ، انتقل إلى مصر وتولى القضاء بها ، وتوفي سنة ٦٤٦ ه‍ وله كتاب «كشف الأسرار عن غوامض الأفكار» في المنطق.

مترجم في سير أعلام النبلاء ٢٣ / ١ ، رقم الترجمة ١٤٦. وانظر درء تعارض العقل والنقل ١ / ١٦٢ و ٣ / ٢٦٢.

(٣) هو محمد بن سالم بن واصل الحموي كما في «درء تعارض النقل» ١ / ١٦٥ و ٣ / ٢٦٣ ، المتوفّى سنة ٦٩٧ ه‍.

(٤) من نهاية الصفحة ١٠ إلى هنا مأخوذ من شرح العقيدة الطحاوية ١ / ٢٤٣ إلى ٢٤٨ بشيء من التصرف.

(٥) أخرجه ابن ماجة ١٩٩ وأحمد ٤ / ١٨٢ وابن حبان ٩٤٣ والحاكم ١ / ٥٢٥ من طريق بشر بن بكر و ٢ / ٢٨٩ من طريق ابن شابور كلهم عن عبد الله بن يزيد بن جابر وصرّح الوليد بن مسلم بسماعه من عبد الرحمن فانتفت شبهة تدليسه. وأخرجه الآجري في الشريعة ص ٣١٧ عن الوليد بن مسلم وابن أبي عاصم في السنة ٢١٩ والبغوي ٨٩ كلهم من حديث النواس بن سمعان. قال البوصيري في مصباح الزجاجة ورقة ١٤ / ٢ إسناده صحيح وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.

ونصه «يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك» ، وليس فيه اللهمّ كما أورد المصنّف وفي الباب أحاديث.

١٧

اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (١). وبقوله : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» (٢).

ومنها أن القول بالرأي والعقل المجرد في الفقه والشريعة بدعة وضلالة فأولى أن يكون ذلك في علم التوحيد ، والصفات بدعة وضلالة فقد قال فخر الإسلام علي البزدوي (٣) في أصول الفقه : إنه يرد في الشرع دليل على أن العقل موجب ، ولا يجوز أن يكون موجبا وعلة بدون الشرع إذ العلل موضوعات الشرع ، وليس إلى العباد ذلك ، لأنه ينزع أي يسوق إلى الشركة ، فمن جعله موجبا بلا دليل شرعا فقد جاوز حدّ العباد وتعدّى عن حدّ الشرع على وجه العناد.

ومنها الإصغاء إلى كلام الحكماء وأتباعهم من السفهاء حيث أعرضوا عن الآيات النازلة من السماء وخاضوا مع الجهلاء الذين يظن فيهم أنهم العقلاء والعلماء ، وقد نبّه الله تعالى على ذلك في كتابه حيث قال : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا). أي بالتأويلات الفاسدة والتعبيرات الكاسدة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٤) فإن معنى الآية يشملهم إذ العبرة بعموم المبنى لا بخصوص السبب لذلك المعنى والتأويلات الباطلة والتحريفات العاطلة قد تكون كفرا ، وقد تكون فسقا ، وقد تكون معصية ، وقد تكون خطأ والخطأ في هذا الباب غير معفو ومرفوع بخلاف الخطأ في اجتهاد الفروع حيث لا وزر هنالك بل أجر يترتب على ذلك. وبهذا تبين وجه الفرق بين اجتهاد أهل البدعة مع اختلافهم وبين اجتهاد أهل السّنّة مع ائتلافهم ويشير إليه قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٥). وفي الحديث : «القرآن حجة لك أو عليك فهو كبحر النيل

