شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق الذكر له وهو علم مرتجل من غير اعتبار أصل أخذ منه كما عليه الأكثرون منهم : أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، والخليل (١) ، والزجّاج (٢) ، وابن كيسان (٣) والحليمي ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والخطابي (٤) وغيرهم.

__________________

(١) هو إمام النحاة : أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري ، صاحب العربية والعروض ، كان إماما كبير القدر ، متواضعا ، فيه زهد وتعفّف ، صنّف كتاب «العين في اللغة» وعليه تخرّج سيبويه توفي على الأرجح سنة ١٧٥ ه‍. انظر العبر ١ / ٢٦٨.

(٢) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن السري ، الزجّاج ، البغدادي ، صاحب التآليف الحجة في معاني القرآن وغيره ، المتوفى سنة ٣١١ ه‍. مترجم في السير ١٤ / رقم الترجمة ٢٠٩.

(٣) هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان البغدادي النحوي صاحب التصانيف في النحو والغريب ومعاني القرآن ، كان أبو بكر بن مجاهد يعظّمه ، ويقول : هو أعنى من الشيخين يعني ثعلبا والمبرّد.

توفي في ذي القعدة سنة ٢٩٩ ه‍. انظر تاريخ بغداد ١ / ٣٣٥ وشذرات الذهب ٢ / ٢٢٢.

(٤) هو أبو سليمان حمد ويقال أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي ، أحد المشاهير الأعيان ، والفقهاء المجتهدين المكثرين ، له من المصنفات «معالم السّنن» و «شرح البخاري» وغير ذلك. توفي بمدينة بست سنة ٣٨٨ ه‍. مترجم في البداية ١١ / ٣٧١.

٢١

أصل التوحيد

____________________________________

(أصل التوحيد) أي هذا الكتاب أساس معرفة توحيد الحق على وجه الصواب حكي عن أبي حنيفة رحمه‌الله أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فتترسى بنفسها وتتفرّغ بنفسها وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد ، فقالوا : هذا محال لا يمكن أبدا ، فقال لهم : إذا كان هذا محالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ انتهى. وما أحسن قول العارف إبراهيم الخواص في هذا المعنى :

لقد وضح الطريق إليك حقّا

فما أحد أرادك يستدل

وكذا قول الآخر من هذا المبنى والمعنى :

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد

إلا على أكمه لا يعرف القمرا

ولقد أحسن أبو العتاهية (١) في قوله :

فوا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة

وتسكينة أبدا شاهد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

أقول ؛ فابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقدير توحيد الربوبية المترتّب على توحيد الألوهية المقتضى من الخلق تحقيق العبودية وهو ما يجب على العبد أولا من معرفة الله سبحانه وتعالى والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢). وقوله سبحانه حكاية عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣). بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد ، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما ، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته

__________________

(١) هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق العيني المعروف بأبي العتاهية. ولد سنة ١٣٠ ه‍ ، وتوفي في بغداد سنة ٢١١ ه‍. وله ديوان شعر مشهور.

(٢) لقمان : ٢٥.

(٣) الزّمر : ٦.

٢٢

وما يصح الاعتقاد عليه

____________________________________

وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري ، وإما دعوته إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه ، فهو التوحيد الإرادي الطلبي ، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكمّلاته ، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في العقبى فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النّكال وما يحلّ بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال ، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.

فالقرآن كله في التوحيد وحقوق أهله وثنائهم وفي شأن ذمّ الشرك وعقوق أهله وجزائهم ، فالحمد لله ربّ العالمين توحيد الرحمن الرحيم ، توحيد مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين توحيد اهدنا الصراط المستقيم ، توحيد متضمّن لسؤال الهداية إلى طريق التوحيد صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد عنادا وجهلا وإفسادا ، وكذا السّنّة تأتي مبينة ومقررة لما دلّ عليه القرآن فلم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان وذوق فلان ووجد فلان في أصول ديننا ، ولذا نجد من خالف الكتاب والسّنّة مختلفين مضطربين بل قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١). فلا نحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسّنّة ، كما قال الله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) (٢). وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (٣). وقال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤). وإلى هذا المعنى أشار الطحاوي بقوله في أول عقيدته لا ندخل في ذلك متأوّلين بآرائنا ولا متوهّمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّمه الله عزوجل. (وما يصح الاعتقاد عليه). أي وما يصح اعتماد الاعتقاد عليه في هذا الباب ، وهذا معنى قوله : الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ، وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود ففي التنزيل : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٥). فوجود الحق ثابت في فطرة الخلق كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى : (فِطْرَتَ

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) إبراهيم : ٥٢.

(٣) العنكبوت : ٥١.

(٤) الحشر : ٨.

(٥) إبراهيم : ١٠.

٢٣

____________________________________

اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١). ويومئ إليه حديث : «كل مولود يولد على فطرة الإسلام» (٢). وإنما جاء الأنبياء عليهم‌السلام لبيان التوحيد وتبيان التفريد ولذا أطبقت كلمتهم وأجمعت حجتهم على كلمة لا إله إلا الله ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا الله موجود بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ردّا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى.

على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد ثم العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل ، وإن كانت مما يستقل فيه العقل وإلا فعلم إثبات الصانع وعلمه وقدرته لا تتوقف من حيث ذاتها على الكتاب والسّنّة ، ولكنها تتوقف عليهما من حيث الاعتداد بها لأن هذه المباحث إذا لم يعتبر مطابقتها للكتاب والسّنّة كانت بمنزلة العلم الإلهي للفلاسفة فحينئذ لا عبرة بها على ما ذكره المحقّقون ، فمن الآيات الدالّة على وجوده وظهور فضله وقدرته وحكمته وجوده قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣). فمن أدار نظره في عجائب هذه المذكورات من خلق الأرضين والسموات وبدائع فطرة الحيوانات والنباتات وسائر ما اشتملت عليه الآيات الآفاقية والأنفسية كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٤).

وقد قال الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥).

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) أخرجه البخاري ١٣٥٨ و ١٣٥٩ ومسلم ٢٦٥٨ وأحمد ٢ / ٢٨٢ و ٤١٠ وابن حبان ١٢٨ والطحاوي ٢ / ١٦٢ كلهم من حديث أبي هريرة ونصه : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».

(٣) البقرة : ١٦٤.

(٤) المؤمنون : ١٤.

(٥) فصّلت : ٥٣.

٢٤

____________________________________

وفي كل شيء له شاهد

يدل على أنه واحد

ألجأه ذلك إلى الحكم بأن هذه الأمور العجيبة مع هذه التراتيب المحكمة الغريبة لا يستغني كلّ منها عن صانع أوجده من العدم ، وعن حكيم رتبه على قانون أودع فيه فنونا من الحكم ، وعلى هذا درج كل العقلاء إلا من لا عبرة بمكابرته كبعض الدهرية (١) من السفهاء ، وإنما كفر بعضهم بالاشتراك حيث دعوا مع الله إلها آخر كعبدة الأصنام وسائر الوثنيين من الأنام ، وبعضهم ينسب بعض الحوادث إلى غيره تعالى كالمجوس (٢) ينسبون الشرّ إلى ظلمة أهرمن ، وهو الشيطان ، والخير إلى نور الرحمن وكبعض الوثنيين من العوام ينسبون بعض الآثار إلى الأصنام كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (٣) ، وكالصابئين (٤) وبعض المنجّمين حيث ينسبون بعض الآثار إلى الكواكب لما فيها من الأنوار سبحانه وتعالى عما يشركون.

وبعضهم بإنكار ما جعل الله سبحانه إنكاره كفرا كالبعث وإحياء الموتى في دار القرار ، وهذا المقدار كاف لأولي الأبصار ، ولذا أعرضنا عن المقدمات العقلية التي رتّبها النّظّار على سبيل الاستظهار ومجمله : أن العالم حادث بمعنى محدث وجد بعد العدم ، وهو محتاج إلى محدث موصوف بصفة القدم ، وذلك المحدث الموجد هو الله سبحانه

__________________

(١) هم القائلون بعدم وجود إله لهذا الكون ولا صانع وأن الخلائق وجميع المكوّنات كانت بلا مكوّن.

انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ، ص ٥٢.

(٢) المجوس هم عبدة النار والشمس ويزعمون أنها ملكة العالم وهي التي تأتي بالنهار وتذهب الليل وتحيي النبات والحيوان وتردّ الحرارات إلى أجسادها ، ويبيحون نكاح المكارم. وأثبتوا لأنفسهم إلهين وقالوا أحدهما نور حكيم لا يفعل إلا الخير والآخر شيطان هو ظلمة لا يفعل إلّا الشر. انظر الملل والنّحل ١ / ٢٣٣ وتلبيس إبليس ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) هود : ٥٤.

(٤) الصابئون هم الخارجون من دين إلى دين. وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص ٨٦ : وللعلماء في مذاهبهم عشرة أقوال : أحدها أنهم قوم بني النصارى والمجوس ، والثاني أنهم بين اليهود والمجوس ، والثالث أنهم بين اليهود والنصارى ، والرابع أنهم صنف من النصارى ألين منهم قولا ، والخامس أنهم قوم من المشركين لا كتاب لهم ، والسادس أنهم كالمجوس ، والسابع أنهم فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور ، والثامن أنهم قوم يصلّون إلى القبلة ويعبدون الملائكة ويقرءون الزبور ، والتاسع أنهم طائفة من أهل الكتاب ، والعاشر أنهم كانوا يقولون لا إله إلّا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلّا الله.

٢٥

يجب أن يقول آمنت بالله

____________________________________

كما يشير إليه قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١). وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (٢). فمن قال بقدم العالم فهو كافر ، ثم لما ثبت انتهاء الموجودات إلى واجب الوجود لذاته والعدم على الواجب ممتنع لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه لزم كونه أزليّا أبديّا ، فهو قديم لا أول لوجوده ، وباق لا آخر لشهوده فيرجع معنى القدم والبقاء في حقه سبحانه وتعالى إلى الصفات السلبية ، وإن عدّهما بعضهم في النعوت الثبوتية لأن معنى البقاء في حقه سبحانه وتعالى نفي عدم لاحق في الأبد ، كما أن القدم عبارة عن نفي عدم سابق في الأزل فيرجع معناهما إلى نفي العدم ، ولذا قال التوربشتي في معتقده : إن الموجود والقديم من أسماء الذات.

قال الإمام الأعظم : (يجب) أن يفرض فرضا عينيّا بعد ما يحصل علما يقينيّا (أن يقول) أي المكلّف بلسانه المطابق لما في جنانه (آمنت بالله) وفيه إشعار بأن الإقرار له اعتبار على خلاف في أنه شطر للإيمان إلا أنه يسقط في بعض الأحيان أو شرط لإجراء أحكام الإيمان كما هو مقرر عند الأعيان ، وهو المروي عن الإمام وإليه ذهب الماتريدي (٣) وهو الأصح عند الأشعري (٤) ، ويؤيده قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٥) وقال البزدوي : من صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنا. وهذا مذهب المحقّقين من الفقهاء وفي كلامه إشارة إلى عدم اشتراط لفظ : أشهد حيث لم يقل يجب أن يشهد بأني آمنت بالله خلافا لمن شرطه من الشافعية مستدلين بقوله عليه الصلاة والسلام : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله (٦) مع أنه جاء في

__________________

(١) الزمر : ٦٢.

(٢) الأعراف : ٥٤.

(٣) هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي نسبة إلى قرية من قرى سمرقند ، إمام المتكلمين صاحب التصانيف في الفقه والأصول ، والعقائد والتفسير ، المتوفى سنة ٣٣٣ ه‍. الفوائد البهية ص ١٩٥.

(٤) هو الإمام علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري اليماني البصري العلّامة ، إمام المتكلمين المتوفى سنة ٣٢٤ ه‍ ، والمترجم في سير أعلام النبلاء ١٥ / ٨٨.

(٥) الأعراف : ٥٤.

(٦) أخرجه البخاري ٢٥ ومسلم ٢٢ والدارقطني ١ / ٢٣٢ وابن حبان ١٧٥ والبيهقي في السنن ٣ / ٩٢ و ٣٦٧ والبغوي في شرح السّنّة ٣٣ وابن مندة في الإيمان ٢٥ كلهم من حديث عبد الله بن عمر.

وفي الباب عن أنس بن مالك بهذا اللفظ عند البخاري ٣٩٢ وأبو داود ٢٦٤١ والترمذي ٢٦٠٨ والنسائي ٧ / ٧٥ ـ ٧٦ والبيهقي ٢ / ٣ وابن حبان ٥٨٩٥.