__________________

(١) أخرجه مسلم ٧٧٠ والترمذي ٣٤١٦ وأبو داود ٧٧٦ والنسائي ٣ / ٢١٢ ـ ٢١٣ والبغوي في شرح السّنّة ٩٥٢ من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) أخرجه البخاري ٦٦١٠ و ٢٤٠٥ ومسلم ٢٧٠٤ ح ٤٦ وأبو داود ١٥٢٧ والترمذي ٣٤٦١ وابن ماجة ٣٨٢٤ وأحمد ٤ / ٤٠٧ وابن أبي شيبة ١٠ / ٣٧٦ وابن حبان ٨٠٤ والنسائي في اليوم والليلة ٥٣٧ كلهم من حديث أبي موسى الأشعري وفي الباب عن أبي هريرة عند عبد الرزاق ٢٠٥٤٧ والنسائي في اليوم والليلة ١٣ وعن معاذ بن جبل عند النسائي ٣٥٧ وعن أبي ذر عند أحمد ٥ / ١٥٧ وابن ماجة ٣٨٢٥. وانظر المطالب العالية ٣ / ١١٣ و ٢٦١ ومجمع الزوائد ١٠ / ٩٧ ـ ٩٩.

(٣) علي بن محمد بن عبد الكريم بن موسى البزدوي الإمام الكبير فخر الإسلام. له تصانيف كثيرة معتبرة منها «المبسوط» و «شرح الجامع الكبير» و «شرح الجامع الصغير» و «أصول البزدوي». ولد في حدود سنة ٤٠٠ ه‍ ، وتوفي في خامس رجب سنة ٤٨٢ ه‍. انظر الفوائد البهية ص ١٢٤.

(٤) الأنعام : ٦٨.

(٥) الإسراء : ٨٢.

١٨

ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين» (١) ، فالواجب على المسلمين أجمعين اتّباع سيد المرسلين المطابق لما جاء به عقيدة سائر النبيين وعين التبيين للكتاب المبين ، وقد بيّن سبحانه أمره وعظيم شأنه وقدره حيث أقسم بنفسه فقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢). وأخبر أنّ المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره وأنهم إذا دعوا إلى الله أي كتابه ورسوله أي حكمه صدّوا عنه صدودا أي أعرضوا عنه إعراضا مبعودا وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحسانا وتوفيقا وإيقانا وتحقيقا كما يقوله كثير من المتكلمين والمتفلسفة وغيرهم إنما نريد أن نحسن الأشياء بالجمع بين كلام الأنبياء والحكماء ، وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسّكة إنما نريد الإحسان بالجمع بين الإيمان والإيقان والتوفيق بين الشريعة والطريقة والحقيقة ويدسّون فيها دسائس مذاهبهم الباطلة ومشاربهم العاطلة من الحلول والاتحاد والاتصال والانفصال ودعوى الوجود المطلق ، وأن الموجودات بأسرها عين الحق ويتوهمون أنهم في مقام الجمعية والحال أنهم في حال التفرقة وضلال الزندقة فكل من طلب أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما ثبت عن النبي الأمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظن أن ذلك مستحسن في باب اليقين وأن ذلك جامع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه من المعقول فله نصيب من ذلك وحرام عليه الترقّي إلى ما هنا لك إذ ما جاء به الرسول كاف شاف كامل تبيّن فيه حكم كل حق وباطل. قال الله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣) وهذه كانت طريق السابقين الأولين وهي طريقة التابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وأكابر المفسّرين وأعاظم المحدّثين وعمدة الصوفية المتقدمين كداود الطائي (٤) والمحاسبي (٥)

__________________

(١) أخرجه مسلم ٣٢٣ والترمذي ٣٥١٢ والنسائي ٥ / ٥ و ٦ من حديث أبو مالك الأشعري. ولفظه : «الطّهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن ـ أو تملأ ما بين السموات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». وهو عند النسائي إلى قوله أو عليك ولم أجد الزيادة التي زادها الشارح رحمه‌الله.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) البقرة : ٤٢.

(٤) هو داود بن نصير الطائي الكوفي ثقة فقيه عابد ، توفي سنة ١٦٥ ه‍ في خلافة المهدي. انظر تقريب التهذيب ١ / ٢٣٤ وصفة الصفوة ١ / ٨٦.