٢٦

وملائكته وكتبه ورسله

____________________________________

رواية أخرى حتى يقولوا لا إله إلا الله (١) والمعنى صدقت معترفا بوجود الله سبحانه وتعالى وتوحّده في ذاته وتفرّده في صفاته (وملائكته) بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وإنهم معصومون ولا يعصون الله ومنزّهون عن صفة الذكورية ونعت الأنوثية ، وقد أنكر الله في كتابه على من قال : إنهم بنات الله حيث قال : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (٢). وقال أيضا : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣). وذكر في جواهر الأصول أن الملائكة ليس لهم حظ من نعيم الحنان ، ولا من رؤية الرحمن ، كذا في شرح القونوي لعمدة النسفي (٤) ، وذكر أيضا أنهم أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكّل بأشكال مختلفة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع مسكنهم السموات أي مسكن معظمهم قال : وهذا قول أكثر المسلمين (وكتبه) أي المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وغيرها من غير تعيين في عددها (ورسله) أي جميع أنبيائه أعمّ من أنه أمر بتبليغ الرسالة أم لا.

وظاهر كلام الإمام ترادف النبي والرسول كما اختاره ابن الهمام (٥) إلا أن الجمهور على ما قدّمناه من أن الرسول أخصّ من النبي في تحقيق المرام ولا نعيّن عددا لئلا يدخل فيهم من ليس منهم ، أو يخرج منهم من هو منهم ، والترتيب بين الثلاثة باعتبار أن الملائكة يأتون بالكتب إلى الرسل ، وإلا فالكتب أفضل من الملائكة بالإجماع ، فإنها كلام

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة ١٠ / ١٢٢ ومسلم ٢١ ح ٣٥ وأبو داود ٢٦٤٠ والترمذي ٢٦٠٦ والنسائي ٦ / ٦ ، ٧ وابن ماجة ٣٩٢٧ وأحمد ٢ / ٣١٤ والدارقطني ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٢ وابن حبان ١٧٤ كلهم من حديث أبي هريرة ، ونصه : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإذا شهدوا أن لا إله إلّا الله وآمنوا بي وبما جئت به عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

(٢) الزخرف : ١٩.

(٣) الصّافّات : ١٥٤.

(٤) هو عمدة العقائد للإمام حافظ الدين عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة ٧١٠ ه‍ وهو مختصر يحتوي على أهم قواعد علم الكلام ثم شرحه مصنّفه وسمّاه الاعتماد وجاء من بعده من شرحه أكثر من واحد منهم جمال الدين محمود بن أحمد القونوي المتوفى ٧٧٠ ه‍ ، وشرحه أيضا محمد بن يوسف بن إلياس الرومي القونوي المتوفى سنة ٧٨٨ ه‍. انظر كشف الظنون ٢ / ١١٦٨.

(٥) هو محمد بن عبد الواحد الشهير بابن الهمام ، له تصانيف معتبرة منها فتح القدير شرح فيه الهداية ، وله التحرير في الأصول ، وسلك مسالك الإنصاف بعيدا عن التعصّب المذهبي خصوصا في فتح القدير. توفي سنة ٨٦١ ه‍.

٢٧

والبعث بعد الموت

____________________________________

الله من غير نزاع ، (والبعث) أي الحياة (بعد الموت) قيد يفيد أن المراد به الإعادة بعد فناء هيئة البداية لا بعث الأنبياء إلى الخلق ، وإن كان مما يجب الإيمان به أيضا ودليله قوله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١). وقوله سبحانه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢). إلى غير ذلك من النصوص القاطعة والأدلة اللامعة ، قال في المقاصد (٣).

وبالجملة ، فالإيمان بالحشر من ضروريات الدين ، وإنكاره كفر باليقين ، فإن قيل : هذا قول بالتناسخ ، وهو انتقال الروح من بدن إلى بدن ، فإن البدن الثاني ليس هو الأول لما ورد في الحديث أن أهل الجنة جرد مرد (٤) ، وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد (٥) ، ولأجل هذا المعنى وهو أن القول بالمعاد وحشر الأجساد قول بالتناسخ ، قال جلال الدين الرومي رحمه‌الله : ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ؟ فالجواب أنه إنما يلزم التناسخ لو لم يكن البدن الثاني مخلوقا من الأجزاء الأصلية للبدن الأول وإن سمي مثل ذلك تناسخا كان نزاعا في مجرد الاسم ، وتحقيق الرسم على أن التناسخ عند أهله هو رد الأرواح إلى الأشباح في الدنيا لا في الأخرى ، فإنهم ينكرون الجنة والنار وسائر أمور العقبى ، ولذا كفروا [لقوله] (٦) تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٧). يفيد أن يكون المثاب والمعاقب باللّذّات الحسيّة والآلام الجسمية غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية لأنّا نقول العبرة في ذلك بالإدراك ، وإنما هي الروح ولو بواسطة

__________________

(١) المؤمنون : ١٦.

(٢) يس : ٧٩.

(٣) هو المقاصد في علم الكلام للعلّامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني وله عليه شرح جامع.

توفي سنة ٧٩١ ه‍.

(٤) يشير المصنّف إلى الحديث الذي رواه الترمذي ٥٢٤٨ من حديث معاذ بن جبل بلفظ : «يدخل أهل الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة» ، وهو حسن بشاهده الذي أخرجه الترمذي أيضا ٢٥٤٢ من حديث أبي هريرة بلفظ : «أهل الجنة جرد مرد كحلى ، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم».

(٥) يشير المصنّف إلى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم ٢٨٥١ والترمذي ٢٥٧٩ وابن حبان ٧٤٨٧ و ٧٤٨٨ والبيهقي في البعث ٥٦٥ من حديث أبي هريرة ولفظه : «ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث».

(٦) تصحّفت في الأصل لا يقال قوله والصواب لقوله كما أثبتناه.

(٧) النساء : ٥٦.

٢٨

والقدر خيره وشره من الله تعالى

____________________________________

الآلات وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن ، ولذا يقال لمن رؤي حال سنّ الصبا في الشيخوخة أنه هو بعينه ، وإن بدّلت الصور والهيئات ، بل كثير من الأعضاء والآلات ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنه عقوبة لغير الجاني فكبر ضرس الكافر بمنزلة ورم أعضائه.

وفي شرح المواقف (١) الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الباقية من أول العمر إلى آخره. قال بعض الأفاضل : الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الحاصلة في أول الفطرة وهي وقت تعلّق الأرواح بالأشباح ، وربما ذكرنا من اعتبار الأجزاء الأصلية في الحشر سقط ما قالوا في نفي الحشر بمعنى جمع الأجزاء أيضا على أن الحشر أولا لا يكون إلا بجمع الأجزاء من أول العمر إلى آخره ، وتحقيقا لمعنى الإعادة كما ورد أنه سبحانه وتعالى يعيد القلفة والأجزاء المقطعة من الظفر والشعر والأجزاء المقلعة من السن وأمثال ذلك.

ثم إنه سبحانه وتعالى يبقي ما أراده ، ويعدم ما أراده على ما تعلّقت به المشيئة في الكمية والكيفية والهيئة ، ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى كما يحيي العقلاء يحيي المجانين والصبيان والجنّ والشياطين والبهائم والحشرات والطيور للأخبار الواردة في ذلك ، وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه هل يحشر؟ فروي عن أبي حنيفة رحمه‌الله أنه إذا نفخ فيه الروح يحشر ، وإلا فلا ، وهو الظاهر لأن المذهب المختار عند الأبرار هو الحشر. المركّب من الروح والجسد.

وقول القونوي : والذي يقتضي مذهب علمائنا أنه إذا كان استبان بعض خلقه يحشر ، وهو قول الشعبي وابن سيرين مدفوع بأن هذا الحكم حكم فقهي يترتب عليه بعض الأمور الدنيوية ، ولا تقاس عليه الأحوال الأخروية ، (والقدر) أي وبالقضاء والقدر (خيره وشره) أي نفعه وضرّه ، وحلوه ومرّه حال كونه (من الله تعالى) فلا تغيير للتقدير فيجب الرضاء بالقضاء والقدر وهو تعيين كل مخلوق بمرتبته التي توجد من حسن وقبح ونفع وضرّ ، وما يحيط به من مكان وزمان وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب.

ولعل الإمام الأعظم رحمه‌الله عدل عن الإيمان الإجمالي المشتمل عليه كلمنا

__________________

(١) المواقف في علم الكلام للعلّامة عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي المتوفى سنة ٧٥٦ ه‍.

له عدّة شروح أهمها شرح السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦ ه‍. انظر كشف الظنون ٢ / ١٨٩١.

٢٩

والحساب والميزان ، والجنة والنار حق كله. والله تعالى واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ....

____________________________________

الشهادة تبعا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أجاب سؤال جبرائيل عليه‌السلام عن الإيمان بهذا المقدار من البيان إلا أن الإمام الأعظم رحمه‌الله عبّر عن اليوم الآخر بمبدئه من البعث بعد الموت ليشمل حال البرزخ والموقف. ثم رأيت في نسخة صحيحة أنه جمع بين قوله : واليوم الآخر ، والبعث بعد الموت ، فتعيّن أن يراد حينئذ من البعث بعد الموت هو الإحياء في القبر ، أو أراد باليوم الآخر جميع أحوال القيامة وما بعدها من المثوبة والعقوبة ، ثم خصّ منها البعث للحشر والنشر ، فإنه أول ما فيه نزاع أهل الكفر ولأنها تشتمل على أصول الإيمان التفصيلي فأراد بذلك أن ينبّهك في أول كتابه إجمالا على ما أراد بيانه فيه تفصيلا وإكمالا ، كما أنه أجمل بقوله : والبعث بعد الموت أولا ثم ذيّله بقوله آخرا. (والحساب والميزان والجنة والنار حق كله) وكذا الصراط والحوض وغيرهما من مواقف القيامة على ما سيأتي بيانها ويرد برهانها. ثم الإمام الأعظم أوضح معنى التوحيد بظهور المرام حيث قال : (والله تعالى واحد) أي في ذاته (لا من طريق العدد) أي حتى لا يتوهّم أن يكون بعده أحد (ولكن من طريق أنه لا شريك له). أي في نعته السرمدي لا في ذاته ولا في صفاته ولا نظير له ، ولا شبيه له كما سيأتي في كلامه النبيه تنبيه على هذا التنزيه وكأنه استفاد هذا المعنى من سورة الإخلاص على صورة الاختصاص (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أي متوحّد في ذاته متفرّد بصفاته (اللهُ الصَّمَدُ) أي المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي ليس بمحل الحوادث ولا بحادث. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له أحد مماثلا ومجانسا ومشابها وفيه رد على كفّار مكة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وعلى اليهود حيث قالوا : عزير ابن الله وعلى النصارى حيث قالوا : المسيح ابن الله ، وإن أمه صاحبة له ، وفي التنزيل حكاية عن مؤمني الجن : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) (١). أي بطريق المجاز إذ على سبيل الحقيقة محال ذلك على الملك المتعال.

والحاصل أن صانع العالم واحد إذ لا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة متّصفة بنعوت متعددة كما يستفاد من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ

__________________

(١) الجن : ٣.

٣٠

لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ...

____________________________________

إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١). ببرهان التمانع وتقريره : إنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما سكون زيد والآخر حركته ، لأن كلّا منهما في نفسه أمر ممكن ، وكذا تعلّق الإرادة بكلّ منهما ممكن في نفسه أيضا إذ لا تضاد بين الإرادتين ، بل بين المرادين فحينئذ إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدّان أولا فيلزم عجز أحدهما وهو إمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج فالتعدّد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محالا ، وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر لزم عجزه ، وإن قدر لزم عجز الآخر ، وبما ذكرنا يندفع ما يقال إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع ، وأما قول العلّامة التفتازاني الآية حجة إقناعية أي يظن في أول الأمر إنها حجة ويزول ذلك عند تحقّق المعرفة والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات ، فإن العادة جارية بوجود التمانع والتغالب عند تعدّد الحاكم على ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٢). فالمحقّقون كالغزالي وابن الهمام والبيضاوي (٣) ما قنعوا بالإقناعية وجعلوها من الحقائق القطعية ، بل قيل : يكفر قائلها والمسألة مستوفاة في الكتب الكلامية ، ثم اعلم أن لو في هذه الآية ليست لانتفاء الثاني في الماضي بسبب انتفاء الأول ، كما هو أصل اللغة بل للاستدلال بانتفاء الجزاء على انتفاء الشرط من غير دلالة على تعيّن زمان فإنه قد يستعمل بهذا المعنى في بعض المبنى (لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه) أي من مخلوقاته وهذا لأنه تعالى واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن الوجود في حدّ ذاته فواجب الوجود هو الصمد الغني الذي لا يفتقر إلى شيء ، ويحتاج كل ممكن إليه في إيجاده وإمداده.