(٥) الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد المشهور أبو عبد الله البغدادي قال الذهبي في ميزان الاعتدال ١ / ٣٤٠ وأما المحاسبي فهو صدوق في نفسه وقد نقموا عليه بعض تصوّفه وتصانيفه. توفي سنة ٢٤٣ ه‍. انظر صفوة الصفوة ٢ / ٢٧٠.

١٩

والسري السقطي (١) ، ومعروف الكرخي (٢) والجنيد البغدادي (٣) والمتأخرين كأبي نجيب السهروردي (٤) وصاحب العوارف (٥) والمعارف والشيخ عبد القادر الجيلاني (٦) ، وأبي القاسم القشيري (٧) إلى أن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ، وقد آن أن نشرع في المقصود بعون الملك المعبود.

قال الإمام الأعظم والهمام الأفخم الأقدم قدوة الأنام أبو حنيفة الكوفي رحمه‌الله في كتابه المسمى بالفقه الأكبر المشار به إلى أنه ينبغي أن يكون الاهتمام به هو الأكثر لأنه مدار الإيمان ومبنى صحة الأركان ومعنى غاية الإحسان ، ونهاية العرفان بعد البسملة المشتملة على مضمون الحمدلة إخبارا في المبنى وإنشاء في المعنى لله الجامع للصفات الحسنى والنعوت العليا ، ولذا روى هشام عن محمد بن الحسن قال : سمعت أبا حنيفة رحمه‌الله يقول : اسم الله الأعظم هو الله ، وبه قال الطحاوي (٨) وأكثر العارفين حتى أنه

__________________

(١) هو أحد كبار مشايخ الصوفية تلميذ معروف الكرخي حدّث عن هشيم وأبي بكر بن عياش وعلي بن عراب ويحيى بن يمان ويزيد بن هارون وغيرهم. توفي سنة ٢٥٣ ه‍ انظر البداية والنهاية ١١ / ١٧.

(٢) هو معروف بن الفيرزان الكرخي المكنّى أبا محفوظ نسبة إلى كرخ بغداد ، أسند عن بكر بن خنيس وعبد الله بن موسى وابن السماك. توفي سنة ٢٠٠ ه‍. انظر صفة الصفوة ٢ / ٢١٤.

(٣) الجنيد بن محمد الجنيد أبو القاسم الخزاز القواريري كان أبوه يبيع الزجاج وكان هو خزّازا وأصله من نهاوند ويسمى رئيس الطائفة الصوفية ، درس الفقه على أبي ثور وكان يفتي في حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة ، توفي سنة ٢٩٨ ه‍. انظر صفة الصفوة ٢ / ٢٧٤.

(٤) هو شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السّهروردي الصوفي البغدادي ، صاحب التصانيف من تصانيفه «عوارف المعارف» و «بهجة الأبرار» توفي سنة ٦٣٢ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٢٣٩.

(٥) صاحب العوارف هو السّهروردي المتقدّم ترجمته وكتابه «عوارف المعارف» مطبوع.

(٦) هو ابن أبي صالح أبو محمد الحلبي المولود سنة ٤٧٠ ه‍ ودخل بغداد فجمع الحديث وتفقّه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي ، وتولى التدريس في مدرسة بغداد ، وكان صاحب زهد وصلاح ، أشهر مصنفاته «الغنية» و «فتوح الغيب». توفي سنة ٥٦١ ه‍. مترجم في البداية والنهاية ١٢ / ٣١٣.

(٧) هو الإمام الزاهد القدوة الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري الخراساني الشافعي الصوفي المفسّر صاحب «الرسالة» كان عديم النظر في السلوك والتذكير ، لطيف العبارة ، طيب الأخلاق ، غوّاصا على المعاني ، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري ، والفروع على مذهب الشافعي. توفي سنة ٤٦٥ ه‍. مترجم في السير ١٨ / ١٠٩.

(٨) هو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي كان شافعيّا في بداية حياته حيث تفقّه على خاله المزني تلميذ الشافعي ومن ثم تحوّل إلى مذهب أبي حنيفة أهم مصنفاته «شرح معاني الآثار» و «شرح مشكل الآثار». توفي سنة ٣٢١ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٥ / ١٧.

٢٠