قال الله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٤). فإذا وجوده عين ذاته وصفاته ليست عين ذاته خلافا للفلاسفة ولا غير ذاته كما تقوله المعتزلة ولا حادثة كما تقوله الكرامية بخلاف المخلوقين ، فإن صفاتهم غير ذاتهم عند الكل والحاصل أن الفلاسفة

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) المؤمنون : ٩١.

(٣) هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي الإمام ناصر الدين أبو سعيد القاضي البيضاوي الفقيه الأصولي المفسّر الشافعي ، توفي سنة ٦٨٥ ه‍. أهم مصنفاته : «أسرار التأويل في تفسير القرآن ومنهاج الوصول إلى علم الأصول وغيرها.

(٤) محمد : ٢٢.

٣١

ولا يشبهه شيء من خلقه ...

____________________________________

والمعتزلة نفوا الصفات احترازا عن تعدّد القدماء وكذا الأشاعرة حيث ذهبوا إلى نفي غيريتها وعينيتها في تحقيق الأسماء (ولا يشبهه شيء من خلقه) تأكيد لما قبله وتقرير لما قدّمه وهو مستفاد من قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١). أي كذاته أو صفته ، أو لأن نفي مثل المثل مستلزم لنفي المثل بطريق البرهان كما حقّقه بعض الأعيان ، ولا نقول بزيادة الكاف أو المثل لأن المطلق هو المساوي من جميع الوجوه.

وفي شرح القونوي قال نعيم بن حماد (٢) : من شبّه الله بشيء من خلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر.

وقال إسحاق بن راهويه (٣) : من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم.

وقال علّامة جهم وأصحابه : دعواهم على أهل السّنّة والجماعة وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبّهة بل هم المعطّلة ، ولذا قال كثير من أئمة السلف : علّامة الجهمية تسميتهم أهل السّنّة مشبّهة فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبّها حتى بعض المفسّرين كعبد الجبار (٤) والزمخشري (٥) وغيرهما من

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) هو نعيم بن حماد الخزاعي المروزي ، أبو عبد الله ، أول من جمع المسند في الحديث. كان من أعلم الناس بالفرائض ، أقام مدة في العراق والحجاز يطلب الحديث ، ثم سكن مصر ، توفي سنة ٢٢٨ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٩٥. وقوله هذا : رواه الذهبي في كتابه العلو ص ١١٦ ، وهو في شرح السّنّة للالكائي ٩٣٦.

(٣) هو إسحاق بن إبراهيم التميمي المروزي ، أبو يعقوب عالم خراسان في عصره. قال الإمام أحمد : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق ، وإن كان يخالفنا في أشياء ، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا. وقال فيه الخطيب البغدادي : اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد. روى عنه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم ، توفي سنة ٢٣٨ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ١١ / ٣٥٨ ـ ٣٨٣. وانظر قوله هذا في شرح السّنّة للالكائي ٩٣٧.

(٤) هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسدآبادي المتوفى سنة ٤١٥ ه‍ ، كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع ، ومذهب المعتزلة في الأصول ، وله في ذلك مصنفات كثيرة وولي قضاء القضاة بالريّ ، وورد بغداد وحدّث بها ، وعمّر طويلا حتى جاوز التسعين. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٤٤.

(٥) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري المعتزلي صاحب المؤلفات في ـ

٣٢

لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية ، أما الذاتية فالحياة والقدرة

____________________________________

المعتزلة والرافضة يسمّون كلّ من أثبت شيئا من الصفات ، أو قال برؤية الذات مشبّها والمشهور عند الجمهور من أهل السّنّة والجماعة أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات ، بل يريدون أنه سبحانه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله كما بيّنه الإمام بيانا شافيا (لم يزل) أي فيما مضى (ولا يزال) أي فيما يبقى (بأسمائه) أي منعوتا بأسمائه ، (وصفاته الذاتية) كالعلم والحياة والكلام وهي قديمة بالاتفاق (والفعلية) أي موصوفا بصفاته الفعلية كالخلق والرزق ونحوهما ، فمذهب الماتريدي أنها قديمة ومذهب الأشاعرة أنها حادثة والنزاع لفظي عند أرباب التدقيق كما يتبين عند التحقيق ...

وبيانه أن واجب الوجود لذاته واجب الوجود من جميع جهاته كأسمائه وصفاته والمعنى أنه ليست له صفة منتظرة ولا حالة متأخرة إذ ليست ذاته محلا للإعراض فإن ذاته كافية في حصول جميع ما له من الصفات والحالات التي بها تتم الأعراض ، ولأنه لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك لكانت محتاجة إلى ظهور الغير هنا لك ، وكل محتاج إلى الغير فهو ممكن الوجود وقد ثبت أنه واجب الوجود. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١). أي غنيّ بذاته وصفاته عن ظهور مصنوعاته وهو حميد بنعوته وأسمائه سواء حمده أو لم يحمده أحد من سواه ، فهو منزّه عن التغيّر والانتقال ، بل لا يزال في نعوته الفعلية منزّها عن الزوال وفي صفاته الذاتية مستغنيا عن الاستكمال. ولا يلزم من حدوث متعلقات هذه الصفات حدوث الصفات كالمخلوق والمرزوق والمسموع والمبصر وسائر الكائنات وجميع المعلومات (أما الذاتية) أي الإجماعية (فالحياة) وهي صفة أزلية تقتضي صحة العلم لموصوفها ، (والقدرة) أي وكذا القدرة صفة أزلية تؤثّر في المقدورات عند تعلّقها بها ، والمعنى : أن الله تعالى حيّ بحياته التي هي صفته الأزلية الأبدية ، وقادر بقدرته التي هي صفته الأزلية السرمدية والمعنى : أنه إذا قدر على شيء فإنما يقدر عليه بقدرته القديمة لا بالقدرة الحادثة ، كما توجد للأشياء الممكنة فهو الحيّ القيّوم أي القائم بذاته المقيم لموجوداته ، وأنه يحيي الموتى من العدم بداية ومن بعد إماتتهم إعادة ، وهو على كل شيء قدير حيث خلق الخلق وأعطاهم الحياة والقدرة والرزق ومعنى كونه

__________________

 ـ التفسير وغريب الحديث والعربية ، وأكثرها مطبوع متداول. توفي سنة ٥٣٨ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ٢٠ / ١٥١ ـ ١٥٦.

(١) فاطر : ٥١.

٣٣

والعلم ...

____________________________________

قادرا أن يصح منه إيجاد العالم وتركه (والعلم) أي من الصفات الذاتية وهي صفة أزلية تنكشف المعلومات عند تعلقها بها ، فالله تعالى عالم بجميع الموجودات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في العلويات والسفليات ، وإنه تعالى يعلم الجهر والسر وما يكون أخفى منه من المغيبات ، بل أحاط بكل شيء علما من الجزئيات والكليات والموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات ، فهو بكل شيء عليم من الذوات والصفات بعلم قديم لم يزل موصوفا به على وجه الكمال لا يعلم حادث حاصل في ذاته بالقبول والانفعال والتغيّر والانتقال تعالى الله عن ذلك شأنه وتعظّم عما نهاك برهانه.

[قال الإمام عبد العزيز المكي (١) صاحب الإمام الشافعي (٢) وجليسه في كتابه (٣) الذي حكى فيه مناظرته لبشر (٤) المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى فقال بشر : أقول لا يجهل ، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم تقريرا له [وبشر يقول : ولا يجهل ولا يعترف له أنه عالم بعلم] (٥) فقال الإمام عبد العزيز : نفي الجهل لا يكون صفة مدح فإن [قولي] (٦) هذه الأسطوانة لا تجهل [ليس هو إثبات العلم لها] (٧) ، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل. فمن أثبت العلم نفى الجهل ، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم ، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه وينفوا ما نفاه ، ويمسكوا عما أمسك عنه] (٨) ، وقد قال الله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ

__________________

(١) هو عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني المكي من أصحاب الإمام الشافعي المقتبسين منه ، والمعترفين بفضله ، كان يلقّب بالغول لدمامته ، وقد قدم بغداد أيام المأمون وجرت بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن ، أشهر كتبه «الحيدة». توفي سنة ٢٤٠ ه‍.

انظر ما قاله الإمام الذهبي وتلميذه السبكي عن كتاب الحيدة ـ وهو في الردّ على المعتزلة في مسألة خلق القرآن ، في «ميزان الاعتدال» ٢ / ٦٣٩ وطبقات الشافعية ٢ / ١٤٥.

(٢) زاد في شرح الطحاوية ١ / ١٢٥ : [رحمه‌الله].

(٣) في شرح الطحاوية : [في كتاب الحيدة].

(٤) في شرح الطحاوية : [بشرا].

(٥) سقط في الأصل وما بين حاصرتين من كتاب الحيدة ومن شرح الطحاوية.

(٦) سقطت كلمة قولي من الأصل فاستدركناها من الحيدة وشرح الطحاوية ووضعناها بين حاصرتين [].

(٧) سقط ما بين حاصرتين من الأصل فاستدركناه من الحيدة وشرح الطحاوية.

(٨) انظر كتاب الحيدة ص ٥٥ و ٥٦ بتحقيق جميل صليبا وشرح الطحاوية لابن أبي العز ١ / ١٢٥.

٣٤

والكلام ...

____________________________________

الْخَبِيرُ) (١). وقال أيضا : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢). وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) (٣) ، ثم في قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٤). إيماء إلى أن المخلوقات ما هو عالم والعلم صفة كمال ، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما فهو كما قال الطحاوي : لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم ، بل كما قال بعض المحقّقين من أنه سبحانه وتعالى يعلم ما كان من بدء المخلوقات ، وما يكون من أواخر الموجودات لقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٥). وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون كما قال الله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٦). وكما قال أيضا : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٧). وإن كان يعلم أنهم لا يردّون ولكن أخبر أنهم لو ردّوا لعادوا إليه.

وفي ذلك ردّ على الرافضة والقدرية الذين قالوا إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده ، (والكلام) أي من الصفات الذاتية فإنه سبحانه متكلم بكلامه الذي هو صفته الأزلية المعبّر عنها بالظن المسمّى بالقرآن المركّب من الحروف ، وذلك أن كل من يأمر وينهى ويخبر بخبر يجد من نفسه معنى ، ثم يدل عليه بالعبارة ، أو بالكتابة ، أو الإشارة وهو غير العلم إذ قد يخبر الإنسان عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه وغير الإرادة لأنه قد يأمر بما لا يريده كمن أمر عبده قصدا إلى إظهار عصيانه وعدم امتثاله لأوامره ويسمى هذا الكلام نفسيّا كما أخبر الله عزوجل عن هذا المرام بقوله : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) (٨). وفي شعر الأخطل :

__________________

(١) الملك : ١٤.

(٢) الأنعام : ٥٩.

(٣) الأنعام : ٦٠.

(٤) الملك : ١٤.

(٥) الحج : ١.

(٦) الأنفال : ٢٣.

(٧) الأنفال : ٢٨.

(٨) المجادلة : ٨.

٣٥

____________________________________

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا (١)

وقال عمر رضي الله عنه : إني زوّرت في نفسي مقالة. والدليل على ثبوت الكلام إجماع الأمة من الأئمة الأعلام وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأن أوحي إليهم بيان الأحكام إلا أن كلامه ليس من جنس الحروف والأصوات والله تعالى متكلّم آمر ناه ومخبر بمعنى أن كلامه صفة واحدة وتكثيره إلى الأمر والنهي والخبر باختلاف التعلقات بالعلم والقدرة وسائر الصفات ، فإنها واحدة والتكثّر والحدوث إنما هو في الإضافات ويكفي وجود المأمور في علم الآمر.

والحاصل أن هذا الكلام اللفظي الحادث المؤلف من الأصوات والحروف القائمة بمحالها يسمى كلام الله والقرآن على معنى أنه عبارة عن ذلك المعنى القديم كما وقع التصريح به في التلويح (٢).

وقال القونوي في شرح العمدة أهل السّنّة لا يرون تعلّق وجود الأشياء بقوله تعالى كن بل وجودها متعلق بإيجاده وتكوينه وهو صفته الأزلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المقصود بإيجاده وكمال قدرته على ذلك وعند الأشعري ومن تابعه وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي ، وهذه الكلمة دالّة عليه ، كذا في شرح التأويلات ، وفي تفسير التيسير قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣) إنه تعالى لم يرد أنه خاطبه بكلمة كن فيكون بهذا الخطاب لأنه لو جعل خطابا حقيقة فإمّا أن يكون خطابا

__________________

(١) البيت ينسب للأخطل ، وليس في ديوانه ، وهو يذكر في كتب المتكلمين مع بيت قبله هو :

لا يعجبنّك من خطيب خطبة

حتى يكون مع الكلام أصيلا

قال العلّامة ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية ١ / ١٩٩ : «عقب هذا البيت ما يلي : «فاستدلال فاسد. ولو استدلّ مستدل بحديث في «الصحيحين» لقالوا هذا خبر واحد! ويكون مما اتّفق العلماء على تصديقه ، وتلقّيه بالقبول والعمل به ، فكيف وهذا البيت قد قيل : إنه مصنوع منسوب إلى الأخطل ، وليس هو في ديوانه؟! وقيل : إنما قال : «إن البيان لفي الفؤاد» وهذا أقرب إلى الصحّة ، وعلى تقدير صحته عنه ، فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلّوا في معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه‌السلام نفس كلمة الله ، واتّحد اللاهوت بالناسوت! أي : شيء من الإله بشيء من الناس! أفيستدلّ بقول نصرانيّ قد ضلّ في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم في معنى الكلام في لغة العرب!» ا. ه.

(٢) هو التلويح على التوضيح على التنقيح ، للعلّامة مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة ٧٩٢ ه‍.

(٣) البقرة : ١١٧ ، وآل عمران : ٤٧.

٣٦

____________________________________

للمعدوم وبه يوجد ، أو خطابا للموجود بعد ما وجد لا جائز أن يكون للمعدوم لأنه لا شيء ، فكيف يخاطب ولا جائز أن يكون خطابا للموجود لأنه قد كان فكيف يقال له : كن وهو كائن وإنما هو بيان أنه إذا شاء ما كونه كان فإن قيل : فإذا حصل الوجود بالإيجاد فما فائدة هذا الأمر؟ قلت : إظهار العظمة والقدرة كما أنه تعالى يبعث من في القبور ببعثه ، ولكن بواسطة النفخ في الصور لإظهار العظمة ، أو يقال دلّت الدلائل العقلية على أن الوجود بالإيجاد ، ووردت النصوص القاطعة النقلية على أنه بهذا الأمر فوجب القول بموجبها من غير اشتغال فائدة ، كما أن في الآيات المتشابهات وجب الإيمان بها من غير اشتغال بتأويلها.

وأشار فخر الإسلام البزدوي في أصوله : أن المراد بقوله تعالى «كن» حقيقة التكلّم بهذه الكلمة مجازا عن الإيجاد والتكوين موافقا لمذهب الأشعري مختلفا لعامّة أهل السّنّة ، لأن التمسك بالآية في إثبات المطلوب على هذا القول أظهر ، لأنها أدلّ على أن المراد حقيقة التكلم لأن الأمر فيها مكرر بخلاف سائر الآيات فقال وهذا عندنا وأراد به نفسه ، وأجيب بأن مذهبه غير مذهب الأشعرية ، فإن عنده وجود الأشياء بخطاب «كن» لا غير ، كما أن عند أهل السّنّة بالإيجاد لا غير ، وعند البزدوي وجود الأشياء بالإيجاد والخطاب ، فكان مذهبا ثالثا والله أعلم بالصواب.

والمعنى إذا كلّم أحدا من خلقه فإنما يكلّمه بكلامه القديم الذي قد كتب بالحروف والكلمات الدالّة عليه في اللوح المحفوظ بأمره ولا بكلام حادث ، فإنما الحادث دلائل كلامه وهي الحروف والكلمات لا حقيقة كلامه القائم بالذات فإن كلام الحق لا يشبه كلام الخلق كسائر الصفات ، وقد قال الله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) (١) أي بأن يوحى إليه في الرؤيا كالأنبياء عليهم‌السلام ، أو بالإلهام كالأولياء رحمهم‌الله ، ومنه الخبر أن الله لينطق على لسان عمر رضي الله عنه (٢) ، أو من وراء

__________________

(١) الشورى : ٥١.

(٢) أخرجه أحمد ٢ / ٤٠١ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ٢٥ ، وابن حبان ٦٨٨٩ وابن أبي عاصم في السنة ١٢٥٠ ، والبزار ٢٥٠١ ، وعبد الله بن أحمد في زياداته على فضائل الصحابة ٣١٥ ، والقطيعي في زياداته على الفضائل ٥٢٤ و ٦٨٤ من حديث أبي هريرة وأورده الهيثمي في المجمع ٩ / ٦٦ وزاد نسبته إلى الطبراني في الأوسط وقال : رجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة.

٣٧

والسمع والبصر ....

____________________________________

حجاب بأن يسمع كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه‌السلام ، أو يرسل رسولا أي ملكا كجبرائيل عليه‌السلام فيوحي أي الرسول إلى المرسل إليه بمعنى أنه يكلمه ويبلغه بإذنه أي بأمر ربه ما يشاء أي الله من إعلامه.

فكلامه قائم بذاته خلافا للمعتزلة حيث ذهبوا إلى أنه متكلّم بكلام هو قائم بغيره ، وليس صفة له حيث قالوا كلامه حروف وأصوات يخلقها في غيره كاللوح وجبرائيل عليه‌السلام والرسول عليه‌السلام ومبتدعة الحنابلة قالوا : كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم وبالغ بعضهم جهلا حتى قال الجلد والقرطاس قديمان فضلا عن الصحف وهذا قول باطل بالضرورة (١) ، ومكاثرة للحسّ للإحساس بتقدّم الباء على السين في بسم الله ونحوه (والسمع والبصر) أي أنهما من الصفات الذاتية ، فإنه تعالى سميع بالأصوات والحروف والكلمات بسمعه القديم الذي هو نعت له في الأزل وبصير بالأشكال والألوان بإبصاره القديم الذي هو صفة له في الأزل فلا يحدث له سمع بحدوث مسموع ولا بصر بحدوث مبصر فهو السميع البصير يسمع ويرى لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي غاية السر ولا يغيب عن رؤيته مرئي ، وإن دق في النظر بل يرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء فالسمع صفة تتعلق بالمسموعات والبصر صفة تتعلق بالمبصرات فيدرك إدراكا تامّا لا على سبيل التخييل والتوهّم ، ولا على طريق تأثير حاسّة ووصول هواء ولا يلزم من قدمهما قدم المسموعات والمبصرات ، كما لا يلزم من قدم العلم والقدرة قدم المعلومات والمقدورات لأنها صفات قديمة يحدث لها تعلقات بالحوادث عند وجودها تعلقا ظاهريّا ، كما كان لها تعلق بها في عالم شهودها تعلقا غيبيّا فهو أخصّ من صفة العلم وأما قول السيوطي في النقاية من أنهما صفتان يزيد الانكشاف بهما على الانكشاف بالعلم فإنما يصح بالنسبة إلينا حيث يزيد العلم بهما لدينا ، وأما بالنسبة إليه سبحانه وتعالى فصفاته كلها كاملات كما أنه كامل في اللذات فلا تقبل

__________________

 ـ وفي الباب عن ابن عمر عند الترمذي ٣٦٨٢ وأحمد ٢ / ٩٥ ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وأخرجه بالمرفوع أحمد ٢ / ٥٣ ، وابن سعد في الطبقات ٢ / ٣٣٥ ، وابن حبان ٦٨٩٥ وعبد الله بن أحمد في فضائل الصحابة ٣٩٥ ، والقطيعي ٥٢٥ والطبراني في الأوسط ٢٩١ وهو حديث صحيح.

ولفظه : «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».

(١) انظر المواقف للعضد الإيجي ص ٢٩٣.

٣٨

والإرادة ، ...

____________________________________

الزيادات (والإرادة) أي من الصفات الذاتية وهي كالمشيئة صفة تخصص أحد طرفي الشيء من الفعل والترك بالوقوع في أحد الأوقات مع استواء نسبة القدرة إلى جميع الممكنات ، وفيما ذكر تنبيه للرد على من زعم أن المشيئة قديمة والإرادة حادثة قائمة بذات الله سبحانه وتعالى ، وعلى من زعم أن معنى إرادة الله فعله أنه ليس بمكره ولا ساه ولا مغلوب ، ومعنى إرادته فعل غيره أنه أمر به فإنه تعالى مريد بإرادته القديمة ما كان وما يكون ، فلا يكون في الدنيا ، ولا في الأخرى صغير أو كبير قليل أو كثير ، خير أو شرّ ، نفع أو ضرّ ، حلو أو مرّ ، إيمان أو كفر ، عرفان أو نكران ، فوز أو خسران ، زيادة أو نقصان ، طاعة أو عصيان إلا بإرادته ووفق حكمته وطبق تقديره وقضائه في خليقته ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فهو الفعّال لما يريد كما يريد لا رادّ لما أراد ولا معقّب لما حكم في العباد ولا مهرب عن معصيته إلا بإرادته ومعونته ولا مكسب لعبد في طاعته إلا بتوفيقه ومشيئته فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه.

ولو اجتمع الخلق على أن يحرّكوا في العالم ذرّة أو يسكنوها مرة بدون إرادته لما قدروا على ذلك ، بل ولا أرادوا خلاف ما هنا لك كما قال الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١). فهو سبحانه لم يزل موصوفا بإرادته ومريدا في الأزل وجود الأشياء في أوقاتها التي قدّرها فوجدت فيها كما علمها وأرادها وقدّرها من غير تقدّم ولا تأخّر وتبدّل وتغيّر وهذا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة لقوله : (اعملوا ما شئتم) ، ثم من الدليل على صفة الإرادة والمشيئة قوله تعالى : (يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢) ، وفي آية أخرى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (٣) وهي المشيئة واحدة عندنا في حق الله تعالى ، أما في جانب العباد فيفترقان فلو قال رجل لامرأته : أردت طلاقك لا تطلق ، ولو قال لها شئت طلاقك يقع ، لأن الإرادة مشتقة من الرّود وهو الطلب ، والمشيئة عبارة عن الإيجاد فكأنه قال : أوجدت طلاقك وبه يقع الطلاق كذا ذكروه.

وقال القونوي فيه نظر إذ لو كان كذلك لما احتيج إلى النيّة ، والحاصل أن المشيئة عبارة عن الإرادة التامة التي لا يتخلّف عنها الفعل والإرادة تطلق على التامة وعلى غير التامة فالأولى هي المرادة في جانب الله تعالى ، والثانية في جانب العباد. انتهى ...

__________________

(١) الإنسان : ٣٠.

(٢) آل عمران : ٤٠.

(٣) المائدة : ١.

٣٩

____________________________________

وفيه نظر فإنه على هذا كان ينبغي أن يذكر المشيئة في الصفات لا الإرادة ، فإن قيل : إن الله طلب الإيمان من فرعون وأبي جهل وأمثالهما بالأمر ولم يوجد منهم الإيمان فلو كانت الإرادة والمشيئة واحدة كما زعمتم لوجد ذلك منهم ، لأن المشيئة هي الإيجاد. قلنا الطلب من الله تعالى على نوعين طلب من المكلف على وجه الاختيار وهو المسمى بالأمر ، ولا يلزم منه الوجود لتعلّقه باختيار المكلّف وطلب لا تعلق له باختيار المكلّف وهو المسمى بالمشيئة والإرادة والوجود من لوازمهما ، إذ لو لم يكن يلزم العجز وهو سبحانه وتعالى منزّه عنه بخلاف العباد ...

ثم الحكمة سواء كانت بمعنى العلم ، أو إحكام العمل فصفة أزلية عندنا خلافا للأشعري حيث قال : إن أريد بها العلم ، فهي أزلية ، وإن أريد بها الفعل فلا ، إذ التكوين حادث عنده.

قال القونوي : القدر هو العلم المفقود ، ثم اختلفت عبارات أصحابنا رحمهم‌الله في هذه المسألة قال بعضهم نقول : إن جميع الموجودات والأفعال مراد الله تعالى ، ولا نقول على التفصيل إن القبائح والشرور والمعاصي من الله كما نقول على الإجمال : إنه خالق لجميع الموجودات ولا نقول على التفصيل إنه خالق الحيف والقاذورات. وقال بعضهم نقول على التفصيل : ولكن مقرونا بقرينة تليق به فنقول إنه أراد الكفر من الكافر كسبا له شرّا قبيحا منهيّا عنه ، كما أراد الإيمان من المؤمن كسبا له خيرا حسنا مأمورا فهو اختيارا للماتريدي ، وبه قال الأشعري هذا والمحقّقون من أهل السّنّة يقولون : الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان : الأولى : إرادة قدرية كونية خلقية وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث لقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (١). والثانية إرادة دينية أمرية شرعية وهي المتضمنة للمحبة والرضى كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢). وأمثال ذلك ، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالإمام الأعظم رحمه‌الله ذكر هذه السبعة من الصفات الذاتية ، ومنها الأحدية في الذات والواحدية في الصفات والصمدية المستغنية عن الممكنات والعظمة والكبرياء على ما ورد في الأسماء والصفات. قال البيضاوي

__________________

(١) الأنعام : ١٢٥.

(٢) البقرة : ١٨٥.

٤٠